(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 5 ذي الحجة 1444هـ بعنوان:
عجائب الشؤن الإلهية في أحوال وأعمال ووجهات البرية بين مؤمن مُقبِل وكافر مُعانِد، وعاقبة الجميع
الحمدُ لله المَلِك المعبود الحقِّ المُبين، ربُّ العالمين أوّل الأولين وآخر الآخرين، بِيدهِ ملكوتُ كُل شيء وإليه يرجِع كُل شيء، خلق السماوات والأرض وما بينهما في سِتّة أيام، وبَثَّ الجُودَ والإنعام وأنواع الإكرام لِمُختلَفِ الأنام، وخصَّ من بينهم الإنس والجن والملائكة وجعل سيِّدَهم مُحمّد بن عبد الله عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.
رفعَ ذِكرَهُ في الملأ الأعلى وجعلَ مَرَدَّ الأولين والآخرين إلى إدراكِ ومُشاهدة رفع ذِكرهِ وعُلُوِّ قدرِه، في يومٍ لا يتكلم فيه مُتكلِّمٌ (إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابࣰا)، فيكون هو المُتكلِّم المأذون له القائل بالصواب، ويفتح الباب لِأهل الصواب مِن بعده، مِن أنبياء ومُرسلينَ ومُقرَّبينَ وصِدِّيقينَ وأولياء وشهداء، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن مشى في دَربهِ، وعلينا معهم وفيهم وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهِم وصحبهِم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وعلى جميع عباد الله الصالحين، في كل لمحة ونَفَس عدد خلقه ورِضا نفسه وزِنَةَ عرشه ومِداد كلماته.
وبِسرِّ دعوته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وبلاغهِ عن الله، توافدَ الوفود ويتوافدون على بيت الله الحرام والمشاعر العِظام، وعلى طَيبةَ الطَّيِّبة وخير الأنام، الدّاعي إلى ذي الجلال والإكرام بِإذنهِ تبارك وتعالى، المُخاطَب بِقولِ ربّ العرش خالقِ كُلِّ شيء: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ شَـٰهِدࣰا وَمُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا * وَدَاعِیًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِه وَسِرَاجࣰا مُّنِیرࣰا)، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وحمل لنا مِن رب السماوات والأرض البِشارة: (وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلࣰا كَبِیرࣰا) يا ربّنا الكبير، يا سميعُ يا بصير، يا لطيفُ يا خبير، يا عليم يا عليُّ يا قدير يا الله، حقِّقنا بِحقائقِ الإيمان وهَب لنا مِنكَ الأجر الكبير، واجعل ذلك في لُطفٍ وعافيةٍ منك، يا ذا العطاء الوفير والمنِّ الكثير لا إله إلا أنت.
بُشِّرَ المؤمنون ونُصِبَ وَوُضِّحَ لهم المسلك في التعامل بينهم ومع غيرِهم، أما بينهم: (إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُم)، وأما مع غيرِهم: (وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ)، وقِيامهم ورَكيزةُ وِجهَتهِم وانطلاقِهِم: (وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ)، ولهُم بهذا التوكُّل حقيقةُ تأييدٍ وتسديد، كُلُّ مُناكِرٍ ومُخالفٍ ومُضادٍّ لها يقصُرُ ويَبيد، (وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا) جلَّ جلاله.
مِن آثارِ دعوةِ المصطفى هذهِ القلوب الملايين على ظهرِ الأرض تقول لا إله إلا الله، وتدعو الله وترجو الله، وتذكرُ الله وتُسبِّحُ الله، مِن آثار دَعوتهِ برزت فضائل ليالي العشر والأيام المعلومات والأيام المعدودات وعيد الأضحى، وما فيها من جُودٍ لِلرحمنِ جل جلاله بِدعوةِ هذا المُصطفى، قائمٌ على ظهر الأرض وِجهاتٌ إلى الله مِن المؤمنين بالله، النّائلين البِشارة على قدرِ إيمانهم، وفَّرَ الله حظَّنا وإياكم من الإيمان واليقين، وجعلنا نزداد مِنه في كل حال وفي كُل حين، بِرحمتهِ إنهُ أرحم الراحمين.
ويُنذَرُ جميع الذين أبَوا دعوةَ الله وأنكروا عَظمةَ الله، وجحدوا خلق الخالِق لهم وإفضالهُ عليهم، مِمّن عاند وقد جاءتهُ دعوة الرب الذي خلق فتنكَّر لها استجابةً لِلنفس الأمّارة والهَوى المُردِي، والشَّهَوات الحقيرة التي عَظَّموها وعبدوها دونَ الله، ولن تُغنِي عنهم مِن الله شيء (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا * فَإِنَّ ٱلۡجَحِیمَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ) فَوَيلٌ لِكُلِّ مَن بلغتهُ الدعوة فلم يستَجِب واتَّبعَ الشهوات وآثرَ الحياة الدنيا، سُلطتها أو زُخرُفها أو ثرواتِها أو أسلِحتها وكُل مظاهرها، (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءَاثَرَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا * فَإِنَّ ٱلۡجَحِیمَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ).
ولا يفوزُ وينجو مِن العذاب ويَطيب له المآب إلا من عرفَ ربَّ الأرباب ولِدعوتهِ استجاب، (وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ)، خالِقُنا أنزل الكتب وأرسل الرُّسل يحملون راية نَهي النفسِ عن الهَوى، رحمةً بها وإنقاذاً لها وتخليصاً لها من مَغبَّاتِ سوء المآب وشِدَّة العذاب وعظيم العقاب، ودوام الآلام لِكُلّ من اتّبع نفسه وهَواه وضادّهُم إبليس وجُنده، إلى اليوم يرفعون راية: عظِّموا هَوى النفس واتبَعوا هوى النفس، ومع ذلك كُلِّه يقولون: تجرّأوا بِهَوى أنفسكم على ما شِئتم إلا أنظمتنا، إلا قوانيننا، إلا ما شرعنا لكم، والمعنى: اجعلونا محلَّ إلهكم ومحلّ رُبوبِيَّته ومحلّ خالِقِيَّته ومحلّ أنبياءه ورُسله ولا عليكم منهم، ونحن فقط ونِظامنا احترموه وما غير ذلك أنتم أحرار، نفِّذوا أهوِيَة أنفسكم! هذه دعوة عدوّ الله ودعوة جُند عدو الله من شياطين الإنس والجن! دفعَ الله شرّهُم عنا وعن الأمة، دفع الله بلاهُم عنا وعن الأمة، دفعَ الله مكرهُم وتلبيسهم وتدليسهم عنا وعنِ الأمة، واستجابَ للوفدِ الذين وفدوا بأجسادهم وهم أعداد، والوفد الوافدون على الله بِقلوبهِم في مُختلفِ بِقاع الأرض، وهم عددٌ أكبر مِن عدد الأجساد التي تَفِد، إذا لم يدخُل في عِدادهم تلك الأرواح والقلوب من الملائكة ومن المُقرَّبين، هؤلاء أهل الوِجهَة إلى الله والوَفادة على الله، محلُّ نظر الله على ظهر الأرض.
ويا معاشِر الكفار لولا وجود هؤلاء في الأقطار لكانَ حالكم أشنع في حروبكم وفي كروبكم، وفي مُعاندةِ بعضكم لبعض، وفي تربُّص بعضكم ببعض، وفي ذَوقِكم لِنتائِج ما لعِبتم بِعباد الله وخادعتُم خلقَ الله، واعتديتُم على حقوق عباد الله، وأخذتُم الثروات وآذيتُم الناس، وسفكتُم الدماء وسلّطتُم بعض الناس على بعض، ورأيتم ضرب بعضهم لبعض وأنتم تأخذون نتائجه والنتائج الكُبرى مُقبِلة عليكم! ولولا وجودُ هذه القلوب المُتَّصِلة بالله لكان الأمر أشد عليكم في هذه الدنيا قبل الآخرة! وتماماً كما نقرأ أحوال الكُفار المُعاندين الصّادِّين في مكة المكرمة وتأخّر العذاب عنهم بِواسطة وُجود المؤمنين بينهم، وقال الرَّبُّ: (وَلَوۡلَا رِجَالࣱ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءࣱ مُّؤۡمِنَـٰتࣱ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِیبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ لِّیُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِ مَن یَشَاۤءُ لَوۡ تَزَیَّلُوا۟ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا).
ثُم ظهر أمرُ الله ونُصِرَ رسول الله وكُسِّرت الأصنام حوالَي الكعبة، وتلا صاحب الدعوة وتلا صاحب البلاغ عن الخلّاق، وتلا خاتم النُّبُوَّة والرِّسالة (جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا)، ثُمّ أخبرنا أنّ هذا العمل والأمر الذي قام به في مكة المكرمة تنتشر خيراته في ساحات الأرض، ومُدّة بعد مُدّة حتى يأتي على الأماكن أن يقومَ خُلفائهُ ووَرثته ويقولون فيها: (جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا)، وتُكَسَّر أصنام الأوهام وأصنام الظلام، وأصنام الشَّهَوات وأصنام الأهواء، وأصنام التَّجَبُّر والتَّكبُّر بِغير حق، وأصنامُ إرثِ فرعون والنمرود وعادٍ المُكَذبين بهود، مِمّن يقولُ (مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ومِمّن يقول (أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ) ومِمن يقول (أَنَا۠ أُحۡیِ وَأُمِیتُ) وكُلّهم كذبوا! كذب أوائلهم ومَورثوهم وكذب الذين وَرِثوهم في زماننا وقالوا بقولهم، وهلكَ مَن مضى وسيهلك من هو في زماننا، مِن كُل من قال أنا ربكم الأعلى بِلسانِ حاله وبِثقافته الضَّحلة الهابطة الساقطة، وكُلُّ من قال على ظهر الأرض أنا أُحيِي وأُميت وأنا صانع القرار وأستطيع أن أُبيدَ وأن أُحيي، ووالله ما أحيَيتَ نفسك ولا أمتَّها! ومُحيِيها أحياها قهراً عنكَ ويُميتها قهراً عنك، ونفس زوجتك كذلك ونفس ولدك كذلك، وأنفُس مَن في بلدك وأنفُس من في الشرق والغرب، لها خلّاقٌ خلقها وخلق لها آجالاً، ولا يستطيع مَن في الأرض ولو انضَمَّ إليهم مَن في السماء مِن الملائكة على أن يُغَيِّروا أمرَ الله في آجالِهم ما قدروا على ذلك!
إن المَلِك واحد، إن الإله واحد، إن القادر واحد، إن العظيم واحد، إنّ الذي بيدهِ ملكوت كُل شيء واحد، ويا فوز من عَلِم واحِدِيَّتهُ وأحدِيَّته وقام بطاعتهِ على ظهر الأرض في العُمر القصير، واستعدَّ لِلّقاء واستعدَّ للمُرافقة مِن هذه القلوب المُلَبِّيَة.
إنّ شِعار الوفدِ الذين وفدوا على الله ورسوله هذه الأيام: "لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، ومعناه نحن عَبيدُك، عرفنا أنّك ربنا بِتعَرُّفكَ إلينا ونِعمتك علينا، فلا نُقدِّم عليك أحد ونحن مُقيمون على طاعتك طاعةً بعد طاعة، "لبيك اللهم لبيك" نستمِرُّ على الانقياد لأمرِك وتعظيم شرعِك والعمل به، ولا نُقدِّم عليه هوىً ولا رأياً مِن أنفسنا ولا مِن أحدٍ من أهلِ الشرق والغرب، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك" ما معك إله آخر ولا إله في الوجود إلا أنت، ولا رب إلا أنت، "لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنِّعمة لك والمُلك، لا شريك لك" حقائِق عظيمة يُدانُ الله بها مِمّن سبقت لهم السعادة، اللهم اجعلنا مِن خواصِّهم، وقد لَزِم نبِيُّنا هذا الشِّعار مِن حين أحرمَ مِن ذو الحُلَيفة بجوار المدينة المنورة إلى أن أتى مكة، إلى أن خرج إلى منى، إلى أن خرج إلى عرفة ودخلها بعد الزوال، وخطب الناس وصلى بهم الظهر والعصر، وقام في دُعائِهِ وتضرُّعِهِ يخلطُهُ بالتلبية كما خلطَ الخُطبة بالتَّلبِيَة، ثم انطلق بعد المغرب مِن عرفةَ وهو يُلبِّي، ومضى إلى مُزدلِفة وأقام بالناس صلاة المغرب والعشاء جمع تأخير بِمزدلفة، وقام في صلاة الفجر وهو يُلبّي، ومضى إلى مِنى وهو يُلبّي، ورمى الحَجرة وكبَّر وانتقل إلى التكبير بَقيّة اليوم وبقيّة أيام التشريق صلى الله عليه وسلم.
وما عرفَ الله أحد من أهل أرضهِ وسمائهِ كما عرفهُ خاتم أنبيائه، وأصفى أصفيائه وأحبّ أحِبائه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قال لا إله إلا الله فلن يقولها مِثلهُ أحد لا في أهل الأرض ولا في أهل السماء، وإن قال لبيك فلن يقولها مثله أحد، وهو أعلم بِسرِّ التلبية، وهو أعلم بِسرِّ التهليل، وهو أعلم بِسرِّ التسبيح والتحميد، وهو أعلم بِسرِّ التكبير مِن كُلِّ أحد، فما أعظم تكبيره -صلى الله عليه وسلم- لله العلي الكبير، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ورزقنا حُسنَ اتِّباعه.
إنَّ هذه القلوب المُتوجِّهَة إلى الله على ظهر الأرض مِمّن وفدَ إلى الرِّحاب الطاهرة في مكة والمدينة، والقلوب المُتوجهة إلى الله والتي تَئِنُّ إليه في بيت المقدس وما حَوالَيه، والناظِرة إلى أعداء الله تعالى يُثيرونَ البغضاء والشحناء والخِلاف بين المسلمين ويتفرّجونَ عليهم! ولا تتدخّل أنظمتهم وسُلطاتهم لِحَلِّ نِزاع ما دام بين المسلمين، بل لِإذكائه ولِأجل إثارتهِ والعياذ بالله تبارك وتعالى، (وَدُّوا۟ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا۟ فَتَكُونُونَ سَوَاۤءࣰ) دفع الله شرّهُم.
والقلوب المُتوجِّهَة إلى الله في شرق الأرض وغربها ولله قلوب صادقة عظيمة، قال القائل من قبل قرون مِن خيار الأمة: إنّ بِخُراسان قلوباً هي أقرب إلى هذا البيت مِن أجسام تطوفُ على البيت، وهذا في الأرض البعيدة هو أقرب إلى البيت، لِمَ؟ لأنه أقرب إلى ربِّ البيت، أقرب إلى معرفة تعظيم ربّ البيت مِن هذا الطائف بِجسمهِ الذي ذهب عن قلبِه هذا التعظيم للإله ولم يعرِفه، ذاك أقرب إلى الكعبة لأنهُ أقرب إلى رب الكعبة سبحانه وتعالى، وَبِتِلكَ القلوب وكُلّها مُتوجِّهَة في هذه الليالي والأيام وقائدها أرشدها إلى كثرة التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير استرضاءً للرب، وأرشدها إلى آداب وصِيام وقِيام وصدقات، وأرشدها إلى أضاحي تُضَحِّيها، وأخبرها وبشَّرَها بِما لها على كُلِّ عملٍ تعمله، وقيام كل ليلة كَقِيام ليلة القدر، يعدِل قيام ليلة القدر وصِيامه كل يوم من أيام العشر يعدِلُ صِيام سنة، وصِيام يوم عرفة يتضاعف على ذلك ويزداد زِيادات فضلاً مِن الرب جلّ جلاله.
ووراء هذا القائد هذه القلوب المُتَوَجِّهة إلى الواحد، الأحدِ القويِّ القديم القادر سبحانه وتعالى، هُم سبب ما في الأرض من ألطافٍ مِن قِبَل الإله، ولولاهم لَدُكدِكَت جِبال وأرض لارتكابِ الخطيئةِ، ولكان الحال أشد سواءً على عُصاة المسلمين أو على الكفار الموجودين، ولكن حِكمةٌ من الله (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ)، وهكذا يقول جل جلاله وتعالى في علاه: (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰمِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰتࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُ).
إلهنا تختار أنصار لك ولرسولك في كل زمان، في زمانه اخترتهم وكانوا سادتنا وأئِمَّتنا، وفي كُلِّ قرن تختار من تختار ينصرُك وينصر رسولُك في شرق الأرض وغربها، عَرباً وعَجماً، إنساً وجِناً، سيدنا وأيدينا إليك أن تجعلنا مِمّن ينصُرُك يا الله، مَنِ اغترَّ فنصرَ هواهُ فأرداه، ونصر شهواته فأهلكته، ونصر قوماً من الفُجّار والكفار فضاق ذرعه وذرعهم عن أن ينفعهم وينفعوه، وعادوا إلى أعداء الدنيا قبل الآخرة، ويعودونَ إلى أعدائهم في يوم القيامة، اللهم ارزُقنا نُصرَتك ونُصرة رسولك وشرِّفنا بذلك.
(وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ) ومَن هُم أهل نُصرتِك يا رب؟ وما صِفَتهم حتى ندخل فيهم؟ (ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ) أقيموها بِحَقِّها وَوجهها وعظِّموها، وصَلُّوها في الجماعة واحرصوا على تكبيرة الإحرام مع الإمام، واجعلوا هذا الشِّعار قائم في دِياركم ومنازلكم، مع صغار أبنائكم وكِبارهم وزوجاتكم ومَن في دِياركم، (أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ) فتصدَّقُوا بِكُلِّ ما استطعتُم وبِكُلِّ ما يسَّرَ الله لكم.
(أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلۡمَعۡرُوفِ) كُل ما أحَبّهُ الله من الأقوال والأفعال هو المعروف، مُرُوا به وتعاونوا عليه وقوموا بِحَقِّه، وانهَوا عن المنكر: كُلّ ما يُخالف شرع الله يدعوننا إليه، يقولون لنا جميل وهو قبيح، يقولون لنا حَسَن وهو سيء، يقولون لنا خير وهو شر وليس القول قولهم، والقول قول خالقنا وخالقهم وخالِق كُل شيء (قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ یَوۡمَ یُنفَخُ فِی ٱلصُّورِ)، والحلال ما أحلَّ هو والحرام ما حرَّمَ هو، وليس لأحدٍ أن يُحلِّل ويُحرِّم على عباد الله وهو عبدٌ مثلهم وهو مخلوق مثلهم، يقول تعالى: (وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلࣱ وَهَـٰذَا حَرَامࣱ لِّتَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ)، إنّما اختارَ الله الأنبياء لِيكونوا مُبلِّغين عن الله خَلقَهُ ما أحلَّ وما حرّم عليهم وجعل طاعتهم مِن طاعته، ثم اختار من أتباعهِم أهل استِنباط وغَوص على معاني الدّلالات والإرشادات، يُبَيِّنونَ حُكم الله لا يحكمونَ من عند أنفسهم ولا يدخلون هواهُم في شيء، ولكن يجتهدونَ في استنباط حُكم الخالق الذي خلق على ما بعثَ به المرسلين الذين ختموا بنبينا الأمين صلى الله عليه وسلم.
فالله يُبارِك لنا ولكم في ليالينا وفي أيامنا وفي موسمنا هذا، يا ربِّ بالقلوب المُتَوجِّهة إليك تدارَك الأمة، سيدنا ومولانا: وبَقِيَت قلوب غافلة مِمَّن يقول لا إله إلا الله بِلسانهِ، فنسألك اللهم أن تجعل مِن أقوالهم في اللسان معنى في الجَنان تُنقِذهُم به مِن كيدِ النفس والشيطان، حتى تُقبِلَ القلوب عليك وتتوجَّهَ إليك، وتُنقِذ الأمة وتكشِفَ الغُمّة وتُجليَ الظُّلمة وتبسط الرحمة، يا ربَّ الرحمة يا الله.
بارِك لنا في حضورِنا لهذه الليالي، فقد أذِنتَ لنا بالفضل حتى حضرناها، وقد غاب عنها كثيرٌ مِمّن كان يظنون أنهم يحضرونها، فحالَ بينهم وبين ذلك حضورُ آجالهِم وانتقلوا إلى البرازخ، اللهم ومَن كان مِنهم على وِجهَةٍ إليك فأثِبهم وضاعِف لهم المَثوبات في برازخهم، ورَوِّح أرواحهم بِنسيم القُرب والرِّضا، اللهم وإذ بلّغتنا هذه الأيام والليالي فارزُقنا حُسن الاغتِنام والاستنارة بِنورها المُتلالي، وارفعنا إلى مراتب قُربِك العوالي، واجعلنا من الظافرين بِنفحات كل ليلة ويوم من لياليها وأيامها، وأكرِمنا يا مولانا بِنظرك الذي تنظر به إلى أهل عرفة فيمتدُّ إلى قلوبٍ متعرِّضَة لِفضلك في مشارق الأرض ومغاربها.
وفِّرْ حظَّنا مِن رحمتك، وفِّرْ حظّنا مِن مغفرتِك، وفِّرْ حظَّنا يا ربِّ من رِضوانِك، وفِّرْ حظّنا يا ربِّ من الإقبالِ عليك، وفِّرْ حظنا من الصِّدق معك، وفِّرْ حظّنا من الاتصال بِنَبيّك، اللهم إنّكَ ارتضيتهُ لنا إماماً أوجبتَ علينا الإئتمام بهِ ووعدتنا على ذلك أن تُحِبّنا، فنسألك اللهم حُسن الإئتمام والاقتداء بِخيرِ الأنام، وفي كل إقدامٍ وإحجام ونية وفعل وكلام، اللهم ادفع عنا شرّ الاقتداء بِمن خالفه، وبِمن خرج عن دربهِ كائناً من كان، واجعل هَوانا تبعاً لما جاء به حبيبك المحبوب طِب الأجسام والقلوب، اللهم تدارَك أمّته، اللهم اغفر لِأمة سيدنا محمد، اللهم ارحم أمة سيدنا محمد، اللهم انصُر أمّة سيدنا محمد، اللهم اجبُر أمة سيدنا محمد، اللهم فرِّج الكُربَ عن أمة سيدنا محمد، اللهم أصلِح شؤون أمة سيدنا محمد، اللهم اجعلنا في خِيارهم وأنفعهم لهم وأبركهم عليهم، وانفعنا بِهم عامة وبِخاصتهم خاصّة، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام، اقبلنا والحاجِّينَ والزائرينَ والمُعتَمرين، والعابدينَ والمُتضرِّعين لك والمُتَبتِّلين إليك، والعاملينَ بِطاعتك قَبولاً حسناً، وافتَح لنا أبواب النُّصرَةَ والتأييد والتسديد والتوفيق، يا برُّ يا حميد يا مجيد يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
04 ذو الحِجّة 1444