عنوان الإيمان وخطير شئون أشواق القلوب ارتفاعاً وانخفاضاً
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 1 ربيع الأول 1440هـ، بعنوان: عنوان الإيمان وخطير شئون أشواق القلوب ارتفاعاً وانخفاضاً.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الربّ الحيِّ القيومِ الذي لا يزولُ مُلكُه، ولا ينقطع فضلُهُ وجودُهُ، وبيدِه الأمرُ كلُّه والحكمُ له، وإليه تُرجَعون، لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويُميتُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، جمعَكم ووفَّقكم وأحضرَكم لِينظرَ إليكم وليُقَرِّبَكم، في استدامةٍ من مِنَنِهِ ببروزِ هذا المصطفى محمد، وبه جُعِلتُم خيرَ أمة، كنَّا على ظهرِ الأرض وحالُنا كما قال الربُّ وهو الأعلمُ الأحكم: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، فأُكرِمنا بإشراقِ هذا النورِ فصار الحالُ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فالحمدُ للهِ على بُرُوزِ هذا النور، قال سيدُنا العباس بن عبد المطلب مخاطبا له:
وأنتَ لَمَّا وُلِدتَ أشرَقَتِ الأرضُ ** وضَاءَت بنورك الأُفُقُ
ونحنُ في ذلك الضيَاءِ وذلك ** النُّورِ وسُبُلِ الرَّشَادِ نختَرِقُ
لك الحمدُ يا مَن أنعمتَ علينا فجعلتَنا مِن أمةِ حبيبِك، وجعلتَنا مِن أتباعِ أكرمِ الخلقِ عليكَ سيدِنا محمد، فصَلِّ يا ربَّنا عليه أفضل الصلوات، وسلِّم اللهمَّ منكَ عليه أفضلَ التسليماتِ عَنَّا، وتولَّنا به في الحِسِّ والمعنى، وصَلِّ معه على آلِه وأصحابِه وأهل حضرةِ اقترابِهِ من أحبابِه، ومَن سارَ في دربِه وتحقَّقَ بحُبِّه، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبِهِم وملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
ولك الحمدُ يا الله أنَّ على ظهر الأرض قلوباً يعودُ شوقُها وتوجُّهُها ورغبتُها إليك، مِن أبوابِك التي فتحتَها، وحبلِك الذي مددتَه؛ قرآنك ومَن أنزلت عليه القرآن، وما أكثر وأقامَ وأظهرَ وأبرز فينا القرآن ومَن أنزلت عليه القرآن مِن هُدَىً وبيان وإسلام وإيمانٍ وإحسان، ومِن ما يُثمِرُ ذلك من معرفةٍ خاصةٍ ومحبَّةٍ خالِصَةٍ، ونفحاتٍ منك تتوالى، وجودٍ منك لم يزَل هطَّالا.
لك الحمدُ يا وهَّاب، يا مُنزِلَ الكتاب، يا مُرسِلَ سيد الأحباب، يا ذا الجود السكَّاب، والغَيث المُنسَاب، يا جامعَنا في هذه الرحاب، وجامعَ قلوبٍ معنا في الشَّرق والغربِ مُحِبَّة مُقبِلَة مُنِيبة متشوِّقة عندها شوق، ما ربطها بالمجمَع وأهلِه ومن فيه مالٌ ولا رئاسةٌ ولا جاهٌ ولا دولةٌ من دُوَلِ أهل الأرض، ولا اتجاهٌ من اتجاهاتهم السياسية ولا الاقتصادية ولا غيرَها، لكنك بثَثتَ ذلك في القلوب مِن سِرِّ الإيمان بك والمحبة فيك ومِن أجلك، فلك الحمدُ أنَّ على ظهرِ الأرض قلوباً فيها شوقٌ مرجعها إليك.
بينما خذلتَ قلوباً كثيرة على ظهر الأرض تشتاقُ إما لمعاصي أو لألعابٍ أو لسُمعةٍ أو لمَظهَرٍ أو لِسُلطَةٍ أو لأموالٍ أو لغير ذلك، وكلُّ أشواقِها تلك تعود إلى عدوِّك، تعودُ إلى الانقطاع عنك، وتعودُ إلى الانحجاب منك، وتتمادى لأصحابها حتى يموتَ الواحدُ منهم وهو مقطوعٌ عنك بعيدٌ منك، فإلى أين يصير؟!، ما حاله في البرزخ؟!، وما حاله في يوم يُنفخ في الصور ؟!، وما حاله في يوم البعث والنشور؟!، وإلى أين يصير مَن بَعُدَ عن الحاكم في يومِ المصير، مَن بَعُدَ عن اللطيفِ الخبيرِ السميعِ البصيرِ العليمِ القديرِ العليّ الكبير " الله " ربُّنا وربكم وربُّ كلِّ شي جل جلاله ..
الذي ما أقام هذه الخيراتِ في الأمة لعباً ولا هزواً ولا سُدىً، ولا يحسب إنسانٌ أنه يُتركَ سدى، ولكن ليهديَ الله مَن يشاء وليرحم مَن يشاء وليتفضلَ على من يشاء، وليرفعَ عن قلوبِهم الغشاء، ولأن يثبِّتهم على خير مَسْلَكٍ وممشى، وإليه الأمرُ كلُّه (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) لا هادي لمن أضلَّ ولا مضلَّ لمن هدى، اللهم اهدنا بهُداك، اللهم اهدِنا في مَن هديتَ يا الله يا الله.
والقلوب التي بثثتَ فيها من نُورِ الإيمان واليقين ما جعلَتْ تشتاق إما لأسفارٍ مِن أجلك، أو لمجالسٍ تُعَقَد من أجلك، ومنها ما منعها شؤونُ هذه الحياة وأشغالها وما فيها .. نسألك أن تباركَ فيما بثثتَ في تلك القلوب، وأن تُشَفِّع كبارَها في صغارِها، وأن تُشَفِّع عظماءَها في أتباعِها، يا أرحمَ الراحمين، فيزدادون نورَ إيمانٍ ونورَ محبةٍ.
وهل افترق الإيمانُ عن المحبةِ أو المحبة عن الإيمان؟ لا، لكن العنوان الأبرز للإيمان: المحبة، ولا عنوانَ أدلُّ على الإيمانِ مِن حقيقة المحبة، ومِن صدقِ المحبة، فوالله ما كان قوةُ إيمانِ الصحابة بغيرِ المحبة .. لا، ثم لا، ثم لا، والله إن لهم أعمالاً صالحةً كثيرة ارتَقُوا بها درجاتٍ كبيرة، ولكن سِرّ قبولها المحبة، وأساسها المحبة، ومرجعها إلى المحبة، وهي من دون المحبة لا شيء.. ثم لا شيء.. ثم لا شيء.
وعِزَّةِ خالقِ الجنةِ لن يدخلَ الجنةَ إلا قلبٌ أحبَّ سيدَ أهل الجنة، إلا قلبٌ أحب محمداً، وإنَّ كلَّ قلبٍ مِن الجنِّ والإنس يبغضُ محمداً فلن يغنيه أن يعملَ ما عَمِل أو أن يقولَ ما قال أو أن يتحركَ فيما تحرك فيه، قال الله عن قومٍ لم يعرفوا قدرَه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ..)، قال الله أهل هذا الشأن لا أغفرً لهم، قال: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وما مظهرُ فسقِهم هذا؟ قال إعراضُهم عن حبيبي، قِلَّةُ أدبِهم مع نبيي، قل لنا يا رب؟ قال: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا)، فكرُهم إساءة أدب معك، وظنُّهم أنهم بأموالِهِم يُقَرِّبون أو يُبعِدُون (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ)، وقل لنا بمظاهر أحوالهم يا رب؟، قال سوء أدب مع حبيبي الأطيب: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
فاجعلنا اللهم من المؤمنين، الحاضرين والسامعين حقِّقنا وإياهم بحقائقِ الإيمان، ورقِّنا في مراقِي المحبةِ يا رحمن، الحاضرين والسامعين حقِّقنا وإياهم يا رحمن بحقائق الإيمان، ورَقِّنا في مراقي المحبة يا منَّان، يا قديمَ الإحسان يا الله ، بِحَقِّكَ عليك اجعلنا في أهلِ العزَّةِ بك وبرسولِك الذين لا ينحلُّ انقيادُهم ولا ارتباطُهم بهذا الجنابِ الأشرف في الدنيا والبرزخ والآخرة، يا الله، يا الله.. يا الله، بارِك في القلوبِ التي أحبَّت في الشرقِ والغرب، وما زال على ظهرِ الأرضِ في شرقِها وغربِها قلوبٌ متحابَّةً فيك، لك الحمدُ على ذلك، زِدهَا محبةً، زِدها إيماناً، زِدها قُربَة، زِدها توفيقاً، يا الله.. يا الله.. يا الله.
أنتم بِجَمعِكم مِن الإنسِ والجنِّ الحاضرين عددٌ مِن هذه الأمةِ قليل، لكنَّ هذا العددَ القليلَ مرتبطٌ بكلِّ قلبٍ يحملُ نورَ المحبة مِن أهلِ الشرقِ والغرب، مِن أهلِ عصرِنا الحاضر، وعائدٌ اتصاله إلى مَن مضى في الزمان الغابر، إلى أن تجتمع حقائقَ هذه المحبة بعنايةِ ربِّ الأرض والسماء إلى سيد أهل الأرض والسماء، فتُقبَلَ عند الرب الأعلى جل جلاله، اللهم اجعلنا متحابِّين فيك مجتمعين على ما يرضيك.
نحن وهذه الثُّلَّة في هذه البلدة، ولكن هذه العلائق العجيبة، الناس إن تحدَّثوا تحدَّثُوا عن علائقَ بين شركات وبين مؤسسات بين دول، لكن نحدِّثُكم عن علائق أقوى من كل ذلك، وأرفع من كل ذلك، وأوسع من كل ذلك، وأوثق من كل ذلك، وأجلّ مِن كلِّ ذلك وأجملِ مِن كل ذلك .. مَن صحَّ منكم في قلبه نورُ المحبة وصدقُ الوِداد للحقِّ ولرسولِهِ فهو موثوقٌ بهذه الحبالِ القويَّةِ الوثيقة والعروة الوُثقَى، التي يقول الله تبارك وتعالى عنها: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا)، وعزة القائل هذا الكلام ورب العالمين أنَّ ما سواها مُنفصم، أنَّ ما سواها منقطع، أنَّ ما سواها مُنحَلٌّ ومَنفَكٌّ وزائل، وهذه: (لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
اللهم اجعلنا مِن خواصِّ المؤمنين، وأخرِجنا مِن كلِّ ظلمة، في كُلِّ وقتٍ وفي كُلِّ مكانٍ وفي كُلِّ فعل وفي كل نية وفي كلِّ قصدٍ لنا، كل ما خالطَنا مِن ظلمات زَحزِحه عنا بنُورِك يا نورَ السماوات والأرض، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، يا إلهنا في الحاضرين وفي السامعين وفي أهلِ هذا الرباط مِن كلِّ مَن جَمَعَتْهُم القلوبُ على الوجهةِ إليك، يا إلهنا وسيدَنا مَن صَفَا وتمَّ نورُه وكَمُل وأشرق فهو يزداد منك نورا، فزِدهم وبارِك لنا فيهم وشفِّعهم فينا.
ومَن تتردَّد عليهم ظلماتٌ بعد ظلمات وقد أكرمتَه في معان كثيرات وفي أحوال متعددات فنسألك أن يَغلُبَ نورُك في كل تلك الظلمات، وأن تُخرِجنا وإياهم من ظلمات الوَهْم، وظلمات الجهل، وظلمات الغَفلة، وظلمات الظُّلم، وظلمات الكِبِر، وظلمات الجهل، وظلماتِ إيثارِ غيرِك، وظلماتِ تقديمِ أمرَ غيرِك على أمرِك، وظلمات محبةِ أحدٍ قبل نبيِّك محمد مِن خَلقِك ..أخرِجنا مِن كلِّ تلك الظلمات، ومما أحاط به علمك من الظلمات، يا منوِّرَ القلوب نوِّر هذه القلوب، واجعَلها مع هلالِ شهر ربيع الأول يَهِلُّ فيها هلالُ الصدق معك يا مَن عليه المُعوَّل، يا آخر يا أول، يا باطن يا ظاهر يا أكرم مَن تَفَضَّل، يا أجود من تَطَوَّل، يا حيُّ يا قيومُ يا ذا العطاءِ الأجزَل.. يا الله .. يا الله، يا الله اجعله شهرَ فرجٍ للمسلمين، وفتحٍ لأنوارِ الإيمان واليقين، وتثبيتٍ لقُلوبنا على محبتِك ومحبةِ حبيبِك الأمين.
يا رب، على ظهر الأرض قلوب قد خَلُصَت فلم يبقَ فيها شيءٌ أحب منك ومِن ورسولك، فبارِك لنا في تلك القلوب وألحِقنا بها، وحقِّقنا بحقائقِ أهلها، يا ربِّ في هذه الحياة، في هذه الليالي، في هذا الشهر، وفي هذه الليلة، وفي هذا المجلس.. اقضِ بقلوبٍ كثيرة بزحزحةِ جميعِ شؤونِ الظلم عنها حتى لا تبيتَ الليلةَ إلا وأنت ورسولُك أحب إليها مِن كلِّ ما سواكما.. يا ربنا يا الله .. يا ربنا يا الله.
وما يدرك أيها الحاضر وأيها السامع أن تكونَ ممن قَبِل فيهم الرحمنُ الدعوة، فتبيتَ على فُتُوَّة، متصلاً بنورِ النبوة، وتزداد بالإيمان قوة، ,تذهب عنك جميعُ الغفلات، وتَحِلُّ في رفيعِ الدرجات، ربَّنا تقبل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.. يا الله .. يا الله.
إنَّ القلوبَ التي أشَرنا إليها فيما بَثَّ الله فيها مِن نورِ الإيمانِ والمحبةِ والشوقِ إليه هي مراكزُ الأمن، وإلا لزُلزِلتِ الأرضِ مما يُعمَلُ فيها مِن الذنوب والمعاصي، وما يُعمَلُ فيها مِن أنواعِ الظلم والفساد على ظهر الأرض، ولكن بهذه القلوب يُصرَف سوء، وبهذه القلوب تُؤجَّل الأمة إلى أجلها المعدود ما دام هؤلاء فيهم (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، قال لو بُعِدوا مِن بين الناس وارتفعُوا عنهم، وبقي أهلُ الفسقِ والكفرِ وحدهم لنَزَل العذاب عليهم، لكن أُخِّرَ العذابُ حتى عن الكفار لأجل هؤلاء الأخيار، لأجل هؤلاء الأبرارِ والأطهار.
ولولاهمُ بينَ الأنَامِ لدُكدِكَت ** جبالٌ وأرضٌ لارتكابِ الخطيئةِ
بهم يدفعُ الله البلايا ويُكشِفُ ** الرزايا ويُسدي كلَّ خيرٍ ونعمةِ
يا ربّ بارِك لنا في هذه القلوب، واجعل كُلَّ قلبٍ مِن الحاضرين والسامعين يتوفَّر حظُّه مِن سِرِّ ذلك الشَّوق.
يا الله .. مَن كان قبل هذه الساعة في قلبِه أشواق إلى الخسائس.. إلى المهابِط.. إلى السُّفْلِيَّات، يا مُقَلِّب القلوبِ حوِّل قلبَه إلى أن يشتاقَ إلى قُربِك، أن يشتاقَ إلى رضوانِك، يشتاق إلى مرافقةِ حبيبِك.
ونِعْمَ ذلك الشوق، وإذا أُكرِمتَ به فقد هُيئتَ للارتفاع إلى فوق، ونِلْتَ أحلى الذوقِ الذي ما يمكن أن يُذاقَ لا بأطعمة وبلا بأشربة ولا بأنكحة ولا برئاسات على ظهر الأرض، ما يُذاق مثل هذه الحلاوة: أن تُكرمَ بحقيقةِ الشوقِ إلى ربِّك، إلى حبيبِه، إلى رضوانِه جل جلاله، إلى قُربِه سبحانه وتعالى، إلى قربه الذي ليس فيه مسافة حِسِّيَّة، أنت في محلك هنا حاضر وسامع وتَقرُب، قُرب عظيم ، اقعد محلّك من دون حركة جسد .. من دون مسافة حسية، وإذا بك قريب.
ومَن قَرُب منهم عِدُّه مِن الله قريب
جل جلاله وتعالى في علاه، وعلامته نشوةٌ بالشهرِ عند ذكرِ البدر، وعند ذكر ِأخبارِه وشهر ميلاده، قال أهل المعرفة بالله:
وافرح بِذَا الشهر لي قالوا لي الشهر هَلْ
ربيع الأول قد هَل الحمد لله
ربيع الأول ونعمك شهر ماله مَثَلْ
شهر السعادة وُلِد به خير عبد اتِّصَلْ
نهار مولده سمعوا في السماء له زَجَل
صلى الله عليه وصحبه وسلم
قد كان مولده والمَبْعَث بأرضِ البِطَاح
وساعة الوضع صار الليل مثل الصباح
والكون لبَّاه بالتشميت له حين صَاح
فإن طربنا فمَا في ذَا الطرب مِن جناح
***
مَعنَا بالفرح بالنبي عسى علينا يدوم
يا مرحبا شهر رحماته علينا عُمُوم
شهر العطايا الجزيلة والمِنَن والعلوم
وفِّر اللهم حظَّنا، وبعينِ عنايتِك لاحِظْنا، يا الله قرِّبنا في هذه الساعة، وشَفِّع فينا نبيَّ الشفاعة، يا حيُّ يا قيوم مِن عطاياك الجزيلة كم مِن بعيدٍ تردُّه قريباً، وكم مِن شقيٍّ تحوِّلُه سعيداً، لك الحمدُ يا الله.. لك الحمدُ يا الله .. لك الحمد يا الله.
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ)، وقد وعَدَنا على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم أن يُنادى الجمعُ لكل مَن صَحَّت وجهتُه إلى الرب { أن قوموا مغفوراً لكم قد بُدِّلت سيئاتُكم حسنات}، وقد ووُعدِنا أنهم "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، ووعدنا أن ينتشرَ الرحمةُ والخيرُ بهم وأنَّ قلوباً تخرج من الكفر فتتحول إلى الشوق والمحبة والإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم على الصفاء والمودة، والحمد لله.
وقد رأينا وسنرى قلوباً كانت تعيش في البُعد والكفر فآمنَت واشتاقت، ومنها مَن وَرَد إلى موطنِكم هذا، مِن أجل ماذا ؟ مَن منهم جاء لتجارة ؟ مَن منهم جاء للعَب؟ من منهم جاء للمَسخرة؟ من منهم جاء لرقص؟ .. من منهم جاء.. إلا للعلي الأعلى جل جلاله، وسترون.. والله يكرمنا بصدقِ الاقبال عليه، وشُكرِ هذه النعمة.
وضعَك في مثل ذي البلدة لا لتلهُو ولا لتغفل ولا لتلعب ولكن لتغتنم العمر، لتغتنم الوقت، لتغنم النعمة، لتَخْدُم خدمة بها تتشرف وبها تُكَرَّم وتُرفَع، خدمة شريعة، خدمة دين.. خدمة منهاج.. خدمة هدى.. خدمة استقامة.. خدمة نبوة ورسالة.. وخدمة خلافة نبوة ورسالة.. وخدمة قرآن كريم.. وخدمة صراط مستقيم، الله يوفِّقنا لهذه الخدمة، ويرزقنا القيام بحق هذه النعمة.
كما سبق لذلك الأنصار في العهد الأول؛ قاموا في البلدة ولمَّا جاء الحبيبُ إليها، وكان الإيمان يأرزُ إليها {إن الإيمان ليأرِزُ إلى المدينة كما تأرزُ الحيَّةُ إلى جُحرِها} صلى الله عليه وسلم، فقاموا وشهد الحقُّ لهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً..) فرحانين مِن داخل قلوبهم (..وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، فاجعلنا منهم (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ..)، مِن مشائخِنا وطبقاتِهم ومَن في طبقاتِهم، طبقة بعد طبقة، حلقة بعد حلقة في السلسلة سبقُونا بالإيمان (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا).
أصحابُ أهل هذا الشوق هم الذين يتنزَّهون عن هذا الغِل الذي يغلي في قلوب كثير، ويحمل الطوائفَ على هذا التقاتل وهذا التنازُع وهذا التخاصم، وردَّهم لُقَماً في أيدي عدوِّهم، في أفواه عدوِّهم، وسَلَّم حبالهم إلى أيادي عدوِّهم، يلعبون بهم كما شاؤوا، الله ينقذ الأمة، الله ينقذ الأمة.
الله يرينا في هذا الشهر ارتفاعَ الغُمَّة عن أهلِ الحديدة وجميع اليمن، وعن أهل الشام وعن أهل الشرق وعن أهل الغرب، يا كاشفَ كلِّ كرب، يا دافع كل خَطْب، لُعِب بهذه القلوب وضَرَبت بعضها ببعض، فارحمها بالقلوبِ التي أحبَّتكَ ولا تنطوي إلا على المحبةِ لك، ولا يزيدها سَبُّ مَن سَبَّ وافتراء من افترى إلا رحمة وشفقة، قلوب أخلصت لوجهِك الكريم، واشتاقَت أن تَرضى عنها، وأن ترافقَها بحبيبك؛ ولذلك استهانَت بكلَّ شيء تبذله في سبيلِ هذا المطلبِ الأعلى.
يا رب بهذه القلوب ارحمنا، وبأهلها أوصلنا، واجعلها ساعةً مِن ساعاتِ العطاء الذي لا حدَّ له ولا غاية، يا معطي يا تَفَضَّل وأكرِم ولا تُبطِي، وزِدنا من إفضالِك وجزيلِ نوالِك ما ندخلُ به مداخِلَ أهل وصالِك.. يا حيُّ يا قيوم.. يا رحمن يا رحيم.. يا الله.. يا الله، اجعله مِن أبركِ الربيعاتِ علينا وعلى المؤمنين، يا أرحمَ الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
خدعُوا منا رجالاً ونساءً كثيرا وصغار ساعة يصلِّحوا لهم ربيع عربي وساعة غربي وإلا يكون ما يكون، ربيعنا نبوي يا رب، ربيعنا نبوي فاربطنا بالنبي، وارحمنا بالنبي، وأضرار تلك الربيعات وشرورها ادفعها بخيرِ هذا الربيع، وببركة هذا الربيع، ووجاهة الشفيع، صاحب الجاهِ الوسيع، والمقام الرفيع، اسمَعنا به يا سميع.. وثبِّتنا على دربه، وارفعِ الخداعَ عن أمةِ محمد الذي تُخَادَع به مِن قِبَل إبليس وجنده في ظاهرهم وباطنهم.
وثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول، وثبتِّنا على الحقِّ فيما نفعل، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقد، اجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيُّك يا الله، يا الله نبيتُ على الشوقِ الصادقِ الخالص لقُربِك وحُبِّك، ولحبيبِك وصفوتِك، يا الله لا يَبِيت قلبٌ من قلوبنا إلا وأنت ورسولك أحب إليه مما سواكما .. آمين يا الله .. آمين يا الله .. واسقِ هذا الكأسَ قلوباً كثيرةً متوجِّهةً إليك في الشرقِ والغربِ يا أرحم الراحمين.. يا أرحم الراحمين.. يا أرحم الراحمين، اسقِ قلوبَنا وقلوبَهم وأرواحَنا وأرواحَهم مِن كأسِ محبَّتك الخالِصَة، والمعرفةِ الخاصَّة بك يا حيُّ يا قيومُ يا رحمنُ يا رحيمُ يا الله .. يا الله .. يا الله ..
الله الله يا الله لنا بالقبول.
01 ربيع الأول 1440