(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة مكتوبة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 21 ذو القعدة 1439هـ بعنوان: نحو أسرار ( ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
حَمْدُنَا وشُكْرُنَا لِبَرٍّ شَكُور، تَحَارُ العقولُ في جُودِهِ الكَثيرِ ومَنِّهِ الغَزيرِ وفَضلِهِ الكبيرِ، وتَخْصِيصِهِ إِيَّانَا بإشراقِ نورِ السِّرَاجِ المُنِيرِ، والبشيرِ النذيرِ؛ الهادي إلى أَقْوَمِ صِرَاطٍ ومَسِيرٍ، الهادي إلى العَليِّ الكَبيرِ، الهادي إلى صِرَاطِ اللهِ، الهادي إلى شَرعِ اللهِ، الهادي إلى دينِ اللهِ، الهادي إلى مِلَّةِ اللهِ، الهادي إلى طَرِيقِ اللهِ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن اهْتَدَى بهداه.
ونسألُ الذي كَرَّمَهُ وفَضَّلَهُ وشَرَّفَهُ أن يجعلَنا والحاضرين والسَّامعِين عندَه مِن خَواصِّ مَنِ اهتدى بِهُدَاه ظاهراً وباطنا. يا ربِّ اجعَل عُيونَنَا مُهْتَدِيَةً بِهُدَاه، واجعَل أسماعَنَا مُهْتَدِيَةً بِهُدَاه، وألسنتَنَا وأعضاءنا وقلوبَنَا مُهْتَدِيَةً بِهُدَاه.. ظاهراً وباطناً. يا مَن خَصَّصْتَه، يا مَن مَيَّزْتَه، يا مَن شَرَّفْتَه، يا مَن كرَّمتَه، يا مَن عَظَّمْتَه، يا مَن على جميعِ خلقِك وبَرَايَاكَ قَدَّمْتَه. اللهمَّ صَلِّ عليه أفضلَ الصلوات، وسلِّم عليه أزكَى التَّسليمَات، واسقِنا مِن كُؤوسِ مَحَبَّتِهِ الهَنِيَّاتِ. أنت القائل تُخاطبُه، ونحن نرَى سرَّ خِطابِك له بعد أن أوحيتَه إليه قبلَ ألفٍ وأربع مائة سنة وزايد، تَصِفُ نفسَك وتقول عنه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ). وقد عَلِم الصحابةُ ما عَلِموا منِ سرِّ (لِيُظْهِرَهُ) وعَلِم التابعون ما عَلِموا مِن سِرِّ (لِيُظْهِرَهُ)، وعَلِم تابعُو التابعينَ كذلك على مرِّ القرون، ونحن في بلدتِنِا هذه ومجامعِنِا هذه وزمنِنِا هذه نَسْتَجْلِي معاني أسرارِ قولِهِ عنك: (لِيُظْهِرَهُ).
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أيعودُ الضميرُ على الهدى ودين الحقِّ ؟ أم يعودُ الضمير على رسولِهِ؟ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) لا تقُل لي ذا ولا ذاك؛ هُمَا مَعاً. أتريدُ أن تُفَرِّقَ بينَ الدِّين ومحمد ؟! لا دينَ بغير محمد، ولا محمد إلا بالدين، صلوات ربي وسلامه عليه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). والذين يناوئون بأصنافِ ما معهم مِن تخطيطٍ وفكرٍ وأساليبَ ينشرونَها في الأرض قلتَ لنا عنهم وقد لَوَيْتَ وطَوَيْتَ مكرَهم: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
ونحن نرى تجدُّدَ التَّنَزُّلِ في هذا التنزيلِ جيلاً بعد جِيل، ونرى أنَّكَ أعطيتَ جيلَنا نصيباً وافراً جليلاً مِن سِرِّ هذا التنزيلِ في قولِكَ للرسولِ والدليل: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). وكنا نسمعُ آثاراً منه عمَّن مضَى قبلَنا مِن خيارِ الأجيال المُرْتَقِيَة المُنْتَظِمَة في أقومِ سبيل، الشَّارِبَةِ مِن أحلى سلسبيل، الذين في تاريخ الأمةِ أريتَنا آثارَهمُ العظيمةَ في هِدايةِ القلوبِ إليك، لا عشراتٍ ولا مئاتٍ ولا ألوفا، ولكن ملايين هدَيتهم على أيدي هؤلاء، وهديتَ قلوبَهم على أيدي هؤلاء.
وكنا نسمعُ أنَّه وفي آخرِ الزمانِ سيقومُ شأنُ هذه البلدةِ وهذه الطريقة لتكونَ سَاقِيَةً لقُلوبٍ في المشارق والمغارب؛ كنا نسمع، واليوم نرى، وبعد اليوم سنذوقُ ونتحَقَّق. وسترى أعينُ المُتَعَامِينَ وأَعْينُ المُغَمِّضِينَ وأعينُ المُوَلِّينَ بأبصارِهِم يَمْنَةً ويَسْرَةً حتى لا يستطيعوا أن يقولوا "لا " بعد أن لَعِبَت بهم "لا" على غيرِ هدى، وعلى غير بصيرة. والقولُ قولُك، والأمرُ أمرُك، والدينُ دينُك، والرسولُ رسولُك، والشريعةُ شريعتُك، والملكُ مُلكُك. الأرضُ لك والسماواتُ لك، والبشرُ لك، والأفلاكُ لك، وأنت الملك، وما سِواك مملوك.. لا إله إلا أنت. فنحمدُك على ما أريتَنا وأَشْهَدتَنا، ونسألك أن تتمَّ النِّعمةَ علينا فأتمَّها علينا يا الله.
واجعل مِن نعمتِك على الحاضرين والسامعين إشراقَ أنوار: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) لِتَتَحَلَّى قلوبُنا بالإيمانِ والمحبةِ، ونعشقَ ما عشقَه خيارُ البرية ممَّن هم لك أحبة ؛ فنرتقي رفيعَ الرتبة، ولا تغرُّنا أقاويلُ وأباطيلُ إبليس وجنده في الظاهر والباطن مِن أصحاب وحي زخرف القول الغرور. (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) وإنما يجري ذلك لحكمةٍ، أنت أعلم بها (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) ذَرهُم وما يفترُون لأنِّي قَوي، ذَرهُم وما يفتَرُون لأنِّي قادِر، ذَرهُم وما يَفتَرُون لأني قاهر، ذَرهُم وما يفترُون لأنِّي حاكم، ذَرهُم وما يفترُون لأنَّ القولَ قولِي لا قولَ غيرِي فـ (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ). وإنما (وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولكنك أريتَنَا قلوباً في شرقِ الأرض وفي غربِها أصغَت لوحيِك وأصغَت لبلاغِ نبيِّك، وأجريتَ لهم هذا الإصغاءَ والسَّمَاعَ مِن أحلى المشاربِ والمناهلِ وأطيبِ الطُّرقِ وأعجبِ الأسانيدِ حتى اتَّصلُوا بهذه البلدة، وحتى وصلُوا إلى هذه المواطِن، وحتى ساقَتهمُ العنايةُ مِن عندكَ ؛ ليقصدُوا وجهُك الكريم، وليطلبُوا قُربَ نبيِّك الرحيم، وليرغبُوا في الثباتِ على الصراطِ المستقيم، وليَعْلَمُوا أنه ليس على ظهرِ الأرض أَنْجَى لهم مِن عذابك غيرُ هذا المسار، وليس لهم على ظهرِ الأرض أحظَى بأن يَسْلَموا مِن نيرانِك ولا أن يسعدُوا بجِنانِك ولا أن يُدركوا حقائقَ رضوانِك مِن هذه المسالكِ التي سلك فيها أقطابٌ بعد أقطاب، ومُقَرَّبُون بعد مُقَرَّبُون، وصِدِّيقُون بعد صَدِّيقُون، وعارفُون بعد عارفين.
ثَبَتُوا عَلَى قَدَمِ الرَّسُولِ وَصَحْبِهِ ** والتَّابِعينَ لَهُم فَسَلْ وَتَتَبَّعِ
وَمَضُوا على قَصْدِ السَّبِيلِ إلى العُلَا ** قَدَمَاً على قَدَمٍ بجدٍّ أَوْزَعِ
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ما أكثر ما نُشِرَ في الأرضِ باحترافٍ وبِبَذلِ أموالٍ مِن دِعايات لأنواعِ شركاتٍ وأنواعِ أفكارٍ وأنواعِ اتجاهاتٍ وأنواعِ أحزابٍ، وما نرى شيئا مِن هذا النَّشرِ نُشِر لأجلِ تريم ولا لأجلِ الطريقة، ولكنك أنت نشرتَه، ولكنَّك أنتَ أوصلته إلى القلوب، وأصبحت القلوب تسعى وتنساقُ مِن شرقِ الأرضِ وغربِها .. بآثار -لولا المؤثِّر ما قامَ الأثر- بآثار قوتِّكَ وعظمتِكَ وغلَبتِكَ. لا إله إلا أنت.
ولِيَعْلَمَ الناسُ أنه مهما حصلَ في ظَواهرِ الأمور مِن حركاتِ الناس في الحياةِ وأنواعِ الفِتَنِ أنَّ قولَ النَّبيِّ حقٌّ وصِدْقٌ، وإذا قال { الإيمان يمانٍ والفِقْهُ يمانٍ والحِكْمَة ُيَمَانِيَّة } فلا يذهبُ شيءٌ من أقوالِهِ سُدَى، ولا يذهبُ شيءٌ من أقواله ضائع، أنت الذي قلتَ عنه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ) زَكَّيْتَ المنطِقَ الكَريم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) ونحن له الفداء.
كأني به يقولُ لعبدِ الله بن عمرو بن العاص: { اُكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه – وأشارَ إلى لسانِه- إلا الحقّ } اُكتب ، اُكتب .. قال له: { أراكَ كنتَ تكتب مِن الحديث ثم وقفت؟} قال: "تذكرت يا رسولَ الله أنك بشرٌ ترضى وتغضب، وتفرح وتحزن". قال : { اُكتب فو الذي نفسي بيدِه ما خرجَ منه – وأشار إلى لسانِه- إلا الحق } ومَن أصدق منه في الخلق ؟! صلوات ربي وسلامه عليه.
وقولُه المسموعُ عند ربِّ العالمين .. متى؟ قل لي متى؟ في كل وقت، لكن اذكر لي؟ : أذكرُ لك الموقفَ الذي يهابُ الأنبياءُ خطابَ الربِّ فيه، ويهابُ الملائكةُ خطابَ الربّ فيه، ويقولون " إن ربي غضبَ اليومَ غضباً لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، اِرجِعُوا إلى غيرِي اذهبوا إلى فلان" .. فإذا وصلُوا إليهِ ناداكَ فسجدَ لك قلتَ له : "قُل يُسْمَع لقولك".. في اليومِ الذي غضبتُ فيه غضباً لم أغضبْ قبلَه ولا بعدَه مثلَه قولُك مسموع، وشفاعتُك مقبولَة، ورأسُك مرفوع "اِرْفَع رأسك، وقُل يُسْمَع لقولِكَ". هل ضَرَّك أن الجماعةَ سارُوا وراك ويقولُون ساحر يقولون كذاب ما يرضون يستمعون إليك، أنت اليوم مسموعُ القول أمامَ الأوَّلين والآخِرين والعالمِين أجمَعين، ملكُ الملوك يسمعُ قولَك .. " قُلْ يُسْمَع لقولِكَ، وسَلْ تُعْطَ واَشْفَع تُشَفَّع" واشْفَع تُشَفَّع ، واشْفَع تُشَفَّع " ويكرِّرها له ثانيا، ويكرِّرها له ثالثا، ويكرِّرها له رابعا..
بِمَن خُصِّصْتُم ؟ بِمَن مُيِّزْتُم ؟ بِمَن أُكْرِمْتُم ؟ !
اِرْعَوُا حَقَّ رعاية الله التي جعلكُم بها مِن أمَّتِه وجعلكم بها مِن أتباعه، واحفظوا هذا السر الذي لا كمثلِهِ في علائقِ الخلقِ ببعضهِم البَعضِ في شرقِ الأرض وغربِها.
لا أحدَ أَحَبَّ إلى اللهِ أن يُحَبَّ مِن أجلِهِ مِن محمد.
جعلكم الله مِن أنصارِ سيدنا محمد ، مِن أحباب سيدنا محمد، مِن خَوَاصِّ أتباعِ سيدنا محمد، مِن الباذلين أرواحَهُم وعقولَهُم وأموالَهم في محبةِ اللهِ والنبيِّ محمدٍ .. اللهم آمين.
وفي زمنكم مَن ينصرُه بمالِه وروحِه وعقلِه وفِكرِه. وفي زمنِكم مَن يبعدُ عن سُنَّتِه، وفي زمنِكم مَن يوالي أعداءَه. والحقُّ له الأمرُ، يُقَرِّب ويُبَعِّد، ويَهدي ويُضِل، اللهم اِهْدِنَا فيمن هديت.
ولا نشرَ لكم هذه الرايات وأقامَ لكم هذه الشؤونَ التي ما كانت على الظُّنون.. إن تكلَّمَ عليها أربابُ البصائرِ بالإشاراتِ مِن قُرون، فهي مَداركُ أربابِ البصائر. وما كانت على ظَنِّ أحدٍ أنها تقومُ هذا المقام.
بنفسي لمَّا اختطيت المكان كنت أقول: "أظن نحتاج إلى شيء مِن الستارة .. نحتاج إلى جزء مِن المصلى فقط، ما نحتاج إلى المصلى هذا كله إلا إن شيء مناسبة كبيرة" . فصار المصلى ملأى في كثير مِن أوقاته وكثير من فرائضه وكثير مما فيه! ما كان في الظنون، لكن الذي يقول للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) بيدِه الظهور وبيدِه البطون، وإذا أراد أن يُظهرَ المأمونَ ظهرت الأمانة وظهرَ الإيمان وتحرَّكت القلوبُ تطلبُ الله، وتُريدُ ما عند الله تعالى في علاه.
في الوقت الذي تتحركُ فيه القلوبُ للدنايا وللفانياتِ يُحَرِّك قلوباً هو يختارُها، هو يصطفِيها جل جلاله لتطلبهَ ولتطلبَ ما عنده، ولتدخلَ في دائرةِ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجهَه) وهل أرادوا وجهَه قبلَ أن يُرِيدَهم هو؟ ما أرادوا وجهَه إلا لما أرادَهُم، إلا لما قضى أن يُسعدهم، إلا لما قضى أن يُقْبِل بوجهه عليهم (وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وقال لحبيبِه: عينك إلى هؤلاء..
فإلى مثلِ المجالسِ اليومَ على ظهر الأرض في الشرق والغرب؛ هل يوجد مثل هذه المجالس أحقُّ أن ينظرَ إليها؟ أو يلفتَ نظَره إليها؟
(وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) : المخلصُون الصادقون في شرقِ الأرض وغَربها؛ المجتمعونَ على الله، وعلى ذكرِ الله، وعلى هذا الهَمِّ، وعلى هذا الدِّين، وعلى هذه الشِّريعة، وعلى هذه السُّنَّةِ النبوية: هم محلُّ النَّظر. وسواهُم ألوف، وملايين مجالس لا ينظرُ الله إليها ولا محمد، وكثيرٌ مِن هؤلاء في القيامَة (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ولكن الذين اجتمعوا يُكلِّمونَ اللهَ ويقرأونَ كلامَ الله، ويُصلُّون على مصطفاه، ويدعونَه ويسألونَه، كيف لا يكلمهم في القيامة؟ تَعَرَّضُوا لنظرِه في الدنيا كيف لا ينظر إليهم يوم القيامة ؟!
لك الحمدُ شكراً، يا رب أتمِم علينَا النِّعمةَ، لا تجعَل فينا ولا في مَن يسمعُنا شَقِيَّاً ولا محروما، ولا من تُمنع عينُه نظرَ غُرةِ حبيبِك في يومِ القيامة. بحقِّك عليك لا تجعل في مجمعِنا ولا في مَن يسمعُنا ولا مَن في ديارِهِم وديارِنا عيناً تُمنَع أن ترى غُرَّةَ الوجهِ النَّبوي يومَ القيامة. أكرِمنا برؤياه، أسعدِنا بنَظرِ مُحيَّاه، وأورِدنا على حوضِه المَورود، واسقِنا منه شربةً لا نظمأُ بعدها أبدا.
يا ربِّ إنما وَرَدُوا هُنا ليَرِدُوا على حوضِه هناك، يا ربِّ ولو لم يكُن معنى حوضِه هنا ما كان لنا هنأ، ولا طِبْنَا هُنَا، ولا رَضِينَا بهُنا. لك الحمدُ شكرا ولك المنُّ فضلا، فأتمِم علينا النعمة، وهَنِّئْنَا بالشَّرابِ الأهنَى مع خَواصِّ مَن بذلك الشَّراب تهنَّى.
وقديما قال بعضُ رجال الطريقة؛ أئمة هذا المسلك مِن علماء الشريعة وأهل الهدى ؛ الإمام عبد الله بن حسين بلفقيه:
تَرِيمٌ بِحَمْدِ اللهِ طَابَ بِهَا السُّكْنَى ** ونِلْنَا بِهَا الخَيْرَاتِ والمَشْرَبِ الْأَهْنَا
شَرِبْنَا بِهَا كَاسَاتِ أُنْسٍ وَرَاحَةٍ ** فَأَنْعِم بِهَذَا الشُّرْبِ في هَذِهِ الغَنَّا
مع أنه في وقتِه كانت بعضُ الفِتن وبعضُ الشؤون، لكن روحُه تجولُ في المجالِ الفسيحِ وهو آخذٌ مِن هذا الشراب الطيِّب الصريح، يَشربه وتَهُبُّ عليه ذلك النسيم والريح. وهذه الكؤوسُ لمن أراد أن يشرب مِن بعدهم، ولمن أراد أن يُهنَّى بشرابِهِم. اللهمَّ اسقِنا مِن تلك الكؤوس، وزَكِّ لنا جميعَ النفوس؛ حتى نعيشَ في الدنيا بَعيدِين عن الكدَرِ والغَيِّ والبُؤس، يا حيُّ يا ملكُ يا قدوسُ يا الله.
وفي اتباعِ الأنبياءِ على العمومِ وفي هذه الأمةِ على الخُصوص والقرآنُ موجود، في مختلفِ الظروف والشدائد التي مرَّت على الأئمة وسطَها عاشَت قلوبٌ وأرواحٌ مُرَوَّحَة بِرَوْحِ الله لا تضرُّها الفتنُ، ولا يغشاها شيءٌ مِن الدَرَن. وأخبر بذلك جدُّ الحسين والحسن، الحبيب المؤتمن صلى الله عليه وسلم. وذكَر قلوباً لا تَضُرُّها فتنة أبداً.. أنواعُ الفِتن تجيء .. حتى أن منها قلوباً تكون موجودةً أيامَ الفتنةِ الكبرى؛ أيامَ ظهورِ الدجالِ الخَبيثِ، ومع ذلك هذه القلوب تعيشُ عيشتَها الطيِّبة مع الربِّ جل جلاله وتعالى في علاه.
ويذكر صلى الله عليه وسلم أن سِرَّ الصلة به تمنعُ أكبرَ الفِتن، يقول لمَن يقرأ ما أُنزِل عليه أوائل سورة الكهف وأواخرها؛ {عشر آيات من أوائل سورة الكهف} وفي رواية {من أواخرها} مَن يقرأها قال: {لا تضره فتنةُ الدجال} أكبرُ الفتن لا تحومُ حولَه .. لماذا؟ لأنه معه حبل ارتبط به بالسراج، ارتبط به بالنور. حتى جاءنا في صحيح مسلم أن مِن أفضلِ الشهداء عند الله، ومِن سادة الشهداء بعد سيدِنا حمزة بن عبد المطلب: الرجل الذي يقتلُه الدجَّال تحت المدينة المنورة، ثم يحييهِ اللهُ تبارك وتعالى ثم لا يُسلَّط عليه الدجال، ذكره صلى الله عليه وسلم وأنه من أفضل الشهداء ومن سادة الشهداء. وأنه يخرج إلى الدجال الخبيث، فيذكر هذا الموفَّق الصادقَ الذي عُصِم وحُفظ أن سرَّ حفظِه وقُربِه ورضا ربِّه عنه صلتُه بحبيبِه، فلما يخاطبه الدجال أتشهد أني ربك- في زمجرته وملكه وبهجرته وفتنته الكبيرة- يقول: أنت الأعور الكذاب الذي حدَّثنا عنك رسولُ الله، عندي خبرك من مصدر موثوق صحيح، وأنا متصل به فلا تضرني أنت، فيغضب لذلك، ويشقه نصفين، ويمشي بين نصفيه، ثم يقول: أردُّه لكم لتعلموا أني ربكم؟ فيقولون: نعم، فيجمع بين نصفيه، فيحييه الله، يقوم، فيقول له: أمَتَّك وأحييتُك، عرفت أني ربك؟ فيجيبه: أنت الأعور الكذاب الدجال الخبيثُ الذي حدثنا عنك رسولُ الله، والله ما ازددتُ فيك إلا بصيرة، أنت لا تعرف المصدرَ الذي أستندُ إليه، لا تغرَّك فتنتُك الكبيرةُ التي تقومُ عليها، فيريد أن يقتلَه فلا يُمَكَّن، ويعلَم أن وقتَه انتهى، فيهرب مِن تحت المدينة المنورة، لأنه لا يقدر على دخول المدينة ، وقد عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم حتى الطرقات التي تدخل للمدينة في التخطيط الأخير الذي قام عليه؛ سبعة أبواب ذكرها صلى الله عليه وسلم. وكل الطرق الآن لي تدخِّل للمدينة هي السبعة ، صلى الله على الصادق صلى الله على خير الخلائق-. ولا يقدر يدخلُ من واحد منها، ويبقى خارجَ المدينة، ويرجع بعد ذلك هارباً إلى الشام وإذا بسيدنا عيسى بن مريم ينزل عليه السلام. والمؤمنون الصادقون مع سيدنا المهدي عليه السلام ما حولَهم مِن هذه الفتنة.
وإن افتتنَ الكثيرُ وإن ذهب الكثير، وإن هلك الكثير وإن دخل النار الكثير –والعياذ بالله تبارك وتعالى- لكن هناك قلوب تتصلُ بالعليِّ الكبير لا تضرُّها الفتن، ويعيشون في معاني من السرور والأنس والحبور في أي زَمنٍ عاشوا ، وهذا الذي على حسب صِدقِ الواحدِ منكم يذوقُ منه مذاق، وربما كان في الأطراف ولا أحس، وربما لو دخل وذاق سيعرف مِنَّةَ الله على المؤمنين وعلى المُقبلين الصادقين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)
وعد .. مَن هو ؟ ( وَعدَ الله )
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): إيمان وعمل صالح وأنت الرابح، إيمان وعمل صالح، وأنت الفالح، إيمان وعمل صالح، وأنت الناجح باليقين (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) قال إنّ حلقات هذه السلسلة مترابطة ما أقطعها في زمن (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ) مربوطة الحلقات وحدة بالثانية (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)، فما مهمَّتُهم في الحياة ؟ قال: (َيَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) والعياذ بالله. اللهم ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول ونفعل ونعتقد.
واجعله مجلساً من خيارِ المجالس، وأعطِنا مِن العطايا النفائس، وبارِك في الوافدين للبلدة المباركة ممَّن يريدونَك. لنا فرحٌ كبيرٌ يا رب أنَّ البلدةَ تُقصد لك ومِن أجلك ولأجلِ القُرب إليك ؛ وهذا ما وعدتَ على ألسُنِ أوليائك والصالحِين من عبادك، لك الحمد وصدقَ رسولُك وصدقَ أتباعُ رسولِك، فأتمِمِ النِّعمةَ علينا وعلى المؤمنين وعلى المؤمناتِ أجمعين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
وعجِّل بتفريجِ كروبَ جميع المسلمين، واقبل حُجَّاجَ بيتِك وزائري نبيك، وافتَح بهم أبواب الفرج للأمة -وهم نوابٌّ عمن وراءهم مِن بقية الأمة-. اللهم فاكشِف الغُمَّة وأجلِ الظلمة، وأقبلِ الوافدين إلى بيتِك الحرام وإلى نبيِّك خيرِ الأنام وإلى المشاعر العِظَام، اللهم اقبَلهم وأفتَح أبواب القبول لهم، وافتح بهم أبوابَ الغياث للأمة والفرج للأمة والصلاح للأمة.
وبارك لنا في ليلتِنا، وفي غَدِنَا، وفي اجتماعنا في الختم، وفيما يليه، وفي آثاره. واجعل له آثاراً وثماراً واسعةً غاليةَ المقدار دائمةً على مَمرِّ الأعصار، تعم المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات، ونجنيها في الحياة والبرازخ ويوم الموافاة وفي دار الكرامة. يا ربِّ أكرمنا، يا ربِّ ارحمنا، يا ربِّ حقِّقنا بحقائقِ الاقبالِ عليك.. يا الله.
على ظهرِ الأرضِ جُندٌ لعدوِّك إبليس، وجنودٌ للنُّفوس وجنودٌ للأهواء وجنودٌ للشهوات وجنودٌ للمال وجنودٌ للسُّلطات وجنودٌ للمصالح، وفي ظهرِ الأرضِ جنودٌ لك ؛ فبِحقِّك عليك اجعَلنا والحاضرين والسامعين جنداً لك، اجعلنا مِن جُندِك المُوفين بعهدِك، الذائِقين لذَّةَ محبتِك ووُدِّك، آمين يا الله .. اسأله يُجِبك، اطلبه يُعطِك
اجعلنا من جندك الموفين بعهدك، اجعلنا مِن أهل محبَّتِك ووُدِّك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا). ومَن يذوق هذا الُود.. هل يشعر أنه في زمن محن وفتن أو بلايا أو شرور ؟!
يَسقيه كأسه ربه فيشعر بإيناسه، ويشعر باستئناسه، ويشعر بكأسه سبحانه وتعالى، فيكون بذلك عَجَّلَ له مِن النعيمِ ما وراءَه ما هو أعظم، فسبحانَ الملكِ الكريم والمنَّان العظيم، لا إله إلا هو.
آمنَّا بك وبرسولِك فاجعلنا مِن أنصارِه حقيقة، مُقتفِي آثاره حقيقة، ومستنيرِين بأنواره حقيقة يا الله. وأمَّتَه تداركَهم عاجلاً يا الله، وأغِثهم قريباً يا قريبُ، يا الله
قُلها وهو يسمعك : يا الله
قُلها وهو يُجيبُك : يا الله
قُلها وهو يقبلُك : يا الله
قُلها وهو يُكرمُك: يا الله
قُلها وهو ينظرُ إليك: يا الله
قُلها وهو يفتحُ أبوابَ مَنِّه، قلها وهو يَهبُك عفوَه، قُلها وهو يَتكرَّمُ عليك بمغفرتِه، قلها وهو يَهَبُك رضوانَه.. يا الله يا الله ، يا الله يا الله، ما لنا غيرك، ارحمنا وانظر إلينا وعافِنا واعف عنَّا..
ربِّ وفي الصُّحُفِ عندك وعند ملائكتك نبيتُ اليوم ونحن في جُندِك وأهلِ محبَّتِك ووُدِّك، وجميع مَن يسمعُنا ومَن في ديارِنا يا الله.
فيها ناس أَمْسَوا وهم جندٌ للشهوات وللأهواء وللشيطان بعضهم، لكن يُصبحون جنداً لك إذا شئت .. يصبحون جنداً لك يا الله. اللهم وما أمسَى بنا مِن نعمةٍ أو بأحدٍ مِن خلقِك فمنكَ وحدَك لا شريكَ لك، فلكَ الحمدُ ولك الشكرُ على ذلك، فاجعلنا نُمسي وأنت عنا راضٍ يا الله. ومَن كان مِمَّن يُجالسُنا أو يتَّصل بنا أو في بيوتنا جنديّاً لغيرِك فيما مضى فاجعَله يُمسي ويُصبح في جُندك يا الله.. يا الله .. يا الله
الكريمَ تسألون، والرحيمَ تدعُون، والمنانَ تَطلبون .. يا الله برحمتك يا أرحم الراحمين وجُودك يا أجود الأجودين.
ووفد مَن وفد من أهل العلم وأهل الخير، ووصل إلينا الحبيب المنصب: أحمد بن حسن بن حامد بن مصطفى بن أحمد المحضار ، باركَ الله في خطواتِه ومجيئِه، ومَن جاء معه، وفي هؤلاء الوافدين، مِن بلدان قريبة أو بعيدة، مُحرِّكُ القلوبِ حَرَّكهُم، وحرَّكهم وجاء بهم هنا لماذا؟
تَرى الكريم إذا دعا أحداً، ماذا يعمل له ؟
لك الحمد .. أكرِمهم يا رب، لا تُخيِّب أحداً منهم وزِدهم زياداتٍ، وافتح لنا ولهم أبوابَ العنايات والرعايات والتوفيقات، والحمد لله رب العالمين.
22 ذو القِعدة 1439