(610)
(535)
(387)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك ليلة الجمعة 30 جمادى الأولى 1447هـ في دار المصطفى، بعنوان:
محتوى الحياة على ظهر الأرض .. حقيقته خيراته وشروره وخطير عواقبه ومصيره
الحمد لله الملك الحق، الحي القيوم، الواحد الأحد، الذي بيده ما كان وما يكون وما هو كائن وما لا يكون. جلَّ جلاله، عَظُمَ نواله، اتسع إفضاله،
وسَعَت رحمته كل شيء، وكتب عظيمها وجليلها ودائمها وأشرفها وباقيها وسرمديها: للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياته يؤمنون (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف:157].
اللهم اجعلنا منهم، واجعل أهالينا منهم، واجعل أولادنا منهم، واجعل أصحابنا منهم، واجعل طلابنا منهم، واجعل أهل ديارنا منهم، واجعل جيراننا منهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
يا عبيد الشهوات: ضيَّعتم الخيرات والبركات واللذائذ الكبيرات! ما لذَّة شهوات الدنيا من مآكل ومشارب، ومن مناكح ومن مساكن، ومن مراكب ومن سلطات ومن جاهات؟! وعزَّة ربي ليست بشيء أمام لحظة من لحظات رضوانه وعظيم امتنانه!. وأمَّا ما خبَأ مما لا عين رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فشأنه أكبر!
فما الذي خلَّفكم؟ وما الذي عندكم؟ ما أحقره، ما أغفلكم وغَفِلتم به! واشتغلتم به من هذه الترهات والبطالات!. ولو فرضنا أن كل شهوة من هذه الشهوات ولذتها بَقِيَت لواحد من أيام خلق آدم إلى أن تقوم الساعة.. والله لا تساوي لحظة من لحظات إقبال الله على عبده في دنياه أو برزخه أو يوم القيامة أو في دار الكرامة! بالرضوان، وبالإحسان، وباللطف والملاطفة، و: (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ)[يس:58]، جلَّ جلاله!.
هذا أولاً. ثم ماذا يُفيد كل هذا؟ -هذا غير كائن، لو كان- واجتمعت كل هذه اللذائذ والشهوات من أيام خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وعمرك كم سنين أنت يا أبله؟ لو اجتمعت هذه كلها ما ساوت لحظة من لحظات غَطْسِك في نار جهنم! ولكنت تتمنى أن ما قاربتَ شيئا من تلك اللذائذ مقابل أن لا تذوق هوان ولا شدة هذه الغطسة في النار!
ويُبَيِّن لنا صاحب الرسالة هذه الحقائق؛ لنخرج من الأوهام والظنون والشكوك، يقول ﷺ: "يُؤْتى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النّارِ يَومَ القِيامَةِ…" أي بملذَّات الدنيا "...فيُصْبَغُ صِبْغَةً في جهنم" وفي رواية: "يوضع اصبعه في جهنم" ثم يقال له: يا هذا، هل مرَّت بك راحة؟ هل مرَّت بك لذة؟ هل مرَّ بك خير قط؟ يقول: لا!
ما معناه: ما هو مجرد انمحت من الشريط.. بمجرد هذا الهوان الذي يذوقه وهذا الذل والألم؛ أنهى كل لذة، وصارت لا تساوي شيئا، وكأن لا طعم لها ولا لها وجود، ويقول: والله ما مر بي خير قط، ولا رأيت خيراً قط، أنا منذ خُلِقتُ في شدة!. كان لعَّابا في الدنيا، كان ثريا في الدنيا، كان متغطرسا في الدنيا، كان نافذ المقال في الدنيا، ويقول: ما رأيت خيراً قط، ولا شفت لذة قط منذ خُلِقتُ. ينمحي كل الشريط هذا الذي كان ما يساوي شيئا، ما يساوي شيئا!. يشوفون اليوم الناس في الأجهزة أشياء كثيرة، يضغط زرا واحدا، وانمحت، راحت، وصبغة في جهنم وراحت الـ…، ما هي شيء، ما هي بشيء!
ليست بشيء.. لا فرعون وملكه، ولا النمرود وملكه، ولا عاد وقومه، ولا من قبلهم ولا من بعدهم: ليست بشيء! والله ليست بشيء!
الخير في أهل النبوة والرسالة، ومن آمن بهم ودخل في دوائرهم، ومن ثبَت على طريقتهم حتى مات فحٌشِر معهم. الخير عند هؤلاء، الشيء في التقوى (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..).
وذكر مجالي ومجالات أهل التقوى في خلال هذه الحياة على ظهر الأرض: (..لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:156].
ما معنى والذين هم بآياتنا يؤمنون؟ يقول: مرتكز أمورهم ومنطلقاتهم في الحياة على إيمانٍ بِنَا، إيمانٍ بآياتنا المُنزَلَة، والآيات المرسلة، والتي أعظمها في المُرسلين: محمد.
يا من هو الآية الكبرى لمُعتَبِرٍ *** ومن هو النعمة العظمى لمُغْتَنِمِ
سريتَ من حرمٍ ليلاً إلى حرمِ *** كما سرى البدر في داجٍ من الظُّلَمِ
وبتَّ ترقى إلى أن نِلتَ منزلةً *** من قابِ قوسين لم تُدرَك ولم تُرَمِ
وقدَّمتك جميع الأنبياء بها *** والرُّسلِ تقديمَ مخدومٍ على خَدَمِ
وأنت تخترقُ السَّبعَ الطِّباق بهم *** في موكبٍ كنت فيه صاحبَ العَلَمِ
وجرى له كل هذا..
وقُلْ لأهل الأرض: إيش معكم؟ يا أبا جهل، يا عقبة بن أبي معيط.. إيش الذي منعكم عن هذا الخير؟ هذا الذي بات أين وسرى إلى أين؟!، قدامكم ومفتاحه حقائق السعادة واللذائذ الكبرى لكم! أنكرتموه وكذَّبتموه وخالفتموه!، وآثرتم شهواتكم وسلطتكم في مكة وحواليها وسُمعتكم عند العرب، فما الذي جنيتم على أنفسكم؟ وما الذي فاتكم؟ وما الذي حُرِمتُم؟ ويلٌ لهم!
حتى إذا لم تدع شأواً لمستبقٍ *** من الدنوِّ ولا مرقىً لمُستَنِمِ
خفضتَ كلَّ مقامٍ بالإضافةِ إذ *** نُوديتَ بالرفعِ مثلَ المفردِ العَلَمِ
وتلك مزية عُظمَى *** وأسرارُ الحبيبِ عِظَامُ
يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، واجعلنا من أتباعه حقيقة.
الثبات على الإيمان بآيات الله
وتوجهوا بقلوبكم في المجمع الكريم إلى الله، وقولوا هذه الكلمة في مقابلة ما جُمِعَ لكم ولأهل زمانكم ولأولادكم وأهليكم؛ من أنواع الإغراءات، والتضليلات، والإفساد والشر، والتخويفات والتهديدات: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
قولوها عن أنفسكم وعن أهليكم وعن أهل زمنكم وعن المؤمنين في الشرق والغرب: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
وقولوها عن أهل السودان وعن أهل غزة والضفة الغربية ولبنان، أكناف بيت المقدس والشام كله واليمن كله، وعن بقية المؤمنين في المشرق والمغرب، قولوها: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، في كل لحظة أبدا عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومِداد كلماته.
يا مَن قلت: (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ..): آتنا نعمتك وفضلك وادفع السوء عنَّا، وادفع السوء عن أهل السودان، وادفع السوء عن أهل غزة، وادفع السوء عن أهل الضفة الغربية، وادفع السوء عن أهل لبنان، وأدفع السوء عن أهل الصومال، وادفع السوء عن أهل ليبيا، وادفع السوء عن أهل اليمن، وادفع السوء عن المسلمين في المشارق والمغارب، يا دافع السوء.
(..وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)، ارزقنا اتباع رضوانك، في كل إسرارٍ وإعلانٍ لنا أبدا.. يا الله.
(..وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ..)، وعِزَّتك إنك لذو الفضل العظيم، فياذا الفضل العظيم: هَبْ لنا فضلك العظيم، هَبْ لنا من فضلك العظيم، خُصَّنا بفضلك العظيم، وأكرمنا بفضلك العظيم.
(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]. اللهم ارزق هذه القلوب الحاضرة وقلوب من يسمعنا: خوفك وخشيتك، إيماناً وتصديقاً، واجعلنا ممن بآياتك يؤمنون.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ)[الأعراف:157]، فكُلُّ ما شعشع في فكر أحد مِنَّا من تبعية لغيره ممن خالفه.. صغيرا أو كبيرا، في فكر أو في تصور أو في حقيقة أو في دنيا أو في آخرة؛ أزِح ذلك عنَّا واجعله وحده إمامنا وقائدنا، ومن دخل في دائرته، يا الله .. يا الله، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
إدراك حق اليقين عند الغرغرة
وأما مَن كان يبسط يده على أموال الأوقاف وأموال الغير ويأخذها فرحانا حصَّل له مساعدين من الدنيا ومن ذوي النفوذ: مَن بيساعدك في القبر؟ ومَن بيساعدك يوم القيامة؟ "من ظلم قيد شبر من أرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين"، (هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)[النساء:109].
هذه الحقيقة. لو بغيت لك ميزانا واحدا مقطوعا عن ربَّك ما يساوي عند الله -سبحانه وتعالى- جناح بعوضة، ولا يساوي كلبا من الكلاب ولا غنمة من الغنم عند الله -تبارك وتعالى-. يجيب لك فلسفة يقول لك هذا كذا وهذا كذا، وهو وفلسفته طائح في جهنم! (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا..). قال الله كذبتم: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقرة:265]. وليس ما أحلّ كما ما حرَّم! كلامك ما ينفع أحدا، هل قولك (الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ينفعك؟ هل يحول الربا حلالا؟ هل يُنجِّيك من بلايا الربا؟ ما ينفعك ذا الكلام. القول قوله (قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[الأنعام:73].
اجتمعتم على بابه، ولُذتم بأعتابه، في تبعية أحبابه وسيد أحبابه، له كل حمدٍ ومِنَّة، يقبلنا الله وإياكم، يقبلنا الله وإياكم. ولو عَلِموا ما يتنزَّل ما تركوا لنا مكانا، ولكنها قِسَم من عنده قسمها قبل التكوين، قبل الإيجاد، وما في اللوح فيه، رُفِعت الأقلام وجُفَّت الصحف.
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعِنْ
خلقتَ العباد على ما أردتَ *** ففي العلم يجري الفتى والمُسِنْ
فاجعلنا ممن ارتضيتهم لقربك، وارتضيتهم لحبك، وارتضيتهم لرضوانك، وارتضيتهم للتبعية لنبيك، وارتضيتهم في أنصارك وأنصاره، اجعلنا من الذين (آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ)[الأعراف:157]. اجعلنا كذلك يا الله، يا غوثاه، يا رباه.
وارحم من انتقل منا، وارحم من بقي منا، وارحمنا بالرحمة الواسعة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، يا من وسعت رحمته كل شيء: خُصَّنا بفضلك العظيم، يا من اختص برحمته من يشاء: اجعل حظنا وافراً من الرحمة العامة والرحمة الخاصة، يا رحمن يا رحيم، يا منَّان يا كريم، يا ذا الإحسان القديم.
يا الله.. يا الله.. يا الله: أنت حسبنا ونعم الوكيل، لا تصرف منا أحداً من الحاضرين ولا ممن يسمع إلا وقد خلعت عليه خلعة قبول منك، وصدقِ إقبالٍ عليك، وأدبٍ معك، حتى يلقاك. آمين، آمين، آمين، يا رب العالمين ويا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201]، ولا تجعل قلبا مِنَّا يؤثر غيرك عليك، ولا يؤثر الدنيا على الآخرة، ولا يؤثر ما فيها على رضوانك وقربك.
يا الله .. يا الله: ادفع عنا القواطع والحُجَب والحائلات بيننا وبين التَّحَقُّق بين معرفتك الخاصة ومحبتك الخالصة. يا الله.. يا الله..يا الله، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا ذا القوة المتين. والحمدلله رب العالمين.
30 جمادى الأول 1447