(536)
(204)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 16 ربيع الأول 1443هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
عُمقُ النظر إلى الأكوان يجمع على المكوِّن ومعرفته ومحبته وخطر عمى البصيرة واستبدال القدوة المرتضاة
الحمدُ لله مُنوِّرِ القلوبِ بمعرفتِه ومحبَّتِه، ونشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، سبَقَت رحمتُه لبريَّتِهِ، ونشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُ الله ورسولُه وصفوتُه مِن الخلقِ المُقَدَّمِ في أهلِ حضرتِه. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على مَن به شرَّفتَنا وأعزَزتَنا وكرَّمتَنا وفضَّلتَنا وجعلتَنا خيرَ أمَّة أُخرِجَت للناس وهديتَنا به إلى سواءِ السبيل، وعلى آلهِ وصحبِه خيرِ جيل، وعلى مَن تابعَهم بإحسانٍ في القصدِ والنيَّةِ والقِيل، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين أهلِ المقامِ الجليل، وعلى آلِهم وصحبِهم وأتباعِهم، وملائكتِكَ المقرَّبين وعبادِك الصالحين أهلِ اليقينِ والتَّمكين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
انظر إلى قلوبِنا، نوِّرها بنُورِك، طهِّرها عن شوائبِها وعمَّا يحجبُها، وعمَّا يقطعُها وعمَّا يحولُ بينها وبين مطالعةِ سَنَا جمالِك وعليِّ جلالِك وعظيم كمالِك فيما أبرزتَ وخلقتَ وأوجدتَ. وعزَّتِك أنت الأظهرُ مِن كلِّ شيء؛ وترفَّقتَ بعبادك لِمَا عَلِمتَ مِن ضعفِهم فقلتَ: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} سبحان الحق.. خَلَق السماواتِ والأرضَ بالحق، وأرسل رسولَه بالحق، وأنزل الكتاب بحق؛ فربُّنا الحق، وكلامُه حقٌّ، والجنة حقٌّ والنارُ حق، والنبيُّون حق، والساعةُ حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حق..
أمرَنا اللهُ تبارك وتعالى أن ننظرَ الحقَّ في خلقِ السماوات والأرض لنعلَمَ أنها خُلِقَت وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي خُلِقَت لإقامةِ الحكمةِ الإلهية في الإيجادِ والخلق، وفيها الدلالات، وفيها الإشارات، وفيها العلامات.
فَيَا مَن أكثرَ عمى مَن ينطلقُ في الأرض وينظرُ إلى ملكوت السماء ولا يعرفُ الرَّب! ولا يَهَابُ الإله! ولا يؤمنُ به! ولا يستعدُّ للقاه!
ما أعمى قلوبَهم! ما أعمى بصائرَهم!
ما خُلِقَت إلا لنعلمَ عظمةَ الخالق وأننا نرجعُ إليه {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
اللهم اجعلنا ممن تدبَّرَ آياتِ هذا الكتاب، واجعلنا مِن أهلِ التَّذَكُّرِ في خَوَاصِّ أولي الألباب، يا كريمُ يا وهَّابُ.. يا الله .. يا الله
جامعكم على لُبِّ معاني خَلْقِ السماوات والأرض وما بينهما..
ولُبُّ تلكم المعاني: معرفةُ المعاني، ومحبتُه تعالى في علاه، واغتنامُ الحياة تزَوُّداً لِلقاه؛ طمَعَاً في نَيْلِ رِضاه، ومرافقةِ مصطفاه. هذا لُبُّ اللُّبِّ مِن خلقِ السماواتِ والأرضِ والعرشِ والكرسيِّ والجنةِ والنارِ ووجودِ الهواء والإنسِ والجنِّ والحيوانات في البرِّ والبحرِ والجمادات والنباتات.. كلُّها تدلُّنا على هذه المعاني الشريفات البديعات الكبيرات الكريمات.
وبذلك يقول لنا ربُّ البريات: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} وإذا علمتم أننا الخالقين { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فتزوَّدوا واستعدُّوا للقائنا! {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}
وبعد ذلك.. أَمَا تنظرون عجائبَ قدرتِنا في الوجود وأننا لو شِئنا في أي لحظةٍ نُبعِد الفردَ منكم أو الهيئة أو الجماعةَ أو الطائفةَ أو الدولةَ أو البلدةَ في لحظةٍ واحدة؟! {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}
هؤلاء الملايين على ظهرِ الأرض كانوا نُطَف.. مَن صيَّرهم نُطَف؟ ومَن رعاهم أيام كانوا نطف؟ المليارات على ظهر الأرض! كلهم مشَوا مِن النُّطف إلى العلَق إلى المُضَغ! مَن مشَّاهم؟ ونقَّلهم مِن حالٍ إلى حال! وأخرجَهم إلى هذا الحال!
اليوم يريدون أن يتطاولوا على ذي الجلال!! أن يُنكِرُوا قدرَته الذي ما لها مِن نهايةٍ ولا غايةٍ ولا مثلَ مجالِها مجال!! {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} أنشأناكم مِن نُطَف إلى علق إلى مُضَغ، وإلى طفولة وكبَّرناكم ما نقدر ننشئكم في شيء ثاني؟ ما تعلمونه أنتم؟ أليست قدرتُنا أمامكم؟!
سماء رفعناها.. مَن رفعها؟ وجبال نصبناها! وحيوانات خلقناها! وأرض سطَحناها! {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} كيف خُلِقَت؟! تحدُّوا المتقدِّمين والمتطوِّرين.. قل لي بالكبير عليك هات لنا ذبابة؟ بقوَّتِك اخلُق لنا بعوضة؟ قال بصلِّح كمبيوتر.. لا أريد كمبيوتر، هات لي بعوضة؟ بقوَّتِك هذه اخلق بعوضة واحدة فقط ؟
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ففي أي مظهر هم؟ مظهرُ العجز، مظهرُ الفقر، مظهر القهر تحت قهرِه..
ومن الذي خلق الذباب اذن؟
{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ..} قال الله للمرسل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}
مننا ابتداؤهم وإلينا إيابهم، إلى أين سيذهبون؟ إلى مَن يذهبون ؟ ينتهون إلى أيِّ مكان؟
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في حد مِن الجن ينفذ؟ في حد من الإنس ينفذ؟
يا جماعة لِمَ أنتم محصورون هنا؟ خلُّوا السماوات والأرض اللي خلقها ربنا كيه شوفوا مكان، انفذوا؟ اخرجوا؟
تحت القهر هم، في العجز هم، هكذا الشواهد تشهد عليهم. ثم يُكَابِرُون! ثم يُغَالِطُون!
والآياتُ مبثوثةٌ لهم في كلِّ شيء! {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}
كم يعتادُ في عددٍ من دول أوروبا في الوقت الأخير يعتادون مزارعَ معينة وزروع معينة في أوقات معينة.. تغيّرت الأوقات عليهم وما جاءت الزراعة تمام! لأنه مَن الذي يزرع؟ تكنولوجيا؟ التطور والتقدم حقهم؟ واحد من فوق..
واسمعوا.. سنوات وكثير من أراضيكم سترجع قاحلة.. لأنَّ ربَّ الأرض غيرُكم.. مطوِّرها ومسيِّرها غيركم، ولن تستطيعوا أن تُقَدِّمُوا ولا أن تُؤخِّروا، لا بأسلحة دمار شاملة ولا بطائرة دون طيار.. لا تقدرون تقدمون ولا تؤخرون في تسييرها الأرض كما شاء.. تسييره الأجواء كما شاء {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}
والذي أقدركم عليه أقدركم بحكمته وقدرته وإرادته ويستطيع نزعه في أيِّ ساعة، ويستطيع نزعه في أي ساعة.. جهلتم جهلتم.. جهلتم والجهل مصيبة! ما عرفتم ربكم!
{أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تُقَلِّبون أيديكم {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وماذا نفزازن غير هذا؟ في قدرتكم شيء؟ {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}
اللهم لك الحمد شكرا ولك المَنُّ فضلا..
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وكم كانوا أكثر منا قوة وأشد آثارًا فانتهَت قوتهم وآثارهم.. فسبحان القوي!
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}
يا ملحدا اغترَّ بشيءٍ، يا كافرا اغترَّ بأسلحةٍ وقلتَ إنك قوي وأنت أمام عيني لو طَنَّت أذنك لارتميتَ على الأرض، ولو آلمكَ بطنُك لارتميت على الأرض، ولو سُلِّطَت بعوضة على أنفك أو أذنك لتعبتَ وتَعِبَ مَن حواليك: هنا.. ثم بعد ذلك كله ستأتيك لحظةُ غرغرة وخروجُ روح من الجسد، ثم تُعَذَّبُ في القبر.. فقل لي لمن القوة؟ ثم إذا جاء البَعْثُ فواجهَك مالا تُطِيقُ.. قل لي لمن القوة؟
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ما أحد قوي غيره، وكل ما سُمِّي قوياًّ من مخلوقاته فنسبة إضافية محصورة حادثة تحت قوَّته وإرادته هو ينزعُها متى ما شاء؛ ولكن القوة الحقيقية له وحده.. {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} لمَن أدبر، لمَن أنكر، لمن كفَر، لمن تكبَّر، لمَن عاندَ، لمن جحدَ، لمن كذَّبَ الرسل، لمن طغَى، لمن صُبَّت النِّعَم عليه فقابلَها بالجحود وعصيانِ المنعم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
فلله الحمدُ على نعمةِ الإسلام..
ومع عيشنا في هذا الكون مع مَن يعيش مِن المؤمنين والكفار، وإنعام الله علينا بنعمةِ "لا إله إلا الله محمد رسول الله" -سائلين الله أن يُثَبِّتَنا عليها ويجعلَنا مِن خواصِّ أهلِ حقيقتِها.. يا الله.. -؛ فإننا نشكر المولى الذي اختصَّنا بها..
يُنَازِعوننا على القدوةِ الذي اختاره الله، ولا يستحيون على أنفسهم، يقولون تابعونا أو تابعوا صاحبنا الفلاني أو الفلاني في شيء يُخالِف أمرَ الخالق الذي خلَق ورسوله الذي اصطفاه بلا حياء! بقلِّ أدب! ويجدون فينا مَن يُصَفِّق ورءهم ويستجيب لهم!
تحرَّر أيُّها المؤمن فقد جاءك التَّطَهُّر والتَّنَوُّر والتحرُّر من خالق السماوات والأرض بوحيٍ أوحاه ورسولٍ أرسلَه واصطفاه! فلا تَستَبدِل بقدوة محمد أيَّ قدوة! فتهوِي في هُوَّة ما يرفعك منها أحد! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يا أهل الإسلام: لا يغرُّكم جميعُ مَا في هذا الحطام، وصَدْقٌ منكم مع الخالقِ القويِّ القديرِ المتين، وإقامة التبعيَّة لحبيبِه الأمين كفيلةٌ بأن ينصرَكم رَبُّ العرش ولو اجتمع عليكم مَن بين المشرق والمغرب، بجميع ما عندهم! وماذا عندهم إذا جاء ما عند الله!؟
ولمَّا أراد الله أن يرُدَّ طغيان فرعون وهامان وقارون كانت البداية إيحاء إلى يوحانذ أم موسى {أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} بهذا الإنقاذ؟ بهذا تتحول الأحوال؟ سبحان القوي! سبحان القادر!
وخوفا ممَّا وصل إليه أنَّ هلاكَه على يدِ ولدٍ يولد من بني إسرائيل.. ذبَّح أولاد.. عشرة عشرين؟ زِدْ، مائة مائتين؟ زِدْ، ألف ألفين؟ زِدْ، عشرين ألف زد، ذبَّح ذبَّح من الأطفال! لكن شوف قوَّته ذي يذبح يذبح ولا فيهم واحد الذي هلاكُه على يده! ولمَّا جاء الذي ينتهي مُلْكُه على يدِه قال الله اجعله في الدار عندك، ربُّه ودَعه يأكل، وأعطِ أمَّه أجرة!
مَن القوي؟ وذي القوة والذبح ذا كله ما هو؟ ذا قوة؟ ذا قوة في الخيال مثل الذي يرى القوة في هذا.. يرى القوة في هذا.. هو ذا هو خيال واحد.. خيال فرعوني واحد في كل زمان..
القلوب المتصلة بالله على ظهر الأرض هم أقوى الخلق. لِمَ؟ لمكانتهم عند القوي..
وبالقلوب المتصلة سيُعلِي اللهُ كلمتَه ويُذِل رقبةَ كلِّ طاغٍ شقِي -جلَّ جلاله-
وتربَّى سيدُنا موسى في قصرِ فرعون! ما هو كذا وحده.. أمه مشتاقة له، أحضِرها، ودعها تشمُّ ولدها.. اسمع: باترضّع ولدها وستأخذ منك أجرة.. أعطها، أنت الذي قتَّلت الآلاف.. هذا الذي على يدِه يزول مُلكُك، أكرِم أمَّه، وربُّه في قصرك ودعه ينشأ بين عينيك على رغم أنفك، ويجيء لك بعد ذلك وتنظر ما سنصنع بك!
القوة لواحد!
{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ * قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ} -اجعلنا من خَوَاصِّ من اتبع الهدى يا رب- {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ} وذا الكلمان الكثيرة هنا وهناك ؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ..} من أين جاءت هذه التهيئة كلها؟ من عنده {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}
فمَن الذي ينكر ومَن الذي يعترض على ذلك؟ قد خلقناكم منها! وتشوفون نحن نرجّعكم إليها! ومن الذي بايعترض ما نقدر نرجعكم تارة أخرى؟ نخرجكم ثاني مرة.. ما قد خرجناكم أول مرة؟! حفنة تراب كوَّنَّا منها اباكم آدم { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ}.. رجال كثير نساء كثير نردُّهم كلَّهم إلى التراب وننشِئهم مرةً أخرى!
لا إله إلا هو والمرجعُ إليه..
وعند النشأة الأخرى التَّقدِمَة لواحد اسمه "محمد"؛ أوَّل مَن تنشقُّ عنه الأرض، أول شافع، أول مشفَّع، أول مَن يجوزُ بأمَّته، أول داخل إلى الجنة، صاحب المقام المحمود..
ينازعوننا على اتِّباعه! يريدون أن نستبدلَهم به! مَن هم؟! مَن هم؟!
ما يُستبدَل بمحمد أحد -كائنا مَن كان- وهو أهل حضرة الله العليَّة من خواصِّ كُمَّلِهم وكبرائهم من أنبيائه إذا وُجدت ذاته كانوا في تبعيَّته (لو كان موسى حيَّا ما وسعه إلا اتباعي)
فلمن تُترَك تبعيَّةُ هذا المحبوب؟! لمن تُترَك تبعيَّة صاحب المقام المحمود؟!
أنت تركتها وأنت غافل! عادات في بيتك مخالفة لسُنَّته، موافقة لعادة أعدائه؟ كيف تتركها؟ تترك مَن مقابل مَن؟! لعبوا عليك بجوال؟! لعبوا عليك بمقال؟! بهذلوا ببناتك وأولادك جابوا لك الأزياء الخبيثة ومشيت فيها؟!
استبدلتَ مَن بمَن؟ وبعت تبعية مَن بتبعية مَن؟
اِعقِل! تحرَّر!
هذا الخطأ، هذا البعد! هذا الحجاب، هذه الغفلة، هذا العذاب! أن تَستَبدِلَ تبعيَّةَ زين الوجود بكافر بفاجر بشيطان يغرك يضرّك بشيء من أخلاقه، بشيء من أزيائه بشيء من مظاهره!
راح محمد؟! ولا ما عرف يعلّمنا اللباس؟ حتى الخراءة عاد اللباس.. علَّمنا كل شيء.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. كل شيء علَّمنا ولا محتاجين لأحد يصلِّح لنا موضات.. يا شرقي يا غربي شي عندك موضة؟ مقتدانا ما عرف مسكين؟ أستغفر الله العظيم! ما هذا المنطق!؟ ما هذا الفكر! ما هذا المقال؟!
علَّمنا ما يُصلِحُنا في لباسِنا، وفي طعامِنا، في شرابِنا، في بيعِنا، في شرائنا، في منامِنا، في قيامِنا، في زواجنا، في أخذِنا، في عطائنا، ما رضينا به قدوة؟ أمَا رضينا به أسوة؟!
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
ونِعمَ المُحَكَّم محمد، محكَّم بأمرِ الخالق الأحكَم جل جلاله وتعالى في علاه..
أحيا اللهُ سنَّتَه فينا..
يا رب اجعل شهر ميلاده هذا شهرَ إحياءٍ لسُنَّتِهِ في قلوبنا، وفي أجسادنِا، وفي ديارنا، وفي منازلنا، وفي أهلينا، وفي أولادِنا، وفي أصحابنا، وفي طلابنا، وفي إخوانِنا، وفي أسواقنا، وفي مساجدِنا، وفي معابدِنا، وفي معاهدنا، وفي ظاهرِنا، وفي باطننا، وفي أقوالنا، وفي أفعالنا، وفي مقاصدِنا، وفي نيَّاتِنا، وفي رفضِنا، وفي قبولنا، وفي أخذِنا، وفي عطائنا، وفي كُلِّ محبَّتِنا وكُلِّ بُغضِنا يا الله
وأتباعه هنا في تبعيَّته هناك، ولواء الحمد يجمع جميعَ أحبابِ الرحمن.. جميع أحباب الرحمن كلهم تحت لواء الحمد.. مَن يمسكه ذا لواء الحمد؟ نبيكم .. نبيكم
يا رب تحت لوائه، يا رب تحت لوائه، وجميع أهلينا وأصحابنا، لا تترك أحداً مِن أهل جمعِنا ولا من يسمعنا إلا جعلته مِن خيرةِ الواردِين إلى تحت اللواء، وإلى الحوضِ المورود، وإلى جناتِ الخلود يا بَرُّ يا ودود، يا الله.. يا الله .. يا الله
اقبلنا على ما فينا، وأقبِل بوجهِك الكريم علينا، وعامِلنا بلطفِك الجميل، وزِدنا مِن فضلِك ما أنت أهلُه يا أرحم الراحمين.
واستغفروه وتوبوا إليه عنكم وعن أهلكم وأولادكم ومَن في دياركم وعن الجنِّ والإنس والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في جميع الجهات، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.
يا توَّاب تُبْ علينا .. يا توَّاب تُبْ علينا
وارحمنا وانظر إلينا .. وارحمنا وانظر إلينا
16 ربيع الأول 1443