(536)
(228)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يزل جوده في توال، وغيث منّته هطال، في مختلف البقاع والمحال، وفي الأمة جيلاً بعد جيل على ممر الأجيال، بأنواع وأمثال وأشكال متعاقبة متنوعة..
إن العطاء إمداده متنوع **يا حسن هذاك العطاء المتنوعِ
وكان من مظهره:
وردُوا على نهر الحياة وكلهم ** شربوا وكم في الركب من متضلّعِ
حاشا الكريم يردهم عطشى وقد ** وردُوا وأصلُ الجود مِن ذا المنبعِ
ولم يزل يُظهر في الأمة بواسطة نبيِّها من ربها سبحانه وتعالى مجالاتُ العطاء ومجالاتُ الفضل والإحسان والاصطفاء والاجتباء بالحياة وبالممات، جلَّ المحيي المميت جل جلاله وتعالى في علاه. والذي سرت سرايتُه في كل ذرات الحياة وشؤون الممات بعجائب الإرادة والقدرة وحسن التدبير والتقدير من العليم الخبير، من القوي القدير، من السميع البصير، من الذي بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، جل جلاله وتعالى في علاه.
وكان موسم من المواسم التي انفتحت بالنبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وكان قد لُوِّث وكان قد غُيِّر، وكان قد بُدِّل وكانوا يتصرفون حتى في زمنه وفي أيامه وقدموها وأخروها، وجاء النسيء وأدخلوا الكفر وأدخلوا الشرك، وأدخلوا المعاصي وأدخلوا أنواع الذنوب، وكانوا يقيمونها صورة من الصور، وفيهم ومن بينهم من يكون سبباً لبقاء معنىً من الخير أو من الرحمة من الله لعباده، ينطوي بينهم، وهم أقلَّة، حتى أراد الله أن يحيي ما مات ويرد ما فات ويزيد زيادات، فجاء الذي كان السببَ الأول للحياة والمصطفى لله والمجتبى من الله، سيد أهل حضرة الله محمد بن عبد الله، صلوات ربي وسلامه عليه، فأوجد وحجَّ حجات قبل البعثة الشريفة، وقبل الهجرة من مكة المكرمة، وكان لا يقف عند حدود ما غيَّروا ولا بدلوا من الموقف من أهل قريش، "الحُمس" الذين لا يجاوزون حدود الحرم، ولا يخرجون إلى عرفة، فيكتفون بالوصول إلى مزدلفة ويقولون "لا نخرج من حدود حرمنا" وكان يخرج صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على قدم الخليل إبراهيم وعلى مرضاة العلي الكريم سبحانه وتعالى.
ثم جاءت البعثة، وجاءت الهجرة، ثم جاء فتح مكة، ثم أرسل في السنة التاسعة أبا بكر الصديق يحج بالناس وأرسل معه علي بن أبي طالب، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، مبيِّناً أخبار السماء، وإرادات الحق بالصفاء والنقاء، ومن يريد أن يفيض عليهم فائضاتُ الجود، وحرَّم على المشركين أن يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، فقد حان وقت الاصطفاء والاجتباء، وعودُ فائضات الجود والخير، ونادى المنادي وعمَّ الأمر الرباني، تحت راية صاحب الشرف العدناني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فجاءت السنة العاشرة وجاءت الذات المكرمة الطاهرة، جاءت ذات محمد لتحجَّ بالناس بيت الواحد الأحد ولتقف بهم بعرفة وناداهم (خذوا عني مناسككم)، صلى الله عليه وآله وسلم.. وقال في استقرار الأمر ببركته واستقامته على يده (إن الزمان قد استدار على هيئته كيوم خلق الله السماوات والأرض) السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم، ورجع كل واحد إلى مكانه وإلى وقته، لا تبديل ولا تقديم ولا تأخير، ولا شيء مما كان يعمله أهل الكفر، ومن حواليه مائة ألف وأربع وعشرون ألف، بهم فاضت الفائضات على من بعدهم في جميع الحجات، هذه الذوات التي تلقت من الذات الأقدس، من الذات الأنفس، من ذات محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وتلا عليهم آيات نزلت طرية من السماء، وهو على ناقته القصواء وبركت الناقة من ثقل الوحي، ثم نهضت بعد أن فتر الوحي، وتلا عليهم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) خطاب من رب العرش، من رب الأرض والسماء يخاطب تلك القلوب، وأولئك الأقوام، تلك الثلة الأولى وعبرهم يصل الخطاب لكل من دخل الحِمى ولكل من اتصل بكريم الكرماء، وآمن برب الأرض والسماء وبمحمد الأسمى، وما جاء به مما ينقذ الناس من العمى (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) فعميانٌ كل من لم يعلموا أنما نزل إلى عبد الله ونبيه وصفوته محمد هو الحق، من لم يعلم ذلك فهو أعمى، وإن سمّوه صانع وإن سموه مخترع وإن سمّوه لاعب كبير وإن سمّوه ممثل كبير وإن سموه رئيس دولة كبرى، وإن سموه وزير.. فهم عميان، (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) هؤلاء العميان يُحشرون يوم القيامة عميان، هؤلاء الذين المحشر يمتلئ بهم عُمياناً إذا ماتوا على ذلك الحال، لم يؤمنوا بمحمد، ولم يعظموا محمد، فما شأن البصر ولا البصيرة، على الحقيقة إلا إيمان بخير الخليقة واستمساك بتلك العروة الوثيقة، وأدى لهم الأخبار وأعطاهم شرائع الإسلام ووثّق لهم العهود والمواثيق، وأخذ عليهم العهود أن يبلِّغوا وأن يوصّلوا وأشهَد رب العزة على هذا البلاغ الذي ما عرفت البشرية مثله قبله ولا بعده، (ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟) وإذا تلا جملة من الأحكام، رد وقال (ألا هل بلغت؟) قالوا بلغت، قال (اللهم فاشهد اللهم فاشهد اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب)
وعظمت البركات وقد حجّ على رحلٍ رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، ثم قال في دعائه (اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكانت زاملته راحلته، عادة عامة الناس وأكثرهم يجعلون زاملة يجعلون عليها زوادهم، وأمتعتهم ورواحل يمشون عليها، تكون أقوى وأسرع مشي وأحسن، أما سيدنا المصطفى زاملته هي راحلته هو ذا واحد، يضع عليه زاده ويركب عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهل عرفت الأرض أو السماء قلباً أكثر تواضعا من قلب حبيب الله محمد، أو أكثر خضوعاً لجلال الله؟ لو كان أعرف بالله منه لكان أن يوجد أخضع منه، لكن لا أعرف بالله منه، فهو أعظم الخلق خضوعا لله وتذللا لله، وأدباً مع الله، صلوات ربي وسامه عليه..
وبقيت الأمة محفوظة بفضل الله تعالى ببركة هذا النبي على ممر الأجيال في مَن يختارهم ربكم من القلوب التي تعي، تعي وحياً تعي خطاباً تعي تنزّلاً تعي قرآنا تعي سُنةً تعي هدياً نبوياً.. يترجمه مسلك السلف من الصحابة وأهل البيت الطاهر وخيارهم من التابعين، وتابعي التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى أن يقول كلٌّ منهم في كل قرن، ما يقول الإمام الحداد
فبالحق فلنأخذ علوم طريقهم ** يداً بيد حتى مقام النبوة
فصار سر الصلة والنسبة هذا السند الصحيح سند في جهة العلم، سند في جهة السلوك والمعراج والترقي والذوق والإدراك والحقيقة والوعي، والفهم والنور والهداية، سند في جانب البلاغ عن الله تبارك وتعالى، والبيان لشرع الله على أُسس وعلى أصول مضى عليها الصادقون الفحول الأكابر عليهم رضوان الله تعالى، فهذا مصدر الخير في الأمة، وهذه قنوات الصّلة بالحق والبلاغ عن الحق والهداية إلى الحق، بقيت في الأمة وإن طغت عليهم قنوات حملت ضلالا وحملت ظلمةً وحملت زيغاً وحملت شكاً وحملت كفراً وحملت زعزعةً للإيمان وحملت إضاعةً للأخلاق وتضييعاً للسير، ولكن ما انطفأت ولا وقفت قنوات الدلالة على الهدى والحق، وقنوات النور التي إذا استقبلتها القلوب تنوّرت وتطهّرت وتزكّت وأدركت وعرفت ووَعت أسرار الخطاب الإلهي، والنداء الرباني، الذي لم يحمله في الأمة غير محمد عليه الصلاة والسلام، وأولو الألباب يقولون في مناجاتهم للرب ( رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وحاجتهم إلى ذكر المنادي وسط الدعاء أن يسترحموا به، وأن يتوسلوا به، وأن يستعطفوا الرحمن بواسطته، يقولون هذا عبدك الذي أحببته نادانا ونحن سمعنا نداءه، وجاء من عندك بالنداء ونحن سمعنا النداء (فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) فقدَّموه واسطةً وقدّموه وسيلة وذكروه ضمن مناجاتهم للرب في نموذج ذكره الله في القرآن، مناجاة أولي الألباب لرب الأرباب (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) أهل العقول هؤلاء الذين ليسوا بعميان، وليسوا بصُم وليسوا ببكم، وكذلك تراهم يوم القيامة، هم أهل الأسماع، هم أهل الأبصار، هم أهل القلوب، هم أهل العيون الناظرة، هم أهل البصائر، ليس فيهم من يُحشر أعمى، إنما هذا شأن المعرضين عن ذكر الله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وذلك لأنه كان في الدنيا أعمى وعَمَى بإعراضه عن ذكر الله سبحانه وتعالى، يقول جل جلاله (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)، اللهم نوِّر بصائرنا بهذا النبي والنور الذي بعثته به، واجعلنا من أهل البصيرة، واجعلنا من أهل السريرة، واجعلنا من أهل النور، واجعلنا من أهل الصدق، واجعلنا من أهل الإخلاص، واجعلنا من أهل الوفاء بالعهد المغتنمين للعمر القصير في السير على خير مسير حتى نلقاك يا علي يا كبير.
فإنا نرى من يذهب من بيننا من صغار وكبار وأخيار وأشرار وإنما ماتوا اللي ما نباهم يموتون، لو كان الأمر بخيرة الناس، وما معهم إلا التسليم لربهم جل جلاله، مات قوم بهم يحيا الدين ما دام وأحيا بل بذكرهم تحيا القلوب، وقوم تموت القلوب بذكرهم، والعياذ بالله، فقوم تحيا القلوب بذكرهم وإن قد ماتوا، وقوم تموت القلوب بذكرهم وإن كانوا لا زالوا أحياء على قيد الدنيا، تموت القلوب بذكرهم لأنهم مصدر ظلمة من الظلمات، مصدر قطع عن الله سبحانه وتعالى، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، يقول سبحانه وتعالى (يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) فهؤلاء مصدر ظلمة في الوجود والعياذ بالله تبارك وتعالى، لكن الغرابة أن يأتي مؤمن مسلم أمامه قنوات النور، فيتعامى ويتصامم عنها ويفتح قنوات هؤلاء المظلمين، أهل الظلمة وأهل الفسق والفجور يفتحها على نفسه، ويفتحها على أولاده، ويفتحها على أهله، ويفتحها على أبنائه وبناته، هذا من العَمى، هذا من الغيّ، هذا من ظلم الإنسان لنفسه والعياذ بالله تبارك وتعالى.
أما أولوا الألباب كما ذكر ربكم، (لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) أول علاماتهم ، أول سماتهم، أول سيماهم كثرةُ ذكر الله، يسبّحون يحمدون يهللون يكبّرون، يتصلون بأسرار الربوبية، بتأمل معاني التقديس والتسبيح والتنزيه والتهليل والتحميد والتكبير (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)
والذكر والفكر أوصلهم إلى ساحة ومساحة ورُتبة ومكانةِ وشريف مناجاةٍ للملك القدوس، يناجون ربهم جل جلاله، وهو عطاءٌ عظيمٌ يعجِّله الله للصادقين في الدنيا قبل الآخرة، ويعاقب بحرمانه من تولى عنه جل جلاله، قال بعض الغافلين الفاسقين في بني اسرائيل وكان عنده علم، ما عمل بعمله، وقال "إني عصيت الله ما رأيته عذَّبني بشيء" أوحى الله إلى نبي في ذاك الزمان قل له (إني عذبتك من حيث لا تشعر، ألم أحرمك لذيذ مناجاتي؟ قال أنت معذب، وما أنت داري بعذابك!
حجبوا وحسبهم الحجاب عذاب ** يا ليتهم سمعوا النداء فأجابوا
هؤلاء تنعّموا فذكر الله لنا نموذج من سر مناجاتهم له، قال (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً)، ما خلقت هذه الكائنات باطل، ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) لا يزالون يطّلعون على عجائب في تكوين الكون يوقنون أنه لا يمكن أن يكون صدفة، لا يمكن أن يكون بنفسه ولا بطبيعته، وأن من ورائه قوة فما يدرون ما هي، تحيّرهم ثقوب سوداء شي في الشمس وشي في غيرها، ويمكن أن تلتهم الملايين من الكواكب في اللحظة الواحدة، ولا يدرون ما وراءها وإلى ماذا يُفضي، وإذا رأوا شؤون الجاذبية وعلموا بعد ذلك أنها في تماسُك الكائنات في الفضاء من حواليهم حيث يصل اطلاعهم أمر عجب أخذوا يقولون "قوة خفية"، أي قوة خفية؟ هو الله! آمِنوا بالله! (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ما قادتهم الآيات ودلائلها إلى الإيمان بهذا الإله وهذه هدية يهديها الله للصبيان فينا، الصبيان فينا خير من واحد عاش في الفضاء مفكر كبير يصفونه بأي درجة من العلم، صبي عندنا خير منه بألف مليون مرة، سيتحسر ألف مليون حسرة إذا رأى عاقبة هذا الصبي وهو مات على الكفر.
يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة
فإذا فقدنا الأخيار والأبرار كان عبرة لنا وكان حسرة علينا وكان سبباً لاستزادتنا من فضل الله، فإذا حسِرنا عليهم تأسفنا على فقدِهم، حملنا أنفسنا على متابعتهم، تذكَّرنا شريف صفاتهم جبر الله كسرنا، وأعظم أجرنا، وعوَّضنا من عنده بعوَض سبحانه وتعالى، وجعلهم سبباً للشفاعة وسبباً لإهداء الخيرات للأمة ورفع بذلك مراتبهم جل جلاله، إلا كم نفقد؟ ومن يعرف قدر فقد الأكابر والأخيار والصالحين؟ في ذي الأيام القريبة من أكابر العلماء، في الأردن مات الشيخ العتوم عليه رحمة الله، إذ قد بلغ مبلغ في السنّ، يفوق المائة والعشرين سنة..
ولحقه ميت في الأحساء التي منها الشجّار التي كان يتردد إلى الإمام الحداد في حضرموت وحفظ من كلامه ما حفظ، عليه رحمة الله تعالى، الشيخ أحمد بن عبدالله الدوغان، عليه رحمة الله تعالى في مائة وسنتين من عمره، وتزيد على ذلك أشهر عليه رحمة الله تبارك وتعالى، من سلالة خالد بن الوليد سيف الله المسلول، فقدناهم.
وفقدت تريم هذا السيد الكريم المنيب الخاشع المتواضع صافي السريرة منوّر البصيرة قوي الرابطة بالسلسلة، أعلى الله درجاتهم، جمعنا الله بهم في أعلى الجنة، أخلفهم فينا بخير خلف، شفّعهم فينا ووسع شفاعاتهم في صلاح أحوال الزمان وأهل الزمان، والأمة المحمدية في السر والإعلان.
يارب اقبل الحجاج وشفّع فينا أهل الوجاهة من الأحياء وأهل البرازخ وفرِّج الكربات، وادفع الآفات، والطف بنا وبالأمة في ما تجري به المقادير،
واجتمعت الجموع الغفيرة، وجاءت اللغات المختلفة من البلاد المختلفة الألوان المختلفة الأجناس المختلفة، وقصدوا رباً واحدا، وأرادوا إلهاً واحدا، وعبدوا إلهاً واحدا، ودعوا رباً واحدا، وسألوا رباً واحدا، والتجؤوا إلى رب واحد، وخضعوا لرب واحد، ولبوا بتلبية واحدة، واقتدوا بإمام واحد، نبي واحد، رسول واحد، أمجد الأماجد، جامع المحامد، محمد الشاكر الحامد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
مجمع الخير والإجابات والغفران والعفو عن الذنوب العظام، حيثما تحضر الملائكة الأكرمون والصالحون من العباد الكرام
عشية وافى الوفد من كل وجهة ** وفجّ وهم ما بين داعٍ وذاكر
وراجٍ وباكٍ من مخافة ربه ** بفائض دمع كالسحاب المواطر
وفي الوفد كم عبد منيب لربه ** وكم مخبت كم خاضع متصاغر
وذي دعوة مسموعة مستجابة ** من الأولياء أهل الهدى والسرائر
وكان ما كان، ووردوا على سيد الأكوان، داعيهم ومرشدهم وهاديهم، والذي يذكرونه في مناجاتهم لباريهم (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي ليس في عقيدتنا ولا في فكرنا أن شيء أخطر على الإنسان ولا أضرّ ولا أكبر مصيبة من أن يدخل نارَك، من سلِم من دخول النار فلا شرَّ عليه، ولو تعب ما تعب، ولو ناله ما ناله، لكن المصيبة إن دخل النار، هذه عقيدة أولي الألباب، هذا فكرُهم، هذا نتيجة الذكر العظيم الذي احتوى جميع الحالات، وارتقوا به إلى عليِّ الدرجات والفكر المستنير، القويم العميق، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) فلا تعرِّضنا لهذا الخزي، وبيننا وبينك واسطة كريمة أرسلته إلينا وآمنا به، (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) ونحن استجبنا وسمعنا من أجل تفرح منا تحبنا وترضى عنا، سمعناه وأجبنا، (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وراه وقفاه، ومعه، (فَآمَنَّا) إذا كان الأمر كذلك فلا تعرِّضنا لتلك النار وانظر إلينا (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) اللي يجون تحت لوائه، الأبرار اللي يجون تحت لوائه، الأبرار اللي يردون حوضه، (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ)
على ألسُن الرسل، وعدنا على الخيرات، وعدنا على الطاعات، وعدنا على فعل الحسنات، وعدنا على ترك السيئات، مواعيد حق وصدق من الحق جل جلاله، لا ينبغي أن نضيعها بشيء من الترهات والبطالات والأخبار هذه التي أكثرها كذب تلعب بالناس لعب، تلعب بالناس لعب وتفتن بينهم وتوغر بعضهم على بعض وتجعلهم في شتات، تجعلهم في سباب وتجعلهم في شتايم، وتجعلهم متعرضين لأن يقتتلوا، وأن يستحلّ بعضهم مال بعض ودم بعض، إما بغفلة وجهالة وإرادة غرض من أغراض الدنيا وإما بتلبيس في الدين، وكلهم لو انفتحت لهم قنوات النور واتصلوا بها ما رضوا لأنفسهم بهذه الحالات، ولكن تقصيرنا في القيام بالاتصال بهذه القنوات التي بثَّها الله لنا، دخَّلوا قنواتهم عليك حتى في جوالك في الجيب!! وأسرع منها إذا تريد قنوات النور، أسرع منها بلا جهاز تحمله ولا شي، فهو مركب ومصلح، باقي إلا وجهه وبس فيك، وإلا فهو جاهز ومصلَّح ليتصل بفوق..
تريد مراتب الولاية ومراتب الصديقية ومراتب النبوة، وتريد الاتصال عبرَهم بالعظيم الملك القاهر، موجود عندك ذا الجهاز، وأخبارهم فيه، ونداءاتهم فيه، وبرامجهم فيه، ودلالاتهم فيه، وأنت قاعد تعطل هذا كله وتحمل حق السفلة الفسقة تلعب بإصبعك وتلعب بعينك وتغفل وتبعد وتُحجب وتظلم، وإلى أين تمشي؟ وما هو المصير؟ من أغواك؟ من أغراك بهذا المسلك؟ لابد نرجع إلى ما آتانا الله من هذا الفضل وهذا النور الذي ابتث، الذي ما وعوا فيه سر اجتماعهم هذا فيه، في عرفات وفي تلك المناسك تبع لسيد السادات صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وعسى الله يوقظ القلوب ويحييها بعد الوفاة، حتى يدخل فيها من نور الإيمان ما تدرك به سر الحياة (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) بواسطة هذا النور في ذي القنوات يحيا كثير، وذي قناة كبيرة اللي جمعتكم في ذا المجمع وفيها من أنوارهم وفيها من أخبارهم وفيها من أسرارهم وفيها من الروح التي بها يُحيي الله القلوب شيء كثير، ولعلك تكون واحد ممن عُنوا بـ (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) مسكين الذي يمر عمره ما يحصّل ساعة من مثل ذي الساعات، ما يحصل جلسة من مثل ذي الجلسات، وعكف على أهل الغفلات، وعلى أهل البطالات (لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) فاستهدوا ربكم جل جلاله، يهدينا وينشر الهداية في البريّة إن شاء الله، ويلطف بنا والأمة في ما تجري به المقادير، احيي يا ربنا ما مات من قلوب أهل لا إله إلا الله، في فهمِ وحيك وسماع بلاغِ نبيك، حتى نتصل بمناجاة (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) إنهم يسمعونه بامتنانك وبإحسانك وبفضلك وبجودك، يارب ومن الأسباب مع الاجتماع وجهة القلوب إليك ودعوتها إياك أن تنوِّر القلوب، وأن تطهر القلوب، وأن تُسمِعها هذا النداء، فإن من سمع فشانه عجيب في الولع، في الاتباع في الاقبال بالكلية، بمجرد ما يصل سماع هذا النداء إلى القلب يسري العشق في البدن كله، من الروح كلها، ويصير صاحبه مولّه، ما سمعتهم يقولون
الذين لهم مسك عطّار ** وانتشر في جميع ساحات الأقطار
من روح ريحهم دخل وسط الأفكار** واشتغل بالقراءة دائم والأذكار
فإذا سمع القلب هذا النداء اهتدى بالهدى، ولا رضي لنفسه يخرج ولا يسكت ولا ينزل ويبقى متعلّقا بأذيال الإقبال على الله وفعل الطاعات وتجنب للمخالفات، فيذوق حلاوة القرب من الرب ولذة المناجاة ويهناه ثم يهناه في دنياه قبل أخراه (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ)
فالموت للمحسن الأواب تحفته ** وفيه كل الذي يبغى ويرتاد
لقاء الكريم تعالى مجده وسما ** مع النعيم الذي ما فيه أنكاد
ورأى الرائي سيدنا مالك بن دينار، على فرس منطلق، "مالك يا مالك؟ من أين؟" قال "الآن أفلتتُ من السجن" فانتبه، وإذا بهم ينعون مالك في بيته توفي، أفلت من السجن دخل إلى البحر الفسيح الوسيع.
لما رُئي بعض الذين قُبروا في هذه المقبرة قالوا "كيف حالك؟" قال "لو عرفت أن الأمر كذا لتمنيت الموت من قبل اليوم" ولكن يعطي الله من يشاء ويُرضي من يشاء ويهب من يشاء، والله يرحم موتانا وأحيانا ويشفّع فينا أوليانا وصلحاءنا، ويصلح ظواهرنا وخفايانا، يارب تدارَك الأمة في شرق الأرض وغربها، واكشف ضرها واكشف جميعَ كربها، يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وهذه القلوب وقلوب من يسمعنا أسمِعها النداء، من نبي الهدى، حتى تعشقك، وتقبل بالكليّة عليك في ظاهرها وباطنها، ولا تتولى عنك لمحة ولا لحظة ولا طرفة عين.. آمين يا رب، أسمِع هذه القلوب سماع نداء حبيبك المحبوب، يا الله، أسمِعها نداء ذاك السيد الأكرم، بعثته بندائك فأسمِعنا هذا النداء، واهدنا بذاك الهدى، أكرِم كل قلب منا يا كريم برحمتك يا رحيم، وارزقنا سماع النداء العظيم، لنعشق المقام العظيم، ونُقبل بالصدق عليك بكليّاتنا في كل ظاهر وباطن يا كريم، يا الله، أسمِعهم يا الله، أسمِعنا وإياهم يا الله، أسمِعنا وإياهم نداء هذا المنادي خير داعٍ وخير هادي، يا الله، يا الله، لا تمر حياةُ أحدهم وقلبُه محروم من سماع هذا النداء، حتى يتصل بنبي الهدى ويقتدي به في مَن به اقتدى، ويدرك سر الاتصال بك يا عالم ما خفي ويا عالم ما بدا يا الله، بالحج والحاجين والعمرة والمعتمرين والزيارة والزائرين والطواف والطائفين والوقوف والواقفين والعكوف والعاكفين والركوع والراكعين والسجود والساجدين والقيام والقائمين أسمِع قلوبنا نداء حبيبك المحبوب، بأوسع ما سمعت قلوبٍ تحبها وتحبك أردتَها لك، واخترتها لنفسك وهيّأتها لحظيرة قدسك، وأبيتَ أن تذيقها مرارة الحجاب عنك يوم لقائك والوقوع في نارك (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) فلا تجعلنا في الظالمين، ولا في مَن يوالي الظالمين، ولا في من يدخل مداخل الظالمين، ولا تعرِّضنا للنار ولا للهبِها ولا لعقاربها ولا لحيَّاتها ولا للخزي الذي فيها، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)، (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فليس فينا من يطيق الخزيَ يوم القيامة، أتخزي منا صغيراً أم كبيرا أم ذكرا أم أنثى؟ يارب من تخزيه منا في ذاك اليوم؟ ليس فينا من يطيق الخزي، ياربي ياربي فارحم طائعنا وعاصينا برحمةٍ تقبل بها طاعة الطائع، وتتوب بها على العاصي، فلا يتعرض أحد منا لخزي يوم القيامة، (وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، (وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، (وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) فاجعلنا معه، بحقه عليك اجعلنا معه، بمنزلته عندك اجعلنا معه، بسر ما بينك وبينه اجعلنا ذاك اليوم معه، (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، جعلتَ من مظاهر فضلك المستمر العظيم أن جعلت نبيك يستغفرك للحاج، ويستغفر لمن استغفر له الحاج، فما أعجب جودك الذي يورِث الفرح والابتهاج، على هذه الأمة الواصل إلى مختلف الفجاج، يقول لك (اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج) فلا يحج حاجُّ إلا ووجد استغفار حبيبك أمامه يغطي معايبه، ويقربه للقبول منك، ثم يمتد منه إلى كل من استغفر له رحمةً منك جرت على يد نبيك، ثم امتدت في الزمن، وقال ( إنه يُغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج، بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرا من ربيع الأول) لك الحمد يارب، حتى إذا كان بلد الحاج بعيدة وأصحابه في موطن بعيد ووصل إليهم بعد شهرين وزيادة دخلوا في استغفار المصطفى، باستغفار الحاج لهم، فغفر لهم الغفار، هذا مظهر من مظاهر كرم الكريم للأمة، نستغفرك لنا ولهم، وللمؤمنين والمؤمنات فاغفر يا خير الغافرين أوسع المغفرة أكمل المغفرة أشمل المغفرة أتمّ المغفرة أعظم المغفرة أعلى المغفرة يا خير الغافرين، يا غفور، يا غفار اغفر لنا جميع الذنوب جميع الأوزار جميع الخطايا جميع السيئات جميع الزلل جميع ما كان منا ظاهراً وباطنا يا خير غافر اغفر، يا خير غافر اغفر، يا خير غافر اغفر، فإنك وعدت من يستغفر وقلتَ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) فاجعلنا ممن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، بنبي الهدى، يا عالم ما خفي وما بدا.
والحمد لله رب العالمين.
21 ذو الحِجّة 1434