(363)
(339)
(535)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 3 ذو الحجة 1446هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
مظاهر جود الله في الأمة وسوابق إرادته في بقاء الخير فيهم
الحمد لله على موائد إحسانه، وموارد امتنانه، وعجائب الفضل الذي لا حدَّ له ولا حصر ولا نهاية، فضل رب العرش العظيم، فضل الإله الكريم، الذي أنار الوجود بِنور المعرفة به والدلالة عليه.
وجعل الرأس والأصل في ذلك: أحبّ الخلق إليه وأكرمهم عليه، وأرفعهم قدراً ومنزلة لديه، محمد بن عبد الله -صلوات ربي وسلامه عليه-، ختم به النبيين، وجمع له أسرارهم، وفرَّعها منه فيهم، وفرَّعها منه فيمن يأتي بعده من أمته: أرباب الصدق والإخلاص.
وأُعطِيَ:
حتى يجعل في كل قرن من أمته سابقين؛ بالفضل والإحسان، ويختار منهم مَن يكونون في الصفوف الأولى في يوم القضاء ويوم الدين.
ألحَقنا الله بأولئك المقربين والعِبَادِ السابقين أرباب اليقين، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فبقيت تلألؤ أنوار هذا المصطفى ودلالتها على الحق -جلَّ وعلا- بــ:
وبذلك تبقى حقائق هذا الإيمان والدين قائمة في الوجود والعالَم؛ بما يحصل من تقلُّب الأوضاع والأحوال ها هنا وهناك. ويأتي في كل قرنٍ تجديدٍ لدين الله - تبارك وتعالى-؛ يحصل به لظلمات الوهم والشرك والكفر تبديد، حتى يأذن الله -تبارك وتعالى- بقيام ورجوع الخلافة النبوية، في حقائقها ومعانيها العِلمية والقلبية والحُكمِيَّة إلى عالم الحِسِّ والظاهر.
ويُقِيمُ الله -تبارك وتعالى- مَن يتقدَّم: عيسى بن مريم، ونزول عيسى بن مريم على ظهر هذه الأرض، وإقامة خلافة زين الوجود محمد على يده، وانتهاء فتنة من أكبر الفتن منذ خلق الله الأرض إلى أن تقوم الساعة، وهي فتنة المسيح الدجال.. على يد عيسى بن مريم، على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم على الدوام.
وجعلنا الله وإياكم من خواص تابعيهم، السائرين في سبيلهم، والمُترقّين بمراقيهم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
حتى ننال شرف المعية لهم في دار المآل؛ بصادق الوعد من ذي الجلال: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا..). رافِقنا بهم يا كريم، واجعل في مرافقتهم جميع أهلينا وأولادنا وطلابنا وقراباتنا وجيراننا ومَن في ديارنا، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين.
يا الله.. يا الله: لا ُتخلِّفنا عن مرافقتهم وركبهم (..وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].
وكان للواحد منهم في مثل أيامكم هذه والليالي المباركة.. ليالي العشر:
والتلقي للعطاء الواسع من حضرة الواسع -جل جلاله-.
فلتُشابهوهم، ولتقتدوا بهم.
وليكن في قلوبكم: هَم بالارتقاء وبالنقاء وبتصفية الصفات، وتنوير الباطن؛ بــ:
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج:28]. بدأت عندكم يوم الأربعاء والخميس، وأنتم في الليلة الثالثة، وصبيحتها اليوم الثالث من الأيام المعلومات، والليالي المباركات العشر (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر:1-3]، بارك الله لنا ولكم وللأمة فيها.
يا ربِّ: اقبل المقبلين على طاعتك وعبادتك في هذه الأيام والليالي. وشوائبها نقِّها.. نَقِّ عباداتهم عن الشوائب، يا ربِّ: وصحِّح لهم عبادتهم، وارزقهم الإخلاص لوجهك والقبول منك يا الله، ووفِّر حظَّنا من العبادة.
والقلوب التي أعرضت عن عبادتك حتى ربما ضيَّعت الفرائض -وهم كثير من المسلمين رجالاً ونساءً- اهدِهم يا رب! خلِّصهم من هذه الورطات التي هم فيها: ورطات ظلمات الغفلة، ورطات ظلمات تصديق أهل الوهم من الساقطين، ظلمات الاغترار بالحقيرات الفانيات.. خلِّصهم منها يا رب! أشرِق عليهم نور الإنابة إليك والإخبات.
وإذا قامت العبادة على وجهها في ديار المسلمين وحَضَرهم وبواديهم:
فإنَّ ما يَنزِل من السماء مُرتَّب بحُكمِ رب الأرض والسماء؛ على ما يَصعَد من الأرض إلى السماء من أعمال المكلفين: أقوالهم ونياتهم وأفعالهم ومعاملاتهم؛ ما كان منها على المنهج القويم والصراط المستقيم هو سبب النور، وسبب الرحمة، وسبب نزول الأقضية بالصلاح والفلاح ودفع البلايا والشدائد.
ولكن.. نظرات وأقوال وكلمات ونيات وأفعال مخالفة للشريعة، خارجة عن مسلك الحبيب محمد.. هي سبب الحرب، هي سبب الكرب، هي سبب الشتات، هي سبب الضُّر، هي سبب الآفات (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]. يقول الحق -جل جلاله-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) [آل عمران:165].
وإنما شرعها هو، وما علمناها إلا على لسان رسوله محمد وعلى يده، هو الذي دعانا، وهو الذي قامت أسرار خلافته ووراثته في الأمة. فعُقِدت المجامع والمجالس، وقامت تلكم الهمم والنيات والوجهات، ولذا وجدتم الآثار: شيء يُكتب في هذا المكان، وشيء في ذاك المكان.. هذه إجازة، وهذه نظرة، وهذه كتابة، وهذا سند، وهذا راتب، وهذا وِرْد..
كلها خيوط ارتباط، كلها حبال اتصال، كلها سِرَايَات من إرادة رب العرش؛ أُكِنَّت في الذَّاتِ النبوية فبرزت بالهداية، وبرزت بالدلالة، وبرزت بالبيان، وبرزت بحُسنِ البلاغ الذي حمله سيد المرسلين.
الذي قال في كبير خصوصياته: "كان النبي يُبعَث إلى قومه خاصة، وبُعِثتُ إلى الناس كافة"، -صلوات ربي وسلامه عليه- (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1]. والعالمين يدخل فيهم: آل المؤسسات أهل العرب والعجم، الإنس والجن، في أي القرون، في أي الأماكن (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) لهم كلهم -صلوات ربي وسلامه عليه-، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) [الإسراء:106].
رزقنا الله كمال الإيمان به، وكمال الاتصال بنوره وسِرِّه،
حتى نغنم من ليالي العشر..
وحثَّنا على التهليل والتكبير والتحميد.
وبحَثِّه هذا كان على مدى قرون -في كثير من أقطار الأرض- تسمع البلدان ترتج: لا إله إلا الله عدد الليالي والدهور، لا إله إلا الله عدد الأيام والشهور، إلى غير ذلك من الصيغ الواردة بعضها عن الصحابة وعن التابعين، والواردة بعضها في السنة الكريمة يذكرون الله بها. والكل في امتثال أمر الهادي، والدليل الحادي، والمرشد إلى الحق في الخافي والبادي، قال الله -جل جلاله- (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54]، رزقنا الله حسن طاعته. وقال: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31].
وآيَةُ حُبُّ الله من اتباعه ** به وُعِدَ الغفران بعد المحبة
ومن يطع الهادي أطاع إلهه ** ومن يعصه يعصِ الإله ويَمقتِ
ومن بايع المختار بايع ربه ** يَدُ الله فوق الأيادي الوفيَّةِ
وهكذا.. وجهة الواحد منكم ونيَّته في مثل هذه الساعة: أن يقوم بأمر الله في نفسه وأسرته وأهل بلده؛ باب من أبواب الخير، وحبل يمتد بفضل الواحد الأحد. رزقنا الله إخلاص القصد والنية وصفاء الطويَّة، وخروج الخارجين.. هذه الليلة مفرقين في كثير من القرى، الله يقبلهم ويُقبِل بوجهه عليهم، ويُجرِي على أيديهم الخير للبلدان وأهلها، وينشر النور والهدى في قُرَانَا ومدننا وفي جميع أقطار الأرض طولها وعرضها، يا حي يا قيوم.
ويجعل من سِرِّ كل ذلك، ووفادة الوافدين إلى الحرمين الشريفين، وصلاة المصلين في بيت المقدس: فرجًا لأهل غزة ولأهل فلسطين ولأهل الشام ولأهل اليمن؛ ما يكشف الله به الشدائد، ويرد به كيد المعاند الغاصب المؤذي، المتبجح بالجرائم، المتبجح بالقبائح -والعياذ بالله تبارك وتعالى-! الذي ما عاد بقي معنى من كرامة دم ولا عرض ولا مال ولا طفل ولا امرأة ولا أمن ولا أمان ولا عهد ولا ميثاق ولا شيء!
وقوانينهم الكبيرة تُستخدم لأجل منع سقي الظمآنين! لأجل منع إسعاف الجائعين وإطعامهم، ولأجل منع المساعدات إلى هناك!. هذا الڤيتو! ڤيتو يُقَرِّر تقتيل الأطفال! ڤيتو يمنع إدخال الماء للظمآن! ڤيتو يُقَرِّر إخراج العباد من ديارهم وأراضيهم! ڤيتو يُقَرِّر سفك الدماء بغير حق! والإبادات الجماعية كما يسمونها وما إلى ذلك!. هذا غاية نظامهم، وهذا ما انتهت إليه حضارتهم!
تريد وعداً أحسن من هذا؟ تريد قوة أكبر من هذه؟ (فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)!
واللهِ ما سلَّطهم علينا إلا ذنوبنا، ما سلَّطهم علينا إلا رضينا بالرِّبَا، ورضينا بالخنا، ورضينا بالمعاصي في البيوت والديار، ووصلت للمساجد الذنوب والمعاصي: غيبة في المساجد، سب في المساجد، شتم في المساجد، بغض في القلوب في المساجد، حتى المساجد!. هذا الذي سلطهم علينا، وإلا ما لهم سلطة وما لهم قوة (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141].
يقول -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ..) قال الله: (..فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ..) والنتائج؟ (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)،
وهذه الهجّات في الدنيا.. ما هي؟ (..إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..) يخوِّفكم من أوليائه، يقول: أوليائي هؤلاء أقوى أحد في العالم، ما أحد يقدر عليهم (..إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..)
يا من إليه المرجع: ثبِّت أقدامنا حتى يحسُن مرجعنا إليك، وتجعلنا في مرافقة حبيبك المصطفى وأهل دوائره من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. لا تُخَلِّفنا عن ركبِهم يا رب العالمين، ولا تُخرِجنا من حزبهم يا أكرم الأكرمين، ثبِّت أقدامنا على دربهم حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنَّا، يا ذا العطاء الواسع المتين، يا حي يا قيوم.
أسرع اللهم بالغوث العاجل واللطف الشامل، واكفِنا هول الهائل، ورد كيد المعتدين في نحورهم يا قوي يا متين. حوِّل الأحوال إلى أحسنها.. حوِّل الأحوال إلى أحسنها، حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال يا محول الأحوال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجهال. واقبل الحجاج والعمار والزوار؛ وفدَك ووفدَ رسولِك، وزوَّدهم بكل خير ورُدهم سالمين إلى أوطانهم، مع الصلاح والفلاح والفرج والأرباح، والعطايا التي تعم النواح، والنور الذي ينتشر من نور خير مصباح، يا كريم يا فتاح، يا مُرَوِّح الأرواح، رُد عنا كيد أهل العدوان وأهل الظلم والطغيان في جميع النَّوَاح، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين ** يا أرحم الراحمين فرِّج على المسلمين
02 ذو الحِجّة 1446