ميزان الترجيات والتخويفات ما بين الدائمات والزائلات
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 1 ذي القعدة 1442هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
ميزان الترجيات والتخويفات ما بين الدائمات والزائلات
نص المحاضرة:
الحمد لله مُنَبِّهِ العقول إلى حقائقَ ما ليس له أُفُول؛ حتى تتخلَّصَ مِن عشقِ ما يزول، وتتهيَّأَ لمُلكٍ يُعطونَه مِن الذي مُلكُه لا يزول؛ فيتَأَبَّدُّ لهم مُلْك، آمنينَ من كُلِّ هُلْك، بانتِبَاهَةٍ انتبهَتَها عقولهم واستنارةٍ استنارَت بها قلوبهم أيامَ الحياةِ الدنيا القليلة اليسيرة -بكُلِّها بالنسبة لما بعدَها- ولكن ما يخصُّ الفردَ منهم قليل مِن قليل مِن قليل.. كم يتعمَّر أحدُهم على ظهر الأرض؟ -ولو كان مِن أهلِ الأمم السابقة أهل الأعمار الطويلة وتَعَمَّر سبعمائة سنة، وألف سنة- لا نسبة لها إلى ما بعدها في ذلك العالمِ الذي يدومُ فيه النعيم ويدومُ فيه العذاب.
اجعلنا مِن أهلِ النعيم يا رب، وأهل الملك الكبير يا رب...
وكل ذلك في استجابةٍ حَسَنَةٍ لنِداءِ هذا الملكِ الحقِّ الحيِّ القيوم جلَّ جلاله، ولدعوتِه التي يَبعث بها أنبياءَه ورسلَه الذين خُتِموا بنبيِّنا وسيِّدِنا وإمامِنا وهادينا محمدِ بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي... صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرةِ اقترابِه مِن أحبابه.
بهذه الاستجابةِ يُدرِكُونَ هذا المُلْكَ الأكبر، وينجَون مِن ماذا؟ يُنجَوْنَ مِن غضبِ الجبَّار وسَخطِه وما يترتبُ عليه مِن عذابٍ سرمديٍّ أبديٍّ.. لا كورونا ولا سرطان ولا مرض قلب حسِّي ولا فقر ولا صاروخ ولا زلزلة.. عذابٌ مهينٌ أليمٌ شديدٌ لا يُطَاق، يستمر على أصحابه، يحصِّل هذه النجاة مِن كلِّ هذه الأهوال، ومِن خطر موقفِ "شَقي فلانُ بن فلان شقاوةً لا يَسعد بعدها أبدا"، ينجو من هذا.. ينجو مِن أغلال وسلاسل، ينجو مِن كلاليب على متنِ جهنم تَرمِي بأصحابِها في النار؛ هذه النجاةُ مِن هذه الأهوال كلها بـاستجابةٍ لدعوة الله، وتلبيةٍ لنداء الله، واتباعٍ لرسلِ الله الذين ختمَهم بمحمدِ بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فلننظُر قصةَ الحياة مِن هذا المنظار الأفسَح، الأحق، الأقوم، الأعظم مِن ظهرِ الحقيقة، فإننا نُخَوَّفُ بالذين مِن دونه نُخَوَّفُ بمرضِ الدنيا، نُخَوَّفُ بفقر الدنيا، نُخَوَّفُ بشيء من أعراض الدنيا ونُمَنَّى ونُرَجَّى بشيءٍ مِن زائلاتها! وشيءٍ من حقيراتِها! وماذا فيها وما في مظاهرِها مما يساوي لحظة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}! ماذا في الدنيا؟ مُلك مَن؟! رئاسة من تساوي لحظة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}!
مُلك مَن يساوي هذا؟ رئاسة مَن تساوي هذا؟ وزارة مَن تساوي هذا؟ لو جمَّعوا لك وزارات العالم مِن أول وزارة إلى آخرِ وزارة وأعطوك إيَّاها وحُرِمَت هذه الوقفة أنت خسران! أنت هالِك! أنت مَغبون! فبماذا يُرَجِّينا هؤلاء القوم! إبليس ومَن معه مِن شياطينِ الإنس والجن ويلعبون بتَرجياتِهم على عقول أبنائنا وبناتِنا ورجالنا ونسائنا! وبماذا يخوِّفوننا؟ بالحقيرات! بالزائلات! بالتافهات!
لكنَّ الله ورسلَه رَجَّونا بالرضوان الأكبر، والخلدِ في النعيمِ المقيم، والمُلكِ الكبير، وخوَّفونا مِن حَرِّ نارِ السعير وغضبِ الجبارِ الكبير جَلَّ جلاله وتعالى في علاه. فماذا يساوي إنذارَ هؤلاء وتَبشريهم عندما يُرَجِّينا به هؤلاء ويُنذرونَنا به؟
مساكين! حقراء يخافون مِن حقير ويرجُون حقير! زائلين يرجُون زائل ويخافون مِن زائل! قصيرين يرجون قصير ويخافون من قصير! ضِعَاف يرجون ضعيف ويخافون مِن ضعيف!
هذا الذي نُحَرَّر منه بدعوةِ الله وبدعوةِ أنبيائه ورسلِه عليهم صلوات الله، حرَّرونا مِن هذه التفاهة! وهذه السَّخافة وهذه الحماقة؛ حتى نرجوه ونخافه جلَّ جلاله ونعلَم مَن بيدِه الأمر {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.
يا ربَّ الدنيا والآخرة احفظ قلوبَنا من الاغترار بالدعوات القاصرة وأهل الوجهات الخاسرة، وارزقنا التلبيةَ لندائك والإجابة لخاتمِ أنبيائك {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ..}
يا مُنزلَ القرآن: وكلُّ قلبٍ مِن قلوب الحاضرين معنا والذين يسمعونَنا لم تُمَكِّنه مِن حُسنِ السَّماعِ فاءذن له بالسماع، ائذن له أن يسمعَ النداء، نداءَ الهدى على لسانِ خيرِ خلقِك سيِّدِ السعداء وأسعدِهم. لا أسعدَ مِن "محمد" في الأرضِ ولا في السماء، هو الأقربُ إلى الرَّب، هو الأحبُّ إلى الرَّب، هو الأكرمُ على الرَّب، أكرمُ الأولين والآخِرين على إلهِ العالمين، صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه دعوتُه، وإذا سمعَها قلبُك فلبَّيتَ وأجبتَ فالسعادةُ مُنهَالةٌ عليكَ مِن كلِّ جانب مِن حيث تشعر ومِن حيث لا تشعر، وتتجلَّى لك مظاهرُها ومجاليها مِن ساعةِ الغرغرةِ إلى ما بعدها إلى الأبد. تفرح بتلبيةِ النداء وبهذا الهدى، وإذا قيل لروحِك في قبرِك: ما تقول في هذا الرجل؟ قلتَ: حبيب ربي، قلتَ رسول إلهي، قلت هاديني وداعيني ومُنقذِي ومُرشِدي "محمد بن عبدالله" صلى الله عليه وسلم. وقيل لك: قد عَلِمنا إن كنتُ لمُوقنا، هذا منزلُك في الجنة، فانظر إليه وتنعَّم بالنظر إلى يومِ القيامة، والساعةُ قريب. يشكرون تلبيةَ نداءِ المنادي {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.
حقِّق لنا الإيمان، قوِّ لنا الإيمان، زِدنا مِن الإيمان في كلِّ آنٍ..
أعلى ما تكسبُه في هذا العمرِ القصير يا صاحبَ الوعي والعقلِ والإدراك إيمانٌ بالعليِّ الكبير.. أعظم ما تكسبُه في هذه الحياة..
قال عن قول أولي الألباب: { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
أهلُ هذا السَّماعِ وأهلُ هذه التلبية وأهلُ هذا الدعاء وأهلُ هذا التفكير الرَّفيعِ الشريف قال الله عمَّن سبقَ منهم قبلَنا: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} فإذا أدرَكنا مداركَهم، وتعلَّقنا بفكرِهم، ودعَونا ربَّنا بما دعَوا؛ فالذي استجابَ لهم يستجيبُ لنا بفضلِه {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ..} أخذتُم مِن العملةِ الشريفة الثمينة التي لا تنفذ -بقيَّة العملات كلُّها تنفد، تبقى ذي العملة- ما عملتُم مِن أجلي، قول صالح، فعل صالح، وجهة صادقة، بذل، تضحية، تنفيذ لأمري، طاعة لأمري، اتباع لرسولي.. محفوظ عندي {.. لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي..} قال الذين من أجلِ الإجابة لأمري وقعت عليهم بعضُ أتعابٍ في الدنيا لا تحسبوا أنَّ منهم خاسر{..فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ..}
يا مؤمنا ضَعُفَ إيمانه: نُذَكِّرُك بالله ورسوله ونقول لك: اخرج مِن ذا الغرور {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} إن تقلَّبوا بأجهزتِهم، وإن تقلَّبوا بأسلحتِهم، وإن تقلَّبوا بمخابراتهم، وإن تقلَّبوا بكُلِّ ما أوتوا مما عندهم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} أتريد أن تعرفَ حقيقةَ ما هم عليه مِن كُلِّ جانب على وجهِ الواقع والحق؟ {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
صَدَق ربي.. فلتَتحرَّر مِن الغرور صدورُ المؤمنين والمؤمنات؛ ليكونوا سببَ الإنقاذ والإرشاد والإسعاد لمن سَبَقَت لهم سابقةُ السعادة مِن الله، ويقوموا بحقِّ الله على ظهر الأرض مُلَبِّين لهذا النداء: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، وإن أردتَ حقائقَ الشرف والعز: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ}
نِعْمَ الله، ونِعْمَ ما عنده..
والخُلَاصَةُ: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ}. فلنَرغب في هذا الباقي، ولنَصدُق مع الخالقِ الرحمنِ لنسعدَ يومَ التلاقي؛ يوم يجمع الأولون والآخرون؛ ولا يُرَى الحق ولا العز ولا الشرف إلا في هذا القول الذي يُقال لكم وفي هذه الدعوة الذي دُعينا إليها على لسان نبيِّنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فيَا ربِّ أَسمِع قلوبَنا نداءَه، وارزقنا تلبيةَ هذا النِّداء، واهدِنا بذاك الهدى؛ حتى ندخل في دوائر مَن قلتَ عنهم أنهم يقولون في دعائهم لك: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} آمَنَّا بك، وبما جاء عنك على مرادِك، وآمَنَّا برسولك هذا محمد وبما جاء عنه على مرادِه، فثَبِّتنا على الإيمان، وزِدنا مِن الإيمان، وارزقنا زيادةَ الإيمان في كُلِّ شأنٍ يا كريمُ يا منَّان.
ومواسمُ الخير –من رمضان وما بعده- أشهر الحج أو الأشهر الحُرُم؛ الفوائد الكبرى فيها أن يزدادَ إيمانُك، ويقوى يقينُك، ترتفع درجتك عند قويٍّ متينٍ باقٍ حيٍ قيوم باقٍ مَلِكٍ مُلْكُهُ لا يزول، هو "الله"، هو "الله"، هو "اللــه".. تتمكَّن عنده، ترتفع درجتُك عنده؛ حتى يُحِبَّك "هو" ويحب لقاءك..
فما أعجبك وما أعجب مآلك! وما أعجب رُجْعَاك إذا مَلِك الأملاك يُحِبُّ لقاك!
وكذلك.. كم تنتشر مِن البشائر على أيدي الملائكة.. وبشائر خاصة يقول الله مباشرة أعطيكم: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
فلترغب هذه القلوب في ذلك المقام العظيم والأجر العظيم والشأن العظيم، وتعمل على تحصيله، ولا تزهَد عنه بشيءٍ مِن مُتَعِ هذه الحياةِ الفانية، ولا تُغَرَّ بشيءٍ مما يُغَرُّ به أهلُ القصور وأرباب الغفلةِ عن العزيز الغفور، والذين اختلطَت واخْتَبَطَت عليهم الأفكارُ والأمور، فهم في ظلمات -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
فأحسِنُوا استقبالَ شهر ذي القعدة، وتهيَّأوا لعطاء الحقِّ تعالى، وأن تنالوا رضوانَه وقُربَه ووُدَّه، فهي أعلى ما تكسبونَه في الحياةِ القصيرة، وهي الفرصةُ المتاحة لكم.
وللهِ الحمدُ أن جعلَكم في خير الأمم، وأحدُكم في زمن متأخر -ولكن- الفوز الأكبر له متيسِّر، و (للعامل أجرُ الخمسين)، والاستقامةُ فيه على العبادة هجرةٌ إلى سيِّدِ المرسلين كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم: (عبادةٌ في زمنِ الهَرج كهجرةٍ إليّ)، والمهاجرون إلى الحقِّ جلَّ جلاله يدخلون مِن أبوابٍ شتَّى.. يهاجرون إلى بلدان، يهاجرون إلى أماكن، يهاجرون إلى بعضِ الصلحاء وبعضِ الأمراء.. قال أعلى مراتب الهجرة إلى الله عندي أنا.. أنا أقول لكم: (كهجرة إليَّ) تدخلون على الله مِن بابِه..
مثل الذين هاجروا من أصحابي وجاءوا من الأقطار إلى عندي ودخلوا على الله مِن ذا الباب؛ أنتم في زمنِ الهرجِ إذا ثَبتُّم على ذا العبادة.. ولُعِب على العقول بذلك الهرج ليقتلَ الناسُ بعضُهم بعضاً ويؤذي بعضُهم بعضا ويضر بعضهم بعضاً ويتعالى بعضهم على بعض ويُفسِد بعضهم بعضا.. قلتم لا.. نخافه ونتَّقيه وننشر الخيرَ ما استَطعنا، ونهدي إلى سبيله ما استَطعنا.. ثبتُّم على ذلك: (كهجرة إليَّ) فإذا حُشِرَ المهاجرون يقول هاتوا بأهل القرون الأخيرة من الذين صدقوا مع الله دخّلوهم معهم .. ودخلوا مع الأوائل في الصفوف الأولى مِن صفوف أهل الجنة..
هنيئا لهم.. ثبِّتنا يا ربِّ على العبادة {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} كل هذا وُعِدناهُ على لسانِ رسولِ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فاصدُقوا، وأقبِلوا بالهِمَّة، وصدقِ العزيمة، والوجهةِ الخالصةِ للرَّبِّ جلَّ جلاله، واغنَموا لياليكم وأيامَكم، واعمروا ديارَكم بسننِ محمدٍ ومنهاجه، وما جاء به عن إلهِكم من صلوات، ومِن صدق في الحديث، ومِن خُلقٍ حسن، ومِن صِلَة، ومن تعليم، ومِن ذكرٍ للرحمن، ومن تلاوة للقرآن، ومن رفضِ عاداتِ الفجارِ والكفار وكل ما خالف شرعَ المختار -في مناسبة وفي غير مناسبة- على مدار آناء الليل والنهار؛ كونوا مع الحق ونبيِّه المختار، واعمرُوا بذلك الأعمار، وتهيأوا للقاء الواحد الأحد جلَّ جلاله وهو راضٍ عنكم.
اللهم أكرِمنا برضوانك، انشُر لنا راياتِ أمانك، وارزقنا كمالَ الإيمانِ واليقين، والإخلاص والصدق لك في كُلِّ شأنٍ وحالٍ وحينٍ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
يا الله.. رفَعنا إليك أيديَنا، وأنت أعلم بظواهرِنا وخوافينا، وسألناكَ الصلاةَ على هادينا ومُنادِينا، نادانا إلى الإيمان بكَ فلبَّينا وآمَنَّا بك وكُلَّ ما أنزلتَه عليه وعلى الذين مِن قبلِه مِن رسلِك وأنبيائك اللهم فحَقِّقنَا بحقائقِ الإيمان، وزِدْنَا منك إيماناً في كُلِّ آنٍ، واحشُرنا في زمرةِ سيِّد الأكوان، مع أهل القرآن وخاصَّتِكَ العارفين الزِّيَان، يا كريمُ يا منَّان، يا كريمُ يا رحمن، يا مُنزلَ القرآن خَلِّقنا بأخلاقِ القرآن، ومَن أنزلتَ عليه القرآن، وتَوَلَّنا به في جميعِ الأحْيَانِ، يا كريمُ يا منَّان.
يا الله.. ندعوك ونرجوك، ونسألُك، ونتذلَّلُ بين يديك، ونلجأ إليك، ونلوذُ بك، أنت عمادُنا، أنت ملاذُنا، أنت ملجأنا، عليك اعتمادُنا، إليكَ استنادُنا، أنت رجاؤنا، أنت ثقتُنا، أنت عُدَّتُنا، أنت يا ربِّ مطمعُنا، أنت عليك اعتمادُنا، أنتَ إليك استنادُنا، نحن عبيدُك وأنت إلهُنا، ارحَمنا، وانظر إلينا، وقَرِّبنا إليك زُلفَى، ووفِّقنا لما يُرضيك عنَّا، يا الله..
يا ربَّ العالمين كُلَّ ما لا يُرضيكَ مِن أوصافِ القلوب انزَعهُ مِن قلوبنا، وكُلَّ ما لا يُرضيكَ مِن الأعمالِ جَنِّبنا إيَّاه، وكُلَّ ما لا يرضيكَ مِن الأقوال طَهِّرنا منه، وما كان جرى مِنَّا فيما مضى فامحُه عنَّا وسامِحنا فيه وتجاوَز عنَّا وكفِّر عنَّا سيئاتِنا، اللهم ونستودعُكَ ما بقيَ مِن أعمارنا حتى لا نقولَ إلَّا ما به تَرضى، ولا نفعل إلَّا ما به تَرضى، ولا ننوي إلَّا ما به ترضى، ولا نُحِبُّ إلَّا ما ترضَى بحبِّه، ولا نكره إلا ما ترضَى بكرهه..
يا الله.. يا الله..
يا الله هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التُّكلان، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحمَ الراحمين حقِّق لنا ذلك في لطفٍ وعافية.
وعجِّل بتفريجِ كروبِ المسلمين أجمعين، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنَّا.. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
02 ذو القِعدة 1442