حقائق الحرية والعبودية والمسؤولية وميزة سعادة المكلفين ومقوماتها
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ62، في ساحة مقام الإمام عبد الله بن علوي الحداد، باستضافة حارتي الحاوي وحصن عوض بمدينة تريم، ليلة السبت 8 صفر الخير 1447هـ، بعنوان:
حقائق الحرية والعبودية والمسؤولية وميزة سعادة المكلفين ومقوماتها
في هذه المحاضرة يوضح الحبيب عمر بن حفيظ:
- عظمة معرفة الله وأثرها على سعادة المخلوقات
- خدمات الملائكة للمؤمنين
- حقيقة الحرية في عبودية الله تعالى
- معنى الدولة الكبرى
- سيرة الإمام الحداد وأثره في العالم
- واجب خدمة الخلق في ديننا
- التعاون والتكافل بين المؤمنين
- الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي
- التحرر من التبعية للصراعات الدنيوية
لتحميل نسخة إلكترونية pdf (اضغط هنا)
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله الملك الحقّ المبين، الرب العظيم القدير، الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه مرجع كل شيء، وما سعادة شيء من كائناته إلا في قدر معرفتها به؛ لذلك كانت سعادة العُقلاء من الإنس والجن السعداء منهم أسعد من بقية الكائنات، لكونهم أعرف بالإله المكوِّن وأقرب إليه جل جلاله من حيث مدارك عظمته وجلاله، ومدارك العبودية له. (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
وواحدية الحكم له، فيرجع الحكم كله له، ولا حكم إلا حكمه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).
كان الدين القيم من بين سعداء العالمين - سعداء الإنس والجن والملائكة - مراكزه في النبوة والرسالة، جعل الله هذا الدين القيم بالنسبة للمكلفين من الإنس والجن.
خدمات الملائكة للمؤمنين
عالم الملائكة عالم معصوم، خُلق من نور لا ظُلمة فيه، وخُلق من عقل لا هوى ولا شهوة تنازعه، وبقي الدين وإن كان أيضاً دين هؤلاء الملائكة، مع كونهم لا شهوات لهم ولا أهواء لهم ولا قواطع تقطعهم، فدينهم نفسه العبودية لهذا الإله والخضوع لجلاله، والركوع والسجود والذكر وتأمل آياته، وخدمة عباده بما أذن لهم.
وجعل في كبار الملائكة وخواصّهم خدمات تتعلق بالإنس وبالجن، فهم يخدمونهم في أمور كثيرة، منها ما رتب الله عليهم في دينهم وعبادتهم تلك، المحافظة على كثير من شؤون هؤلاء الإنس والجن (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي بأمر الله جل جلاله وتعالى في علاه.
يقول عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". ويقول تعالى: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً).
ثم جماعات منهم لهم خدمات لخصوص طلبة العلم، "وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع"، وملائكة في عبادتهم التي يعبدون الله بها خدمة مثل هذه المجالس - مجالس الذكر والعلم.
"إن لله ملائكة سياحة"، "إن لله ملائكة سيارة"، "إن لله ملائكة سياحين يلتمسون حلق الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى طلبتكم، فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا".
حوار بين الملائكة ورب السماوات:
خدمات كبيرة ما يقدر يقوم بها غيرهم من الإنس ولا من الجن ولا بقية الكائنات، ومع ذلك تنتهي ذروة هذه الخدمة إلى حوار بينهم وبين هذا الملك الحق القوي القادر المبين جل جلاله.
ويسألهم الرحمن عن كل مجلس: "من أين جئتم؟" "من عند عبادك يسبحونك، يحمدونك، يكبرونك". "هل رأوني؟" يقولون: "يا ربنا ما رأوك". يقول: "كيف لو رأوني؟" يقولون: "يا ربنا لو رأوك لكانوا أشد لك ذكراً وأكثر تسبيحاً وتحميداً"، فما يسألونني؟ ما قصدهم الآن؟
تنتهي هواياتهم وأغراضهم إلى أين؟ هل لا زالوا محبوسين مع العمر القصير والدنيا الحقيرة؟ أو انطلقوا إلى ميدان أكبر بدعوة رُسُلي؟ يسألونك الجنة عاقبة الدوام والخلود.
هؤلاء قوم مُحررين الحُرّية الصحيحة التي تقوم على حسن الأداء والأمانة والمسؤولية، هؤلاء قوم محررين من أن تأسرهم الدنيا وآفاتها وما فيها من مظاهر وملك ومال وزخرفة، وتنتهي وينتهون عنها، وينتقلون منها وتنتقل عنهم.. هؤلاء يفكرون في أمر مستقبل كبير وأبد وخلود! "يسألونك الجنة".
يقول الله: "فهل رأوا جنتي؟" يقولون: "يا ربنا ما رأوها، آمنوا بها لما بلّغهم رسولك، صدقوا". قال: "فكيف لو رأوها؟" يقولون: "يا ربنا لو رأوها لكانوا أشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة". يقول: "ومما يستعيذون بي؟"
ما الذي يخافونه هؤلاء العِباد؟ يقولون: جراثيم؟ بكتيريا؟ مرض؟ أو قنابل؟ ما الذي يخافونه في الحياة؟ ويهددوهم بحصار ومرض وكوليرا؟ ما الذي يخافونه في الحياة؟
يقولون: "يستعيذون بك من النار،" دار الغضب الدائم والعذاب الذي لا يُطاق، الأمر الأخطر هم يستعيذون منه، قال يقول الله: "هل رأوها؟" يقولون: "يا ربنا ما رأوها". يقول: "كيف لو رأوها؟" يقولون: يا ربنا "لو رأوها لكانوا أعظم منها مخافة وأشد منها فراراً".
يقول: "فأشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم". جاء في رواية مسلم: "وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا".
قال فيقول ملك: "يا رب إن فيهم فلاناً بن فلان، عبد خطّاء، ما جاء للذكر وإنما جاء لحاجة فجلس بينهم". قال فيقول الله: "وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
استغفار حملة العرش للمؤمنين:
وعرض لنا الحق سبحانه وتعالى من الخدمات عند الملائكة: تنزُّلهم على الأنبياء والمرسلين بالوحي. وعرض لنا الحق في القرآن من خدمات الملائكة في دينهم وعبادتهم لله: كبارهم، عظماؤهم، حملة العرش ومن حوله، الذين ملائكة السماوات السبع من تحتهم. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) - وحُقّ لهم ذلك - (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) - وحُقّ لهم ذلك - لكن عندهم خدمة: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
قال: المؤمنون على ظهر الأرض هم يُشتغلون بهم، يعملون لهم خدمة استغفار، يقولون: يا رب، هؤلاء أُكرموا بالإيمان بك، وما يعوقهم عن عليّ عجائب الإفضال منك عليهم إلا الذنوب، والذنوب نستغفرك لهم، فاغفرها حتى لا تقطعهم عن كبير المَن الذي تمن على المؤمنين بك.
ذكر الله لنا نموذجاً من استغفارهم: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا) - مقدمة جميلة، لأنهم أعرف بالرب سبحانه وتعالى، يعملون مقدمة يستمطرون بها رحمة الله لهؤلاء المؤمنين على ظهر الأرض. يقولون: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) - عنايتهم بالتوابين منا - (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) - يعني تابوا وتوبة صدق، ليس تابوا توبة صورة، تابوا وتبعوا سبيلك، تابوا بصدق - (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) - ما يقربوا من النار ولا تقرب منهم - (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي الخلود (الَّتِي وَعَدتَّهُمْ).
قالوا يا رب، وهؤلاء الذين ثبتوا على السبيل يتصل بهم بعض قرابات وأصحاب وفي تقصير عندهم، ألحق هؤلاء بهؤلاء، يقول سبحانه وتعالى في استغفار الملائكة: (وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) - فآمن من آمن منهم والإيمان والتقصير عند الباقين أدخله في بركة هؤلاء - (وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ).
ما السيئات؟ شر هذه الذنوب التي يقوم عليها في القيامة: سوء أخذ الكتاب بالشمال ومن وراء الظهر، سوء اسوداد الوجه عند البعث، سوء خفّة الميزان عند الوزن، سوء السقوط على الصراط عند المرور عليه، سوء الفضيحة إذا ظهرت الفضائح (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ).
وهذه السيئات المذكورة - الأمور الشنيعة في القيامة - كلها مرتبة على السيئات التي كانت في الدنيا: معاصي القلوب ومعاصي الجوارح، من لا عرف مسؤوليتها، من اغترّ بشعار الحُرية، من اغتر بشعار التقدُّم، من اغتر بأطروحات زخرف القول من إبليس وجنده، (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
هؤلاء - والعياذ بالله تبارك وتعالى - هؤلاء المُغترين بذلك هم الذين تُنازلهم السيئات ومصائب السيئات يوم القيامة (وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ).
يقول سبحانه وتعالى في عذاب القيامة، في سورة الأنعام: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ)، (وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
خدمة الخلق من صميم ديننا:
فهذه في غير المكلفين وهُم الملائكة المُشرَّفين لهم خدمات معنا، فمن غير شك أدياننا التي جاء بها الأنبياء جعل الله فيها من أوسع المُقرِّبات إليه والمَرضيات له: خدمتنا لهؤلاء الناس وخدمتنا لهؤلاء الجن، بل "في كل كبد رطبة أجر".
هذه حقائق الإكرام والشرف والحُرية الصحيحة المليحة؛ الحرية الصحيحة المليحة أن تُنفِق من قدراتك وترحم الحشرة وترحم الهرة وترحم الحيوان أمامك، "في كل كبد رطبة أجر".
وصاحب هذا التكوين القِيَمي ماذا سيصدر منه في المجتمع؟ ماذا سيقابل الناس منه في هذا العالم؟ إذا هو يحمل إسداء المعروف حتى للحيوان، فكيف يصنع مع الإنسان؟
حقيقة الحرية في دعوة الأنبياء
فحقائق حمل الرحمة والشرف والكرامة في دعوة الأنبياء وأتباعهم فقط، ثم فقط، ثم فقط. لأن جميع الأديان غير دين الله - مهما تبهرجت وتظاهرت بمظهر حسن - فباطنها السوء.
يُعبِّر ربعي بن عامر في رعيلنا الأول عن حمل هذه الأمانة والدعوة، يقول لرستم قائد الفرس: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
أي ثقافة هذه عنده؟ جور الأديان! الأديان بمختلف أصنافها فيها جور وإن لم يتظاهروا به، فيها ظلم وإن لم يتظاهروا به، فيها استهانة بالإنسان وإن لم يتظاهروا بها، فيها هوى، فيها غطرسة وإن لم يتظاهروا بها. لكن الإسلام ينفي هذه الأشياء،" إلى عدل الإسلام"، إلى عدل الإسلام!
الأديان الأخرى والحضارات إلى اليوم عندهم مشكلة الأبيض والأسود ما عرفوا يحلونها، لأن ما عندهم صدق، ما عندهم تطهير في النفوس يحملهم على البعد عن الأنانية، البعد عن الشره والطمع، ما الذي سيبعدك عنه إذا ما عندك إيمان؟ فإلى اليوم يعانونها في الدول الكبرى كما يسمونها.
الدولة الكبرى الحقيقية
نحن قد قلنا إن ما في معتقدنا دولة كبرى إلا دولة الأنبياء التي رأسها محمد ﷺ، وعندنا كل ما سواها صُغرى، صُغرى، صُغرى. هذه عقيدتنا وديننا بيننا وبين الله.
الدولة الكبرى: دولة من يحمل الراية في القيامة.
الدولة الكبرى: دولة من يستظل بلوائه النبيون والصديقون والشهداء والصالحون.
الدولة الكبرى: دولة من يقول في أخطر وأشد موقف يمر على الجميع - الإنس والجن - منذ خُلِقوا إلى الأبد، لا يلاقوا موقفاً أشد منه عليهم، يقول: "أنا لها".
هذه الدولة، هذه الدولة الكبرى، هذه الدولة العظمى، هذه الدولة العُليا، هذه الدولة الشريفة، هذه الدولة النظيفة، هذه الدولة الكريمة، هذه الدولة العظيمة: دولة محمد ﷺ.
الإمام الحداد وسيرته العطرة
التي أبرزت لنا فيها قادات كالإمام الحداد الذي نحن في موطنه، صاحب الإنابة والخشية والتقوى والاستقامة، ومن الصِّغر روحه تشتاق للعُلا، من المعلامة إلى مسجد باعلوي أو مقالد، ومائة ركعة أو مائتين ركعة في الضحى! تطوعاته الخاصة في أيام طفولته، في أيام صباه؛ لأن له قلب تولع بالله، ومتى قد اتّقد نور المعرفة حتى وصل إلى هذا الطفل وهو في أيام طفولته، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
ولذا ترون اليوم آثاره في شرق الأرض وغربها، وبمختلف اللغات تُرجمت كتبه، وتتحرك بها القلوب حتى عند من كفر، لأنه نائب عن صاحب الدولة الكبرى.
فهو الخليفة في جميع أموره ** عن خير داعٍ للبرية هادي
عمّت مراحمه العباد..
أبدت نصائحه علوماً طالما ** ردعت عبيد الغي والإفساد
الله أظهره لنفع عباده ** وأقامه للنصح والإرشاد
المجالس المتنقلة في تريم
ولما عاودنا افتتاح هذه المجالس المتنقلة في الحارات، وصارت مجالس الجمعة الشهرية بدل ما كانت أسبوعية في جلسة الاثنين سابقاً، ابتدأنا إعادتها من هذه الساحة - من حِمى الإمام الحداد - لأنه بوّأه الله رُتبة القطبية في الدعوة والإرشاد.
وبأي الوسائل انتشرت دعوته؟ حتى ما جمعهُ من الأذكار الواردة من مثل الراتب قُرِئ في حياته وسط حرم مكة ووسط حرم المدينة، هل عنده فرق إعلامية، هل عنده دعايات يعملها؟ عنده قلب أحب الرب وأخلص له وصدق معه، وأحسن المتابعة للقائد في هذه الدولة.
حتى كان يقول: "ما من سُنة سنّها رسول الله ﷺ إلا وأرجو أني قد عملتُ بها"، يعني: أنا استكملت معاني الحُرية في العبودية لله تعالى، أنا تبع، أنا مُنقاد، أنا عبد الرحمن، أنا عبد الله، أنا تبيع محمد (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا).
منافع الإمام الحداد للخلق
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وقاموا بالخدمة للبلاد والعباد، في الظاهر وفي الباطن، كم تصدق؟ وكم واسى؟ وكم أنفق؟ وكم أرشد؟ وكم علّم؟ وكم سدّد؟ وكم نصح؟ وكم أنقذ برأيه وبدعوته وبدعائه محتاجاً وفقيراً ومُعدِماً ومظلوماً؟ هذا يُكلم فيه السلطان، وهذا يُكلم فيه أقاربه، وهذا يُرشده إلى منهج سوي في كيفية كسبه للمعاش مربوطاً بكسب المعاد.
فكم أجرى الله عليه من منافع لعباد الله جل جلاله وتعالى في علاه، وأقام به هذا الحاوي للخيرات مأمناً وموطناً، كان فيه العلم والعمل والإخلاص والورع والخوف من الله عز وجل، ينتشر بين صغاره وكباره، ومن حَلّ فيه من ذكور ومن إناث.
هذه الحقائق يجب أن تتجلى للعقول وللقلوب لنكون أناساً عرفوا إنسانيتهم بمعرفتهم للرب. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، (أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
واجبنا في خدمة الخلق:
هذه خدمات حملة العرش لهؤلاء المؤمنين، كيف لا نقوم بهذا؟ لذا جاءنا صاحب الشرع وهو الرسالة بمبدأ: "الخلق كلهم عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله".
لذا وجب أن نتابع ونستكمل مهمتنا في تحقيق عبوديتنا لربنا وأداء مسؤولياتنا، وتحررنا من الخداع والكذب والتلبيس والزيغ والتدليس ومشاريع العدو إبليس؛ تحرّرنا من كل هذا إلى مقابلة الوحي الرباني بالنصح الخالص الكامل التام من عليم بكل شيء وقادر على كل شيء، وهو الذي تولى خلقنا وإيجادنا وإليه مرجعنا ومعادنا جل جلاله.
اختار لإبلاغنا إلينا رسلاً اصطفاهم واحداً بعد الثاني، سعدت بهم البشرية أعظم السعادة، ثم جاء سيدهم وخاتمهم نبينا - يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.
مشاعر زيارة المدينة
بهذا تُعرف هذه الأذواق لهؤلاء القادة في هذا المسلك القويم، يقول سيدنا الإمام الحداد في إيمانه ومشاعره عند وصوله إلى المدينة بعد أداء الحج:
فَلَمَّا بَلَغْنَا طَيْبَةً وَرُبُوعَهَا ** شَمَمْنَا شَذَاً يُزْرِي بِعَرْفِ الْعَنَابِرِ
وأكثر المسلمين وهم مسلمون بواطنهم مزكومة من هذا الشم، لكن هؤلاء، شمّوا:
شَمَمْنَا شَذَاً يُزْرِي بِعَرْفِ الْعَنَابِرِ
وَأَقْبَلَتِ الْأَنْوَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ** وَلَاحَ السنَا مِنْ خَيْرِ كُلِّ الْمَقَابِرِ
مع الفجر وافينا المدينة طاب مِن ** من صباح علينا بالسعادة سافر ِ
"إلى مسجد المختار "، قائد جندي عظيم يصل إلى عند قائده الكبير!
إلى مسجد المختار ثم لروضة ** بها من جنان الخُلد خير المصائرِ
إلى حجرة الهادي البشير وقبره ** وثم تقر له من كل زائر ِ
وقفنا وسلّمنا على خير مُرسل ** وخير نبي ما له من مُناظرِ
فردَّ علينا وهو حيٌّ وحاضرٌ ** فشُرِّفَ من حيٍّ كريمٍ وحاضرِ
زيارته فوزٌ ونجحٌ ومغنمٌ ** لأهل القلوب المخلصات الطواهرِ
وهو القائل ﷺ: "ما من مسلم يُسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام". أنت تسمع أو ما تسمع؟! هو الذي يرد السلام، كل سلام مقبول.
يقولوا: "كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟" إذا بليت في القبر. قال: "إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجسادنا معاشر الأنبياء".
الوهم الذي يطرق أذهانكم أن أحداً من الأنبياء في قبر ما يحس ولا يشعر، وأنه في موت.. قال أبعدوه هذا، حتى أجسادنا ما تقربها الأرض، فكيف أرواحنا؟ "إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام".
وصف الإمام الحداد للنبي ﷺ
ثم يصف الحبيب، يقول في حقائق يقينه - حق اليقين بعد علم اليقين وعين اليقين:
هو الساس وهو الرأس للأمر كله ** بأولهم يُدعى لذاك وآخرِ
وتحت لواه الرسل يمشون في غد ** وناهيك من جاه عريض وباهرِ
هو القائم السجاد في غسق الدجى ** فسل ورم الأقدام عن خير صابر ِ
هو الزاهد المُلقي لدنياه خلفه ** هو المجتزي منها بزاد المسافرِ
وباذلها جوداً بها وسماحةً ** بكف نداها كالسحاب المواطرِ
يا رب صلِّ عليه.
فحمداً لرب خصّنا بمحمده ** وأخرجنا من ظلمة ودياجرِ
سلسلة الأكابر
وصل الآن إليكم هذه الأنوار وحقائق هذا البلاغ من الإله الخالق الفاطر الغفار، يحملهُ خير مختار سيد الأكوان، وبيننا وبين بلاغه خيرة من عترته الأطهار وأصحابه ذوي الأنوار، وخيار من الأمة أهل المعارف والعلوم والأسرار.
هذا الذي بيننا وبينه في بلاغ ما جاء به عن الله؛ أكابر عن أكابر، وأطاهر عن أطاهر، وصفوة عن صفوة، ونقوة عن نقوة، وخيار عن خيار، إلى النبي المختار ﷺ، ما بلّغه وجاء به عن الإله الحق الفاطر جل جلاله.. حملوه، حملوه بقلوب أمينة نقية نويرة صافية مخلصة صادقة حتى بلّغوه، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
دور الشباب والتعاون في خدمة المجتمع
فاجتماعنا وتذاكرنا في مثل هذه الشؤون في مثل هذه الساحة أمر كبير، يجب أن نعلم به مهمتنا وواجبنا ومسؤوليتنا في هذه الحياة: أن نغوص على القيام بحق الإسلام والإيمان بهذه الخدمة.
جميل ما ذكرتم من الانتباه من النابغين والمقتدرين وأهل الإمكانية من الشباب، وإخراجهم بالحلقات إلى منافع التدريس، إلى منافع مُهمات وسط المجتمعات يقومون بها، ليمثلوا لنا حقيقة تصوير نبينا لواقع الإيمان إذا صح وصفا.
إذا صح الإيمان وصفا فواقع المؤمنين: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
هذا واقع المؤمنين إذا صح إيمانهم وإذا صدقوا في إيمانهم. يقول الله عن هذه الحقيقة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وهذه أعمالهم: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ).
لهذا وجب أن تتسع هذه الدوائر بيننا ونقوم بالخدمة لأنفسنا ولأهالينا ولأوطاننا ولزماننا بما نستطيع، فخير الناس أنفعهم للناس، متعاونين متحابين متكاتفين متآلفين، مقابلين بالإحسان حتى أهل الإساءة، فهذا هو المنهج، وهذا هو المسلك الذي سلكه هؤلاء الأكابر.
مظاهر التراحم في المجتمع
إلى جانب ما ذكرتم من انتباه الكثير مِن شبابنا - توقيف دراجته أو سيارته لأن واحداً يمشي يوصله إلى حيث يريد، أو إلى حيث ينتهي مشوار هذا فيحمله الثاني في المشوار الثاني إلى غير ذلك - هذا بريق من حقيقة يجب أن ترجع فقدها الكثير من المسلمين، في كون بعضهم أولياء بعض.
ووصل رعيلنا الأول وكثير ممن تبعهم على مدى القرون إلى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
والتفقُّد - سواء لمسألة الماء أو مسألة غيرها - يجب أن تتسع هذه الدوائر بيننا ونقوم بحقّها الذي أحبه الله منا، فهي مجالات رِضاه، مجالات رضاه ومجالات سرور قلب نبيه ﷺ.
تهلل وجهه يوماً لما بادر بعض الصحابة - وقد وفد إلى المدينة ناس معوزون محتاجون ما عندهم شيء - فأشار ﷺ إلى الصدقة عليهم، بادر بعض الصحابة وجاء فوضع من التمر، جاء الثاني، جاء الثالث، جاء بثياب.. فرأى ﷺ تهلل وجهه فرحاً، استنار بقيامهم بخدمة إخوانهم هؤلاء الوافدين.
وقد أثنى الله على سادتنا الأنصار: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
آثار الأطروحات السلبية على المجتمع
وهذه الآثار - الآثار من التضرر ببعض كثير من الأطروحات علينا في خلال الأربعين بل الخمسين السنة الماضية، أطروحات كثيرة طُرِحت علينا في مجتمعنا - وصل منها بعض هذه الآثار مثل هذه العنجهية عند بعض الشباب في الطرقات.
مع أنّ عندنا ديناً يجعل إماطة الأذى عن الطريق شُعبة من شعب الإيمان، شعب الإيمان! شعب الإيمان نفسه تبعد أذى من الطريق.
ويقول في الصحيحين، جاءنا أنه ﷺ يقول: "بينما رجل يمشي في الطريق أماط غُصن شوك" - أزاحه - "فغفر الله له"، تولّى مغفرته الكاملة بأنه أزاح غصن شوك من الطريق.
فكيف بالذي يجيء في الطريق ويؤذي المارة؟ أو يؤذي الآخرين؟ أو يدق ذا؟ أو ما يبالي بذا؟ أو يوقف دراجته في مكان غير لائق؟ أو يوقف سيارته في مكان غير لائق؟
أين الشريعة والدين؟ نحن تضررنا بأطروحات طُرحت علينا، وإن شاء الله نتخلص منها، نسعى للتخلص منها، وننشر هذا الوعي والمعنى بين صغارنا وكبارنا ونتعاون.
الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاقتصادي
وإلى هذا التكامل أيضاً الاجتماعي والسعي فيما يُسمى بالاكتفاء الذاتي - كما سمعتوه وكان يتكلم عنه الحبيب أبو بكر المشهور عليه رحمة الله كثير - كان هو المطروح في تركة خيار الأمة في تبعية نبيها صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
كان من أول أعماله في المدينة: إقامة المسجد والمؤاخاة واختيار السوق، موضِع استراتيجي لسوق المسلمين، كانوا مضحوك عليهم من قبل بني قريظة، بني النضير، بنو قينقاع، هم آخذين الأسواق واللعبة على المال مثل عادتهم حتى عادة أحفادهم الآن، والحبيب الأعظم اختار موقعاً وقال: "هذا سوقكم"، اتركوا هذا وتعالوا هنا، "وهذا سوقكم"، هذا محلكم.
وكلمهم عن الزرع وقال: "لا يأكل منه إنس ولا جن ولا طير إلا كان لصاحبه أجر". إلى غير ذلك مما رتبه ﷺ في المدينة المنورة.
الثقة بوعد الله تعالى
وإن حوربتم وظنّ أعداء الله أنهم مالكوا رقابكم بملك كثير من شؤون ما يسمونه بالاقتصاد والثروة في العالم، فلا يحزنكم ذلك! اصدقوا مع الله وتكاتفوا، وبإمكانياتكم يُبارك الله فيها وتكتفون.
وانظروا وعداً صادقاً: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، والساعة الذي يفتح هو فيها ما تقدر دول كبرى ولا صغرى تُقفل، إذا هو فتح يفتح (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، صدق ربي جل جلاله.
فلنعُد إلى تحقيق الإيمان والتقوى والتعاون بيننا على هذه الخيرات، بارك الله في شباب هذه الحارات والمحلات، وزادهم إيماناً ويقيناً وتوفيقاً وعناية، وجعلهم من جنده.
الحركة المستقلة عن الصراعات الدنيوية
والذي يثلج الصدور - كما نسمع تكرير ذلك - أنّ هذه الانطلاقات مُحرّرة عن رِق التبعية للصراع الذي على ظهر الأرض، يتصارعون على الحُكم والسياسة والدنيا والمال والشهرة، تركناها لهم، ولما يتحرك شباب ما يقودهم أهل الصراعات، ولكن يريدون رب الأرض والسماوات، ويقتدون بخير البريات، وبينهم وبينه إسناد من الثقات، فهذه النعمة على ظهر الأرض من الله، هذه المِنة من الله تبارك وتعالى.
فليتحركوا وليوسِّعوا حركتهم، لا تبع حزب ولا هيئة ولا جماعة ولا دولة، ولا صغرى ولا كبرى، ولا شرقية ولا غربية، ولا عربية ولا عجمية.
أما كفى بالله مُثيب؟ أما كفى بالله مُجازي؟ يقدر أحد يجازينا أحسن منه؟ يقدر أحد يكافئنا أحسن منه؟
والذي بيده الملكوت، كان المنافقين يقولون لأصحابهم: "لا تنفقوا على من عند رسول الله"، لا تعطوهم شيئاً، ضيِّقوا عليهم، اصنعوا حصاراً، حتى ينفضوا، أجاب الله يقول: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) ما عندهم إدراك للحقيقة.
ولا أحد فرّ من الذي حوالي سيدنا محمد ﷺ، وفُتِحت عليهم بعد ذلك الخزائن وجاءتهم، وتبرّموا منها وصرفوها في محلها، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وخافوا منها.
حتى سيدنا عمر في يوم وصول كنوز كسرى وقيصر المدينة بكى، قالوا: المسلمين فرحين يا أمير المؤمنين بهذا النصر، كيف تبكي؟ قال: الله أخّره عن رسوله وعن أبي بكر ويجيء به في زمن عمر، هل لأني أكرم؟ لا، بل في بلايا على الأمة، ستنفتح أبواب فتن ما كانت موجودة، وهو يخاف منها، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، أدركوا الحقيقة.
فالله يرزقنا الاستمساك بالعروة الوثقى، والتعاون على البر والتقوى، والدخول في دوائر (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
11 صفَر 1447