(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 10 شوال 1445هـ، بعنوان:
ضرورة تحرر الأمة من مخالفة هدي النبوة في أنحاء حياتهم وتوقف عزتهم وسعادتهم في الدارين على ذلك
الحمد لله الإله الحق الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي منه المبتدأ وإليه المرجع والمرد، شرَّفنا بحبيبه محمد وهدانا به للمنهج الأرشد، فصَلِّ اللهم على هذا الحبيب الأمجد سيدنا محمد خير من ركع لك وسجد، وأكرم وأفضل وأعظم وأوسع وأعمق مَن آمن بك ووحَّد، وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه من أنبيائك ورسلك وملائكتك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعبادك الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
واجعل آثار القبول في رمضان تملأ مِنَّا كُلَّ جَنَان، وتنتشر في كُلِّ مكان، ويظهر بها نور الصدق معك في السِّرِّ والإعلان، يا كريم يا منَّان.
وبعد الخروج من هذه المدرسة والدروس الكبيرة والمواهب العظيمة والمِنَن الفخيمة والعتق من النار والمغفرة والرحمة؛ يجب أن: تنتهج الأمة صغارها وكبارها نهجهم في تعظيم الله وتعظيم شعائر الله، وإدراك أنهم خُلِقُوا من قِبَلِ خالق واحد والمرجع إليه وحده.
وأنَّ كُلَّ مَن أغواهم عن نهجه وعن شرعه وعن ما فَرَضَ وحرَّمَ وأباحَ وكَرِهَ لهذه الأمة.. كُلُّ مَن خالف ذلك وأغراهم عنه؛ عدو، رأسهم إبليس، ومعه من شياطين الإنس والجن، مَن عبَثوا بالأمة، عبثوا بأفكارهم وعبثوا بعقولهم، وعبثوا بأخلاقهم، وعبثوا بتصوراتهم ونظرهم، حتى تابعوا مَن يقودهم إلى السوء وإلى الشر، وربما عظّموهم بقلوبهم -والعياذ بالله-
ومَرَّت السّنوات.. والكثير من الأمة مُهمِلٌ لسُنَنِ سيدنا رسول الله! وربما وصل الحال إلى الاستخفاف بها أو احتقارها! وذلك الكفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وعظّموا بعض أفكار ونظريات جاءت من هنا وهناك، بل ومسالك أصبحوا يقتدون بها.. حتى في كيفية حركات أيديهم وأرجلهم أو ألبستهم!
والقادة الذين قادوهم في ذلك وألقوا عليهم من أنواع الأفكار ما شَتَّت شملهم، وما فَرَّق جمعهم وما عَبِثَ بهم، وما قطعهم عن ربهم؛ يُظهِرُونَ لهم اليوم أنهم عبيد أهواء وعبيد أنفس وأهل أنانية، يريدون مصالحهم العاجلة السخيفة الدنيئة.. لا مراد لهم غير ذلك! يرعون ويرون ما يرعون من سفك الدماء في سبيل الغرض الحقير، ولا يبالون من انتهاك الحريّات، من انتهاك الأديان! حتى يأتي في اليوم الواحد قَتْلُ ألف امرأة! وعشرة آلاف امرأة في يوم واحد يُقتلون! يُقْتَلْنَ أمام العالم وقادته ومؤسّسي الحضارات فيه! والقائلون بأنهم يسعون في العالم الإسلامي لحفظ حقوق المرأة..وانتهى حفظهم لحقوق المرأة إلى هذا التقتيل! فهذه حقائقهم، ما يُكمِنُونَ ولا يُسِرُّونَ إلا مصالحهم والَّلهَف على الفانيات الحقيرات.
وتظاهروا للناس بكثير من الخِدَع في صور الحضارة، وفي صور النظام، وفي صور التقدم، وفي صورة الحرية.. وغير ذلك؛ لكن حولها نُدَنْدِن! شهوات، آفات، سلطات، مصالح.. فانيات! والله ما فيهم مَن يصلح أن يقود، ولا فيهم مَن يصلح أن يُؤتمّ به. والله الذي خلقنا وخلقهم أننَّا وهم في حاجة إلى مَن اختارهم مُكَوِّن السماء والأرض أن يكونوا قادة، أولئك الأئمة السَّادة أنبياء الله ورسله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الأنعام:90].
وقال لنا عن سيدهم وخاتمهم: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
فليخرج كُلُّ مؤمن من رمضان بـ: صدق مع الرحمن؛ في رفض كل ما خالف الشرع مما قد دخل عقله، في رفض كل ما خالف الشرع مما قد دخل نفسه، في رفض كل ما خالف هدي المصطفى محمد مما قد دخل بيته ومما قد حلَّ في أولاده وأهله، في رفض ما خالف شرع المصطفى وهديَه وقد دخل مكتبه ومحل عمله ومكان مهنته!
تطَهَّروا؛ فإن خروجكم من الذل مربوط بإخبار خاتم الرسل بـ: الرجوع إلى الدين.
(سلَّط الله عليهم ذُلَّاً لا ينزعه منهم حتى يرجعوا إلى دينهم)، حتى يرجعوا، فإذا رجعوا إلى دينهم (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقين:9]. وكم عَمِلَ النفاق حتى ضيع علينا الأخلاق والصِّلَة بالخلَّاق! وهو الذي بسببه عانت أماكننا ومواطننا كثيرا من الشرور الظاهرة والباطنة! والله يرد المسلمين مَرَدَّاً جميلا.
وعندكم مثل أرض الزيتونة التي جاءنا منها الشيخ الكريم، وفي أرض تونس، وكم بها من أصفياء من عهد الصحابة فالتابعين فتابع التابعين وأولياء وعلماء، وكم قد أثَّروا بنور الله وشرع الله والهدى المستقيم في الفكر والخلق. وجاءت المحاربة وجاءت المخادعة وجاء الكذب والزور والبهتان، وانحرف من انحرف وانصرف مَن انصرف. وما أصاب تلك الأراضي ولا أراضي مصر ولا أراضي بقية المغرب ولا أرض اليمن من سوء وشر ظاهر ولا باطن؛ إلا وأصله ورأسه: بيع للسنة، بيع للهدي، انخداع بأفكار ساقطة هابطة من كفار وفجار وأشرار!
كأنهم خلقوا ووالله ما خلقوا! وكأنهم أعرف بالخلق ووالله هم أحوج إلى من يدلهم على الخالق! وهم فراعنة يحتاجون إلى موسى الذي يقول لفرعون: (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ) [النازعات:18-19]. ومن لم يستجب منهم فالعواقب حتميَّة في الدنيا ثم في الآخرة، سينالهم الذل في الدنيا وسينالون الخزي في الآخرة -والعياذ بالله- (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف:152].
وهل هذه لهم وحدهم؟ فليرجعوا قليلا بعقولهم إلى كل القرون التي مضت قبلهم، هل كان فيها موجود غير هذه النتيجة؟ هل كان فيها موجود غير هذا الحكم الذي حكم به ربّ العرش العظيم؟ مُكَوِّنُ السماوات والأرضين؟ وفي البشر مَن اِغْتَرَّ بجيشه أو عسكره أو قوته.. العشرين السنة والثلاثين والأربعين والخمسين والأقل والأكثر من ذلك، ثم انتهوا وكانت النتيجة واحدة: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:23]، (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43]، والحكم مقبل علينا أجمعين!
ولكننا معشر مَن آمن بالله ورسوله، إلى متى نُخدَع؟ إلى متى نتابع المفسدين، نتابع المخادعين؟ ما الذي دهانا في ديارنا؟ ما الذي دهانا في أسرنا وأولادنا؟ ما الذي دهانا في أفكارنا؟ ما الذي دهانا في معاملاتنا؟ ما الذي دهانا في اقتصادنا؟ بلدان مليئة غنية بخيرات وثروات جعلها الله فيها؛ بهذا الانحراف سُلِّطَت عليها أيدي الأعداء وعاش أصحابها في الفقر والذل والحرب والأذى! ولو اتقوا الله لكان الحكم الذي لا يُخَلَّف (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]. ومهما طال الطغيان أو الظلم فله حدٌّ لن يتعداه.
وكان شعارنا شعار هادينا إلى الله الذي قال لابن صياد: "اخسأ فلن تعدو قدرك"، ويا مَن دخل في دائرة ابن صياد من كل أهل الفساد: اخسئوا لن تعدو قدركم، والله لن تتعدّوا قدركم، وإنَّ ربَّ الأرض والسماء لنَاصِرٌ سيِّدِ أهل الأرض والسماء، ومَن اختاره مِن أهل الأرض والسماء (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح:3]. وسنرى آثار ذلك إن شاء الله في الوجود.
فلنخرج من رمضان بصدقنا مع الملك المعبود عالم الغيب والشهود، طهِّروا الأفكار، طهِّروا الديار، طهِّروا الألبسة، طهِّروا أماكن المِهَن والأعمال والمكاتب؛ من كُلِّ ما خالف شرع هذا المصطفى، وكل ما خرج عن سُنَّة هذا المصطفى، واعتزوا وافتخروا بسُنَنِهِ وبآدابه، فهي عزّكم وسبب صلاحكم ونجاحكم في دنياكم وآخرتكم، لا شيء غير ذلك.
يا من وفَّقَ أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفقنا للخير وأَعِنَّا عليه، وأحيي كُلَّ ما مات في بلداننا من الخيرات، ومن شريف الصِّلات بك، ومن حُسنِ الوعي للآيات والوحي الذي أوحيته، ومن صفاء السرائر، ومن استقامة الأقدام على السيرة القويمة والأخلاق العظيمة.
فيا رب ثبِّتنا على الحقِّ والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وارزقنا الفوز الأكبر بمرافقة خير البشر في أرفع مُستَقَر، وأنت راض عنَّا يا كريم يا منان يا وهاب يا بر.
يا بر يا رحيم مُنَّ علينا وقِنَا عذاب السموم، ولا تجعله آخر العهد من رمضان، وأعدنا إلى أمثاله، وأحسن قبوله مِنَّا، وتجاوز عنَّا ما كان فيه مِنَّا، وما قصَّرنا، وما أخطأنا، وما عجزنا، وما تأخرنا، وما أضعنا، وما أهملنا، اعفُ عنَّا يا خير عفو، إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنَّا، واقبلنا على ما فينا، وزدنا من فيوضاتك وواسع منوحاتك وكبير فتوحاتك ما أنت أهله.
يا من يجيب المضطر إذا دعاه: ذكرت لنا آيات الصيام وأتبعتها بقولك لخير الأنام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة:186]، فندعوك يا قريب أن تُعَجِّل الفرج لأمة الحبيب، أن ترفع البلاء عن أمة الحبيب، وأن تجمع شمل أمة الحبيب، وأن تنشر الهداية في شرق الأرض وغربها، وأن تجعلنا من أسعد الأمة بنصرة نبي الأمة، ونصرة مهمته، ونصرة شريعته، ونصرة دينه، ونصرة مِلَّتِهِ، ونصرة هديه، ونصرة آل بيته، ونصرة صحابته، ونصرة ورثته، ونصرة وراثته، ونصرة الوحي الذي أوحيته إليه، واجعلنا بذلك من خواصِّ أنصارك يا حي يا قيوم، وبلغنا ما نروم وفوق ما نروم.
وأمدّ الشيخ حسن الأنصاري بالعوافي الكوامل التوام، وأطل له العمر فيمن أطلت لهم الأعمار في خيراتٍ ومسراتٍ كبار ومِنَحٍ غِزَار.
وبارك اللهم في أهل الاتصالات القلبية في شرق الأرض وغربها بأنوار نبيك محمد، وتَرِكَة نبيك محمد، وإرث نبيك محمد، وسِرِّ نبيك محمد؛ الذي ببقائه تُبقِي القرآن، وإذا عُدِمَ في القلوب رفعتَ القرآن عن الأمة؟ اللهم لك الحمد على بقاء القرآن، فحَقِّقنا بحقائقه، واجعلنا من خواصِّ المُطّلعين على سِرِّه والعاملين به، واربطنا بمن أنزلته عليه ربطا لا ينحل أبدا، واجعلنا به من أسعد السعداء هاهنا وغدا.. والحمد لله رب العالمين.
10 شوّال 1445