(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 15 شوال 1439هـ، بعنوان: كرم الرحمن بأسرار ندائه وبثِّ آثارها في الخليقة.
الحمدُ لله العَلِيِّ الأعلى الذي لا تَجِدُ عقولُ الملأ الأعلى مِن الملائكةِ والنبيين والصِّدِّيقينِ والشهداء والصالحين فَضلاً عمَّن سِواهم أَنْ تَصِفَهُ به وصفَ إحاطَة، وحَسْبُهم أن يَتَحَيَّرُوا، وأن يُسَبِّحُوا ويُكَبِّرُوا، وأن يَتَشَبَّثُوا بأسرارِ التَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّهليلِ والتَّحميدِ لهذا المَلِكِ المَجيدِ، الخالقِ المُبْدِئ المُكَوِّنِ البارئِ، الذي تَحِيرُ الأفكارُ في عجائبِ ما أبدعَ، وما صنَع، وما وَزَّع، وما نوَّع، وما جعلَ مِن هِدَايَاتٍ في الخَلقِ الذينَ قال صُلَحاؤهم " لو تكلَّمنا على ما علَّمَنَا مِن مَعنى قولِهِ (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) لأَعْجَزْنَا كَتَبَةَ الدُّنيا عنِ المعاني". (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) جل جلاله وتعالى في علاه .
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ) للكائناتِ مِن جَمادِها إلى نَباتِها إلى حَيَوانِها إلى إنسانِها. وهؤلاءِ العُقلاءُ مِن الإنسِ والجنِّ والملائكة، هِدَايَاتٌ بَعْدَ هِدَايَاتٍ، بَعْدَ هِدَايَاتٍ، لمَصالحٍ مُنْقَضِيَاتٍ وفانيات، ولِمَن اِسْتجابَ وأنابَ وتذكَّرَ وتوافقَ مع الفِطرة، لمعاني شَرِيفَاتٍ كَرِيمَاتٍ قُدْسِيَاتٍ عُلْوِيَاتٍ دائماتٍ أبديَّاتٍ سَرْمَدِيَاتٍ لا يُحَدُّ شأنُها؛ قال عنها المَلِكُ الأعلى: { أَعْدَدْتُ لعبادِي الصالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قلبِ بشَر}.
فَيَا أيَّتُهَا العقولُ المأخوذةُ بشَيءٍ يُرَى ويُسْمَع ويَخْطُرُ على البال: لمْ تَعْلَمُوا بعد، لمْ تَفْقَهُوا بعد، لمْ تُدْرِكُوا بَعد، لمْ تَعُوا بَعد، ما عندَكم مِن وَعي، ما عندكُم إدراك.. إنكم محصورُون..
أيها المأخوذونَ بما يُسْمَع وبما يُرَى وبما يْدرَك بالبال: إنَّ المُكَوِّنَ الذي تعالَى عنِ الزَّوَالِ، أخبَرَكُم أنَّ لديه "ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سَمِعت، ولا خطرَ على قلبِ بشر" فإن لم تُدْرِكُوا هذا، فماذا أَدْرَكْتُم؟ وإن لم تعلَمُوا هذا فماذا عَلِمْتُم؟ سبحان الهادي الذي قَدَّرَ فهدى، وتكرَّمَ بِرُبوبيَّتِهِ وألوهيَّتِهِ فَوَجَّهَ النداء، وجعلَ النداء متوجِّه إلى العُقَلاء، وفَطَرَ الخلقَ على فِطْرَةٍ سَليمةٍ قويمةٍ (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ). وهُدَى الله يَهدي بهِ مَن يشاء (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) اللهم اهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ، اللهم اهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ، اللهم اهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ.
ومَن قُبِلَت فيه الدعوةُ مِن الحاضرينَ أو السَّامعينَ أو ما اَتَّصَلَ بهم؛ فينفتحُ له بابُ هدايةٍ يعلمُ أنه ليس لَهُ مِن نهاية، ولا يَزالُ يَهديهِ ثم يَهديهِ ثم يَهديهِ، في صفاتِهِ وأحوالِهِ ومساراتِهِ وشُؤونِهِ وأفكارِهِ ومَعلوماتِهِ وما يَطَّلِعُ عليه ومَعْرُوفَاتِهِ إلى عند مماتِهِ، ويهديهِ إلى ثَباتٍ لحظةَ الغرغرة، ويموتُ على حُسْنِ الخاتمة، ثم يَهديهِ عند المُساءلةِ في القَبر، ثم يَهديهِ في يومِ البَعثِ والحَشرِ؛ يَخرجُ في النُّورِ فيُهدَى إلى مكانهِ في ظِلِّ العرشِ، أو في مُرافقةِ المُقَرَّبِين، ثم يهديهِ للسُّؤالِ عند العَرضِ علَيه، ويُثَبِّتُهُ ويُلَقِّنُهُ حُجَتَّهُ ويُجِيبُ جواباً يُرضِي ربَّه لينادي المنادي "سَعِدَ فلانُ ابنِ فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا"، ثم يَهديهِ للمُرورِ على الصراط ؛ ثم يَهديِهِ في دُخولِ الجنةِ، (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) يهديهِ إلى منازلِهِ، ويَهديهِ كيف يعرفُ مَوَاطِنَهُ في جَنَتِّهِ، وكيف يُقَابلُ مَن فيها مِن الملائكةِ ومِن الحُورِ العين ومِن الوِلدَانِ ومِن الخُدَّامِ، وكيف يتعاملُ مع أنهارِها، وكيف يَتَنَعَّمُ بأشجارِها، وكيفَ يَتنعَّمُ بمائها، وكيف يَتنعَّمُ بِهَوَاهَا. يَهديِهِ إلى كلِّ ذلك وتستمرُّ الهداية، ثم يهديه إلى الطَّلبِ الأعلى؛ ويهديهِ إلى النَّظرِ إلى وَجهِهِ الكريم (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ). اللهم اَهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ، اللهم اهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ، اللهم اهْدِنَا في مَن هَدَيْتَ، وانشُر أنوارَ هدايَتِك لقُلوبٍ ليس فيها نورٌ فَتَتَنَوَّر، ولعقولٍ ليس فيها تَبْصِرَةٌ فَتَتَبَصَّر، برحمتكَ يا كريمُ يا بَرُّ.. يا الله، يا الله.. يا الله.
وَوَيْلٌ لمَن أُكْرِم بهذا الإسلامِ، وبهذا الدينِ ثم جَهِلَ قَدْرَهُ، وجَهِلَ عَظَمتَه، وجَهِلَ نعمةَ اللهِ تبارك وتعالى عليه.. ثم أَخَذَ يَنْحَجِبُ ويَنْحَبِسُ بمَعلوماتِهِ أو مُنْتَهَى ما وصلَ إليه مِن العلمِ فيتكَبَّر أو يَغْتَر، أو يأخُذَ عِلْمَاً صُورِيّاً مِن علمِ الشريعةِ وينحرف قلبُهُ عن حقيقةِ الطَّاعَةِ، وعن حَقيقةِ الخُضوعِ للعليِّ الأعلى، وعن حقيقةِ المتابعةِ لمَن ارْتَضَاهُ المُكَوِّنُ الخالِقِ لِكُلِّ نَجْمٍ ولِكُلِّ كَوْكَبٍ ولِكُلِّ سَمَاءٍ ولِكُلِّ أَرْضٍ أَنْ يكون الإمامَ الهادي للأنامِ مِن الإنسِ والجنِّ إلى أن تقومَ الساعة؛ اِرْتَضَى رَبُّ العرشِ ورَبُّ السمواتِ ورَبُّ الدنيا والآخرةِ أن يكونَ هذا الإمام؛ أن يكونَ هذا المُقْتَدَى، أن يكونَ هذا القُدوة، أن يكونَ هذا المَتبُوع، أن يكونَ هذا البدرُ المنير صلى الله عليه وآله وسلم. وقال له أعلِن لخَلقِي عن هذه الحقيقة وقُلْ لهم: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) مَن اهْتَدَى منكم إلى عَظمةِ ألوهيَّتِي وربوبيَّتي فالبابُ لأن تعرفونِي وتُدْرِكُوا رِضواني عبدِي وحبيبِي هذا ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي )
إِلَهَنَا.. ما بَقِيَ عند المُتكلَّمِ والحاضرين والسَّامعين مِن شوائبِ ضَعفِ الاِتِّبَاعِ له أو الخُروجِ عن الاتباع له فأبعِدها عن بَواطنِنا وظَواهرِنا، وارزُقنا كمالَ الاتِّبَاع له ظاهراً وباطناً.
يا ربِّ إنَّ قلوبَ كثيرٍ مِن رجالِنا ونسائنا اتَّبَعَت كَفَرَة، اِتَّبَعَت فَسَقَة، اِتَّبَعَت سَقَطَة، في شيءٍ مِن أفكارِهِم، أو شيءٍ مِن أخلاقِهِم، فَارْحَمْهُم رحمةً ترفعهم بها مِن هذا الحضيض إلى اتِّبَاعِ المصطفى، إلى اتِّبَاعِ الذي تُحِبُّ مَن اِتَّبَعَه (فَاتَّبِعُونِي)، والجوابُ: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) يحببكم الله.. يحببكم الله..
أَتَقْدِر لهذه الكلمةِ قَدْرَهَا؟ أَمْ تَعْرِف لَهَا أَمْرَهَا؟ (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) يحببكمُ اللهُ، يحببكمُ اللهُ..
أَحَيٌّ قلبُك أَمْ مَيت؟ هل تسمع: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ؟ يحببكم الله.. يحببكم الله..
قال الله، إن تَتَّبعُوا عبدي هذا أحبُّكم أنا ( يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
اِفْتَح لنا هذا البابَ يا وَهَّاب، وشَرِّفْنَا بِكَشْفِ الحِجَابِ، عن سَمِيِرِ حَضْرَةِ قَاب، في مقامِ الاقتراب، صلَّ على صاحبِ مَقَامِ ( أَوْ أَدْنَىٰ ) واجعلنا مِمَّن بسرِّ قُوَّةِ الصِّلَةِ بِهِ تَهَنَّى، واسْقِنَا مِن شَرَابِهِ الْأَهَنَى، يا مولانا ما أنت أهلُهُ هناك وهُنَا.. آمين.. آمين.. آمين، يا رب العالمين .
تَجِدُونَ مثل أخيكم الذي وَرَد مِن اسكتلندا.. الذي يعيش في اسكتلندا وغيرها، في عالمِ الذَرَّة أو في عالمِ الفَضَاء أو في عالمِ التكنولوجيا.. مُحْتَاجٌ إلى أن يَعرفَ ربَّه، محتاجٌ إلى أن يَعرف نبيَّه؛ ما تُغْنِهِ التكنولوجيا، ما تُغْنِهِ الحضارة، ما تُغْنِهِ أسلحتُهم، ما تُغْنِهِ أفكارهم، ما هو هو وحده كل إنسان محتاج، لكن يُغَالِطُون، لكن يتَعَامُون، لكن يَتصامَمون، لكن يُغالِطُون أنفسَهم ؛ هم محتاجون؛ محتاجونَ للرَّب، محتاجون لِوَحيِ الرَّب، محتاجُون لمِنهاجِ الرَّب، محتاجونَ لحَبيبِ الرَّب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وإلا فهم في دائرة: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) فبئسَ الحياةُ وبئسَ المَثوى، بئسَ العيشةُ وبئسَ المآلُ والمآبُ، والعياذ بالله تبارك وتعالى .
ولقد قال الله: ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ) كلُّ مَن لم يعلَم أنَّ ما أُنْزِل على محمد هو الحقُّ فهو أعمى وإن عَلِمَ ما عَلِم، عَلِمَ شؤون الجيولوجيا وطبقات الأرض.. وبعد؟ هل تُفِيدَك وأنت ما عرفت ربَّها ولا ربَّك؟ هل تنفعك؟ هل تُحْسِن مآلَك؟! هل تُنَجِّيك مِن العذاب؟ هل تُدْخِلَك الجنة ؟!يعلَم فضاء، مُوَلَّع بوكالةِ "ناسا" وهو ناسي؛ ناسي ربّه وناسي إلهَه.
وبعدين يا أهل الوكالة مَن لم يؤمن منكم بالرَّبِّ الذي أراكُم هذه الآياتِ أَتَنْفَعُهُ هذه الكائنات؟ أَيَنْفَعُهُ جلوسُه كم أشهر في الفضاءِ ورجوعُه فاضي وهو فاضي؛ فاضي مِن نور الله، فاضي مِن معرفة مَن هو؟ ولِمَ خلق ؟ ما عَرَف نفسَه ( نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ).
وبعد.. تعلمَ البحار، وبعدين؟ والبِحَار هل ستخرجك مِن النار ؟ والبحار هل تجعل لك حُسُنَ قرار؟ (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). اللهم اجعلنا منهم (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)
(لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبةُ لهم، المستقبلُ لهم، المصيرُ لهم. اللهم اجعَلنا منهم وأهلينا وأولادَنا وطُلَّابَنا وأحبابَنا وأصحابَنا، وكَثِّرْهُم في هذه الأمة، وسُرَّ بهم قلبَ نبيِّ الرحمة .
(.. عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) يُصِيبُ الخيرُ ما اَتَّصَل بهم ومَن اتَّصَل بهم (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
كَمْ فرق بين ( فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وبين ( وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) سوءُ المصير، سوء العاقبة.
يا مُعَرَّضِينَ لِحُسْنِ العاقبة: اشكرُوا الرحمن وتوجَّهُوا إليه بالصِّدقِ والإخلاصِ.
قبل أن يُكْرَم بنور الإسلام كان يجدُ سُكُونَاً للقَلَقِ في القرآن، يجدُ إزالةً للهَمِّ في القرآن ؛ يَسمع آياتِ القران مِن دون أن يَعرف معناها يتأثر، يَسمع ألفاظَ الأذان ولا يدري معناها يتأثر ! ما هذا التأثُّر؟ تأثُّر الفِطرة، هُدِيَ بالفطرة لأن يَعلم بأنَّ للكون إلهاً واحداً يُدَبِّرُه ويُسَيِّر شؤونه ضرورةً. حتى أخذ معاني القرآن مترجمةً – ولا شكَّ أنَّ كلَّ ترجمة في الدنيا لمَعنى القرآن قاصرة، بعضُها أقربُ مِن بعض، وكلُّها قاصرة. القرآن.. لا العرب ولا غير العرب يستطيعُون أن يأتُوا بمثلِه، ومعانِيه إنما يدركونَ منها على مقدارِهم؛ أما على مقداره فهو فوق (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا). ومع ذلك فالسِّرُّ الذي سَرَى لهذه الترجمة للمعاني -وإن كانت قاصرة- نورٌ قَوِيٌّ يَتناسبُ مع الفِطرة ويُنقذُ الناسَ. وَوَجَدَ شفاءً ونوراً في هذا القرآن.
ناس مِن المسلمين يهجرون القرآن! يعرف يقرأ ولكن ما يقرأه ! ويقعد منه اليوم واليومين والثلاثة والأسبوع !. حتى لو قلت له مصحفك في البيت في أي مكان ؟ في الدولاب وإلا في الغرفة ذي؟ ما هو داري به !، لكن التلفزيون داري به فين، والجوَّال كل يوم يتفقَّده.. ! والقرآن ما هو داري به فين !
يا هذا.. ما عَرَفتَ النعمة، ما عَرَفتَ قدرَ المُنعم، لم تُحْسِنِ الصِّلةَ بهذا الكتابِ العزيز.
وبعد ذلك جاء الإسلام وجاء النور -والحمد لله على ذلك-، بعدَ دعواتٍ دعا بها الربَّ أن يهديَه..وسَمِعْتُم عدداً مِن الذين سألوا الربَّ وتوجَّهُوا إليه -وهم في تَخُبّطَات في شؤون الأفكار والأديان وإلى أين يهتدون، وشؤون الفِرقِ أيضا حتى في الدين- وسألوا الربَّ أن يهديَهم، ثم وجدتموهم هنا وجاء بهم إلى هذا المكان، مِن ذَا المكان، ومِن ذا المكان، ومِن ذَا المكان، جل جلاله وتعالى في علاه.
فكيف نُعامل هذا الرب ؟! وكيف نُدرك المكانَ الذي كانَ مكان، لا بِنَا، ولكن بأقوامٍ صَدَقُوا ما عاهدُوا الله عليه، وبأقوامٍ عَظُمَت فيهم وِراثةُ المُرْسَلِ إلى العالمين صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله؛ فَسَرَت سِرَايَاتُهم، وها نحن نشهدُ آثارَها. وجزى الله عَنَّا مشائخَنا وسلاسلَ إسنادِنا إلى مُحَمَّدِنَا خيرَ الجزاء، وجزى عنَّا وعنهم محمداً أفضلَ الجزاء وأكملَه، ولله الحمدُ بمحمدٍ وصحابتِه وذريتِه وآله وورثته أجمعين. اللهم لك الحمد بمحمدٍ شُكْرا، ولك المَنُّ بأحمدَ فضلاً وطَولاً، فَزِدْنَا مِن اِفْضَالك، وتولَّنا بما أنت أهلُه في جَميعِ أحوالِنا بواسِعِ نَوالِك، يا مجيبَ دعوةَ الداعِين.
وأكرِمنا والحاضرين والسامِعين بأنوارِ يقِين؛ عِلْم يقين عَيْن يقين حَقّ يقين؛ تَحْفَظنَا مِن التَّخبُّط، وتَحفظنَا يا مولانا مِن الإفراطِ والتَّفريطِ، وتَحفظنَا مِن الزَّيغِ والتَّخلِيط، وتحفَظنَا مِن كُلِّ سوءٍ، ومِن كُلِّ مُوجِبِ حَسرةٍ وندامَة، في الدنيا وفي يومِ القيامة.. يا الله، فإذا بَعثتَ الخَلقَ لِتُريَهم أعمالَهم تُرِينَا ما يَسرُّنا ولا تُرِينا ما يَغُمُّنا.. يا الله.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ..) ماذا يُرَوا ؟ (لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
أَرِنَا ما يَسُرُّنَا، أَرِنَا ما يُفْرِحُنُا، ولا تُرِنَا ما يَغُمُّنَا، ولا ما يُحزِنُنَا في ذلك اليومِ، يا الله، واجعَلنا في دائرةِ قومٍ قلتَ عنهم: (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)
اللهُمَّ جمعتَنا على هذه الخيراتِ فاجمَعنا في يومِ المِيقات في زُمرةِ سيدِ البريات وخيرِ الكائنات، وتحت لوائهِ لواءِ الحمدِ المَعقُودِ له صلى الله عليه وسلم؛ والذي يحملُه بيدِه المُشَرَّفة، فينطوِي تحتَه آدمُ ومَن دونَه مِن النبيِّينَ والمُرسلينَ، اللهم اجعلنا معهم واجعلنا منهم وفيهم، برحمتكَ يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين .
وبينَ يديهِ اجْتَمَعْتُم ترتَجونَه، وتنتظرون فضلَهُ وتَسْهَنُونَه، والله يبلغكُم فوقَ ما تطلبونَه، وأعظم مما تسألونَه. يا مَن لا يَخِيب مَن دعاه، ولا يُرَدُّ مَن قَصَدَهُ وناجاه، أَذِقْنَا لَذَّةَ المُناجاة، وتَولَّ كُلّاً مِنَّا في دُنْيَاه وأُخْرَاه، وِلَايةً تقيهِ بها مِن جميع الأسواء، في السِّرِّ والنجوى، يا الله.
تَسْعَد بِدُعَائِهِ هنا وهناك.. فادعُ الله، ونَاجِ الله، واسألِ الله، وقُلْ: يا الله.. يا الله
يا الله يا الله.. يا الله يا الله
يا الله يا الله.. يا الله يا الله
بأصفيائك وملائكتِك وأنبيائك وسيِّدِهم محمد اقبَلنا أجمعين، اُنظر إلى الحاضرين والسامعين، نظرةً بها نفوز، ولشَرفِ المُرافَقةِ نحُوز، يا حيُّ يا قيومُ، تَتَنَقَّى بها قلوبُنا، وتُكشفُ بها كروبُنا.
بارِكْ في وَفَادَةِ الوافدين، وحُضورِ الحاضرين، وقيامِ القائمين، ومُساعدةِ المساعدين، ومُساهمةِ المساهمين، ومَن في الديار مِن العجائزِ والشِّيبَانِ يدعُون ويتضرَّعون، بارِك لنا في دعائهم، وفي تَضرُّعِهم، وبارِك في كُلِّ مَن خَدَمَ لهولاء الوافدين، ولهذه المجامع، بَرَكَةً يَنَالُ بها مَنْزِلَاً حَسَناً تحتَ لواءِ الحَمد، اللهم بَارِك لِكُلِّ مَن خَدَم في هذه المَجَالَات بالصِّدقِ والإخلاصِ بَرَكَةً يَنَالُ بها المَنزلَ الكريمَ تحتَ لواءِ الحمدِ، يا حيُّ يا قيومُ يا رحمنُ يا رحيم.
وأيقِظ عَزائمَ المسلمين في المَشارقِ والمغاربِ، وارزُقهم حُسْنَ الوِجهةِ إليك، سَلِّمهم من المصائب والبلايا، وارفع ظلماتِ هذه الغَيَاهِب، التي حلَّت بالقلوبِ والعُقولِ والأفكارِ. يا مَن أنعمتَ علينا بالأمنِ والطمأنينةِ والسَّكينةِ والتوفيقِ والإمكانيةِ والعافية، اللهمَّ أتمِم نعمتَك علَينا، أتمِم نعمتَك علَينا؛ لو لم تُؤمِّنا لم تقدرْ قُوَى الأرضِ أن تؤمِّنَنا، ولو لم تُنْزِل الطمأنينةَ علينا ما اطمأنَّت قلوبُنا؛ لك الحمدُ شكراً، ولك المَنُّ فضلاً، فَزِدنا مِن نَوالِك، وأدخِلنا في دائرةِ أهلِ محبتِك وإفضالِك يا الله، يا الله.. يا الله.
واهْدِ قلوباً كثيرةً في المَشارقِ والمغارِب، وسُرَّ بذلك قلبَ أطيَبِ الأطايب، خيرِ الحَبائب؛ سيدِ المرسلين وخاتِمِ النبيين، وشَفيعِ المذنبين، المُجتَبى المصطفى الأمين. لا تَحْرِم هذه العيونَ وعيونَ السامعين رؤيا مُحَيَّاه، والنظرَ إلى طلعتِهِ والاهتداءِ بِهُداه، ومرافقتَه في دار الكرامة والمُصافاة يا الله، يا الله.. يا الله، مِن غيرِ سابقةِ عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، واجعلها ساعةَ إجابة، والدعوات مستجابَة، برحمتك يا أرحم الراحمين .
أَعِد عوائد رمضان وقَبُولِهِ، وقبول صيامِ الصائمين وقيامِ القائمين علينا في شهرِنا هذا، وفي ما يستقبلنا مِن بقيةِ عامِنا وبقيةِ أعمارِنا، وانشرِ الخيرَ في الأمَّة، وادفعِ الشَّرَّ والضَّيرَ واكشِفِ الغُمَّة، يا مُجيبَ الدَّعوَات، يا قاضيَ الحاجاتِ يا ربَّ العالمين.
الله الله يا الله لنا بالقبول .
16 شوّال 1439