(229)
(536)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
محاضرة مكتوبة للحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 4 شعبان 1436هـ السلوك بعنوان : مائدة الكون.. مَن المستفيدُ منها والحائزُ لخيرها.
الحمدلله ملكِ كل شيء، وإليه مرجعُ كل شيء، ربُّ كل شيء، اختار مِن كلِّ شيء من جعله سيدَ كل شيء، ذاكم النبي الحيّ، لم يحبّ الحيُّ الذي لا يموت أحداً كما أحبّ محمداً، فكانت حياتُه أعلى معاني الحياة الموهوبة للكائنات أجمعِها، بكل المقاييس إلى أبد الآبدين. حبيب الحيِّ حيٌّ بحياة الحيّ، قائمٌ بسرِّ تلك الحياة يحيي من سبقت له من الله تعالى السعادة بحياة قلبه وفؤاده، وروحه وسرّه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وكلُّ من كتب الله أن يموت على الكفر، فميّت. ميتُ القلب، وكل من كتب الله له الإيمان، كان حيّاً، اللهم أحيي قلوبنا بأنوار ذكرك ومعرفتك يا حيّ يا قيّوم، يا الله. فقد شاهدنا آثارَ موات القلوب كثيراً سرت في أمة نبيك المختار، فبحقِّ أحياء القلوب ارحم موتاها من المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات في جميع الجهات، أماتَتها برامجُ أعدائهم، أماتتها أعروضاتُ قطّاع الطريق من أعداء نبيِّهم، أماتتها قبولُهم لمناهج الفسقة الذين خالفوا الحقَّ ورسولَه. فيارب عد عليها بعائدةٍ من عندك وأحيِها بنور الوحي، وأحيِها ببلاغ نبيك المصطفى أعظم خلقك حياة، صلواتك وسلامك عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
ويأتي في الرتبة الثانية في الحياة في العالم الخلقي أنبياءُ الله ورسلُه. وفي الحديث الصحيح: الأنبياء أحياءُ في قبورهم يصلّون. ويأتي بعد ذلك مراتبُ مَن بلغ رتبة الصديقية من المؤمنين، وأهل الصديقية مراتب، إلى أعاليها المسمَّاة بين صالحي الأمة على مدى القرون بالصديقيَّة الكبرى، ثم يأتي بعدهم أربابُ الصلاح من الشهداء في سبيل الله، وهؤلاء الذين هم في الحياة بعد هؤلاء أمرنا اللهُ أن نتأدب مع مستوى حياتِهم الذي وهبهم فقال إذا انتقلوا وماتوا بخروج أرواحهم مِن أجسادهم فلفظُ الموت هذا بما يشعر به من النقص لا تطلقوه على هؤلاء، ولا تذكروهم به، ولا تسموهم باسمه، أليس قد انتقلوا من الدنيا يارب؟ نعم! ألم تفارق أرواحُهم أجسادَهم يارب؟ نعم! هذا الموت المكتوب على الكل، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فيه، لكن مع ذلك لا تسموهم أمواتا، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) فإذا هذا الأدب مع الذين هم في الحياة دون، فالذين فوقهم والذين فوقهم ماذا تسميهم ؟ اتق الله.. مَن اعتقد موتَهم فهو الميّت، وإن كان يمشي قدامنا، وإن كان يركب الطائرة قدامنا، وإن كان يرمي بالسلاح قدامنا.. هذا ميت، ميت القلب، ميت الروح، ميت العقل، فحرِّروا عقولكم في مفهوم الحياة والموت يا من آمنتم بالحيّ الذي لا يموت، يا من آمنتم بمن خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وإنما يحسُن العملُ بحسن الفكر والفهم والإدراك، فحرِّروا أنفسكم من أوهام مفاهيم الموت والحياة، واعلموا أن الحياةَ بأجمعها وأعظمها ومعانيها كلِّها للحي الذي لا يموت ربكم الحيّ، (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) اللهم احيي قلوبنا بأنوار المعرفة واليقين.
(اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، ثم لا يمكن أن يكون شيءٌ سواه حيّا، حتى يحييه، ولا ميّتا حتى يميته، يحيي ويميت، جل جلاله. إذاً فكل ما مع سواه من الحياة والموت عرضٌ من الأعراض، والحقُّ له والأصل عنده فهو الحيّ الذي لا يموت. (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، العالم الخلقي، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، جل جلاله وتعالى في علاه.
إذا علمتم ذلك فانظروا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون، وقول الله في الآية الأخرى عمّن دونهم من الشهداء، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) لا تظن لا تتوهم، أبعِد الوهم الخاطئ، أبعد الوهم، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) قال لا تحسبهم هكذا، لا تعدهم، لا تعتبرهم هكذا، أبعِد الوهم، فكل صادق قُتِل في سبيل الله حيّ، والله حيّ، 6:43 وهم أهل الحياة الكريمة، لذا كان يتعجب بعض الناس يقول تسمّي نفسك حي لمَّا روحك محبوسة في ذا الجسد، وميّت مكرم روحه مطلقة في العالم الأعلى ويأوي في ملكوت الله إلى جناته وياكل من ثمارها تسمّيه ميّت!؟ من شان انت تميزت عنه في حياتك هذه، بإيش؟ قال تبول وهو ما يبول، توسخ وهو ما يوسخ، مشان هذا تسمي نفسك حي؟ تمرض وهو ما يمرض، لأجل هذا تسمي نفسك حي!؟ حياته أسنى من حياتك، أصفى من حياتك، أعلى من حياتك، فلا حياةَ إلا حياة أهل القلوب، ومن رضيهم الحيّ سبحانه وتعالى، وقرَّبهم منه سبحانه وتعالى، ومستوى حياتهم على قدر قربهم من الحيّ، وعلى قدر محبة الحي لهم. يقول سبحانه وتعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ) ماذا يعرض عليكم أهل البرامج المختلفة في العالم، هذا عرضٌ من رب العالم يقول سأحييك، وأي حياةٍ هذه؟ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ما أسعدَهم بها، وما أسعدهم بالإله، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، فهنيئاً لهم، ثم هنيئاً لهم، في الظهور والبطون، في الدنيا وفي الآخرة، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
ما أعظم عرضَ ربنا علينا، فلتحيا قلوبنا بصدق الاقبال على الله والوجهة إلى الله، يا ربنا، وأحياءُ القلوب قبلنا عقدوا لنا مثل هذه المجامع لتحيا قلوبُ الموتى، لتحيا القلوبُ الميّتة، بما تعرَّضوا له من رحمة الله على سَنن محمد بن عبدالله، الزيارة هو سنَّها، الذكر هو سنَّه، الفرح برحمة الله هو سنَّه، التذكير هو سنَّه، إلقاء الشّعر وإنشاده في مدحِ الله ورسوله والصالحين والإسلام والصفات الحميدة والترغيب فيها والترهيب من الصفات الذميمة والفسق والكفر والاستعداد للموت هو الذي شرعَه لنا، وقال:( إن من الشعر لحكمة)، وقال لحسان بن ثابت إن جبريل وميكائيل ما نافحت عن رسول الله، ما دمت تنافح عن رسول الله بكلامك فأنت مؤيد من الله بملائكته جبريل وميكائيل، وبذلك وجدنا شعراء الصالحين الذين تُقرأ قصائدُهم في المجالس ويُترنَّم بها حتى في شوارعنا، وبين بيوتنا تمدح الله، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وتذبُّ عن شريعته وما جاء به، وإن كان جبريل وميكائيل مع حسان ما نافح عن رسول الله، أفلا يكونوا مع أهل الإحسان مِن ورثةِ رسول الله؟ فإن نافح فقد نافحوا، وإن مدح فقد مدحوا، وإن قال حقاً فقد قالوا، وقد نطقوا في مقام الإرث عنه باللسان الأعذبِ الأطيب، فتشرَّفت شوارعنا بأنفاسهم، وكلماتهم الطاهرة، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وجاءتكم أمثال هذه المظاهر الطيّبة المباركة، وقد كانوا يشهدون ما يشهدون فيها من حياة القلوب وتجديد الإيمان واليقين وتنشيط للطاعة والعبادة، والاستعداد لليلة النصف من شعبان والاستعداد لرمضان زيادةً في الإيمان وإدراكاً لأسرار الحياة، واغتناماً للعمر القصير للقاء العليِّ الكبير، في سعاداتٍ ما لها من أمد، وما يحد معانيها وشؤونها حد، ولا يعدها أحد مِن أهل الأرض والسماء (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)، (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) صدق ربي، نفوسُ أهل الأرض والسماء، لا تحيط بما أعدَّ ربُّ الأرض والسماء، لهؤلاء الكرماء، من نعيم، عظيم، وجود كريم، ومنٍّ فخيم، وعطاء لا يحتمل الإحاطةَ به عقلُ قديم ولا أخير من الخلائق أجمعين، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لّا يَسْتَوُونَ) نعم والله لا يستوون، يا أهل الزمن في شرق الأرض وغربها، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا) وعزةِ إلهي وإلهكم وإله كل شيء مَن أصرَّ على الكفر ومات عليه لن يبلغ قيمةَ تربة تحت نعل مؤمن بالله، لا يستوون، لا يستوون، والمستقبل الأكبر مقبل، (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ).
ويا أهل الأرض، كل ما يجري من تعب وشدة وامتحانات لكم، مذكرات تذكِّركم لتكسبوا الحياة، لتحيوا لتخرجوا مِن ساحات موت القلوب إلى ميادين حياة القلوب، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ)، ويا مؤمن ويا كافر على ظهر الأرض، كل مَن اكتوى منكم بكيّات الاختبارات على ظهر الأرض، بأي شيء يحدث فيها، فالمقصود أن تنتقلوا مِن موت القلوب إلى حياتها، وأن تعدُّوا لأنفسكم رجعةً إلى خالقكم لتسعدوا عند لقائه وتشكروا ساعةَ اللقاء وتتنعّموا في دار كرامته، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) رحمةً بالكافر عسى أن يرجع إلى الإيمان والإسلام، ورحمةً بالمسلم العاصي المقصّر، ورفعةً لدرجات المؤمن التقيّ الذي قام بواجبه فأصابه شؤمُ أهل المعاصي من حواليه، (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً)، ويدخلون في دائرة: ( أشدّ الناس بلاءً، الأنبياء ثم العلماء ثم الأمثل فالأمثل)، هؤلاء الأصفياء، وبقي عامّة المؤمنين بعدهم تكون هذه الحوادث مذكّرات لهم ليرجعوا، ليرجعوا إلى الاستقامة في صلواتهم، في زكواتهم، في صيامهم، في أخلاقياتهم في سلوكياتهم، في أنظارهم وأسماعهم وأبصارهم وفروجهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وألسنتهم، في نظرتهم إلى الحياة، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قبل فوات الفرصة بالموت والخروج مِن هذه الحياة ومفارقة هذه الدنيا.
أيها العباد: وهذه الحقائق هي ما جاء في قصة النبي هود، وفي سورته وقد سمى الله في القرآن سورة باسمه، وسورة باسم مكانه، فمكانُه يقول فيه (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ)، سورة الأحقاف، واسمه هود، وكم ذكر الله في سورة هود من أنبياء، بدأ بنوح، عليه السلام، وذكر بعد نوح هود، وذكر بعد هود صالح، وذكر بعد صالح إبراهيم، وذكر بعد إبراهيم لوط، وذكر بعد لوط شعيب، ولكنّه سماها باسم هود، سورة هود وسورة الأحقاف، هذا شخصُه وهذا مكانه، ربطاً للأمة بهذا النبي، ربطنا الله بالنبي هود عليه السلام، وأمرنا بذكره، قال لسيدنا (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، فجاءت هذه الأفكار الموجودة في عقليات البشر في مختلف الأقطار والأعصار، (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ) أنا عبد من عباد الله ، أرسلني إليكم لأنقذكم، وأرشدكم، (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)، وتمادوا، واستكبروا في الأرض بغير الحق، (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، هذا الاغترار، الخلق على ظهر الأرض أمام مائدة الذي خلق السماوات والأرض، من هذه الماديّات، والإمكانيات، والمطعومات والمشروبات والمسكونات والمركوبات والاستعمالات كلها، مائدة بسطها هو، جل جلاله. مَن أخذ منها شيئاً فسيَّره بمنهاج خالقِها ربح، وأفلح أنجح، وكل مَن أخذ منها شيئاً فقطعته عن خالقه خسر وهلك، وباء بسوء المنقلب، هذه حقيقة يجب أن تكون راسخة في الأذهان، جميع ما على ظهر الأرض، (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) جل جلاله، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)، فإن أُغوِينا بشيء مما على ظهر الأرض عن الله عن طاعة الله عن أمر الله، عن شريعة الله وخالفنا أمرَ الله فهو شؤم وبلاء علينا ولا ينفعنا، تكون قصور، تكون أسلحة، تكون سيارات، تكون طائرات، تكون صواريخ، تكون فارهاً من المركوبات أو المساكن أو الملبوسات، أو مزارع، أو قصور مشيدة، إلى غير ذلك. كل ما ألهانا من هذا عن الله شؤم وبلاء وعاقبته الخسر. فإياكم أن تغبِطوا مَن حصّل شيئاً من ذلك فانقطع به عن المالك، إيّاكم ثم إيّاكم، واعلموا أنه لا يفوز بخير الأرض إلا من أطاع ربَّ الأرض، يفوز بخير الأرض، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) اليوم معنا على ظهر الأرض، ملايين مستكبرين إما بأفكارهم وإما بحضارتهم كما يسمّونها، وإما بأجهزتهم، وإما بمصانعهم، يكسبون في كل يوم بُعداً أكثر عن الله وغضباً من الجبار ودركاتٍ في نار جهنم، والفقير منا يكسب في اليوم درجاتٍ في الجنة ورضواناً من الله تعالى، فمَن معه خير الأرض هذا أو هم؟ معهم شرُّ الأرض! معهم فساد الأرض! معهم سوء الأرض! معهم شؤم الأرض! هذا الفقير المؤمن معه خيرُ الأرض، فإذا خرج الكلّ، وعُرضوا على رب الأرض والسماء عرفوا أين هم وأين هذا، وعرفوا مَن المفلح مَن المنجح مَن الفائز مَن الرابح، أهل تقوى الله وحدهم، القوم كانوا اغتروا (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)، (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)، هذا عارض ممطرنا، يتبجحون حتى وقت وصول العذاب!! يستعرضون باقي الاستعراضات العسكرية العضلات حقهم، (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ)، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى)، عاد باقي عذاب، هلكوا وبس وهود نجا، هلكوا وعذاب الآخرة أخزى، وهود نجا وذكرُه جميل إلى اليوم، ونعيم الآخرة أكبر، وعاد هود مقبل على يوم الشفاعة وبيشفع، وعاد هود معه درجات في الجنة فمن الذي فاز؟ من الذي كان عنده خير الأرض؟ بركة الأرض؟ سر الأرض؟ فائدة الأرض؟ معه ولا معهم؟ والله مع هود، ليست مع أعدائه، وهو خاطبهم بما عندهم قال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) وكان ما كان، يقول سبحانه وتعالى، (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، بنوا الحضارة في كم سنة؟ وسبع ليالي وكملت السنين، سبع دقائق تكمل السنين، (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) هل ترى لهم من باقية؟
في هذه الأيام حد متوجه بيزورهم تمجيداً وتعظيماً؟ سنزور هود، نزور هود الذي أنذرهم وأبوا طاعته، أما هم فمن يزورهم؟ من يذكرهم بالخير؟ (فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)، وهكذا شان الأمم والمرجع إلى العليّ الأعظم وسنجتمع كلنا ومقدَّمُنا محمد، نعم المقدَّم، ارزقنا حسن اتباعه، يسَّر الله لنا الزيارة، وحضورها لأصحابنا وإخواننا في الموسم الكريم المبارك وجعلها مفتاحاً لأبواب القبول ولرفع البلايا وكل هول مهول عنا وعن يمننا وشامنا، وشرق الأرض وغربها
إلهنا، إذا عقد المعرضون والغافلون عنك اجتماعاتهم ومؤتمراتهم يرتجون شيئاً من شؤون دنياهم وصلاحها، فهذه اجتماعاتنا ومؤتمراتنا نعقدها بين يديك متوجهين إليك موقنين بك، واثقين بقدرتك نسألك حلَّ مشاكل العباد، ودفع البلايا والأنكاد، وصلاح الخافي والباد، فجُد يا جواد، فجد يا جواد، وارحم أهلَ هذا التوجه، وارحم أهل هذا التنبّه، وارحم أهل هذا الاقبال عليك، وأقبِل بوجهك الكريم علينا يا الله، يا الله، اجتمعت قوى أعداء نبيك في ليلةٍ فبات يناديك بيا حيّ يا قيّوم وأنزلت (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، فبه نتوجه إليك وبسرّ استجابتك لهم، أن تستجيب لهم ولنا في زمننا هذا، وعصرنا هذا، وأحوالنا الواقعة هذه، استجب لهم ولنا، فقد حملوا الهمّ قبلنا، وقد أهمّهم ما أهمّنا، وقد رجوك لنا، فاستجب لهم ولنا في زمننا وشؤونه، وأحواله وما يدور فيه، يا حيّ يا قيّوم، يا رب كل شيء، يا مليك كل شيء، يا قادراً على كل شيء، واجعل قلوب أحبابنا هؤلاء ومن يسمعنا وذوي الحقوق علينا قلوباً منورة بنور الإيمان واليقين والصدق، تحييها أنت بما أحييت به قلوب الأصفياء، والأتقياء، والأولياء، والعارفين المقربين يا الله، يا حيّ يا قيّوم أحيي القلوب تحيا، واصلح لنا الأعمال في الدين والدنيا، يا حيّ يا قيّوم أحيي القلوب تحيا، واصلح لنا الأعمال في الدين والدنيا، يا حيّ يا قيّوم أحيي القلوب تحيا، واصلح لنا الأعمال في الدين والدنيا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبارك لنا في شعبان كله، لياليه وأيامه، بلغنا رمضان كله، واجعلنا ظافرين بالخير كله، في أيامه كلها، ولياليه كلها، أسرار الصيام وفِّر حظَّنا منها، أسرار القيام وفر حظنا منها، أسرار القرآن وفر حظنا منها، أسرار الصلة وفر حظنا منها، أسرار الصدقة وفر حظنا منها، أسرار الذكر وفر حظنا منه، أسرار الحضور معك وفر حظنا منها يا الله، يا الله.
نعم الإله إلهكم، ولا إله سواه، ونعم الرب ربكم ولا رب غيره.. فنادوه، وناجوه، وادعوه، وارجوه، واسألوه، وتذللوا بين يديه، يرحمكم والأمة، يرحمكم والأمة. إلهي بقلوب أبقيت فيها نور الحياة وأحييتها، بسرّ الصدق معك في الشرق والغرب، فرِّج عنا كل كرب، وعُد بعائدة رحمة على القلوب الموتى من قلوب من يقول لا إله إلا الله فأحيها بعد الممات، وانقلها إلى كريم الحالات، وحلِّها بشريف الصِّفات، يا الله، لو شئت رميتَ بالواحد من الحاضرين أو السامعين على باب غيرك وصرفته فهلك، لكنك على بابك أوقفتَنا، وبفنائك أنَخنا أحمالنا فاقبلنا على ما فينا يا خير قابل، وأنجز لنا المسائل وحقق لنا المآمل، وزِدنا من فضلك يا حي يا قيوم يا الله، يا الله، يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين.. والحمدلله رب العالمين.
04 شَعبان 1436