(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 14 رجب الأصب 1445هـ، بعنوان:
كرامة الكينونة في خير أمة وانحصار الغافلين في فاسد وخبث الماديات ومكانة الاتصال بنور الحق وما أنزل ومن أرسل
الحمد لله.. الإله المَلِك الحق المبين، الواحد الأحد، الحيّ القيوم، القوي المتين، من بيده أمر السماوات وأمر الأرضين، مالك الدنيا والبرزخ و {مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ}، يوم يجمع الأولين والآخرين ويحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شرَّفَنا فجعلنا خير أُمَّة، مِنَّةً منه، لم نكتسبها بشيء من أعمالنا، ولا وجهاتنا، ولا نيّاتنا، وقضى بأن نكون في خير أمة من قبل أن يخلقنا، ومن قبل خلق السماوات والأرض؛ فله الحمد شكرا. وكما جعلتنا في خير أمة فاجعلنا من خيار هذه الأمة، وألحقنا بصالحي هذه الأمة، ومُنَوّري هذه الأمة، والمخصوصين في هذه الأمة، بجودك الواسع والرحمة، بنبي الرحمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في كل مهمة، وعلى مَن تبعه بإحسان واقتدى به، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله، وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.. وفِّر حظنا من مننك الغزيرة، ومِنحك الكبيرة، يا مَن يُعطي ولا يُبالي يا مولى الموالي.. يا الله.
كلُّ ما يتحدث عنه الناس ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر -ويتبعهم في ذاكم الحديث كثير من المؤمنين- إن تحدثوا عن أمن، أو عن استقرار، أو عن رفاهية، أو عن ازدهار.. وما إلى ذلك؛ فشؤونٌ -باليقين القطعي- قاصرة، ناقصة، زائلة، مُنقضية، فما يحومون غير حول الأجسام والماديات!
وهذا قصور وانحطاط ممن جعل الله له روحا تَحِلُّ فيها محبته؛ فتسري في عجائب لذائذ مُطالعة جمال حضرته أسمائه وصفاته في الملكوت الأعلى؛ يحصر نفسه في هذه المسموعات والمنظورات، وهذه الماديات التي تشاركه فيها الحيوانات! وما زاد وتميَّز عليها إلا أن استعمل الآلات الكبيرة التي لم تؤتها هذه البهائم في خدمة هذه المادة والأجسام نفسها! ما تميَّز عليها بغير ذلك!
وصدق الرحمن الذي قال عن هؤلاء الذين قُطِعُوا عن حقائق الإيمان والفوز الأكبر: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
فكُلُّ مَن وجدتَ في قلبه الغفلة عن عظمة الإله الخالق، وحُسنِ الصِّلَة به، وكريم العلائق، والوفاء بعهده، والظفر بمحبته وودّه.. كل مَن وجدته في هذه الغفلة؛ فهو مِمن عطَّل استعمال السمع والبصر والقلب! فله قلب لا يَفْقَه، وله عين لا تُبصر، وله أذن لا تَسْمَع -والعياذ بالله تبارك وتعالى- عطَّلها عن حقيقتها، انحطَّ عن درجته الكبيرة!
لأجل أن لا نقع في هذا الحبس وفي هذا الحَبْس وفي هذا القصور والقَصْر؛ أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، وما أنزل أبانا آدم إلى ظهر هذه الأرض إلا ومع نور: افعل كذا ولا تفعل كذا، وجاهد نفسك، واذكر ربك، واستعد للرجوع إليه وللقائه؛ فخرج من نورانية الخلافة: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ}.
ثم كان من عمل عدوهم إبليس بمساعدة النفوس الأمارة: إلقاء هذه الغفلة عن الله، وآياته، وتنزيلاته، ووحيه، وأحكامه، ورسله، وما أرسلهم به .. إلى: اتباع الشهوات، والأهواء، والملذات، والاغترار بالفانيات والماديات! فدعا من أولاده إلى ذلك مَن دعاهم، وعلى مدى.. بدأ يستجيب له واحد بعد الآخر، أوّلهم قابيل الذي فعل أول جريمة في القتل، فجرائم القتل إلى يوم القيامة في صحيفته وميزانه أمثالها.. فماذا يقدر أن يصنع هذا؟ ماذا يقدر أن يصنع بهذا العذاب الشديد؟! -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ومن تبعه بعد ذلك، حتى صار تغفل القلوب الأعداد الكثيرة، فيٌرسِل الله رسولاً ويبعث نبياً، ويٌنزل كتباً؛ رحمة منه بنا ؛
حتى لا نعيش في هذا الحصر والقصر {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}
وبذلك أقرأ من الآية أنني ببركة الذكر والاتصال بنور وسر الوحي: أكلي ليس كأكل الكافر، هو يأكل كما تأكل الأنعام وأنا آكل كما يأكل خير الأنام، هو يأكل كما تأكل الأنعام وأنا آكل كما يأكل الكرام، أكلي بـ "اسم الله"، وأكلي مما أحلَّ الله، وأكلي بميزان شريعة وحيه على مصطفاه، وأكلي باليمين، وأعمل السُّنن مع الأكل؛ فليس أكلي كأكلهم.. نختلف عنهم حتى في الأكل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}. وإذا اختلف أكل المؤمن الذاكر عن أكل الغافل الكافر؛ حتى نومه يختلف، ولباسه يختلف، ونيّته تختلف، وحركته وسكنته تختلف..
ما وُصِل بالعالم الأعلى كما قُطِع؟ لا والله، ما وُصِل بنور الوحي كما نزل إلى وحي الأوهام والخيالات والضلالات والشهوات؟ لا والله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} لا والله ما يستوون! ما يستوون! يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. ونِعمَ النذير والسراج المنير.
ووجدنا هؤلاء الذين انقطعوا وغَفِلُوا عن الله وعمّا أرسل به رسله؛ مهما تظاهروا بما يُسمَّى: حُرّيات، أو بما يُسمى تقدُّمَات وتطوّرات، أو ما يُسمى ثروات؛ أنّ مبناها لا يقوم إلا على: الغش، والكذب، والخيانة، والخديعة، والكبر، والغطرسة.. فقائم سعيهم على ذلك، وأنَّ ما يَتَشَدَّقون به من: إنصاف، أو مساواة، أو عدل.. وما إلى ذلك: كذب في كذب، وصور يتظاهرون بها أمام الناس، والحقيقة والواقع عكس ذلك تماماً، وغير ذلك. يَعقِل هذا كل مَن عنده مُسْكَة مِن عقل مِن الإنس والجن؛ عندما يرى سير هؤلاء ومعاملة هؤلاء من الكفرة الذين يريدون استعباد من في الأرض، وفكرهم فكر فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} ما يقولونها بنفس اللفظ؛ ولكن معناها مُتغَلغِل في صدورهم، وعندهم يجب أن يكون العالم ودوله تحت أمرهم، وتحت الخضوع لهم، مَا عرفوا ربهم ولا إلههم ولا خضعوا له، وأرادوا أن يَخضَع الخَلْقُ لهم!
ولقد قال الله في فرعون وقومه: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} وهكذا مَن قَبْله، وهكذا مَن بعده، وهكذا سُنَّة الواحد القيّوم في أهل زماننا {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
وقال عن طوائف منهم.. كانوا زمجروا في الأرض كثير، وادّعوا ادعاءات كبيرة {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}.
أمَّا التدمير المعنوي فهو بما رضوا لأنفسهم أن يُغالطوا أنفسهم، ويمتنعوا عن داعي الحق -وهم يعلمونه- ثم يفسحون لأنفسهم ولشعوبهم الورطات بعد الورطات، في الشهوات والجرائم والمحرمات! كفى به من تدمير -والعياذ بالله تعالى- ولكن التدمير الحِسِّي الظاهر أيضاً لاحقٌ بهم، وواقعٌ عليهم، سُنَّة مِن سُنَن مَن كَوَّن الأرض تكوينا، وكوَّن السماوات، ولم يشركه أحد، ولا فرد ولا شركة ولا هيئة ولا شعب ولا دول؛ كلهم عبيد {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}
لعلَّك تَفْقَه.. يا حاضر، يا سامع، ويا عاقل في شرق الأرض وغربها: تَفْقَه مِن هذا الكلام.. أنَّ ما يحومون حوله وما يقولونه، مع الزيف والتَّزْويِق الذي فيه والكذب؛ يدور كله حول الماديات والفانيات، وهم في الماديات والفانيات، معهم ضُرّها، وشرها، وفسادها، وظلمتها، وخبثها، أصحاب الزنا واللواط، أصحاب المسكرات والمخدرات، أصحاب القتل للنفوس، أصحاب الاعتداء على حقوق الآخرين! والله ما معهم في هذه الدنيا إلا خباثة هذه الدنيا، وظلمة هذه الدنيا، وفساد هذه الدنيا، وشر هذه الدنيا، ومَقِيت هذه الدنيا، وسوء هذه الدنيا، ولهم السوء في الآخرة، الآخرة أسوأ لهم {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ} {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
فهم مع كُلِّ هذا ما جلبوا لأنفسهم حقائق طمأنينة في الدنيا.. أبداً، بل هم فيما يدّعونه تُنازلهم من الكدر والهموم ما هو أمام أعين العُقّلاء في الشرق والغرب.. أين نسبة الانتحار أكثر؟ أين نسبة الاكتئاب أكثر؟ أين نسبة الأمراض النفسية أكثر؟ أين نسبة الاغتصابات أكثر؟ أين نسبة القتل للنساء خاصة ولأنواع المظلومين أكثر في العالم؟ قل لي؟ .. ما هو كذا؟ هذا وحده؟ عادهم يتجاهرون بتشريع القتل هذا ومُسانَدِتِه ومساعدته! ويُقال لا نترك هذا ولو أضفنا إليه قتلاً فوق القتل! أمَّا هذا فلا! لا بد يستمر! هكذا يقولون! هكذا يقولون! فبئس ما يقولون، وبئس ما يُفَكِّرون، وبئس ما يصنعون!
والله الذي خلقنا وخلقهم، ليسوا بحاملي طمأنينة لعرب ولا عجم، وليسوا بحاملي أَمْن لعرب ولا عجم، وليسوا بحاملي أُنْس لعرب ولا لعجم، ولا لحيوان ولا لنبات ولا لجماد؛ إنهم يحملون المُهلِكَات المُبِيدات، إنهم يحملون الشرور، إنهم يحملون كل محذور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ..} والرَّدّ على العَقِب هو سهل أو هيّن؟ يعطونك وظيفة وإلا مُرَتَّب وثروة {..فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وراءك الخسران الأكبر، ووراءك التعب الأشد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}
قال الله ومهما قام على ظهر الأرض من المؤمنين بي، والصادقين معي، وأتباع نبيي؛ من يريد وجهي وإعلاء كلمتي؛ فذه سُنّة: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..} قال إمامُنا وسيُّدنا: (ونُصرْتُ بالرُّعبِ مَسِيرَةَ شهر) {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا..} والأمر أكبر بعد ذلك {..وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
ولكن كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء، في الحلال والحرام، وواجب السلوك المستقيم، وفي التوَلُّع بذكر الله، وفي حقائق الطمأنينة، ومعاني القرب من الرحمن.. هذا الكلام الأصفى الأوفى الأكمل الأزكى الأتم الأبقى الأدوَم، هذا الأقوَم، هذا الأعظم، هذا الذي يُكتَسَبُ به في الدنيا قبل الآخرة: حقائق الطمأنينة ونزول السكينة، ووالله لن يجدوه في غير مسلك هؤلاء، وإن عملوا ما عَمِلُوا، وإن فعلوا ما فعلوا!
وكم للناس يُجَرِّبون أنَّ بالكلام الماجن والغفلات والحركات الساقطة، يَجلِبون لأنفسهم راحة وطمأنينة.. جرَّبوا قرون ما جلبت لهم راحة، ما نجحوا، ولا جاءت لهم راحة ولا طمأنينة! يخرج من سهرته الساقطة الهابطة؛ والغموم أشد، مترادفة عليه، ومثل الجيفة، ثاني يوم أكثر يومه يقوم من النوم إلى هم وغم، وثاني ليلة يصَلِّح.. وثالث ليلة همَّها أكبر، ورابع ليلة يصَلِّح وخامسة وهو يجرّب.. فاشل فاشل ووراء الفشل! وهكذا من قبلهم!
ولو عَقَل.. أولاً أخواننا المسلمين! الذين وقعوا في ورطات اتباع الشهوات، وتصديق الساقطين، وتصديق الكاذبين.. لو أدركوا أنَّ بعض ذرَّات ما يدور في هذا المجلس؛ يَنْزَع عنهم هموم الدارين، ويُهيئهم لرفقة سيد الكونين، لَمَا رضوا لأنفسهم أن يكونوا عُملاء ولا تابعين للساقطين الهَبَطَة، ولكن سبحان مُقَلِّب القلوب!
سبحان مقلب القلوب.. اختصَّكم، وجاء بنا إلى هذه المجالس، ويُتابعنا فيها أعداد في الشرق والغرب، من آل الدنيا، ومن آل السماء، ومن آل البرزخ، وتنزل فيها السكينة، وتَهبِط فيها الرحمة، وتحفّنا فيها الملائكة. وكُلُّ مَن صدَق مِنَّا وقُبِل؛ نال مِن كل مجلس كسوة يَفْخَر بها في القيامة، ومَنزِل في يوم الطامَّة، ومجلس في دار الكرامة.. فما مجالس الجنة بين أهلها إلا نتائج مجالس كانت في الدنيا؛ عُقِدَت لوجهه، والتي تُعقَد لوجهه من الصادقين المخلصين؛ مسلسلة بسندها؛ العَاقِد لها كلها واحد سَمَّاه ربكم "محمد"، هو الذي دعانَا إلى الواحد الأحد، والفرد الصَّمَد
دَعَانَا إلى الحَقِّ بحَقٍّ مُنَزَّلٍ ** عليه من الرَّحمن أفضلَ دَعْوَةِ
أَجَبْنَا قَبِلْنَا مُذعِنِينَ لأمره ** سَمِعْنَا أَطَعْنَا عن هُدىً وبَصِيرةِ
فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحَقِّ والهُدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خَيْرِ مِلَّةِ
وعُمَّ أصولا والفروع برحمةٍ ** وأهلا وأصحابًا وكُلَّ قَرَابَةِ
وسائر أهل الدين مِن كُلِّ مُسلِمٍ ** أقامَ لك التوحيد من غَيْرِ ريبةِ
يا الله .. يا الله
ولو عَلِم المنافقون بذَرَّاتِ ما يَنزِل في مجلس الأمين المأمون لتحوَّلوا من نفاقهم إلى قوة الإيمان، ولكن لله في خلقه شؤون {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يقول -جل جلاله- {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا} ما يدرون ماذا قال! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ووراء المؤمنين الخطاب موجَّه -لأنه ليس مِنَّا، إذ ما نحن إلا خُدَّام خطاب رب العالمين ودعوة سيِّدُ المرسلين- مُوجَّه الخطاب: خروجكم من أنواع البلايا والآفات؛ إمَّا كُلِّيَّاً: بأن تَعقِلُوا دعوة الله إليكم، وما خلقكم من أجله، وتَنْتَظِمُوا فيما شَرَع لكم وهو خالقكم الأعلم بكم. وإمَّا جزئياً: اتركوا الظلم، ونتعاون وإياكم على أن لا نظلم أحد، وأن نقوم على يد الظالم -هذا الذي بُعِث به الرُّسُل- وأن نقوم بالقسط، واتركوا حرية الناس في أديانهم، على الوجه الذي يَليِقُ بالعقل والمنطق والديانة، لا على اللعب والمسخرة والكذب والكيل بِكيلين! وتخرجوا من ورطاتكم، وتعيشوا في أمن وطمانينة! ولكن {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}.
وقوم قال الله {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ..} ولديهم الكفاية، يقول الله {..وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} قل لي بالله عليك صنعة مَن هذه؟ انظر! يا عربي يا عجمي! يا ذكر يا أنثى! يا صغير يا كبير من العُقلاء: أمعن النظر! {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} صُنع مَن؟ تكوين مَن؟ ما هذا الإحكام؟ {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} مُحكَمَة الصُّنع، قوية {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا..}
أم هي المؤسسات والشركات التي لديهم مدَّت لكم الأرض؟! مساكين! هاهم جاءوا، ولولا تمديد الأرض لهم ما قاموا {..وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..} هذه الجبال التي نصبها الله تعالى {..وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} -جلَّ جلاله-
هذا الكلام من وحي رَبِّ الأنام، والذي يذكره الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويحمله من العباد الكرام؛ فيه حقائق الطمأنينة والسكينة، وخير العيش في الدنيا ثم في الآخرة؛ فلنتصل بهذه الحِبَال، ولندخل في هذا المَجَال، ولنَغْنَم الاتصال بواسع الإفضال، ولنغنم الأيام والليال.
الدنيا ملآنة.. بأخبارها، وحروبها، وكروبها، وزلازل، وفتن، وقتل.. هَرْج يَكثر.. وقد أخبر به، قد تحدَّث عنه، قد أشار إليه؛ مُبَلِّغ الرسالة، مُحسِن الدَّلَالة، مَن كلَّمته الغزالة صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، محمد بن عبد الله.. وترى كل شيء يمر، كما قال الله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} ولا يتجاوز شيء حدّه الذي حُدَّ بِهِ فِي عَالَمِ الْأَزَلِ وَلَا ذَرَّة، وَلَا مُُقَدِّم وَلَا مُؤخِّر إِلَّا هو، وَلَا رَافِع وَلَا خَافَض إِلَّا هو، وَلَا مُعْطي وَلَا مَانِعٍ إِلَّا هو، وَلَا ضَار وَلَا نَافِع إِلَّا هو، وَلَا مُحِيي وَلَا مُمَيْت إِلَّا هو -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
فاغنموا بقيَّة رجب، وتَلَقّوا من الله العَجب، وانظروا إلى هذه المجالس المباركة التي تولَّى عقد رايتها في الأول والأصل والأساس محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، دعانا إليها ودلَّنا عليها، وسلَّم معاني أسرارها ومفاتيح كنوزها لمِن كان في حضرته من آل بيته وصحابته، وسلّموها لمن بعدهم ووصلت إلينا.. اللهم لك الحمد، اللهم أتِم النعمة، اللهم أتِم النعمة.
وتمام النعمة.. كم من حاضر وكم من مُشَارِك من بعيد، يبدو له سنا يتلألأ من سِرِّ رضوان الأكبر من عند الغرغرة إلى الأبد، الله يتم النعمة .. الله يتم النعمة، كم من واحد بِمَحْضَر حضره في هذه المحاضر تُكتَب له مرافقة سيد المرسلين، من حين موته إلى الأبد؛ نِعَم مِن نِعَم الواحد الأحد، عَطَايَا يُعطيها في هذه المنازل وهذه المجالس؛ بالفضل الربَّانِيّ والجود الامتناني والمنِّ الصمداني، {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
يا ربّ وَفِّر حظَّنا، وأتممِ النعمة علينا، ولا تحرم أهلنا ولا أولادنا، ولا صغارنا ولا كبارنا، وأدخِلنا في دوائر محبوبيك والمُقربين إليك.
يا الله: باقي رجب اجعله خيرا لنا مما مضى، وبارك لنا في شعبان، واجعل زيارة النبي هود هذا العام من أبرك الزيارات على أهل الإسلام وأهل الوجود، ظاهرا وباطنا.. يا الله، وما عقد لواءها الفقيه المقدم محمد بن علي إلا ويده مُتصلة بيد الذي قال الرحمن تعالى عنه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} اللهم بارك لنا فيها وللأمة، وبلِّغنا رمضان أجمعين، واجعلنا من خواصِّ أهله.
والطُف الأمة فيما تجري به المقادير، وأهل غزة يا رب اكشف الضر عنهم، وأهل الضفة الغربية اكشف الضر عنهم، وأكناف بيت المقدس اكشف الضر عنهم، والمسلمين في سوداننا وفي صومالنا وفي ليبيانا، وفي شامنا وفي يمننا، وفي عراقنا، اكشف الضر عنهم، يا من يجيب المضطر إذا دعاه، نحن المضطرون، وقد تكبَّر الكافرون والمجرمون، فرُدَّ كيدهم عنَّا وعن جميع المسلمين والخلائق أجمعين، يا قويّ يا متين.
يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله..
توجّهوا جميعا إليه، وأقبلوا عليه، متذللين بين يديه، فقد دعاكم، ووفّقكم، وأحضركم، وأنعم عليكم، وتجلَّى عليكم، ونظر إليكم، وسهّل الطرق لكم، وآمنكم؛ فاحمدوه، واشكروه، وادعوه، واطلبوه، وقولوا جميعاً:
يا الله .. يا الله .. يا الله .. يا الله .. يا الله .. يا الله
يا من لا يُخيّب مَن رجاه، يا مَن لا يردُّ من دعاه، يا مُغيث مَن استغاث به.. غوثاه غوثاه غوثاه
يا سريع الغوث غوثاً منك يدركنا سريعاً
يهزم العُسرَ ويأتي بالذي نرجو جميعاً
يا قريباً يا مجيباً يا عليماً يا سميعاً
قد تحقَّقنا بعجزٍ وخضوع وانكسارِ
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي
حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي
حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي
وأرِح سرّي وقلبي من لَظَاهَا والشُّواظِ
في سرورٍ وحبورٍ وإذا ما كنت راضي
فالهنا والبسط حالي وشعاري ودثاري
قد كفاني علم ربي من سؤالي واختياري
ربِّ فاجعل مجتمعنا غايته حسن الختامِ
وأعطنا ما قد سألنا من عطاياك الجِسَامِ
وأكرم الأرواح مِنَّا بلقاء خير الأنامِ
وأكرم الأرواح مِنَّا بلقاء خير الأنامِ
وابلغ المختار عَنَّا من صلاةٍ وسلامِ
يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
15 رَجب 1445