(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة الحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 17 ربيع أول 1438هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: سر السجود للواحد المعبود وسريان حقائقه في إمام الساجدين.
الحمدُ لله حمدَ عبدٍ خاشع خاضع لجلالِ ربه، لا يملك لنفسه ولا لأحدٍ مِن خلقه ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرَّف مَن شاء مِن المكلفين بالإيمانِ به والخضوعِ لجلاله واتباع أنبيائه ورسلِه، وقد ختمَهم بسيدِهم وإمامِهم الذي فضَّله على الكل، وجعله خاتمَ الرسل، نبيكم سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه، فنشهد أنه عبدُ الله ورسولُه وصفوتُه من بريته، اللهم أدم صلواتك على عبدك المصطفى سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأهل بيته ومَن سار في دربه وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ذُكِّرنا بعظمةِ هذا الإله والمصيرِ إليه، وأن السعادةَ في الخضوع لجلاله والعمل بطاعته واتِّباع نبيِّه وحبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الأمر الصريح الواضح الذي جاءنا مِن رب الأرض والسماء: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) فجعل الفارقَ بين المؤمنين والكافرين طاعةُ الله وطاعةُ الرسول، اللهم حقِّقنا بحقائق طاعتك وطاعة الرسول.
وطاعة الله وطاعة الرسول استسلامٌ وانقيادٌ وخضوعٌ وتلبية، يقول تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ويقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) فرجع الأمرُ إلى خضوع هذا القلب وسجودِه، ورجع الأمر إلى حقيقة السجود للملك جل جلاله، الذي لا يُسجَد على وجه العبادة إلا له وحده جل جلاله، ولا يُسجَد على وجه الإكرام أو الاحترام أو التحية لغيرِه في شريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وإن أحلَّ اللهُ ذلك وأباحه في الشرائع المتقدمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فقد حرَّمه في شريعة هذا النبي عليه الصلاة والسلام.
وأقبل سيدُنا يوسف عليه السلام: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) قال سبحانه وتعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) كان هذا السجود في الشرائع السابقة جائزٌ على وجه الإكرام، على وجه التحية لغير الحق، أما على وجه العبادة فلا معبودَ إلا الله جل جلاله في الشرائع كلِّها، وعلى ما بُعث به الأنبياء كلهم صلوات الله وسلامه عليهم، فجاءت الشريعة بهذا التعليم وهذا التأديب وحرَّمت علينا أن نسجدَ لأي كائن كان صغيراً أو كبيراً أولاً أو أخيراً، فلا نعفِّر وجوهَنا في الأرض إلا للرب سبحانه وتعالى، فقد صان وجوهَنا عن السجود إلا له، ونسأله أن يصونَنا عن الحاجة إلا إليه، وأن يصوننا عن الظلمات والمعاصي والذنوب والآثام.
ولما جاء سيدنا معاذ من سَفرتِه، وقد رأى تحيةَ القوم بسجودهم لبعضهم، أقبل فسجد عند النبي فنهاه، ما لك؟ قال رأيت القومَ يعظمون كبراءهم بهذا فأردتُ أن أسجد لك، قال: لا تفعل، لا يجوز ذلك، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأةَ أن تسجد لزوجها، فحرَّمَ صلى الله عليه وسلم هيئةَ السجود لغير الله.
وكان غاية ما يبلغ إليه تعظيم سادتنا الصحابة لرسول الله أن ينتهوا إلى تقبيل يديه ورجليه، أما محبته، أما إكبار قلوبهم، أما مودتُهم فما نستطيع أن نصفَها وما نستطيع أن نحصرَها، لا نستطيع أن نتخيل حقيقتَه فضلاً عن أن نحصي شيئاً من ذلك، وأما أفعالهم فمنضبطة بأوامر الله ونواهيه، لا يفعلون إلا ما أحب الله ورسوله، حتى بعضهم ليترك القيام في بعض الأحيان وهم يعظِّمونه ويجلُّونه عليه الصلاة والسلام لما يعلمون من كراهته لهذه المظاهر، من كراهته لمظاهر هذا التعظيم، وهكذا وَرَثته وهكذا صحابته وهكذا الصالحون مِن أمته يكرهون أمثالَ ذلك ويزجُرون عن مثل ذلك، حتى كان الإمام العيدورس الأكبر عليه رضوان الله يقول: إن الذي يقبِّل يدي كمن يلطمُني، وإنَّ الذي يقبِّل رجلي كمن يُقوِّر عيني. أي يُخرج عيني، يشمئز منها هذا الاشمئزاز ويراها بهذه الصورة.
ومضوا على قصدِ السبيل إلى العلى ** قدماً على قدمٍ بجدٍّ أوزعِ
ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم فسَل وتتبَّعِ
ثبَّتنا اللهُ على الاستقامة على تلك الطريقة، وأكرمَنا بحقائق السجود له التي بها الرِّفعة عنده والقرب منه، قال سبحانه: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).
قال بعض العارفين لمَن رأى مِن طلبته يسجد: يا ولدي هذا السجود فأين الاقتراب؟ أي هل تحققتَ بحقيقة الاقتراب أم اكتفيتَ بالصورة؟ أو اكتفيتَ بالمظهر؟ فإنَّ حقيقةَ السجود قربٌ من المعبود جل جلاله وتعالى في علاه، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وهو ساجد لله سبحانه وتعالى، فيكون في أقرب حالاته إلى ربه وهو ساجد، فإذا مُكِّن من سجود القلب صحَّ الاقتراب، وحلا الاقتراب، وطاب الاقتراب مِن رب الأرباب، وهو الأمر الذي طاب لمَن ربَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت مظاهرُ هذا السجود للحق المعبود جل جلاله منضبطاً في التعبير عنها في عالم الشهادة، فتكلم فقهاءُ الإسلام عن أن السجود في الصلاة وفي خارج الصلاة يكون للمرور على آية سجدة أو لحدوث نعمة غير معتادة ومسترسلة أو اندفاع نقمة شديدة فجأة فتكون سجدة شكر، إما لشكر وإما لسجدة تلاوة، واختلفوا في غير ذلك هل يجوز أن يحدث سجدة لله؟ فقال علماء من أهل الفقه لا يجوز إلا في صلاة أو لشكر أو لتلاوة، لله تبارك وتعالى ادخل الصلاة واسجد لله، وقال بعضهم إذا السجود لله مفتوح بابه مادام يسجد لله المعبود وحده، لا إله إلا هو، ولا شريك له في ملكه وربوبيته وألوهيته وعبودية، الخلق وحده سبحانه، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
مِن ذلك نرى مثلَ أبي أيوب الأنصاري عليه رضوان الله تعالى ورحمته الواسعة، ذاك الصادق الذي خُصَّ بالخصوصية، اشرأَّبت القلوب والنفوس والأرواح لنزول رسول الله في ديارهم في منازلهم، وكلهم أحب ذلك عند نزوله المدينة وتطلَّع إليه الصغار والكبار والقبائل، وكلٌّ يريد النبيَّ عنده، والنبي ترك الناقة، وقال: دعوها فإنها مأمورة، تبرُك حيث أراد الله تعالى، وحيث يأمرها الله جل جلاله، ودارت، ودارت بين الديار حتى وصل إلى دار أبي أيوب، ونزلت ثم قامت ودارت فنزلت عند دار أبي أيوب ووضعت جيلانها على الأرض، تشير أن هذا هو المَنزل ولا غيره، فحمل سيدنا أبو أيوب رحلَه صلى الله عليه وسلم وأدخله إلى البيت مستبشراً مطمئناً فرحاً بهذه المزية وبهذه العطية، مَن أكرم نازل عنده منه؟ مَن أكرم ضيف منه صلى الله عليه وسلم.. فإذا بالجواري من الأنصار يخرجن في الشوارع وما ملكوا إلا أن يعبروا عن هذا الحب فعبروا عن هذه المحبة الصادقة وحملنَ الدفوف وجرين في شوارع المدينة...
نحن جوارٍ من بني النجار ** يا حبَّذا محمد مِن جار
حتى مررنَ بالموضع الذي فيه صلى الله عليه وسلم وهو على باب البيت واقف، رآهن مارَّات يقول لهم صلى الله عليه وسلم أتحببنني؟ قلن: إي والله يا رسول الله إنا نحبك، قال الله يعلم أن قلبي يحبكم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
كان مع أبي أيوب في بيته غرفة أرضية، وغرفة فوق، هذا بيت سيدنا أبي أيوب، فقال له صلى الله عليه وسلم تنزل فوق ونكون هنا أقرب للزائر والمترددين إلينا، الزوار يأتون وهذا مكان أرفق بمن يزورنا ومن يأتينا، فطلع هو وأهله إلى فوق، فكانوا يتحرَّون أن يمشوا خطوات فوق المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينظرون إلى الجهة التي يكون بعيد عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم وينامون فيها ويجلسون فيها ويمشون على أرجلهم بالسكينة التامة خشيةَ أن يخرج شيءٌ من أثر السقف فوق المكان الذي فيه صلى الله عليه وسلم، ومرت بهم الأيام كذلك يقدِّمون العشاء له عليه الصلاة والسلام وإذا قدموا العشاء وأرجعوا من عنده العشاء الإناء يتسابق هو وأم أيوب على مواضع أصابعه صلى الله عليه وسلم هو وإياها يتسابقون، قدموا إليه العشاء ليلة ورجعوا العشاء ما وجدوا أثر الأصابع، فخاف سيدنا أيوب قال رسول الله ما أكلتم طعامنا الليلة!؟ قال وجدت فيه من هذا الثوم فيه رائحة وإني أناجي مَن لا تناجون فكلوه أنتم، فقال سيدنا أبو أيوب: هذا آخر يوم يدخل الثوم بيتي. ولم يدخل بيته من ذاك اليوم ثوم، من قوة محبتهم عليهم الرضوان، وإجلالهم مع أنه مباح وحلال لهم، ولكن تركوه لأنه يتركه صلى الله عليه وسلم ولا يحبه.
وهكذا حتى مرت بهم ليلة معهم ماء في زير لهم وإذا به ينكسر عليهم أخذوه في وقت برد خافوا أن يسقط منه شيء يتخلل السقف ويخرج إلى الغرفة التي فيه صلى الله عليه وسلم، وحملوا أغطيتهم التي يتغطون بها من البرد يجففون بها الماء وجلسوا بلا دفاء بلا غطاء وملأوا أغطيتهم بهذا الماء وأصبحوا في حال، وجاءهم النبي اليوم الثاني قال يا رسول الله ما نقدر نجلس فوقك نمشي بجوانب عند الجدار وبالهدوء خشية والبارح حصل لنا كذا وكذا، قال الآن قد خفَّ الزوار قد لنا مدة وقد خفَّ الزوار أطلع فوق وارجعوا ما دام أرفق لكم، قال أحب إلينا وأرفق لنا فصعد صلى الله عليه وسلم إلى الغرفة الفوقية، ونزل سيدنا أبو أيوب وأهله.
ومرت الأيام ومضى مع المصطفى في بدر ومضى مع المصطفى في الغزوات عليه الصلاة والسلام ومضت الأيام وتوفي عليه الصلاة والسلام، وجاءت الفتوحات وهو في الثمانين مِن عمره وشايب، وقال: سأخرج معكم بسم الله، وإذا بالجهاد في تركيا فتح القسطنطينة، قال لهم معكم خذونا، فقالوا أنت كبير وعندك عرج في رجلك وأنت معذور، قال قال الله انفروا خفافاً وثقالاً أم قال انفروا خفافاً فقط؟ قالوا الله قال: انفروا خفافاً وثقالاً، قال: أنتم خفاف وأنا ثقيل بسم الله، ومضى عليه الرضوان، ومضوا لفتح القسطنطينية هذا الفتح الأول. أصابه جرح وأشرف على الموت قال لهم اصبروا إذا أنا مت حتى آخر بقعة تصلون إليها ادفنوني فيها لأكون في أبعد مسافة عن بيتي وأجيء يوم القيامة أقول يا رب في هذه المسافة من أجلك خرجت أنا أبعد ما أكون عن بيتي ومكاني، ففتحوا القسطنطينية ودخلوا إلى داخل حتى قبروه في هذا المكان الذي هو فيه عليه رضوان الله تبارك وتعالى، ومخصوص بمزايا وبخصائص عليه رضوان الله الله يرينا وجهه في القيامة ويرينا وجهه في دار الكرامة ويحشرنا معهم في يوم الطامة ولا يعرِّض وجوهنا للفضيحة ولا للإسوداد في ذاك اليوم، اللهم اجعلنا في زمرة خيار القوم وأنت راض عنا يا حي يا قيوم يا الله ، يا مَن بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.
هذه المعاني كلها تحكي لكم سرَّ سجود القلب، سجد قلبُ أبي أيوب وصار من سجود قلبه لله سبحانه وتعالى حتى الطعام يتحكم في شهوته اتِّباع خير الأنام، ومنع الثوم من أن يدخل إلى بيته بعد ذاك اليوم فصارت مشتهياتُهم وطعامُهم وشرابُهم في سر السجود، ساجدين للملك المعبود عليهم رضوان الله، ما بقي عندهم هوى، ما بقي عندهم شهوة لغير القرب من الرب جل جلاله وتعالى في علاه، فنِعم التهذيب تهذيبهم ونعم المهذِّب مهذِّبُهم ونعم المؤدب مؤدبهم ونعم المربي مربيهم ونعم المزكِّي مزكِّيهم، وهو الذي تجتمعون على ذكره لتقتدوا به، ولتتزكَّوا بتزكيته، ولتتهذبوا بتهذيبه ولتتأدبوا بتأديبه، تهرعون إلى المجالس والأمة في ذكراه في مثل هذا الشهر خاصة وفي عمرها كله ذكريات له وذكرى لأحواله وشؤونه، ومنها ميلاده الأشرف صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الشهر، والتعبيرات بكل ما يرضي الله ويرضي رسوله من مجامع الخير، من إطعام الطعام، من الذكر من التهليل من التسبيح والتحميد، مِن كل ما يرضي الله ورسوله يعبَّر عن ذلك، ولا يجوز التعبير بشيء حرَّمه الله ولا حرَّمه رسوله، أم يختلط رجال بالنساء أو يقولون هُجر من الكلام أو يضرب بعضهم بعضاً ويؤذي بعضهم بعضاً إلى كل ما حرمه الله تعالى، لا يجوز أن يكون تعبيراً في طاعة لله لا عن محبة ولا عن فرح ولكن بما شرع الله، بما أحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما قال له سيدنا عمه العباس بن عبد المطلب آخر أيامه عليه الصلاة والسلام عند رجوعه من تبوك آخر غزوة غزاها قال: ائذن لي أن امتدحك بشعر يا رسول الله، قال النبي قل لا يفضُض الله فاك، يعني مديحي أمر مقرِّب إلى الله محبوب عند الله، قل ما تمدحني به ويجازيك الله تعالى أن لا يفضض فاه، وجاوز سيدنا العباس الثمانين وما خرج له من أسنانه كلها ما فض الله فاه، بدعوة المصطفى، فكان عبارة عن نظم قصة المولد الشريف، نظمها في أبيات وقرأها على الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول له:
من قبلها، من قبل هذه الحياة الدنيا، طِبت في الظلال، يعني روحك كانت في الجنة كانت عند آدم، طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) حيث يخُصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق، بل نطفة تركب السفين، سفينة نوح، وقد ألجم نسراً وأهله الغرق، جاء في بعض روايات القصيدة يقول له:
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
قال عندما دخل سيدنا الخليل إلى النار أنت كنت في صلبه صلب الخليل إبراهيم عليه السلام، ثم قال تنقل
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ ... ـنور وسبل الرشاد نخترق
هكذا قال العباس، وسمعه خير الناس صلى الله عليه وسلم، عنده جمع من الصحابة قروا مولد قروا مولد، قال:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ ... ـنور وسبل الرشاد نخترق
وهو لم يبرز هذا النور في القالب البشري إلى عالم الأرضي إلا وخرَّ ساجداً، فهو سيد الساجدين وأسرار السجود للرب معه صلى الله عليه وسلم، ولم يتحقق بحقائق السجود للواحد الأحد أحدٌ مِن أهل الأرض ولا من أهل السماء كما تحقق النبي محمد خير ساجد أكرم ساجد، أعظم مَن تحقق بحقائق السجود للملك المعبود، وإذا خاطبه بعبده في أشرف المنازل يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) ويقول له: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) ومن تحقق بالعبودية مثل حبيبه محمد!؟ (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى).
وهذا إرهاص عظيم من كرامات الحق لحبيبه، يخرج من بطن أمه ساجدا، هل رأيت مولوداً يخرج ساجدا؟ متى تعلم السجود صلى الله عليه وسلم؟ ما هو سجود فقط، ختم النبوة قد تحقق به وآدم منجدلٌ في طينته، قال عليه الصلاة والسلام: إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، فسرُّ إدراك السجود لختمِ النبوة قد تحققت به الروحُ الطاهرة، وآدم ما عرف شيء ولا سجد ولا قام.
فالحمد لله الذي أكرمنا بهذا النبي، اعتمد على يديه وخرَّ ساجداً للرحمن جل جلاله، وضع جبهته على الأرض، في ذلك السجود أضاء له ما بين المشرق والمغرب، قال صلى الله عليه وسلم: وإن أمي رأت لما وضعتني نوراً أضاءت له قصورُ الشام. حتى رأت أعناق الإبل ببصرى وهي وسط بيتها في مكة المكرمة، رأتها من وسط مكة المكرمة، رأتها في أرض الشام إشارة إلى انتشار النور ونور الإسلام، فرَّج الله على الشام وأهل الشام، ودفع الضر والآفات والبلايا والعاهات وسُلطةَ الكفار والأشقياء ودفع بلاء مَن يقع في شباكهم مِن الغافلين الفاسدين والفاسقين والمُلبَّس عليهم، حتى تجتمع قلوب المؤمنين على السجود للملك المعبود، حينئذ ينصرهم، وحينئذ يؤيِّدهم جل جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا يقول الحق لحبيبه صلى الله عليه وسلم في تعليمنا السجود العظيم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وعلى قدر سجودنا نتصل بسيد الساجدين وإمام الساجدين صلى الله عليه وسلم، فالله يحقِّق قلوبَنا بحقائق السجود له وحده جل جلاله وتعالى في علاه، ويرفعنا في تلك المراتب ويهَب لنا جزيلَ المواهب.
يا رب اظهر لنا في شهر ميلاده مِن فيض فضلك كشفاً للشدائد عن أمته ودفعاً للبلايا عن أتباعه، اللهم فرِّج الكروب، وادفع الخطوب، وأصلح القوالب والقلوب.. يا الله، ذكِّر قلوبَ أمته، فقد كفاهم عبرةً بترمُّل مَن ترمَّل وتيتُّم مَن تيتَّم وفيما أصابهم، وما نازلَهم، وما أحل بهم فأيقِظ قلوبَهم وارزقهم الرجوع إليك، وارزقهم الرجوع إليك، نشكو إليك قلوباً رجعت إلى أعدائك لكشف شيء من الشدائد، اللهم إنا نعتذر إليك مما صنعوا ونبرأ إليك مما دعاهم إليه الكفرة، ونسألك كما رحمت الأمة بقلوب لم تلتجئ إلا إليك ولم تعتمد إلا عليك أن تبارك لنا في هذه القلوب وتنشر نورَها بيننا وتعمَّ بها سائرَ الأمة، وأن تكشف الغُمة وأن تُجلي الظلمة وأن تدفع النقمة، يا مفرِّج يا حي يا قيوم يا الله.
وبارِك لنا في القلوب المقبلة عليك، المؤمِّلة ما عندك التي لم يغرّها زخرفُ السلطات والمظاهر على ظهر هذه الأرض مِن كل مكان ينظر إليه الذين تربوا على يدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحقر من حصى صغيرة تحت رجل واحد منهم، وهو ملوك أهل الأرض من الكافرين والفاجرين.
قال سيدنا الحسن البصري عليه رضوان الله يصف الصحابة يقول: كانت الدنيا أهونَ على أحدهم مِن التراب تحت نعل أحدكم، الدنيا بما فيها بمظاهرها كلها كانت أهون عليهم، فبذاك نصرهم الله، بذاك أيَّدهم الله جل جلاله وتعالى في علاه، وتعكَّرت قلوب وتوسخت بتعظيم الحقيرات الفانيات وعظَّموا غير الله تبارك وتعالى، فالله ينقذهم من هذا، يا رب إنهم يقولون لا إله إلا الله، ويقرُّون بها فبحقِّ لا إله إلا الله، نوِّر قلوبهم، خلِّصهم مِن هذا السجود لغيرك يا حي يا قيوم حتى يوقنوا أن الأمرَ أمرُك والملك مُلكك والحكم حُكمك، والسماء سماؤك والأرض أرضُك ونواصي العباد بيديك (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) جل جلاله.
والجمع.. اجمع قلوبهم عليك ووجِّههم إليك، وما تكرم به الصالحين في الأمة مِن سرِّ سجود الأمة، أكرِمهم به، ومن يسمعنا يا الله، ومَن يوالينا فيك يا حي يا قيوم، الحاضرين والسامعين والمستمعين أجمعين أكرِمهم في ليلتنا هذه بنور من عندك تُحقِّق به قلوبَهم بالسجود لوجهك يا الله، والقلب إذا سجد لم يرفع أبداً، ما يقدر يرفع لأنه عرف، وإذا عرف ما يقدر يرتفع عن الخضوع لغيره، والقلب إذا سجد لم يرفع عن السجود أبداً، بل يترقى في مراقي السجود أبداً سرمداً حتى يكون له نصيبٌ من القُرب مِن سيد الساجدين يوم القيامة وعند سجدته الكبيرة، هل تعرف سجدتَه الكبيرة؟ حين يقوم المقام المحمود فيسجد لربه عند العرش، وأهل الموقف على درجات في القرب منه، وبعضهم قريب لأنه تحقَّق بالسجود هنا قريب يسمع حمده، ولو لم يكن من نعيم الآخرة إلا سماع ذاك الحمد الذي لم يُحمد الحق بمثله لا مِن قبل مَلَك ولا نبي ولا صدِّيق ولا إنسي ولا جنِّي ولا أحد من الخلائق، قال: فيلهمني محامد لا أعلمها الآن، يفتح عليه باب فيسمعه هؤلاء، لذاذة أرواحهم بسماع الحمد، الله الله الله الله.. ما أعجب ما يتلقَّونه، قريب منه، يسمعون محامده يسمعون نداء الحق له، يا محمد ارفع رأسك، ارفع راسك يا مرفوع الرأس يا خير الناس، ارفع رأسك وقل يُسمع لقولك، وسَل تُعطَ واشفَع تُشفَّع، يا رب صلِّ عليه، واجمعنا به وقرِّبنا منه في ذاك المقام، وحققنا بحقائق السجود يا الله.
ومِن انقطاع قلوبٍ عن السجود يعيشون بين المسلمين يحبون أزياء الكفار وعادات الكفار، وعادات المنحطين لأن القلوب ما سجدت، لو سجدت قلوبهم ما أحبوا ذلك ولا التفتوا إلى ذلك، فنسأل الله أن ينوِّرنا بنُور السجود ويجعلنا من أهل حقيقته بجباهنا وبقلوبنا.. يا الله، وهذا السؤال إلى حضرة الرحمن أن يكرمَ هذه القلوب كلها، وقلوب مَن يسمعنا بالسجود لوجهه الكريم يا الله، ويا فوز مَن قُبلت فيه الدعوة وبات ساجداً لربه، وكذلك يظل وكذلك يعيش ويحيا ويموت وهو ساجد القلب لمقلِّب القلوب، يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبَنا على دينك، يا مصرِّف القلوب والأبصار صرِّف قلوبَنا على طاعتك ، في كل ليلة وأنت تكرم قلوباً بالسجود لك فأكرِم قلوبَنا هذه، أكرم قلوبَنا هذه يا مُكرم يا مُنعم يا متفضِّل، ما حال بينها وبين السجود مِن سوء مِن كبر ومِن عجب ومِن رياء ومن غرور ومن سوء ظن مما تعلمُه مما يحيطُ به علمُك مِن ميلٍ إلى غيرك ومن التفات إلى ما سواك ومِن تعويل على ما عداك زحزِحه وانزعه وأبعِده عن قلوبنا يا ناظراً إلى القلوب، قلوبنا بين يديك والحال لا يخفى عليك .. وإلى مَن نذهب بقلوبنا وقلوبهم.. إلهي.. إلى من نذهب بقلوبنا وقلوبهم؟ باب مَن نطرق لأجل قلوبنا وقلوبهم؟ يا رب ما لنا ملجأ غيرك، يا رب أين نطرح هذه القلوب؟ على بابك طرحناها وبرحابك جمعناها، اللهم نحن بين يديك وأنت مقلِّب القلوب والأبصار فانظر إلى قلوبنا نظرة تكرمها بحقيقة السجود لوجهك الكريم، يا معبود لا معبود سواك، يا مقصود لا مقصود عداك، يا مشهود يا الله يا حي يا قيوم يا الله، يا موجد الوجود يا بر يا معبود يا صمد يا مقصود، أكرِم هذ القلوب وقلوب من يسمعنا بسر السجود، حققها بحقيقة السجدود لك وحدك يا ملك يامعبود يا بر يا ودود يا الله يا الله.
وساعةَ سجودِ حبيبك في المقام المحمود اجعلنا منه قريباً، واجعل لنا مِن سرِّ القرب منه وسماع حمدِه إليك نصيباً ..يا الله، نعم مطلب عظيم ولولا عظمة ربي ما تجاسرتُ أن أطلبه، فقل له يا الله حقِّق ما طلبنا، وأنجِح ما رغبنا وزدِنا من فضلك ما أنت أهله يا ربنا، حقق لنا ذلك حقِّق لنا ذلك، امنحنا ذلك أكرِمنا بذلك، هب لنا شريفَ ذلك يا ملك الممالك، يا الله ، حالِية فقُلها عسى تذوق حلاوتَها وتسعد بها يوم اللقاء، يا الله، أذِن لنا أن نسأله، وأذن به أن ندعوه، وأذِن لنا أن نخاطبَه وأذن لنا أن ننطق باسمه ووفقنا لذلك، فله الحمد، فما أعجب أن تقول متوجهاً إليه متذللاً بين يديه منادياً باسمه يا الله، ما نطق لسانُك بأشرف مِن هذا الاسم ولا أجمل من هذا الاسم ولا أكرم، يا رب شرَّفتَ ألسنتَنا فشرِّف قلوبنا، شرفنا بسرِّ أسمائك وصفاتك يا حي يا قيوم يا الله، وفقتَنا فاقبلنا وهنِّئنا بنتائج القبول في الدنيا وعند الموت وفي البرزخ ويوم الوقوف بين يديك، يا الله حتى تكفيَنا كل هول مهول، وتربطنا بسيدنا الرسول، وتحلَّنا معه في دار الكرامة في الفردوس الأعلى خير حلول، يا بَر يا وصول يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين، ارحم أيدي الفقراءَ والضعفاءَ التي امتدت إليك، عبادُك بفنائك مساكينك بفنائك فقراؤك بفنائك سائلوك بفنائك، إلهي عبيدك بفنائك سائلوك بفنائك فقراؤك بفنائك مساكينك بفنائك، إلهنا عبيدك بفنائك سائلوك بفنائك فقراؤك بفنائك مساكينك بفنائك، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين..
والحمد لله رب العالمين.
17 ربيع الأول 1438