(535)
(339)
(364)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك ليلة الجمعة 11 ربيع الثاني 1447هـ في دار المصطفى، بعنوان:
شريف العلائق والروابط المنبثقة من أسرار وحقائق لا إله إلا الله محمد رسول الله وما تحويه من مزايا
نظر الله إلينا وإلى المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في جميع الجهات، أحيائهم والأموات. ومن كان من الأموات في نعيم، نسأل الرحمن أن يزيده نعيمًا إلى نعيمه. ومن كان في عذاب، فنسأله أن يعفو ويغفر ويرفع العذاب عنهم ويحولهم إلى النعيم.
ومن كان على ظهر الأرض.. فمن كان منهم على الاستقامة، نسأل الله أن يزيده و يُعلي درجاته ويؤيده بتأييده. ومن كان على الذنوب والمعاصي، نسأل التواب أن يتوب عليهم. ومن كان على انحرافٍ في عقيدةٍ أو فكرٍ أو سلوكٍ، نسأل الله أن يُقوِّمهم إلى سبيل الهدى، وأن يدفع عنا وعنهم الزيغ والردى.
وكل من سبقت لهم منه سبحانه سابقة الإسلام والموت عليه -وإن لم يكونوا مسلمين الآن- نسأل الله أن يُعجِّل لهم بنور الهدايات، وأن يُثبِّتهم أكمل الثبات.
وإذا خان الأمانة في "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، غضبت عليه هؤلاء الملائكة، وسَخِطت عليه هؤلاء الملائكة، ورأوا العفونة التي تحصل من انحرافه! حتى جاء في بعض الآثار أنه إذا كذب الإنسان تباعد الملكان عنه مسافة ميل من نِتَن ما يخرج من فِيه، يروحون عنه مسافة ميل بُعدا من رائحة الكذب العفنة، النتنة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
من روح ريحهم دخل وسط الأفكار -النويرة الصالحة- ** واشتغل بالقراءة دائم والأذكار
ما عاد يسقط إلى المخالفات والمعاصي بعد ما يشم هذا الريح..
فالله يُشَمِّم أرواحنا هذه العطور الزكية، ورائحتها البهية الشَّذِيَّة.
والمجالس وما فيها من الصفات ومن الأعمال ومن الأذكار كلها لها رائحة. ورائحة التسبيح زكية، غير رائحة التحميد، زكية غير رائحة التهليل، زكية غير رائحة التكبير، وغير رائحة الصلاة على النبي.. هذه فوَّاحة كثيرا!
حتى جاء في بعض الآثار أنّه: قد تفوح رائحة طيبة في جماعة من الملأ الأعلى في السماء، فيقولون: ما هذا؟ فيُقال: مجلس في الأرض صُلِّيَ فيه على محمد.
وعطره شَذِي قوي ﷺ ، وأطيب خلق الله هو، وأزكى خلق الله ﷺ. كان إذا مرَّ بطريق عُرِفَ من طِيبِه أنه قد مَرَّ فيه.
جلس مرة في بُقعة في الأرض تراب في المدينة المنورة وقت الحر فعَرِق، فنال العرقُ الأرضَ، فبقِيَت تَعْبَق بالشمِّ الزكيِّ سَنة، سَنة وهم يشمون ذه البقعة التي قعد فيها رسول الله، والرائحة سنة كاملة بقيت!
هل أحد عنده عطر يبقى سنة؟ صنّعوا لكم عطورًا و يشلُّونها من هنا ومن هنا، وأكثرها يشلونها من زهور الدول الفقيرة ويصنعون عطورًا ويجنون منها أموالًا كثيرة، ولا شيء منها يبقى سنة، ولا نصف سنة، ولا ربع سنة! أكثرها غالية وفاخرة نصف ساعة ما تبقى، بعد نصف ساعة تذهب!.
وهذه العطور الحسية يصنعونها عندنا في البلاد تبقى أسبوعا! عرفت الشيبان عندنا قالوا إذا جاءوا بماء الورد في ختم أو مجلس ذكر، يقولون: أسبوع تام نحس الريح باقي فينا؛ من حُسن إتقانه، أحسن من هذه العطور الغالية!
والآن يدفعون فلوسا كثيرة وما تجد فيها من هذه الروائح العَبِقَة، ولا تدوم، ماهي إلا مسألة تجارة ولَهَف! فوقع انحطاطٌ، انحطاط في المقاصد، انحطاط في الأغراض، انحطاط كما سمعتم مساكين يُوحى إليهم.
يُنشَّأ أطفالنا وناشئتنا على تعظيم السُلَّم الوظيفي والدنيا ومظاهرها.. وفقط! الله العظيم هيَّأك لأكبر من هذا! لأشرف من هذا، لأبقى من هذا، لأدوم من هذا، لأعظم من هذا! (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) [الحشر:19]. ما عاد عرفوا إلا هذا! وهذا ما أسرع ما ينقطع عنهم أو ينقطعون عنه! (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ*مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207].
أي شيء أفادهم هذاك؟ أي شيء حصَّلوا من هذاك؟ ما النتائج؟ وإذا هي مع ذنوب ومعاص؛ نتائجها خطيرة! شنيعة! شديدة!
رقَّى الله -سبحانه وتعالى- وجهاتنا ونياتنا، وجعل وجهتنا إليه (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148].
يا رب انظر إلى أهل الجمع ومن يسمع، واجعل وجهة كل واحد مِنَّا: إليك. يا الله: لا تصرفنا إلى ما سواك، ولا ترمِ بنا إلى مَن عداك.
وشرِّفنا وشرف قلوبنا بالوجهة إليك، وارزقنا صدق الإقبال عليك، وحسن التذلل بين يديك.
يا الله.. يا الله
لكن هكذا أخبرنا نبيه أنّه يتنَزَّل ويُحَاوِر الملائكة: "..مِن أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فيَقولونَ: جِئْنا مِن عِندِ عِبادٍ لكَ في الأرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ،.."، "..قالَ: فيَقولُ: هلْ رَأَوْنِي؟ قالَ: فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ، قالَ: فيَقولُ: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيدًا وتَحْمِيدًا، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحًا،.."، "..قالَ: يقولُ: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصًا، وأَشَدَّ لها طَلَبًا، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قالَ: يقولونَ: مِنَ النّارِ قالَ: يقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، قالَ: يقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ قالَ: يقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِرارًا، وأَشَدَّ لها مَخافَةً"، "..فيقول: أشهدكم أنِّي قد غفرت لهم، وأعطيتهم ما سألوا، وأعذتهم ممَّا استعاذوا منه".
أي شيء هذه العطايا !
فيقول ملك: يا رب إلا فلان عبدٌ خطَّاء ما جاء للذكر "إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ،"، يقول رب العرش: "وَلَهُ قَدْ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ".
لمَّا انفتحت الأسماع والأبصار لِمَا يَطْرَح أولئك عاش الناس فيما يطرحون! وهم ما يعرفون هذه الحقائق، ولا يدركون هذا العيش الرائق! ولا هذه المزايا ولا هذه الخصائص، ولا هذه المواهب من أكرم واهب!. والأمر كما قال صلحاء الأمة على مدى القرون السابقة: لو يَعلَمُ الملوك ما نحن فيه بالليل لجالدونا عليه بالسيوف!
لكن ما عَلِمُوا؛ فاغتروا بمُلكهم وسُلطتهم ومظاهرهم وظنوها أنها الغاية، ولو أدركوا ما عند القوم لعلموا أن ما هم فيه حقير ولا يساوي شيئًا، وأن المُلك الكبير هنا، والذي يتحوَّل أصحابه إلى دخول الجنة (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20].
أمَّا دون هذا المُلك؛ يُنادَى على ملوك أهل الظاهر كلهم بعد النفخة الأولى في الصُّور: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر:16]؟ هل بقي شيئاً من هذا الملك؟! راح! بقي ملك الملوك..
مَن ملَّكه قربه ومعرفته ومحبته؛ له المُلك الكبير.
الباقي ليس له مُلك، إما ملك حيّات وعقارب! مُلك زقوم وجحيم.. مُلك؟! (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [النساء:56]، هل هذا مُلك! هذه نهاية ملكهم! لكن نهاية هذه المجالس، نهاية هذه الخلوة مع الله في الليل، نهاية تتبع رسول الله: مُلك كبير (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ۖ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ..) وسقاهم ربهم! يا سلام! (..وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا..)
هنيئاً لهم هؤلاء أهل الفوز وأهل المُلك الكبير! منهم من كان يُستحقر في الدنيا وما هو بحقير، منهم من كان يُستخف به وما هو بخفيف، منهم من كان يُسَب ويُشتَم وما زاده السب والشتم إلا درجات، وراح الذي يسب ويشتم إلى سوء المصير -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ومن شأن هو ذا القصير.. يللا يا أسلحة، يللا يا أنظمة، يللا يا دساتير، يللا يا حكومات، يللا يا مؤتمرات، يللا…! وكلهم: (الْعَاجِلَةَ) بس! لا يوجد غيرها، ما عندهم شيء، مساكين (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا..)
يا أقوياء، يا الأطباء، يا دكاترة، يا مُخرجين، يا بروفيسورات: هاتوا حلاً لمشكلة الموت، ما أحد يموت منكم؟
يا ربِّ اجعل جميع من في المجلس، ومن في ديارهم ومن يسمعهم ومن يشاهدهم ومن في ديارهم ومن في أصلابهم وقراباتهم؛ ممن شئت أن تهديهم، وممن شئت أن تُسعدهم، وممن شئت أن تُثبِّتهم على الاستقامة، فيتَّخِذ كل مِنَّا ومنهم إليك سبيلاً (..فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ..)، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين: أدخلنا في رحمتك، وجميع من في مجمعنا، وجميع من يسمعنا ويشاهدنا، وجميع المتعلقين بنا ومن في ديارهم وقراباتهم ومن في أصلابهم يا الله.
(..يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ۚ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإنسان:29-31]. أجرنا من عذابك الأليم، أجرنا من عذابك الأليم يا أرحم الراحمين.
يُبَيِّن لنا نبينا خبرها، يقول: واحد قبلنا من الأمم السابقة من بني إسرائيل، أحب أخاً له في الله وكان في قرية ثانية بعيداً منه، فذهب يزوره شوقاً ومحبة في الله، "فأرْصَدَ اللَّهُ له على مَدْرَجَتِهِ.." -مَمَرّه الذي يدخل منه إلى البلد- "..ملَكًَا"، والمَلَك من السماء جاء بأمر من الله، وصل فلان.. يحييه: أين تريد؟ قال: هذه القرية. لماذا؟ قال: لأزور فلاناً. قال: لقرابة بينك وبينه؟ قال: لا، "قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟" -أحسن إليك في شيء؟- "قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ" أنا من أجل الله أحببته، من أجل "لا إله إلا الله" أنا أحبه في الله، "..قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ".
انظروا النتائج الكبيرة! انظروا المزايا العظيمة!
يا رب أكرمنا بها، واجعلنا متحابين فيك، متآخين فيك يا رب. ومن في قلبه عِلَّة تمنعه عن صفاء هذه المودة.. اشفه من العلة يا مُشافي، داوه من العلة يا مداوي، صفِّه من هذا المرض يا مُصفِّي، يا حي يا قيوم يا الله..
يا الله .. يا الله: كلنا نطلب رحمتك فارحمنا برحمتك الواسعة، وارزقنا القيام بالأمر كما تحب.
وأنت خيرٌ لكل أحد من كل أحد، أنت خير لكل أحد من الخلق من كل أحد، أهلك وأصحابك وآلك وقرابتك وغير قرابتك والصغار والكبار والعرب والعجم، ما أحد خير لهم منك في الخلق يا حبيب الرحمن! رحمتهم، رأفتَ بهم، بذلت جهدك من أجل إسعادهم، خاطبت ربك فيهم كبير، كنت سبب خلقهم وإيجادهم من قِبَل الخلاق، وسبب إمدادهم بالأسماع والأبصار، فمن خير لهم منك؟ أنت خير لكل الناس من كل الناس يا سيد الناس. لا أهل يُحصِّلون مثلك، ولا جيران يُحصِّلون مثلك، ولا أصحاب يُحَصِّلون مثلك، ولا معاملين يُحَصِّلون مثلك، ولا إنس ولا جن يحصلون مثلك! يا رب صلِّ عليه..
رحمةٌ كلُّه وحزمٌ وعزمٌ *** ووقارٌ وعِصْمةٌ وحياءٌ
معجزُ القولِ والفعالِ كريمُ الخلقِ *** والخُلْقِ مُقسِطٌ مِعطَاءٌ
يا ربِّ صلِّ عليه، يا رب صلِّ عليه، يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، واجعل رابطتنا به أقوى الروابط، تقوم على خير الضوابط، لا يزال هطّال فَيْضِك علينا بها هابط، يا الله.. يا الله..
وكلنا نطلب رحمتك، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين:
يا رب صلِّ عليه..
اللهم اجعلنا ممن شئتهم لاتخاذ هذا السبيل، والثبات عليه، في النية والفعل والقيل، وزدنا زيادة وأسعدنا سعادة، والحمد لله رب العالمين.
10 ربيع الثاني 1447