مسلك أولي الألباب وتشريفهم بالإيمان وإدراك الحقيقة وسمو رغباتهم واستعدادهم للقاء رب الخليقة

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 3 رجب الأصب 1446هـ، بعنوان: 

مسلك أولي الألباب وتشريفهم بالإيمان وإدراك الحقيقة وسمو رغباتهم واستعدادهم للقاء رب الخليقة

 

نص المحاضرة مكتوب:

الحمد لله على بلوغنا لشهر رجب ونحن في حُلَلِ الإيمان بالله، وبما أوحاه، وبكُلِّ كتاب أنزله، وبكل رسول أرسله. وقد شَرَّفنا بخاتمهم وإمامهم وسيِّدهم محمد، وكُنَّا به خير أمة، لك الحمد يا بارئ السماوات والأرض، لك الحمد يا جامع الأولين والآخرين ليوم العرض. وفي ذاك الجمع اجعلنا في زمرة نبيك محمد، وفي دائرة نبيك سيدنا محمد، وفي مرافقة حبيبك سيدنا محمد، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، واشمل بهذا أهلينا وأولادنا، وقراباتنا، وطلابنا وأصحابنا، ومن في ديارنا، وعُمَّ بذلك المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وكثِّرهم في هذه الأمة..

ما الذي يزيد المؤمنين إيمانا؟ 

وقَوِّ لهم الإيمان واليقين، فهو أعلى ما تُعطي عبادك؛ فيترتب عليه كل الخير هنا وهناك، وعظيم شأن الصلة بك وقوَّتها.. كلها في هذا الإيمان "ما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين"، واليقين: قوَّة الإيمان وثباته ورسوخه في القلب.

 فثبِّتنا يا رب وزدنا إيمانا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)[التوبة:124].

  • آيات القرآن وما تفرَّع عنها تَزِيد المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم،

  • السنة الغرَّاء تزيد المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم،

  • ما يُحدِث الله في هذا الوجود، وما أُمِرنا في القرآن بالنظر إليه وتأمله من شؤون الوجود؛ يزيد المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم.

 

ميزات أولو الألباب

وكان سيدهم ﷺ يقول ويقرأ كلما استيقظ وشرَع لأُمَّتِه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 190-191].

  • أول ميزة لأولي الألباب الذين أدركوا الحقيقة: تولُّع قلوبهم بالرَّبِّ وكثرة الذِّكر للإله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ)،

  • ثم ضبطهم لحُسنِ النَّظَرِ في الشؤون، بـ: ضبط الفكر؛ بـ: حُسنِ استعمال الآلة الموهوبة من الرَّبِّ -وهي آلة العقل- (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

فيُنتِج فكرهم هذه الطلبات يرفعونها إلى ربِّ الأرض والسماوات. فتكون هذه مطلوباتهم، تكون هذه رغباتهم، تكون هذه مقاصدهم، تكون هذه مُراداتهم؛ أن تَتَحَقَّق لهم..

ربنا ما خلقت هذا باطلا

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ)[آل عمران:191]. يعني أيقنَّا -بفضلك- بالحقيقة؛ فأخرجتنا من الظَّنِّ والوهم الذي عليه الكفار (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[ص:27]. -والعياذ بالله- هذا ظنّهم!

ولمَّا كان ظنّهم هذا.. استباحوا لأنفسهم -والعياذ بالله- أن يُوَرِّطوها ويزيدوها إثما بـ: القتل، والسفك، والاعتداء، والعُدوان، والإجرام، ومنع الناس من أغذيتهم ومن أدويتهم، ومن حاجاتهم الضرورية، ومما يُتَبرَّع به.. إلى غير ذلك مما تشاهدون في هذا العالم! ظنّوا أنهم خُلِقوا باطلا وأنَّ العالم خُلق باطلا! (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[ص:27].

النجاة من النار

ويقول أولي الألباب: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191].

(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) اللهم قِنَا عذاب النار، اللهم أجرنا من النار، ومن دركاتها، ومن أهوالها، ومن عذابها، ومن شدائدها، ومن عقاربها، ومن حيَّاتِها، ومن أغلالها، ومن سلاسلها، ومن سعيرها، ومن كل ما جعلتَ من العذاب فيها.. اللهم أجرنا من النار!

(فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185].

يا خالق الجنَّة والنار أجرنا من النار، وأدخلنا الجنة بمحض الفضل، يا كريم يا غفار، يا الله..

ولكن على قدر الإيمان يُحذَر من النَّار، ويُطلَب من الجبَّار القهَّار أن يَقِي ذلك المُدرِك حَرَّ هذه النار، ومن ضَعُف إيمانه كأنه لم تُخلَق نار وكأنه لم يؤمن بالجبَّار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-!

الفوز بإدراك الحقيقة

وكان مظاهر أولي الألباب -أي الذين أدركوا الحقيقة من بين الناس.. لا بصفة هَنْدَسَة، ولا بصفة تكتيك وتخطيط، ولا بصفة إدارة، ولا بصفة مُلك ورئاسة، ولا بصفة غنى ولا بصفة فقر، هذه أعراض تَعرِض للمُقبِل والمُدبِر والشقي والسعيد.. ما هي بشيء! لكن إنما يكون حقائق الفوز منوطٌ بأنَّ هذا -إن كان مهندسا وإن كان طيَّارا وإن كان غنيا وإن كان فقيرا وإن كان أميرا وإن كان مأمورا-:  يَسْلَم من النار؛ هذا الفائز. إن كان يَسْلَم من النار فهو فائز، ما هو بوظيفته ولا بشهادته ولا بمهنته ولا بخبرته؛ بنجاته من النار!

ونجاته من النار هداية ومِنَّة من الكريم الغفَّار، هدَى بها قلبه لأن يُدرِك الحقيقة ويَظْفَر بالإيمان ويموت على الإيمان..

فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحَقِّ والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير مِلَّةِ

 

فمن أين هذه الاعتبارات؟ ومن أين يأتي نسيان الخوف من النار؟ وقد ذكرها ربنا في القرآن وقال: (ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)[الزمر:16].

فوجَبَ بهذا الإيمان أن نكون على حذر (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].

اللهم اجعلنا من أولي الألباب..

 

 بلوغ رجب وصرف ما يقطعنا عن الله

وكلُّ مَن جعلته مِنَّا من أولي الألباب نسألك في رجب هذا أن تَزِيده لُبًّا؛ فتزيده قُربًا، فتزيده حُبًّا، فتزيده نورًا، وتزيده انشراح صدرٍ وسرورًا .. يا الله

يا الله .. يا الله

كلكم بلغتم رجب وأنتم في حُلَلِ الإيمان بهذا الرَّب! مَن الذي منَّ عليكم بهذا؟ (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17]. لك الحمد شكرًا، ولك المن فضلًا، فزدنا إيمانًا، فإن عدوَّك ومَن معه من شياطين الإنس والجن نشروا لنا وبيننا ما يقطعنا عن زيادة الإيمان، وما يُضعِف الإيمان، فاصرف شرهم عنَّا وعن أهلينا وعن أولادنا!

نشروا بيننا النظر الحرام، ونشروا بيننا تأمُّل الصور القبيحة، ونشروا بيننا التقاطع والتباغض، ونشروا بيننا المخدرات والمسكرات، ونشروا بيننا الغيبة والنميمة، ونشروا بيننا استحلال ما حَرَّمْت، ونشروا بيننا أنواع السرقات والآفات.. اللهم لا تجعل لهم يدًا علينا، ولا سبيلا إلينا، ولا إلى قلوبنا، ولا إلى عقولنا، ولا إلى أهلينا ولا إلى أولادنا ولا إلى طلابنا ولا إلى أصحابنا، يا حافظ احفظ علينا صلتنا بك، وإيماننا بك، ويقيننا بك، واجعلنا نزداد إيمانًا ويقينًا؛ حتى لا يبقى مِنَّا صغير ولا كبير ولا ذكر ولا أنثى إلا وفي كُلِّ ليلة من ليالي رجب يزداد إيمانه، ويقوى إيقانه، ويتضح برهانه، ويتقوَّى بُنيانه..

 يا الله..

سعادة العمر وحقيقة الخزي 

فهذه غنيمة العمر، وهذه فائدة العمر، وهذه سعادة العمر، وهذه بركة العمر؛ أن نغنم هذه الزيادة في الإيمان!

ونعلَم أنَّ أولي الألباب من أهل القوة الإيمان حَذِرُوا من النار وقالوا: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)[آل عمران:192]. هذا هو الخزي!

أمَّا مَن مات على (لا إله إلا الله) ما هو مَخْزِي هذا (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)[التحريم:8]، وإن كان حد يسميه قاصر، وإن كان حد يسمّيه متخلف، وإن كان حد يسمّيه مسكين، وإن كان حد يُسمّيه أهبل، وإن كان حد يُسمّيه قاصر! مثل بعض موتانا الذين ماتوا في ذي الأيام ولهم عجيب الزيادة وعظيم السعادة! ما يضرهم إن كانت عيون تنظر إليهم نظر استقصار أو استحقار! (مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)[آل عمران:192]. (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آل عمران:185]. والمَخْزِي مَن عُيِّنَ حطبًا لجهنم، وإن كان رئيسا للعالَم.. مَخْزِي! وإن كان المشهور في الدنيا.. مَخْزِي! (مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[آل عمران:192].

 

 من هم المنصورون؟

تعرف معنى (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)؟ قوّاتهم، وتحالفاتهم، ومكرهم ومكائدهم: تضمحل وتذهب فلا تساوي شيئًا، ما لهم أنصار.. ما لهم أنصار! (وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ)[آل عمران:160]. (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[آل عمران:192]، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر:51]. هؤلاء لهم النَّاصر، هؤلاء لهم النَّاصر، هؤلاء المنصورون (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[الصافات:171-173].

اجعلنا في زمرة النبيين في جندك الغالبين يا أكرم الأكرمين..

يا الله.. يا الله..

نادوا هذا الإله الذي جمعكم، ثُلَّة من أمة حبيبه ينظر إليكم وينظر إلى ما وراءكم ومن وراءكم، بتوفيقه جمعكم وهيَّأ لكم هذا السبيل وأوردكم إليه..

 

من آثار القبول عند الله تعالى

ترون كثيرا من أرواح المؤمنين تجد في البلدة المباركة نَسِيمًا تشمّه من وصال الوجهة الصادقة، وآثار القبول عند الرَّبِّ -جلَّ جلاله-. من أين جاء هذا؟ جاء مِن تَجَلٍّ لرَبِّ الأرض والسماء ورب العرش العظيم، اختصَّ به الحبيب الكريم، وجعل في أُمَّتِهِ سِرَايَات تَسْرِي، منها هذا الذي خَصَّ به البلاد، وجعل فيها من الأجواد الأمجاد مَن كثَّر فيهم الأعداد، الذين قلّوا أن يتوافروا بهذا العدد في بُقَعْ صغيرة على ظهر الأرض! موزعين على ظهر الأرض، ولكن:

 تريمٌ بها منهم ألوفًا عديدةٌ  ** بساحة بشَّارٍ شُمُوسُ الهُدَى قُلي

عليهم رضوان الله تبارك وتعالى (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ)[الأنبياء:26].

يقول قادتهم وسادتهم إذا رأوا ما أبرَزَ الله مما يجود به من توجّه القلوب من أبوابهم؛ تريد الله -تبارك وتعالى- كما كان لسيدنا الشيخ أبي بكر بن سالم في اجتماع الوفد عليه في آخر زيارة زار فيها شعب النبي هود، يقول: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)[الزخرف:59].

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)!

ونِعمَ العِبَاد، ونِعَم العبيد الذين قاموا بحقِّ العبودية وحق العَبْدِيَّة وحق العبودة؛ فكانوا لدى ربِّ الخالق خيار خلائقه وصفوته من بريته -عليهم رضوان الله-.

 

 شفاعة صاحب المقام المحمود

ولولا إرادة الله التكريم لعباده؛ لَمَا جعل في موقف الحشر الشفاعات، ولمَا جعل مفتاحها خير البريات، إرادة الرحمن -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-

ولكن ما يَعرِف الناس في المحشر كلهم انفتاح أبواب الانفراج وحصول الرحمة؛ إلا بشفاعة نبي العصمة ﷺ. والشفعاء الكبار في ذاك الموقف يقولون: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يَغْضَب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، ولا نستطيع أن نُكلمه في هذا الحال! ارجعوا إلى غيري. فإذا رجعوا إلى محمد قال بلسان الجمال والدلال والإفضال: "أنا لها" يا ربِّ صلِّ عليه..!

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)[الإسراء:79].

هو صاحب المقام المحمود، نبيكم الذي خُصِّصتم به..!

 

سوابق الصلة بالجناب الشريف ﷺ

وتزدادون كلما حضرتم مثل هذا المجلس صِلَة بجنابه، وحنان من روحه، تسعدون بها، وهي على ما تجدونه في الحياة! ولو عَلِم الناس سِرَّ ما يَتَنَزَّل في ذا المنازل ما بيتركون لنا مكان ولا مجال، ولكنها سَوَابِق..! على ذا مَنَنْتَ وهذا خَذَلْتَ **  وهذا أَعَنْتَ وذا لم تُعِن

فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهُدَى  **  ويَا رَبِّ اِقبضنا على خير مِلَّةِ

ويا ربِّ ثبِّت أقدامنا على ما تحبه مِنَّا، وترضى به عنَّا، ووفِّر حظَّنا من مواهبك الكبيرة، ولا تحرمنا خير ما عندك لشَرِّ ما عندنا، يا كريم يا ودود؛ حتى نستقبل الشهر بما تحبه مِنَّا في السِّرِّ والجهر، وترضى به عنَّا، وتربطنا به بحبيبك ربطًا يزداد قوَّة في كُلِّ نفسٍ أبدًا سرمدًا.

وإن كان التكليف والتحصيل في هذا الدار.. نَعَم في الحياة الدنيا؛ ولكن نتائج هذا التحصيل مستمرة إلى الأبد. ولذا إذا سألنا الملك الجليل: أسرار رضاه، أسرار قربه، أسرار محبته؛ سألناه دوامها وزيادتها أبدًا سرمدًا. الاكتساب والتحصيل منها لِمَا يدور في دائرة التكليف والتشريف؛ هذا مخصوص في هذه الدنيا، ولكن نتائجها بعد ذلك تتضاعف وتتزايد؛ بحسب ما يُضاعِف الحق.. إلى الأبد! إلى الأبد! ومعنى إلى الأبد: من دون انقطاع، من دون نهاية، من دون نفاد!

ذلكم جود الجواد لمن آمن به فخشيه في الغيب والإشهاد واتصل بخير العباد ﷺ.

أيوحي إلى عقول بُعَدَاء متبهرجين بغيِّهم أنظمة تُعَظَّم ويُقَام لها.. ولا يُتَحَرَّك لمنهج ربِّ العباد -جلَّ جلاله-؟!

مَن أحقُّ أن نُعَظِّم منهجه؟!

لنا الشرف بتعظيم الحق ومنهجه وتبعية رسوله ﷺ!

فليتبعوا مَن أرادوا.. شرقي أو غربي، عربي أو عجمي، إنسي أو جني، ولا نميل إلى شيء من ذلك! ولا نَعدُّ شيئًا من ذلك خيرًا من قريب ولا من بعيد!

ويا ليتهم يُدركون سِرَّ الصِّلَةِ التي بها نتشرَّف بالحبيب الأشرف، ولو أدركوها لسابقونا عليها! ولكنها سَوَابِق من ربك -سبحانه وتعالى- (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ)[الأنعام:112-113].

أما أنت يا حبيبنا فأعلن بالبيان الصريح: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنعام:114-115]. -جَلَّ جلاله-

 

لا ولاء إلا للمؤمنين

فالحمد لله على وجود هذا الخير، والله يَربِط بين قلوب المؤمنين في شرق الأرض وغربها؛ ليقوموا بواجبهم. وبهم يرفع الله هذا الظلم وهذا البلاء، ويرد كيد الفجار الكفار المعتدين الغاصبين الظالمين.

والخشية الكبيرة أن يكون واحد ظاهره بين المسلمين ويطّلع الله -سبحانه وتعالى- من غَيْبِه عليه؛ أن قلبه يَمِيل إلى نُصرة الكفار على المسلمين! يُحِب نصرة الكفار على المسلمين؟! مجرد المَيْل خطَر! وعلامة دخول النار إن مات صاحبه عليه! فكيف إذا تكلم؟! فكيف إذا باشَر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وساعد أعداء الله!

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ..) مَن قال؟ (..بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ..) وإذا قال أنه منهم كيف سيموت هذا؟ بينفعه أنه مات في بلاد المسلمين وصلّوا عليه ودفنوه في مقبرة المسلمين؟ سيُحشر مع اليهود (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)! وما تنفعه صلاة المصلين عليه ولا شيء منها! إذا مات على هذا -نعوذ بالله- (..وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ)[المائدة:51-52].

لا ولاء إلا لله!

 لا ولاء إلا لرسول الله!

ولا ولاء إلا للمؤمنين!

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)[المائدة:55].

مَن منهم ينطبق عليه هذا الوصف؟ أيُّ الدول هذه؟ أيُّ الحكومات هذه؟ ما حد منهم ولي لنا! لا والله! ما يجوز أحد منهم يكون ولي لنا!

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..) خطاب الله للمؤمنين! (..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ..) قال هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا لا تتخذوهم أولياء! (..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ..) يهود ونصارى (..وَالْكُفَّارَ..) بأصنافهم، ملحدين وهندوس وشيوعيين.. أصناف الكفار، لا تتخذوهم أولياء! (..وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ..) ومن علاماتهم: استخفافهم بأمور دينهم (..وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)[المائدة: 55-58]. ما عندهم عقل، ولو عَقِلوا لعظَّموا الصلاة ولعظَّموا الدعاء!

 

قصة استهزاء مَلِك بمسكينة

واستهزأ بالدعاء بعض الذين كان ظاهره الإسلام! كان ملكا من الملوك، فَرِح بقصره الذي بناه وزيَّنه، وخيمة المسكينة هذه قُدَّامه، وقالوا له ما أحسن قصرك لكن يشوهه هذه الخيمة حقَّها، قالوا لها بايشتري الخيمة منك؟ قالت ما ببيع خيمتي، عشت فيها وعبدت الله فيها ومَحَلّي فيها. قالوا بنعطيك مال كثير؟ قالت ما أريد المال! خذي أي شيء؟ قالت ما أريد أي شيء! قال ترقَّبوها إذا خرجت من الخيمة شَعْتِرُوها وبعِّدوها وانتهت! ففعلوا ذلك. فجاءت: أين خيمتي؟ قالوا لها المَلِك! قالت: يا رب! ورجعوا، قال: ايش عملَت؟ قالوا تدعي! ضَحِك! وبالليل يسمع منادي:

 أتهزأُ بالدعاء وتَزْدَرِيه ** وما تدري بما صنَع الدعاءُ

سِهَام الليل لا تُخطي ولكن ** لها أَمَدٌ وللأمد انقضاءُ

وما هي إلا ليال وصاعقة وحدة تَنزِل على قصره وتُنهِيه وقصره، ولا عاد هو ولا قصره! في لحظة واحدة وساعة واحدة وانتهى! وهو ذا بس؟ هذا حقير بالنسبة لما يُحَصِّله بعدين! محاسبته في حقِّ العجوز هذه! وظنّه أن الله بيخذلها وينساها؟!

«أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ فَمَا فَوْقَهَا، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَعِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى اللَّطْمَةُ فَمَا فَوْقَهَا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)»! (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]. -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-

 

عجائب ليالي رجب

فالله يجمع قلوب المؤمنين، ويزيدهم إيمان!

ويجعلنا ممن يزدادون إيمانا في هذه الأيام والليالي المباركات؛ ليالي العطاء الواسع من حضرة الواسع، ليالي ركوب السفينة، وليالي إسراء ومعراج زين الوجود ﷺ..!

يا ربّ بسرِّ الإسراء والمعراج، وصاحب الإسراء والمعراج: فرِّج على بيت المقدس، وأكنافه، وغزة وما حواليها، وسَلِّم الضفة الغربية، يا حي يا قيوم، والطف بنا والأمة فيما تجري به المقادير..

يا حي يا قيوم.. يا حي يا قيوم

ومجئ الوقت الذي لا بد منه.. يكونون في غربي النَّهر والمؤمنون شرقيُّه؛ اجعل اللهم مجئ ذلك كله في عجائب من لطفك بالمؤمنين، وإحسانك للمؤمنين، وفي جودٍ منك تقينا به البلايا والرزايا.

يا حي يا قيوم، تداركنا والمسلمين، أغثنا والمسلمين..

 

أمة واحدة

 يُلعَب على عقولهم بوحي إبليس وجنده، ويُغرون بعضهم ببعض، ويؤذون بعضهم ببعض، ويُولِّعون بعضهم على بعض! وأنت دعوتنا على لسان رسولك (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:52]، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى:13]، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)[آل عمران:105-106]، وتقول لنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الحجرات:10]. إلى غير ذلك مما خبَّرتنا وخبَّرنا رسولك، وأُهمِل كُلُّ هذا الوحي! وأُزِيح مِن أمام العقول والقلوب والأحاسيس، وجاءت وحي إبليس وجنده.. وهو يلعب بالناس ويلعب بالمسلمين، يلعب بمن ظاهرهم من أهل الدين!

يا مُحَوِّل الأحوال حَوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال..!

افتح سَمْع القلوب لتصغي إلى وحيك، وإلى تنزيلك، وما أوحيت إلى رسولك يا ربَّنا. والفئات الذين أنت أعلم بهم.. من أهل الإجرام، وأهل الظلام، وأهل الطغيان، وأهل البغي، وأهل العدوان، وأهل نشر الشر بين الناس: اهزمهم وزلزلهم، خالف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم، واجعل الدائرة عليهم، يا حي يا قيوم خذهم أخذ عزيز مقتدر، يا قوي يا متين اكفِ شَرَّ الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين، يا حيُّ يا قيوم تداركنا والأمة واكشف الغمة، يا أكرم الأكرمين.

وإليه توجَّهوا، وبأسرار وحيه تنبَّهوه، واقتدوا بحبيبه ﷺ،

واستقبلوا ليالي رجب وأيام رجب بـ:

  • انتهاج كامل في المنهج.. أنتم وأهاليكم وأولادكم ومن في دياركم، خَرِّجوا وحي إبليس وجنده واستقبلوا وحي الرحمن -سبحانه وتعالى- ووحي حبيبه وعبده ﷺ (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].

  • وتوجهوا إلى الله ولا يُخيّبكم الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)[الأنفال:9]. -جلَّ جلاله-

  • وقولوا: يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين فرج على المسلمين..

العربية