(228)
(574)
(536)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ التي ألقاها من الأردن عبر الزوم ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الجمعة 7 جمادى الأولى 1444هـ ، بعنوان : إرادة الله في المكلف من خلال اختياراته ونتائج ذلك في الدنيا والآخرة .
الحمد لله مولانا الكريم العظيم المنّان الفتّاح العليم، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل إلينا عبدهُ المُجتبى المختار، نور نور الأنوار وسرَّ الأسرار فجعلنا به خير أمة، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه الأئمة، ومن والاهم في الله وسار على نهجهم في كل شأنٍ وحالٍ ومُهِمّة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رقّاهُمُ الله في الفضل أعلى قِمّة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
واجتمعتم مُتَوجِّهين إليه سبحانه، مُقبلين عليه سبحانه، راجين له سبحانه، مؤمّلينَ ما عنده سبحانه، مُتذلّلينَ بين يديهِ سبحانه، فلهُ الحمدُ على ما جمعكم، وله الحمدُ على ما جعل من هذه الوِصلات بين القلوبِ والأرواح لأتباعِ زين الوجود محمد صلى الله عليه وسلم وثُلّة من أمته في المشارق والمغارب، نازل قلوبهم الإيمان ونور التّصديق بما بُعِث بِهِ سَيِّدِ الأكوان، فكان لذلك عظيم الأثر في وِجهَتهِم إلى الرحمن (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) يقول لنا ربنا جلَّ جلاله.
توجَّه حيث شِئتَ فأنت مِمّا ** له وُجِّهتَ فاختر للمليحِ
فاختر للمليحِ.. فإن أسرار إرادة الحقِّ جلَّ جلاله تُقرأ عناوينها في هذا الإنسان في هذا المُكلَّف مِمّا آتاه الله تعالى من إرادة واختيار، إن انصرفت إلى موافقةِ وحيِ اللهِ جلّ جلاله وقامت على ميزان تنزيله وبلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم في عنوان أن الله يريد هذا الإنسان، ويريد له الخير ويريد به الخير، وهي من أقوى العلامات على السعادة الكبرى.
وإذا توجَّهت رغبات هذا الانسان وهِمَّة هذا الإنسان واختيار هذا الانسان وإرادة هذا الإنسان، إلى مخالفة أمر الله ومخالفة رسوله وما بعثهُ به سبحانه وتعالى، قام العنوان على أنَّ هذا الإنسان مُتعرِّضٌ لأن يُراد به السّوء، وأن تكون عاقبتهُ عاقبةُ السّوء والعِياذ بالله تبارك وتعالى، وفي بيان الحقيقة يقول خير
الخليقة: "لا يؤمن أحدكم" أي يتحقّق بِحقائق الإيمان ويتم إيمانه، "حتى يكون هواهُ تبعاً لما جِئتُ به".
"هواه" : رغباته، ميولاته، إراداته، اختياراته.. فيما آتاه الله تعالى من اختيارٍ في هذه الحياة الدنيا، منطقة الإرادة هذه والاختيار التي أوتيناها بإرادتهِ سبحانه وتعالى، وتحت إرادتهِ سبحانه وتعالى، وتحت قدرتهِ سبحانه وتعالى، يشتغل عليها من يريد أن يقطع الناس عن ربهم، بل عدوّهم الأكبر ومن انقاد له من الإنس والجن، العدو الذي يقول عنه الجبّار الأعلى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
فوجدنا اجتهاده وتوسُّطه بِكُلِّ من انقادَ له واتّبعهُ يأتون إلى هذه المنطقة، اختيارات بني آدم، إرادات بني آدم، وِجهات بني آدم، فيما طاقوه أو فيما جعل الله لهم الاختيار فيه جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، يَصرفونها ويَحرِفونها بإثارةِ الشهوات والغرائز، بإثارةِ الأهوية، بإثارة شرّ النفوس، بهذه الوسائل التي اتّخذوها مدخلاً لهم لِينحرف هذا الإنسان، لِينصرِف عن منهج الرّحمن جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، ولبّسوها تلبيسات ودلّسوا تدليسات، وعملوا فيها أعمال فظيعات كثيرات، ولكن المكر والكيد هذا ينال من ينال ولا يزال في هذه الأمة من النِّساء والرجال من يأبى الإله الحق الذي ختم الإنباء والإرسال بباهي الجمال وبدر الكمال سيدنا محمد إلا أن يبقى في هذه الأمة من الرجال والنساء مَن يدركوا الحقيقة، ومن يُعصموا من شرِّ التلبيس والتدليس والكذب والزَّيغِ والضّلال، في دوائر قال عنها الحق عن أوائلنا فيها: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
اللهم اجعلنا من الراشدين وتفضَّل علينا وأنعِم يا مولانا يا كريم يا أرحم الراحمين.
وكانت هذه المِنّة مِن الله تبارك وتعالى التي تبرُز في إرسال الرُّسل من أول ما أوحى الله إلى آدم عليه السلام، وقال له: (فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَى * وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا).
وتتابع الأنبياء والمرسلون فكان أتباعهم هم المعصومونَ والمحفوظونَ أو الذين تناولتهم يدُ العِناية الربانية فخلصتهم مِن كذب عدوِّهم الذي يخيّل للناسِ ما ليس بِحقِّه، وابتدأ التخييلَ والتضليلَ بقوله لأبينا آدم وأمنا حواء: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) ولا خُلد ولا مُلك لا يبلى.. كذب في كذب الكلام من أوله كله ولكن هو هو، ركَّبَ عليه خِططَهُ الى الأمر الدّائر اليوم في واقع الأمة في الشرق والغرب، كذب ودجل لا حقيقة له، لا واقع له ولكن يُصِدِّقُهُ من يُصِدِّقُهُ والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ووصل الضُرّ الكثير إلى كثيرٍ من أبنائنا وبناتنا وإلى كثير من هذه العقليّاتِ التي لم تصطبغ قلوبُ أهلها بِصِبغة الصِّدق مع الله تبارك وتعالى، وأخذ العلم النافع على وجههِ من أهله بِسندهِ إلى الأصل والمصدر والمنبع الذي خُتِمَت به النُبوّات والرِّسالات سيدنا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم مُنقَِذ العالم ومُنقِذ البشريّة، ومن بِأيِّ عقلٍ وعنده ذرّةٌ من الإيمان بل من حقيقة العقل يُصدِّقُ أن المُكوِّن الخالق الذي كوَّن السماوات والأرض وخلق هذا الإنسان في الأرض ليقضي فيها مُدّة موقّتة مُعينة ثم يخرج منها، يغفل عن هداية هذا الإنسان وعن بيانُ ما يُصلِحُهُ ثم يُوكِل الأمر إلى الناس بعضهم البعض، هذا يقول مفكر وهذا يقول عبقري وهذا يقول مخترع.. ليرسموا للإنسانِ طريقةَ النجاة أو طريقة الفوز أو الصّلاحِ أو الخير، كيف يُصدّقوا هذا؟ وهم في حَدِّ ما يدَّعون ويزعُمون في دائرة الخلق مخلوقونَ مُحتاجون بهذه العقول التي يُفكِّرون بها، فانحرف استعمالهم لهذه العقول وانصرف عن الكاتالوج أو المنهج الذي رسمه له الخالق، لِيستفيد المخلوق من هذه الآلة المخلوقة أيضاً، مِن هذا الحِسِّ المخلوق له.
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): أي لعلكم تُحسِنون استعمال الأبصار والأفئدة، تُحسِنون استعمالها فَيؤدّيكم ذلك إلى معرفة الإله فتقومونَ بِواجب الطّاعة والانقياد له في الحياة والاستعداد للقاه فتشكرون، فيشكُرُ سَعيكُم سبحانه وتعالى، شكركم بذلُ مَيسور مقدورٍ عليه مُستطاعٍ لكم بِتوفيقه وبِفضلهِ وبِوهبهِ لكم الاستطاعة وبِوهبهِ لكم التوفيق، ولكن لما يفتح باب شكره هو لك أيّها المُقبل عليه أيّها المؤمن به فما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشر، وخلودٌ وأبد في أنواعِِ النّعيمِ والمنن الكبيرة الدائمة السرمديّة، ذلك شكرُ الحقِّ لك ووعده الصادق الذي لا يتخلّف.
ولا يزال الناس في هذه الدائرة الضيّقة دائرة الإرادات والرّغبات في الدنيا يُخدعون كثيراً، ويُمنَّونَ أنهم إذا عملوا ذا او قالوا ذا او انتهجوا هذا النّهج سيكون لهم وسيكون لهم مِن ملذّات ورغبات يقصدونها في هذه الحياة الدنيا، ثم نجِدُ بعد ذلك في واقعِ الحياة وواقعِ الأمة أنَّ الذين اتَّبعوا هذهِ اللّذات التي تُختبر بها، الوقتيّة الآنيّة المُنقضية الزّائلة لم يُحصِّلوا في الدنيا حقيقة لذّةَ الطمأنينة والسكينة والهدوء والاستقرار، ثم بعد ذلك في جميع ما يدَّعونَهُ سواءً في شؤون المال والاقتصاد الذين خالفوا شرع الله تبارك وتعالى في العالم بأي نظرة كانت وساد عندكم في القرن الذي مضى عليكم نظرة الرأسمالية والاشتراكية.. وماذا أنتجت للعالم إلى اليوم! والذين انتهجوا هذا المنهج وهذا المنهج يعتمدون على السّلب والنّهب بِصُورهُ المختلفة أو بِصُوَرهُ المُبطَّنة والمُلبّسة وعلى الحرب، ما اغتنوا في أنفسهم .. لكم في هذا المنهج عشرين سنة ثلاثين أربعين خمسين سنة فشل المنهج.. ما قام! وما هذه المكابرة؟ وما هذه العناد؟
في الجوانب الأخرى سواء جوانب الأمن، جوانب الإنسانية وحقوق الإنسان كما يُسمّونها نرى غاية التدهور القائم على الدعاوي الكبيرة التي لا حدَّ لِطولِها في أنّنا أدركنا وأنّنا سنقيم واننا سُنخطِّط وأننا وأننا.. ونقود البشرية إلى صلاحها وإلى فلاحها وإلى نجاحها، أسمعُ جعجعةً ولا أرى طحناً، ما شيئ طحن شيء هناك صحيح، طيب الجعجعة.. قرن، قرنين، ثلاثة قرون إلى متى؟ وكيف يقوم الأمر على هذا؟ والأمر أيضاً محسوس ومشاهد، يبطُل هذا الفكر ثم يجيء ثاني.. ويبطل الفكر ويجيء ثاني ويبطل، وتجارب في تجارب في تجارب في إصرار على مُعاندةِ منهج الذي خلق، والإصغاء لمن اصطفاهم الخالق جلَّ جلاله بِالنبوَّة والرِّسالة ثم بِالتّبعِيّة للأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم وخروج عن ذلك السبيل، وهو الأمر الذي أشارَ إليه الحق تبارك وتعالى في كتابه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا)
(فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ)، بِبَريقِ المال والزّخرفة وشيء مِن مظاهرِ البنين أو القوة العسكرية وما إلى ذلك، يخدعك ويكذب عليك وواقعك وواقعه أليم، بعيد عن حقائق السعادة، بعيد عن حقائق الخير.
(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) وبهذا الغرور بالمال أو البنين، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا): آيات الذي خلقه وكوَّنهُ، (قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) وفي أفراد من أوائلهم قال الله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) هذا الذي تبنّى هذه المُكابرة والرَّدَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرّت السنوات والذي نزلت فيه الآية ضُرِبَ على خرطومه وعلى أنفه في بدرٍ وقُتِل، وتحديدُ ضربة قبل سنوات في موقع الضرب.. المُتضاربون يصعب عليهم تحديد أين يضع الضربة مع من يُصارعه ربما لَواهُ كذا او كذا لكن من قبل السنين قال ضربة في هذا المكان ستأتيك، وجاءته كما هي وكم حصل مِن هذه الأمثال في حياة صاحب الأنبياء والإرسال صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله النبيِّ الخاتم.
ثم بعد ذلك يُراد أن يُزعزع كمال التّصديق به! كمال الثقة في ما قال، ولا نعلم قرناً من القرون منذ بُعِثَ الأمين المأمون نال أحد من البشرية في أفرادهم وآحادهم أو في جماعاتهم حقائقَ فوزٍ وسعادة في الدنيا قبل الآخرة تُنبئ عن أنّ المستقبل بعد ذلك خيرٌ وأطيب إلا الذين استجابوا، الذينَ استجابوا لِنِداء الله ولرسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله ومضوا على أن يكون الهوى تبعاً لما جاء به هذا المصطفى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، حينئذٍ يرتفعون عن التبعِيّة للأدعياء وللكاذبين والمُمَوِّهين للحقائق، كما يرتفعونَ عن سوءِ الفهم في معاني النصوص ووحيِ المَلك جلّ جلاله إلى رسولهِ المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعاني ما بلّغ المصطفى عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ يستقيمون على ذلك المنهج الوسط المُعتدل الشامل البعيد غَورُه العظيم طورُه، القائم على الأُسُس الثّوابِت لا تتغيّر على مدى الأزمان لِقّوتها، وسِرّ قوَّتها أن الذي أقامها وأسّسها الخالق الذي لا يكون شيء إلا ما أوجده هو وما خلقه هو وما أراده به وما أراده هو جل جلاله، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
لما كان هذا مصدرها اكتسبت قوة لا يمكن أن تأتي في شيء مما يسمى بالنظريات العلمية ولا غيرها ولا بشيءٍ مما يصلُ إليه فِكر البشر، قوّة وثبات في أنه لا يُصلِحُ البشر إلا منهج ربِّ البشر فيما بطن وفيما ظهر على ممرِّ العصور والأزمان إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها، وكلُّ ما خرج عن مِنهاجهِ فحقيقتهُ كما حكم: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ولن يستطيع أحدٌ أن يخرج عن هذا النِّطاق، كما لا يستطيع أحد أن يخرجَ عن كونهِ تحت السماء وعلى ظهر الأرض ويعود إلى بطن الأرض مهما تقدم الإنسان، مهما تطور الإنسان لا يستطيع أن يخرجَ عن هذا أصلاً (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).
فيا أيها المقهورون تحت هذا الحكم، مَن حكم به عليكم؟ ولِمَ في تقدُّمِكُم وتطوّركم ما تتجاوزون هذا الحكم! قائم على البشرية من أيام آدم إلى اليوم، هذا قديم جداً.. هذا أمر كان في العصور السابقة والأمر قائم كما هو لا يستطيع أحد أن يتخلَّفَ عنه ولا أن يخرج عنه، جلَّ الحيُّ القيوم الذي لا يموت، والذي قهر عباده بالموت جلّ جلاله وتعالى في علاه، وأوجدهم على هذه الكيفية والهيئة.
ومنه ما تحدّثَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن إرادة الحقِّ في كيفيّة خلق هذا الإنسان وتكوين جسده في بطون الأمهات، فبالله مع هذا التقدُّم عند الإنسان يتغير هذا الأسلوب؟ تتغير هذه المراحل والحيثيّات؟ بل ولما تحدث عنها قبل أن يأتي في عالم الحسِّ اكتشافُ شيءٍ من الأجِنّة وكيفيّة تكوينها، فتحدث عنها ثم حدّدَ لها مع هذه الأطوار لكلِّ طَور وقته وزمانه "إن أحدكم يُجمَع خلقهُ في بطنِ أمه أربعين يوماً نُطفة ثم يكون علقة ثم يكون مُضغةً مثل ذلك، ثم ذكر الحق في قرآنه، ثم يجعلهُ عِظام فيكسوا العِظام لحم بعد المُضغة (فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا) من أنبأ محمداً أولاً؟ ثم كيف ثبت هذا الأمر على مدى القرون؟ وأنت المُتطاول على النبي محمد وما جاء به عن الله.. مررت بالمراحل التي تحدثوا عنها أو معك طريق آخر أو معك ترتيب آخر؟! وهل أمك التي حملت بك مرت بما تحدث عنه قبل خلقك وكذا كذا وقبل اكتشاف البشرية لهذا الأمر بمئات السنين؟ أما يكفيك هذا أن يقودك؟
إن أحسنتَ استعمال العقل والسمع والبصر أنّ وراء عقلِك هذا بِدلالة عقلك هذا ما يُلزمك أن تُسَلِّم الزّمان وتنطرِح لهادٍ لك من قبل مُكوِّنِكَ وخالِقك جل جلاله وتعالى في علاه، وهو القائل لنا فيما ينساق فيه أكثر الناس على ظهر الأرض: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) والسبب أن الذين يعيشون وإن سُمِّي عبقرياً وإن سُمِّي مُفكّراً وإن سُمِّي مُخترعاً حقيقته: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وفي هذا الخرس والظن كم لُعِب على العقول، وكم انصرف الناسُ عن حقيقة المعقول، وهكذا شأن من لم يعرف قدر المُكوِّن الخالق الذي خلقه، ولم يعرف واجبه نحوَ هذا الإله ولا استعداده للقائه جل جلاله وتعالى في علاه.
الحمد لله الذي جمعكم على هذه الخيرات، نَوَّر الله قلوبكم وأخذ بأيديكم، وأحبابنا في دار المصطفى بتريم بحضرموت ويتابعهم الكثير في شرق الأرض وغربها، ومَوعود رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضورِ الملائكة لهذهِ المجالس كما سمعتم، وشؤونُ الأرواح الطاهرات وهذه العلائق التي سمعِتم الإشارة عنها في المُتحابِّين في الله من بلاد شتّاً وقبائل شتاً يجتمعون على ذكر الله فيذكرونه، وأعظم ذكره ما جمعك عليه، وأعظم ذكره ما حملك على الأدب معه، وأعظم ذكره ما عرّفكَ العبودِيّة له سبحانه وتعالى، وهو الموصِل إلى عجائب من هذا الذكر لا حدَّ لها ولا حصر في حقيقةِ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ).
وما ينازلك إذا ذكرك هذا الرحمن جل جلاله! وما نتيجة ذكره! أنتَ في عالم الحِس تحِس أنكَ لو استحضرتَ كمال مخلوقٍ مثلك ثم سمعت أنهُ ذكرك، إما يوم أو يومين أو أسبوع تظل نشوان فرحان بِذكر ذلك لِما تعتقد في قلبك من عظمته، قل لي بالله عليك إذا ذكرك ربُّ العرش سبحانه وتعالى، وإذا ذكرك برحمته، وإذا ذكرك بالرحمة في دوائرِ خواصِّ مَن رَحِمهم وخواصِّ من عظّمهم، ما يكون الحال إذا نعرِفُ ما نشر الله في الأمة من سرِّ مجالس الذكرِ وسرِّ الاتصال بأرباب السند، وصلحاء أهل كُل قَطر وأهل كُل بلدٍ في كل زمان، وما تجتمع القلوب في وِجهتها إلى الواحد الأحد كحالِ المسلمين في صلواتهم في الشرق والغرب يستقبلونَ قِبلة واحدة، كذلك أرواحهم وقلوبهم تتَّجِه في وِجهة واحدة إلى الحقِّ الواحد الحيِّ القيوم جل جلاله وتعالى في علاه، ويُثبِت الإيمان على قدرِ قوَّته في قلبِ كُلِّ واحد منهم وَحدة المؤمنين الذين مَثَلُهُم كالجسد الواحد كما أخبر صلى الله عليه وعليه وآله وصحبه وسلم.
وأمامكم في هذه المجالس مُهِمات تستجلوا حقيقة اتّصال بالمعاني الشريفة التي تجعل كل فردٍ منكم مفتاحاً للخير مِغلاقاً للشر، عُنصراً من عناصر تجديد دين الله في نفسه وفي أسرته وفي ما حواليه.
الحمد لله الذي جمعكم على هذه الخيرات، وِجهتنا إليه أن يقبلنا، وِجهتنا إليه أن ينظر إلينا، وِجهتنا إليه أن يُفرِّج كروب أمة حبيبه محمد، وأن يجمع شملهم وأن يؤلِّف ذات بينهم، ويحيي فيهم العلوم النافعات والأعمال الصالحات والوِجهات الصادقات، وأن لا يجعل لنا هماً إلا في تبعية حبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولا يجعل لنا سبحانه وتعالى هوىً إلا في تبعيّة يا حبيبه المصطفى محمد، اللهم اجعل هوانا تبعاً لما جاء به، وحَقِّقنا بِحقائق محبّتك ومحبّته، وبارِك لنا يا ربنا في اجتماعاتنا ولِقاءاتنا وتواصلاتنا، وَعجِّل بِتفريج كروب الأمة في مشارق الأرض ومغاربها.
مددنا إليك الأيدي وأنت سامع الدعاء ومُلبِّي النداء، الحيِّ القيّوم الواحد الأحد الفرد الصمد، تُعطي ولا تبالي، قرِّبنا إليك زُلفى واجعلنا في أهل الصِّدق والوفاء.
اللهم اجعلها ساعة إجابة واجعل الدعوات مستجابة، يا رب بارِك للأمة في عامهم هذا وما مرَّ من الأشهر وما يستقبلهم من بقية أشهره، واجعل اللهم لهم آثار قبول منك تظهر عليهم في حُسن تلبيتهم لندائك، واستجابتهم لدعائك، واتباعهم لخاتم أنبيائك، اللهم أحيِ فينا توقير أصفيائكَ مِن أجلك، حتى لا تتولانا الأهواء فنسقط في ورطاتِ مُوالاة عدوك.
اللهم هذا الدُّعاء ومنك الإجابة وهذا الجُهد وعليك التكلان، فكن لنا بما أنت أهله يا رحمن، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، صل وسلم على عبدك الأمين سيدنا محمد وآله وصحبه من سار في دربه والحمد لله رب العالمين.
06 جمادى الآخر 1444