(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى
ليلة الجمعة 3 ذي الحجة 1441هـ بعنوان:
نعمة بقاء ذكر اسم الله في الدنيا وإمكانية سقيا حقيقة لا إله إلا الله للقلوب المقبلة المصطفاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} و {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} .. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} "هو" {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} اللهم لك الحمدُ شكرا، ولك المّنُ فضلا أنت ترث الأرض ومَن عليها وأنت خير الوارثين فلا تُخزِنا يوم يُبعَثون {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}.
يا مُرسِلَ المصطفى محمد بالهدى يا مُرسِل المصطفى محمد بدينِ الحَقِّ ثَبِّتَنا على الهدى ودينِ الحق في وِجهاتِنا ونِيَّاتِنا وأقوَالِنا وأفعَالِنا وحركَاتِنا وسكَنَاتِنا يا حيُّ يا قيُّوم، يا أكرمَ الأكرمين، يا أرحمَ الراحمين.
بفضلِك لا يزال اسمُك يُذكَرُ في الصباحِ والعشيِّ والليلِ والنهارِ وعلى المنائر والمنابر وفي الأجهزةِ المنتشرةِ في العالم.. لك الحمد، وكُلُّ ذلك مِن فضلِك الذي تفَضَّلتَ به علينا ببعثةِ هذا المجتبى المصطفى المختار. والساعةُ لن تقومَ حتى لا يبقى على ظهر الأرض مَن يقول "الله" (ليس فيهم من يقول "الله").
والحمدُ لله على قولِ" الله"، وقول "يا الله"، وقول "لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسولُ الله" صلى الله عليه وسلم.
كُلُّ هذا لا يزال قائماً على ظهر الأرض.. فالسُّقيَا للقلوبِ التي سَبَقَت لها السعادةُ قائمةٌ شؤونُها وأحوالُها تنتظرُ من كُلِّ قلبٍ أن يُفِيَقَ ويَستَفِيَقَ ويَتَطَهَّر ويَتَنَظَّف ويُقبِل فيُسقَى. ومَن سُقِيَ من ذاكم الشَّرَاب عَشِقَ حضرةَ الاقتراب، والُّلحُوقَ بالأحباب، وعَلِمَ أنَّ ما اشتَغَلَ به الكافرون والغافلون والفاسقون ومَن تبعَهم مِن أهلِ الغفلةِ من المسلمين في هذه الدنيا وكان هَمّهُم سَرَابٌ في سراب. وأنَّى يَغُرُّ السَّرابُ مَن حُظِيَ بلذيذِ الشراب. إنَّما يَغتَرُّ بالسَّرابِ مَن لم يشرب، أمَّا مَن شَرِبَ من هذه الكؤوس تُزَكَّى لهم النفوس ويَهْوَوْنَ قُربَ المَلِك القُدُّوس.
فأنَّى يَغُرَّهم هذا السَّرَاب وهذا الكذب وهذا الغرور وهذا اللعب الذي يلعب فيه صغارُ القوم وكبارُهم وما فيهم كبار. ولا نعلم كبيراً إلا مَن خضعَ للكبير، من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين والملائكةِ المقرَّبين ومَن سواهم ما نعلَم كبيراً إلا إن كان كِبَر في الكفر وكِبَر في الظلمة وكِبَر في الفسوق وكِبَر في العذاب الذي ينتظرُهم.. هذا صحيح، وأمَّا كِبَر في حقيقة رِفعَة أو عَظَمَة أو شرَف أو سعادة والله ما عرفناه إلا في "محمد" وإلا في النبيين وإلا في الملائكة وإلا في الصِّدِّيقِين والشهداء والصالحين.. فقط ثم فقط ثم فقط، هم الذين اتَّصلوا بالكبيرِ فلهم الفضلُ الكبير، ولهم النعيمُ الكبير، ولهم الخُلدُ في دار المصير في جنَّاتٍ تجري من تحتِها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
عبرة وعِظة وذكرى للمتذَكرين منكم؛ القُوَّة لواحد هو "الله"، ومهما تخيَّلتم غيرَ ذلك فباطل وضلال لا حقيقةَ له. وبعد ذلك ينتهي إلى إدراكِ هذه الحقيقة كُلُّ الخليقة {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}. فالذين كان تَسَرَّب إليهم وهْم أنَّ القوة مع الدولة الفلانية والحكومة الفلانية والحضارة الفلانية يخسرون في "ذاك اليوم لأنهم يجدُون كل ما اعتقدوه كَذِب وكل ما اعتقدوه وهم وظن وخيال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
وما شأنكم في المراحل التي تأتي من بعدكم؟ إلَّا ما كان من صِدْق توجُّه لكم إلى الله في إصلاحٍ أو إرشادٍ أو تَسَبُّب في تَمَنِّي خيرٍ لهم أو ترك هدايةٍ لهم فقط؛ ثم ما معكم إلا هذا العمرُ والمرحلة التي أنتم فيها. وكُلُّ فردٍ مِنَّا من أيام قَتْل هابيل قامَت قيامته بموته، فبالنسبة لقيام الساعة -الذي يجيء للعموم- معناه قد قام لسيدِنا هابيل ابن آدم أيامَ حياةِ أبينا آدم قد قامت قيامته، وما مضى مِن عُمره ما كان فيه من إخلاصٍ لوجهِ ربه وصدقٍ مع مولاه وخشيةٍ مِن الإله هو الذي نفعَه، وهو الذي يستثمرُه مِن ذاك اليوم إلى هذا اليوم. وتلك الوِجهَة والنيات والدعوات هي التي استفادَ منها بعد ذلك ما جاء من هذه الأجيال، حتى اعتنى ذو الجلال بقَصِّ قِصَّتِهِ علينا في الكتاب المُنزَل على خاتمِ الأنباء والإرسال {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ..} هذه الطَّيْشَات والهَيْجَات التي تجيء من أجلِ الرغبةِ في الدنيا على أيِّ شيء كان، وتؤدِّي إلى حَدِّ الاستخفافِ بالدماء والانتهاكِ لحرماتها {لَأَقْتُلَنَّكَ}!
وذَكَرَ الحق أنَّ هابيلَ هذا صاحب المسلك المستقيم حَمَل مبادئه وحاولَ إنقاذَ أخيه وقال {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} عُدْ بفكرِك وتأمَّل.. تقبَّل مني لأني اتَّقَيْتُه اِتَّقِهِ وسيَقبَل منك اخرج من ذي الورطات حقك والتفكير المعوَّج {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ} لِمَ؟ لأنني عندي ميزانُ حقٍّ أخذته عن الرَّبِّ بواسطة أبي آدم عليه السلام؛ ليس بي خوف ولا بي جُبْن ولا بي ضعف عنك.. لو أردتُ أن أقتلَك لمضيتُ في سبيلِ ذلك وربما سبقتُ إلى قَتلِك قبل أن تَسبِقَ إلى قتلي لكني قرَّرتُ أن لا أثورَ مع هذه الثائرات النفسية؛ فنفسي مُزَكَّاة.. ما الذي أَخَّرَك عن مقابلةِ القتال بالقتال؟ قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، فكانَ أولَ شهيدٍ في تاريخ بني آدم، قُتِل ظُلْمَاً فهو أولُ شهيد في تاريخ البشرية كلِّها، ونالَ مِن رِبِّهِ الحميدِ المجيدِ الخيرِ الواسعِ المَديدِ، وهو يستثمره من ذاك الوقت إلى هذا الوقت، وما بعد هذا الوقت تأتي القيامة..
والثاني عاجلَتهُ الحسرةُ والندامةُ في الدنيا ثم ماذا هو مُلَاقٍ بعد ذلك!؟ { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي..} سنة يحمله مِن بلاد إلى بلاد هارب من أبيه ما يريد يقابله، وما درى كيف يعمل لأنه أوَّل ميِّت في بني آدم؛ وما تغيَّر جسمُه لشهادتِه لكونهِ شهيداً، بعد السنة حَصَّل غرابين تقاتلا، أحدهما قتل صاحبَه، فحفر له حفرة، ووضع صاحبه فيها وغطَّاه.. قال هذا الطريق {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} دفن أخاه، وأصبح من النادمين وهو في الدنيا.. واسمع ماذا حَصَّلَ! يقول نبيُّنا: (لا تُقتَلُ نفسٌ ظُلْمَاً إلى يوم القيامة إلَّا كان على ابنِ آدمِ الأوَّل كِفْلٌ منها). وهم قد قامت قيامتُهم من تلك الأيام!
أحبابُنا الذين فارقناهم في هذه الأيام قامت قيامتُهم وكان معهم هذا العمر اللي قَضُّوه، ما عملوا فيه وما أخلصوا فيه وما خافوا الله فيه هو الذي يستثمرونه الآن، وأنتم من وراءهم كذلك..
يقضي المالكُ في مملكتِه ما يشاء فهل ظَفِرتَ بحالة صدقٍ معه وحالةِ إخلاصٍ لوجهِه، ووصفِ عبوديةٍ قُمتَ بحقِّها له فيُسعدِك سعادةَ الأبد مِن خلال ما تقول وتفعل في هذا العمرِ القصيرِ الذي بقي النور موجودا فيه، والحبال ممدودة لتأخذك والسُّقيَا مُمكنة أن تُسقَى في الأرض.. الحمد لله فيها "لا إله إلا الله"، وفيها "الله الله"، وفيها "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم يُذكَر على الألسنِ المختلفة باللغاتِ المختلفة في شرقِ الأرض وغربِها. ويختار اللهُ منهم مَن يَسقِي قلبَه، فيَنَالُ مِن الرحمن قُربَه، ومعرفةً خاصَّةً ومحبَّة، ويَعظُم له حيازةُ النتيجةِ عندما يلقَى ربَّه، و: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
فالله يرزقنا اغتنامَ الأعمارِ والساعاتِ والليالي والأيام..
وفي الليالي العَشرِ الكريمةِ المباركة العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن العملِ في بقيَّة أيامِ السنة كلِّها (ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ أحبُّ إلى الله فيها مِن أيام العشر) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ -الجهاد الصادق الصافي الصحيح الذي يقاتل صاحبُه لتكون كلمةُ الله هي العليا يُقاتِل مَن يريد إطفاءَ نورِ الله تعالى؛ هذا الجهاد-، قال: (ولا الجهاد في سبيل الله – العبادة في هذه الأيام أعظم منه- إلا رجلا خرج يخاطرُ بمالِه ونفسِه ثم لم يرجعْ من ذلك بشيء).
والحمد لله أنتم في أيام العشر وفي ليالي العشر.. وفيكم الذي قد باشرَ بالصوم، والذي ينوي صوم شيء من الأيام الباقية، وفيكم الذي قد باشر بإكثار تلاوة القرآن، وفيكم الذي قد باشر بكثرةِ ذكر الرحمن، يقول صلى الله عليه وسلم في إرشاده لنا: (فأكثِروا فيها من التسبيحِ والتحميدِ والتهليل والتكبير) يترتب عليك خيرنا كبير وسعادتنا العظمى..
وقد ضَجَّت بعض البيوت -كما كان يُعهَد في مكة وفي المدينة وفي كثير من أقطار الأرض- تسمعهم من الشوارع وأنت تمشي والبيوت تُردِّد: "لا إله إلا الله عددَ الليالي والدهور، لا إلهَ إلا الله عددَ الأيام والشهور.." يُقِيمُون شعارَ العشرِ الأُوَل من ذي الحجة التي رفعَ النبيُّ منارَها وأشار إليهم بخصوصيَّاتها ومَزِيَّاتها.
الحمد لله، لو انتبهتَ من نفسك ولم تدع أيامَ العشر تمضي عليك وأنت قاطع رحم ولا عاق لوالديه ولا شارب خمر ولا مشاحن لمسلم.. فخذ نصيب والسُّقيَا قريب منك!
وإذا سَقُوك رَقُّوك ووالوك بما لا يبلغه أملُك ولا يبلُغه مُنَاك، هذا شأنُ الرحمن فيمَن أحسنَ المعاملةَ معه.. فاغنموا الليالي والأيام.
وكان كثيرٌ من سادتنا الصحابة فمَن بعدهم يُفَرِّغ نفسَه للعبادة -كمثل سيدنا علي وغيره- ليلةَ التروية، ليلة عرفة، ليلة النَّحر.. يُفَرِّغون أنفسَهم للعبادة والتَّذكُّر والتضرُّع والابتهال. وادعوه واسألوه، وكل ما نازلَكم من أنواعِ الكروب والبلايا بيدِه رفعُها ويرسلها لكم تذكرةً وتخويفا، ولِيَرجِع مَن يرجع وليتضرَّع مَن يَتَضَرَّع فيُفلِح ويفوز.
خذوا نصيبكم وأقبلوا يوم عرفة.. إن قَصَر بسببٍ من الأسباب وفودُ الأعداد فلن يَقصُر مِن الجَوَادِ فَيْضُ الإمداد.. لن يَقصُر من الجواد فيضُ الإمداد. وسَيُمِدُّ مَن حضَر عرفة مَن اِتَّصَل قلبُه بعرفة في أي مكان كان وهو مِن أهل المعرفة، وكلُّ مَن توجَّهَ إليه وأقبلَ عليه واتَّبع حبيبَه صلى الله عليه وسلم في شرقِ الأرض أو في غربها سَيُمِدُّه، وسيَدْحَر عدوَّه الشيطان في ذلك اليوم بما يُفيضُ عليه مِن المغفرةِ والعتق مِن النار ورِفعةِ الدرجات. وعدُ كريمٍ لا يُخلفُ الميعاد جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
ونفسي الفِدَى لخَيرِ العباد لم يزل يدعو ويتضَرَّع في يومِ عرفة ويبتهل إلى الرحمن في المغفرة لأمَّتِهِ ولمن حَجَّ منهم، وحتى بُشِّرَ لمن حَج أن يَغفِر الله جميعَ ذنوبه -إذا بَرَّ حجه- حتى الكبائر قال له الله: إلا التَّبِعات. مثل حقوق الخلق، فيجب أن يعطيَ كلَّ واحدٍ حقَّه. وبقي صلى الله عليه وسلم مهتماً قد يكون فيمن بَرَّ حَجُّه مَن لم يتمكَّن من الأداء للحقوق في عالم الدنيا ويموت قريباً أو لا يستطيع الأداء.. فأخذ يسأل، فلمَّا وصل إلى منى بُشِّر مِن قِبَل الرحمنِ ونزل عليه جبريل يخبره أنَّ الحقَّ يقول: ومَن لم يَتَمَكَّن مِن أداء الحقوق بعد حَجِّهِ المبرور سأؤدِّيها عنه أنا، ويسامحكم سبحانه، فأصبح صلى الله عليه وسلم ضاحكاً فَرِحَاً للأمة. فلما رأوه يضحك قالوا: يا رسولَ الله ما نعهد منك التبسُّمَ في هذه الساعة في الصباح؟ قال: هذا إبليسُ يحثُو الترابَ على رأسه لِمَا عَلِمَ مِن استجابةِ اللهِ لي في أمَّتي وأنه يتحمَّل عنهم التَّبِعَات جَلَّ جلاله لمن بَرَّ حجه.
وهكذا.. فاغنموا الليالي والأيام. ومعكم الأضاحي التي أمر صلى الله عليه وسلم صاحبَها أن يَتَشَبَّهَ بمَن يحجُّ، فإن المُحرمين حَرَّم الله عليهم أن يقصُّوا أظافرَهم أو أن يُخرجوا شيئا مِن شعورهم، قال صلى الله عليه وسلم: مَن أراد منكم أن يُضَحِّي فإذا كانت العشر من ذي الحجة فلا يمسّ ظفراً ولا شعرا حتى يضحي. يُشابه الحجاجَ، فكأنه حاج وهو في بلاده حيث ما كان يمتنع عن هذا الأمر؛ وإن كان على المحرمين بحج أو عمرة واجب، ولكنه سنَّة لمَن أراد أن يُضَحِّيَ حتى يُخرِجَ ضحيَّته. وفي هذا إعلانُ شعائرِ الله القائمةِ وتعظيمِ شعائر الله، يقول صلى الله عليه وسلم للسيدة البتول: قومي اشهدي أضحيَّتك، سيذبحون أضحيَّتَك، فاحضري عندهم (فإنَّ لكِ أن توضعَ في ميزانكِ فتُضَعَّف سبعين ضعفا -بقرونها وأظلافها توضع في الميزان- وتُضَعَّف سبعين ضعف، وأن يُغفَر لك عند أول قُطرَة من دمها) كان عنده بعض سادتنا الصحابة يقول: يا رسول الله أهذا لآل محمد خاصة، فهم أهلٌ لِمَا خُصُّوا به من الخير؟. قال: (لآل محمد وللمسلمين عامة). كلُّ مسلم ذَبحَ أضحيته وقُبِلت عند الله له مثل ذلك؛ يُغفَر له في أول قُطرَةٍ تخرج من الأضحية، وله مع ذلك أن تُوضَعَ في ميزانِه يومَ القيامة فتُضَعَّف سبعين ضعفاً لتثقل في ميزان حسناته، فضل من فضل الله تبارك وتعالى.
وشعارنا "التكبير"، فالتكبير جوابٌ على كل ما يدور في العالم ويثورُ مِن كلام مِن هنا ومِن هناك؛ الظاهر والمُبَطَّن والمُقَلَّب واللي فيه الحيل "الله أكبر" هذا الجواب عليه كله، كَبِّروه بقلوبِكم وبألسنتِكم.
كان سيدنا أبو هريرة وسيدنا عبد الله بن عمر في أيامِ العشر لهما وظيفة، يَخرجون إلى الأسواق ينظرون إلى الأنعام يكبرون ويكبرون ويرجعون.. هذا شغلهم للسوق، لأنه يُسَن للمسلم، من يوم دخلت هذه العشر علينا من ليلة الأربعاء إذا رأى جملا أو بقرة أو غنمة أن يُكبِّر " الله أكبر" ، قال تبارك وتعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} والذكر فيها والذكر المأمور به في الأيام المعلومات –من أول يوم من ذي الحجة إلى يوم النَّحر- {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} جَلَّ جلاله.
"في أيامٍ معلومات" هذه الأيام المعلومات تدخل بعدها الأيام المعدودات؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر. فأنتم في موسمٍ عجيب وفي دينِ حَقٍّ وهدى وفي نورٍ مضيء، والسُّقيَا مُهَيَّأةٌ لِكُلِّ قلبٍ منكم أقبَل وتَنَقَّى عن الخَلَلِ وعما يَعلَقُ به من كدورة الزَّيْغِ والزَّلَلِ بتوبة إلى الحقِّ عَزَّ وجل.
اللهم وفِّر حَظَّنا من هذه الليالي، وأشرق لنا نورك المتلاليء، وإنَّ النورَ إذا دخل القلبَ انشرحَ له الصدرُ وانفسح، فأدخِلِ النورَ قلبَ كُلِّ حاضرٍ وسامعٍ ومَن والانا ووالاهم فيك يا معطي المنافع.
يا حيُّ يا قيوم بالحبيب الشافع بَلِّغنا ما نرُوم، وفوقَ ما نَروم، واجعله مَوْسِمَاً من أبركِ المواسم، وعيداً مِن أبركِ الأعياد على أمَّةِ المصطفى مِن بني هاشم. اللهم ارفع درجتَه لديك، وصَلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه صلاةً وسلاماً تكشفُ بها كروب أُمَّتِهِ وتُصلِحُ بها يمنَنا وشامَنا وشرقَنا وغربَنا، تديمُ حفظَ الحرمين الشريفين وتُخَلِّصَ المسجدَ الأقصى مِن ظُلم المعتدين وتُصلِح أحوالَ المؤمنين أجمعين يا مجيبَ دعوةِ الداعين، يا الله.
يا الله .. يا الله، لا تَحرِم قلبَ حاضرٍ معنا ولا سامِعَاً لنا سُقيَا كأسِ محبةٍ لنا في هذه الليالي، وارتقاؤه بذلك إلى مقامٍ عالي، بِحَقِّكَ عليك لا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشَرِّ ما عندَنا يا الله، ومَن تختارهم للسُّقيَا والرُّقِي ممَّن شَهِد أن "لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه" اجعلنا فيهم يا رحمن، وأدخِلنا في غِمَارِهم يا منَّان، يا قديمَ الإحسان، يا واسعَ الامتِنان، يا حيُّ يا قيُّوم، يا رحيم يا رحمن، يا الله نسألك ونُلِحُّ عليك، وندعوك ونُلِحُّ عليك، ونتوجَّهُ إليك ونتذَلَّلُ بين يديك، ونطلب ما عندك ونتضرَّعُ إليك..
يا الله .. يا الله لا تحرم قلباً من هذه القلوب سُقيَا من كأس المحبة وارتقاءً في رفيع الرتبة، واتصالاً بسيدِ الأحبة يقوَى أبدا سرمدا، يا عالم ما خفيَ وما بدا، يا حاكمَ هذا العالم ويا مَن له الحكمُ له غدا، يا مالكَ يومِ الدين اجعلنا في زمرةِ حبيبِك الأمين، وأسعِدنا بمرافقتِه في دارِ الكرامة يا أكرمَ الأكرمين..
يا الله .. يا الله
وقلوبا خُدِعَت واغتشَّت بأفكارٍ هنا وهناك انصرفَت بها عن صدقِ الإقبال عليك وهم يقولون "لا إلهَ إلا الله" فَبِحَقِّ "لا إله إلا الله" ارحَمهم وخلِّصهم ورُدَّ قلوبَهم إليك، أخرِجهم مِن ظلماتِ الوَهمِ والخيالات والغِشِّ والخداع والكذبِ وارزُقهم الاستجابةَ يا ربِّ لمَن دعاهُم إليك ودَلَّهم عليك يا حيُّ يا قيُّوم فاستجب. يا الله أنقِذ هذه القلوب، داوِ هذه القلوب، عافِ هذه القلوب، صفِّ هذه القلوب، أصلِح هذه القلوب، صافِ هذه القلوب، نَقِّها عن كُلِّ شوب يا الله.
كلمة حالِيَة وحلاوتُها في القبر والآخرة تظهر أكثر "يا الله" .. تستندون إلى مَن! تعتمدون على مَن! تلجأون إلى مَن! وتسألون مَن! وتُناجون مَن! وتدعون مَن!
يا مَن وفَّقتنا لدعائك ولا رميتَنا على بابِ غيرِك وفِّر حظَّنا مِن كَرمِك وإحسانِك وواسعِ جودِك وفيضِ إفضالِك يا مَنَّانُ
يا الله .. يا الله
يا الله .. يا الله
يا الله .. يا الله
نسألكَ بكَ أن تُذيقَ كُلَّاً مِنَّا حلاوةَ مناجاتِك قبلَ أن يخرج من هذه الدنيا، يا الله .. يا الله
ووفِّر حَظَّنا منها ومن سِرِّها وسِرِّ أهليها برحمتك يا أرحمَ الراحمين.. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
04 ذو الحِجّة 1441