(535)
(363)
(339)
(604)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 30 محرم 1447هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
عظمة التنزيل والإرسال ومكانة ما يكتسبه المكلفون على ظهر الأرض وخطر نتائجه
الحمد لله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، بيده ملكوت كل شيء وهو جامع الأولين والآخرين في يوم الدِّين، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6]، (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) [الإنفطار:19]، (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) [النازعات:37-41].
اجعل مأوانا الجنة يا خالق الجنة، يا ربَّ الجنة والنار، يا ربَّ السماء والأرض، يا ربَّ الدنيا والآخرة: لا تكلنا إلى غيرك ولا ترمِ بنا إلى سواك، وتولَّنا بما أنت أهله، وارزقنا رضوانك الأكبر، ومَنَّك الأغمر، وجودك الأوفر، واغفر لنا يا خير مَن غفَر.
جمعتنا ثُلَّةٍ من أمة حبيبك المحبوب محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأنت الذي أحصيت كل شيء عددًا، وجعلت لِمَا يجري على ظهر هذه الأرض من قِبَل المكلفين خاصة وخصوصًا من الإنس والجن؛ على ما يجري منهم على ظهر هذه الأرض: من اعتقادات، ومن مقاصد ونيات، ومن وجهات، ومن إرادات، ومن أقوال، ونظرات، ومسموعات، وحركات، وسكنات، ومعاملات؛ جعلتَ لذلك الخبر الأكبر، والخطر الأعظم، والشأن الأفخم؛ عليه رُتِّبت درجات الجنة ودركات النار.
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص:27]. أهل الأعمال المُردِيَة الذين يعيشون على ظهر الأرض.. هذا ظنهم وهذا اعتقادهم، وفي القيامة يُقال: (وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ۖ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت:23-24]، (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص:27].
ولمَّا ظنوا أنه باطل توهَّموا وتخيَّلوا: أنهم الأرباب، وأنهم الذين بيدهم الأمر، وأنهم الأرفع على ظهر هذه الأرض، وأنهم المُقَدِّمون والمؤخِّرون، وأنهم وأنهم وأنهم…، إلى غير ذلك من أوهام وظنون تنتهي إلى خساسة أنَّ المقصود: إشباع رغبات الجنس والطعام والشراب وما إلى ذلك! وبعضهم يرتقى إلى الشهرة بين الناس، وينتهوا هنا (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) [النجم:30]. ظن باطل، واعتقاد خاطئ باطل، يوردهم موارد الهَلَكَة الأبدية، بعد أنباء جاءت من رب الأرض والسماء بَعَثَ بها الأنبياء!
فالموجودون على ظهر الأرض من المؤمنين بالله ورسوله -وفيهم مَن يعلَم عظمة هذا الأمر- وأكثرهم لا يدركون عظمة هذا الدين، ولا هذه الصلة بالقوي المتين، ولا الرابطة بسيد المرسلين.. وهم من المسلمين!
ولكن الذين لم يشعروا والذين شعروا؛ كلهم دون الإحاطة بهذه العظمة!.
الأمر أكبر! الأمر أعظم! وحيٌ وتنزيل، وإرسال رسل، ودين وهدى؛ يترتب عليه شؤون كبرى! ما هو في مجرد شرق الأرض وغربها؛ أخبار ونبأ عند سدرة المنتهى، وعند العرش، وفي السماوات العُلا؛ لِمَا يجري ويدور.
كُلُّ خير يُذكَر هناك، وكلُّ أمرٍ وشأن يُعظَّم هناك، فمن نتائج نيات ومقاصد وأعمال قوم على ظهر الأرض من أمة محمد، اتصلوا بالله، وعظَّموه وكبَّروه، واتصلوا بمحمد وأجلّوه: (لِيؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفتح:9]. أولئك الذين شؤونهم..! لا تحسب أنها تصل إلى حضِيض أمم متحدة، ولا شرق الأرض وغربها، ولا دول صغرى وكبرى، ولا صناعات تدور بيننا، والله الأمر أكبر! والله الأمر أجل وأعظم! يُذكَرون في العالم الأعلى بالذكر الجميل، في حضرة الملك الجليل، ومن أهل حضرته من الملائكة والنبيين والمقربين.
مَن به شُرِّفتم، وبأسرار رسالته اجتمعتم، وبسِرِّ عناية الله به اِمتَدَّ هذا الخير حتى وصلَنا، ودامت لنا حبال الاتصال بأسانيدِ الأكابر عن الأكابر إلى الحبيب الطاهر، ذي النور الباهر، والوجه الزاهر، سيِّد الوجود، حبيب الملك المعبود، صاحب المقام المحمود.
هذه الشؤون الكبرى! هذه الشؤون العظمى! ليس في خزائن ملوك الأرض شيء يَقرُب منها ولا يُدانيها، يظفر بها المؤمنون. فالمؤمنون على ظهر الأرض قليل من يُدرِك ما يستطيع، أو نصيبه، من عظمة هذا الإله؛ مترجمة بعظمة وحيه وتنزيله، وعظمة مصطفاه، وعظمة ما بلَّغ المصطفى، وما هدى، وما أرشد، وما دل، وما أمر، وما نهى،
نبينا الآمر الناهي فلا أحد ** أبَرَّ في قول لا منه ولا نِعَمِ
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ** لكل هولٍ من الأهوال مُقتَحَمِ
فَاقَ النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ** ولم يُدانُوهُ في عِلْمٍ ولا كَرَمِ
وكلهم من رسول الله مُلتَمِسٌ ** غَرْفًا من البحر أو رَشْفًا من الدِّيَمِ
وواقفون لديه عند حَدِّهِمِ ** من نقطة العلم أو من شَكْلَةِ الحِكَمِ
نتحدَّث معكم عن عظيم المكانة والقدر الدائم السرمدي! لا عمَّا يُتوَهَّم أنه عظمة أو شيء جليل؛ وعاقبته في الدنيا غصصٌ ونَغَصٌ، وفي الآخرة عذاب شديد وهَوْنٌ!، ويقال لأصحابه: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام:93].
فوالله ما العِزُّ إلا هنا، وما العِزُّ إلا مع العزيز الأعلى (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10]. تطلبها من غيره تزداد ذُلًّا، وإن توهمت وتخيَّلت أيَّ توهم آخر، أنت الذليل -والعياذ بالله- في الحياة ويوم الموافاة (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:60-61]، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم.
يا رب: رفعتَ قدر المتقين وإنَّا نحبهم، وقد خبَّطنا وخلَّطنا؛ باقي أعمارنا اجعلها في التقوى حتى نلحق بهم يا رب، باقي أعمارنا اجعل عيوننا تقيَّة لا تعصيك، وآذاننا تقيَّة لا تعصيك، وبطوننا تقيَّة لا تعصيك، وفروجنا تقيَّة لا تعصيك، وأيدينا تقيَّة لا تعصيك، وأرجلنا تقيَّة لا تعصيك، واجعل قلوبنا تقيَّة لا تعصيك.. يا الله.. يا الله!
العز كل العز لأهل التقى، ما سوى التقوى ففانٍ! أعزَّهم العزيز -جلَّ جلاله- (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]. فهم يجهلون هذه الحقيقة، وجهلهم لا يُغَيِّر من الحقيقة شيئًا، يغترّون إلى أن يشبعوا، ويتوهمون إلى أن يشبعوا، ويبطرون إلى أن يشبعوا، ويستكبرون إلى أن يشبعوا، والحقيقة هي الحقيقة، هم الأذلة، هم الأخساء، هم الخاسرون، هم النادمون، هم الساقطون -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، كُلُّ مَن مات منهم على المعاندة للجبار الأعلى بعدما بلغته الدعوة -يكون من كان-، ولو كان ملَك الأرض من طرفها إلى طرفها؛ صار كل ما ملكه هونًا في هونٍ وذلًّا في ذُلٍّ عليه (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:50]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، أجارنا الله من هذا الخزي!
هذه الحقيقة وحدها (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) [الفرقان:27]. الرسول مَن؟ الرسول مَن؟ مَن أراد الله بهذا اللقب والاسم و"ال" التعريف؟ (الرَّسُولِ) مَن هو؟ اسمه محمد، اسمه أحمد، اسمه طه، اسمه يس، اسمه السراج المنير، اسمه البشير النذير، اسمه سيد المرسلين، خاتم النبيين.
تشرَّف به، وبالانتماء إليه، واشرب كؤوس الاتصال به في المحاضر التي بسِرِّ وجاهته عند الله عُقِدَت، مِنَّةً من الرحمن على أُمَّتِه تفضَّل بها -سبحانه وتعالى-. خذ نصيبك منها، واشرب من هذه الكؤوس التي الشُّرب منها يُورِثُ العز الأكبر الأدومَ الأبقى!
وعلى نفسه فليبكِ من ضاع عمره ** وليس له منها نصيبٌ ولا سَهْمُ
عظِّموا الله! ومَن عظَّم الله عظَّم إرساله، وعظَّم تنزيله، وعظَّم رسوله، وعظَّم ما أرشد إليه هذا الرسول، فلم يُقَدِّم عليه أوهامًا ولا خيالات.. هيئات، ولا جماعات، ولا دول، ولا شيء مما يفنى ويَبِيد! ويسوء مصيره! وتسوء عاقبته ويُخزَى أصحابه!
جَلَّ الله!
طيَّبنا الله به، وطيَّب به عقولنا، طيَّب به نفوسنا، طيَّب الله به وجهاتنا ونياتنا، طيَّب الله به مجامعنا، طيَّب الله به تعاوننا على الخير والبر والتقوى.. اللهم آمين، اللهم آمين.
هذا الطَّيِّب، والباقي الذي كانوا يرقصون له: خبيث في خبيث في خبيث (..لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأنفال:35-37]، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا..) كل مَن انتهى وكل مَن رجع؛ لأنها دعوة الأنبياء وسيدهم، رحمة في رحمة، ونعمة في نعمة، ولطف ورفق بعباد الله تعالى (..فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال:39-40].
فالحمد لله الطَّيِّب على ما آتانا من الطيبات، وأمرنا بفعل الطيبات، وقول الطيبات، وأمرنا بأكل الطيبات، ونهانا عن الخبيث،
وجعل رحمته للمستجيبين لهذا النداء، يقول -جلَّ جلاله-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا..) مَن تعطيها هذه الرحمة يا رب؟ مَن صنعوا أجهزة تعطيهم هذه الرحمة؟ من صنعوا طائرة بلا طيار تعطيهم هذه الرحمة؟ من كان رئيسًا في دولة عظمى تعطيه هذه الرحمة؟
(..ۚفَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ..) الذين قيادتهم إلى عند محمد، ومرجعيّتهم إلى عند محمد (..الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..) فما حُكمك يا ربِّ وأنت تكتب الرحمة لهؤلاء؟ (..ۚفَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:156-157].
مَن يُعَقِّب على حُكمِ الله؟ مَن يَقدِر أن يَنقُض حكم الله؟ هؤلاء وحدهم الفائزون.
يا ربَّ العالمين، يا مُنزِل القرآن: اجعلنا ومن في الجمع ومن يسمعنا ومن والانا؛ من الذين آمنوا به، وعزَّروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه، واجعل أهلينا كذلك، اجعل أبناءنا وبناتنا كذلك، واجعل قراباتنا كذلك، واجعل جيراننا كذلك، واجعل طُلَّابنا كذلك، واجعل أصحابنا كذلك، واجعل من والانا فيك كذلك؛ من الذين آمنوا به، وعزَّرُوُهُ، ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لهم الفوز الأبدي الدائم.
قال الله لحبيبه: نادِهم وقل لهم، قل لهم هذا الكلام ما هو فكر بشر ولا تجربة ولا كلام مُطلَق من هنا أو من هناك، هذا مصدره فوق.. قُلْ، قْلْ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف:159].
فالهداية كلها في: اتباع عَبْدٍ محبوبٍ عند الخَلَّاق، اسمه محمد، عظيم الأخلاق. ارتبط به! ارتبط به! حبله ممدود؛ لترتبط؛ فتَغْتَبِط بفائض جُودٍ من الحيِّ القيوم: لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلبِ بشر.
لا تُضيّع هذا! مقابل ماذا تضيّع هذا؟ مقابل ماذا؟! لا والله، ما شيء يُعَوِّضك من شرق الأرض إلى غربها، ومن حين ما خُلقت إلى يوم النفخ في الصور.. ما شيء يعوضك عن هذا الارتباط بالهادي إلى سواء الصراط!
ارتبط به، واربط به أهلك وأولادك باتباعه، وأحيي سُننه في دياركم، غُرَفَكم وديارَكم مَرْتعًا للعمل بوحيه، ولإقامة سُنَنِهِ، ولتطبيق شريعته، لا تفتحوها لأعدائه! يلعبون عليكم فيما يبثون من برامج وفيما يبثُّون لكم من صور، وفيما يدعونكم إليه من مخالفات للشرع! أنت مؤمن وتفتح بيتك لأعداء ربك وأعداء حبيبه؟! اُعمُرْ قلبك واُعمُرْ بيتك! بنور محمد، بهديه، بسننه، بتطبيق شريعته، بذكر الإله الذي دلَّك عليه وهداك إليه!
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45-55]. نوِّرْ بنور هذا السراج قلوبنا كلها، يا الله.. يا الله: اجعل لنا من بين أيدينا نورًا، ومن خلفنا نورًا، وعن أيماننا نورًا، وعن شمائلنا نورًا، ومن فوقنا نورًا، ومن تحتنا نورًا، واجعل في قلوبنا نورًا، واجعل في قبورنا نورًا، واجعل في لحومنا نورًا، وفي دمائنا نورًا، وفي عظامنا نورًا، وفي شعورنا نورًا، وفي شعرنا نورًا، وفي أعصابنا نورًا. اللهم زِدْنَا نورًا، وأعطنا نورًا، واجعل لنا نورًا، واجعلنا نورًا نفوز بالمرافقة لحبيبك (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) [التحريم:8].
شفت اليوم الذي أُنذِرْنا فيه بهَوْلِ أمره وفظاعة ما فيه؟ قال هذا أنا ما أُخزيه يومها، بغيت النجاة؟ تمسَّك هنا! (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1]، هذاك اليوم (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ..) قال كل الأهوال والشدائد بعيدة، شوفوا هنا محل الأمان: (..يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ..)، وجاب كلمة لذيذة.. من ثلاثة أحرف لكن لها طعم، لكن لها ذوق: (مَعَهُ).. (مَعَهُ)، اجعلنا معه يا رب! (..وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
ونحن نقول قولهم عسى نُحشَر معهم، قولوا جميعًا:
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،
وأحيِي إدراك عظمة وحيك وتنزيلك ورسولك في قلوبنا وقلوب من آمن به في شرق الأرض وغربها، من الإنس والجن؛ حتى لا نُخدَع بالنفوس ولا بشياطين الإنس والجن، يا حيُّ يا قيُّوم، ولا نستبدل بسُنَّتِه شيئًا آخر، ولا بملته مِلَّةً أخرى، ولا بهديه هديًا آخر، واجعلنا من الذين (آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، اجعلنا من المفلحين يا رب..
يا رب.. يا رب، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين، يا ذا القوة المتين، يا أول الأولين، يا آخر الآخرين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين: اجمعنا في زمرة حبيبك الأمين، وارزقنا مرافقته في دار الكرامة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب.
يا ربَّ الأرباب، يا كريم يا وهَّاب، يا الله.. يا الله.. يا الله: لا تُعَرِّض أحدًا مِنَّا أن يُخزَى في ذاك اليوم، ولا يفعل فِعلًا يُخزَى به، ولا يقول قولًا يُخزَى به، ولا يسعى مسعى يُخزَى به. يا الله: اجعلنا من أهل الطيبات، ومن الطيبين والطيبات، ومن آكلي الطيبات، ومن قائلي الطيبات، ومن فاعلي الطيِّبات، واحشرنا مع أطيب الطيبين من خلقك أجمعين.
يا مولانا الطَّيِّب، يا مولانا الطَّيِّب: وأنت طِيبتُك لا يُطيِقُ الملائكة ولا من دونهم استيعاب معناها في عظمته والإحاطة به! ولكن كلٌّ يَعلَمُ منها ما به يَسْعَد عندك، فلك الحمد. وفِّر حظَّنا من هذه السعادات، واجعلنا من أهل الحسنى والزيادات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات.
يا الله: ندعوك ونرجوك، ويوم لقاك نسألك ألا تُخزِيَ أحدًا مِنَّا، وأن تسامحنا وتعفو عنَّا، وأن تُكرِمَ وقوفنا بين يديك، وترحمنا ساعة العرض عليك، فيُنَادِي المنادي على كُلٍّ مِنَّا بفضلك: لقد سَعِدَ فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا. نسألك ذلك، نسألك ذلك، نسألك ذلك، يا مَلِك الممالك، يا الله..
يا الله بها يا الله بها ** يا الله بحُسنِ الخاتمة
29 مُحرَّم 1447