(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 8 رجب الأصب 1437هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: سر التوجه إلى الرب ودعائه واستغاثته وأثرها في الدارين.
الحمد لله على نسماتِ الإفضالِ الرباني والجُود الامتناني، الحمد لله على واسعِ الرحمة التي يبرزُ فيها في هذا العالَم تقريبُ قاصٍ فيرجع إلى داني، وتوبةٌ على عاصٍ فيرحمه الرحمن فيُدرك فوقَ الأماني. ولم تزل رحمةُ الله تبارك وتعالى تتطلَّب الذي يتلقّى لها والذي يتهيأ لها والذي يتأهل لها.. (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
فإذا أحسنتَ النيةَ وحضرتَ محضراً مباركاً أحاطت بك الرحمة، وأخذت بك الرحمة، وإذا صدقتَ في الوجهة وأحسنتَ في ركعة وفي سجدة وفي قومة بين يدي الله نالتك الرحمة، وأقبلَت إلى حدٍّ عظيم يترجمه لنا زينُ الوجود صلى الله عليه وسلم ويقول: "إذا قام أحدكم إلى صلاته أقبل اللهُ عليه بوجهه" وعند هذه الإقبالة يتبادر الملائكة، حتى أن الملك ليُقابل فمه لِما يقرأ من القرآن والذكر.. ولذا أمرنا بالسواك قبل الصلاة، وأمرنا أن لا يبقى شيء من آثار الطعام في أسناننا، فإنه تشمئز منه الملائكة. "إن أحدكم يتلقى الملك" والملائكة تتلقى هذا لِمكانِ إقبالِ الله على هذا العبد، نالته الرحمة بوقوفِه بين يدي الرب جل جلاله، وكلما أحسن في برٍّ لوالدين أو صلة للرحم أو في تفقُّد حال جار أو في صدقة على محتاج أو في قراءة قرآن.. يقول جل جلاله وتعالى في علاه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
(وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والرحمة إذا جاءت للعبد تهيأ للرقي مُرتقى بعد مُرتقى على حسب ما يتهيأ، فالرحمة العامة إذا انبسطت ترتبَ عليها النجاة من العذاب، والنجاة مِن سوء المآب، قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) والرحمة الخاصة قال: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والرحمان جعلَنا في أمةِ حبيبِه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم سيد الأكوان، وجعل بين أيدينا القرآن، وجئنا في زمنٍ والقرآنُ محفوظٌ مقروءٌ منظورٌ بين أيدينا، مُيسَّر لنا أخذُه، مُيسَّر لنا قراءتُه، لله الحمد ولله المنة. ويغارُ الرحمنُ عليه في ليلة من الليالي فيصبح الناسُ لا آية ولا حرف من القرآن لا في الصدور ولا في السطور.. نعوذ بالله من ذلك الوقت، وما دام القرآن بيننا فبساطُ الرحمة مبسوطٌ لنا، اللهم اربطنا بالقرآن وتدبُّره وتأمُّله. اربط حسن الصلة به حتى يأتيكَ رمضانُ وأنت على حالٍ جميل مع هذا القرآن، فيفتح لك القرآن مما خبأ اللهُ فيه مِن أسرار الصلة، والوصلة، والمواصلة، والمخاطبة، والمكالمة ما يطيب لك به الفرض والنفل والتراويح والوتر والضحى، وما يكون في ليالي رمضان وأيام رمضان، بإحياء رمضان غَفْرُ ما تقدَّم من الذنب، بقيام رمضان وصيام رمضان إيماناً واحتساباً غَفرُ ما تقدم من الذنب.. وفوق ذلك عطايا.. وفوق ذلك عطايا.. وفوق ذلك عطايا.. في كل ليلة وفي كل يوم.. هيأنا الله لإدراك ذلك الشهر، وبلَّغنا إياه، وجميع أهلينا ومَن معنا، اللهم أطِل لنا الأعمار حتى ندرك شهر الأنوار.
واجعل لنا من رحمتك الواسعة ما نغنم به ليالي شهر رجب كلها، وأيام شهر رجب كلها، وساعات شهر رجب كلها، وأيام وليالي وساعات شهر شعبان، اللهم اجعلنا مِن مغتنمِيها والفائزين بما تجعله من الخير فيها، برحمتك يا أرحم الراحمين. وقد وجَّهنا صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن نسأل ربنا في كل ليلة من اليالي، يقول: "اللهم إني أسألك خير هذه الليلة، فتحَها، ونصرَها، ونورَها، وبركتَها وهداها" و"اللهم إني أسألك خيرَ هذه الليلة وخيرَ ما فيها، وأعوذ بك مِن شرِّ هذه الليلة وشرِّ ما فيها" واليوم كذلك. والمعنى: أن لله فتح، ولله هدى، ولله نصر، ولله عطاء في كل ليلة وكل يوم، فاغنم ذلك.
ففرصتُك في كل ليلة، وفرصتُك في كل يوم أن تدركَ مِن تلك الليلة نورَها وبركتَها وهُداها وفتحَها ونصرَها، جود مِن جود الله جل جلاله وتعالى في علاه، يُعطاه المتعرِّضون لرحمة الله تعالى. والقلوب الغافلة من المسلمين يُرثى لها، ليلة بعد ليلة، ما لها توجُّه إليه ولا طلب منه ولا تَشَوُّف لهذه الرحمة، ويعدُّون إن حصلوا شيء في هذه الحياة إما ثياب وإما متاع من متاع الدنيا وإما أمور تدور فيها أفكارُهم وعقولُهم، كأنها غايات وما هي بغايات، كأنها دائمات وما هي بدائمات، كأنها شريفات وما هي شريفات، كأنها كريمات وما هي كريمات، كأنها رفيعات وما هي إلا ساقطات، ولكن تعلقت بها العقول والقلوب فتمر على الواحد منهم ليلتُه ما يتطلَّب، ما يسأله، مالَهٌ مثل ذا المجلس ولا يسمعه ولا يتخبَّر عنه، ولا له قلب يميل إليه وما يطيب إلا إن شيء غيبة.. وإلا ضحكة في غير محلها بعد ضحكة.. استهزاء بذا أو بذاك.. أو استخفاف، أو شيء من هذه الأشياء التي تُسقطه عند الله تبارك وتعالى، وتُبعِده من حضرة المولى جل جلاله.. وهذا حال مسلم ما تربى، وهذا حال مسلم ما تحقق بحقائق الإسلام، وهذا حال مسلم انخدع واغترَّ بما عرضَ له في الطريق مِن تسويلات وتلبيسات وخطوات لإبليس وجنده من شياطين الإنس والجن، أعداء الحق وأعداء الأنبياء والمرسلين، دفع الله شرَّهم عنا وعن أهلينا وعن أولادنا وعن أصحابنا وعن أحبابنا وعن طلابنا وعن جيراننا وعن المسلمين والمسلمات.. اللهم أمين.
فإذا توجَّهَ قلبُك وحضرت مثل ذا المحضر رُجِي أن تدركَ من الليلة فتحَها ونصرَها ونورَها وبركتَها وهُداها، وما هي إلا ظرفٌ له، وما الفتح إلا فتحه، وما النصر إلا نصرُه، وما البركة إلا بركته، ولا الهدى إلا هداه، سبحانه وتعالى، فلما كانت ظرفاً ومكاناً نُسبت هذه الخيرات والتجليات والعطاءات إليها. يقول: خير هذه الليلة، فتحها، ونصرها، وبركتها، ونورها، وهُداها، وهذه النسبة التي تنسب إلى الأنبياء، إلى الصالحين، إلى كل من كان سبباً في فتح، في هداية، في فتحه، نصره، هدايته، بركته، وسره. إلا يأتي يوسوس البعض يقول أنتم تذكرون صلحاءكم!؟ والمسلمين جميعا، سائر أهل السنة في الشرق والغرب يذكرون صلحاءهم ويقولون: اللهم انفعنا ببركته وسره، نقول لماذا ما تسألون بركته؟ النبي ما ترك حتى الأيام والليالي وأضاف إليها السر والبركة والفتح والنصر، وجئت لتضع الولي والمؤمن أقل من الزمن واليوم والليلة!؟ هذا التصقت به البركة والفتح، وهو الليلة واليوم زمن من الأزمان المخلوقة، فكيف بمن تتشرَّف به الأيام واالليالي، وهم سبب الفتح، وهم سبب الهدى، وهم سبب الخير؛ والخيرُ خيرُه تعالى، وإنما أجراه على يد هذا، وأجراه في الظرف هذا وفي الوقت هذا. "ألا وإن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرَّضوا لها" ألا فتعرَّضوا لها.
وصدق الصديق وقد قال في ممشاه أيام هجرته إلى المدينة المنورة، فكان يعرفه بعض البادية، يقول أبا بكر من هذا معك؟ يقول: هادٍ يهديني الطريق .. هادٍ يهديني الطريق.. ونِعم الهادي هو صلى الله عليه وسلم.. يظنونه جاب دليل يدله على طريق البوادي حقهم، وهذا دليل يدله على طريق الحق ويوصله إلى الحق.. هادٍ يهديني الطريق.. وإذا كان لكل قوم هاد، فهادينا خير العباد صلى الله عليه وسلم، محمد الهادي الدال، ونِعم الهدايةُ هدايته، ونِعم الدلالةُ دلالته. وكنت أنت مِن أمته فضلاً من ربك عليك وجوداً وكرماً، وصلَ مِن حضرة الربوبية إليك فضلاً منه سبحانه وتعالى، بطلب منك؟ حد منكم قدَّم طلب اجعلني في أمة محمد؟ من منكم؟ من قدَّم طلب في هذا؟ من الذي جعلكم؟ من الذي رتَّبكم؟ هو سبحانه وتعالى، له الحمد له المنة.
فاغنموا بركات الليالي وما فيها، اغنموا خيرَ الله وفتحَ الله ونورَ الله وبركةَ الله، بأسباب ظروف الأيام والليالي، وبأسباب الهداة المهتدين والعلماء والصالحين، وبأسباب الأعمال التي تقومون بها أو يوفقكم الله تبارك وتعالى إليها، وكلها مخلوقات قوالب للتجلِّي والفضل، وهي هذه القوالب وما يُتَجلَّى به عليها منه وإليه جل جلاله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) سبحانه وتعالى.. فالله ينوِّر قلوبنا بأنوار الصدق في الإقبال عليه والتوجه إليه فنغنم ليالينا ونغنم أيامنا.
أسبوع كامل مرَّ علينا من شهر رجب، الشهر الكريم، قرَّبنا الربع الآن يذهب علينا من الشهر وباقي الثلاثة الأرباع، عسى نظر الله فيها إلينا، عسى رحمة الله فيها تنهلُنا، ونترقى مراقي قُربِه والمعرفة به والرغبة فيما عنده جل جلاله، ومدِّيت كفي عسى دعوة تصادف قبول، ونمد إلى ربنا سبحانه وتعالى أيدينا ونقول: انظر إلينا يا بارينا، واصلح ظواهرنا وخوافينا، وتولَّنا في دنيانا وآخرتنا، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ مِن خلقك طرفة عين، وما بَثَثْتَ من الخيرات في الليالي والأيام والبركات والفتح والنور فاقسم لنا منه بحظ، وما أعطيتَه عبادَك الصالحين فلا تحرمنا بركة نبي، ولا بركة ولي ولا بركة مُقرّب ولا بركة صالح ولا بركة صديق، كل بركة من بركاتك التي تجلّيت بها على هؤلاء وجعلتهم أسبابها ومجراها اقسم لنا بحظ فيها، واقسم لنا بنصيبٍ فيها يا الله، ونِعم الطلب إلى نِعم الرب جل جلاله وتعالى في علاه.
وبرحمته وقفتم مواقفَ الطلب مع الطالبين، والسؤال لرب العالمين جل جلاله، وإلا كم من قلوب غفلت من إخواننا أهل الإسلام، من إخواننا أهل الإيمان، وإن دعَوا أو طلبوا ما تحضر قلوبهم إلا إن أهمَّه أمر في جسمه أو ماله أو حاله الحسي، ومع ذلك كله فالغفلة تطارده حتى وهو في دعواته. كما سمعتم قصة الذي طلب الدعاء من سيدنا موسى في حاجة، فأخذ مِن سيدنا موسى الدعاء، وأخذ يدعو به مدة، ثم رجع إلى سيدنا موسى يقول يا كليم الله دعوت بالدعاء الذي علمتَني وما رأيت أثر الإجابة؟ فسأل ربه قال: يا رب هذا عبدك له مدة، يُلحُّ عليك ولو كان يطلب من شيء في قدرتي وبيدي أنا بما خلقت فيَّ من رحمتك سأعطيه، قال أوحى الله إليه يا موسى إن هذا يدعوني وقلبه عند غنمه، فلو دعاني مرة واحدة وقلبه معي لأجبته، قل له يخرج الغنم من قلبه وهذه الأشياء القاطعة ويدعوني حاضر معي، جل جلاله وتعالى في علاه.
وهذا من أسرار الدعاء، أن يجتمع همُّ العبد على المدعو، فيتحقق بالانكسار والخضوع، فلهذا يقول الإمام الحداد:
فدعائي وابتهالي شاهد لي بافتقاري ** فلهذا السر أدعو في يساري وعساري
ونقول هذا ونبسط بساط هذا، تعلم السؤال وكيفية السؤال. كان سيدنا عمر بن الخطاب يقول: ما أحمل همَّ الإجابة ولكن أحمل همَّ الدعاء. كيف يصح مني الدعاء.. كيف أصدق في الدعاء.. كيف يصدر مني الدعاء على حال لائق بمخلوق يسأل خالق.. ضعيف يسأل قوي.. عاجز يسأل قادر.. فاني يسأل باقي .. حادث يسأل الأول والآخر والظاهر والباطن.. كيف يسأله؟ فإذا قام السائل على وجهه فالإجابة مضمونة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) وإنما نبسط هذا البساط ونلحُّ فيه ونحب نتعلم سرَّ الدعاء إلى الله والطلب، لأن مِن سنة الله على ظهر هذه الأرض أنه إذا ضعُف من القلوب، قلوب المكلفين العائشين على ظهر الأرض التوجه إليه وطرح الأمر عليه والالتجاء إليه والاعتماد عليه والرجاء فيه والخوف منه، سلّطَ الخلقَ بعضُهم على بعض، إذا ضعف هذا وصار الرجاء ببعضهم البعض، والخوف من بعضهم البعض، والسؤال بعضهم البعض، سلّط بعضُهم على بعض والعياذ بالله تبارك وتعالى، ووكّلَهم إلى بعضهم البعض، لذا يقول حتى في الرعيل الأول أرباب النور والحضور مع الله يقول سر الاستغاثة والاتصال بي نصرتكم به: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) ثم قال الله هذه التجليات اعلموا حقيقة مصدرها: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يا عزيز يا حكيم يا نِعم المولى ونِعم النصير اكتب نصرَ كل واحد من الحاضرين معنا وممن يسمعنا على نفسه وعلى هواه وعلى شياطين الإنس والجن وعلى القواطع كلها، واجعل له قلباً يحضر معك ويقبل بالصدق عليك ويحسن التوجه إليك، ويكون مِن جنود الوجهة إليك في شهر رجب هذا يلح عليك يا من يحب الملحين في الدعاء، ويقصدك ويطلبك ويضع آماله عندك،
ربي عليك اعتمادي كما إليك استنادي ** صدقاً وأقصى مرادي رضائك الدائم الحال
وما أحلاه، ولا أحلى منه.. رضاؤك الدائم الحال.. اللهم ارض عنا، اللهم رضوانك الأكبر، وأقصى مرادي رضاؤك الدائم الحال.. نريد قلوبا تطرح الأمر على الرب وحالها وحال الأمة على الله القوي القادر، وتُحسن سؤاله والابتهال إليه، وتستغيثه سبحانه وتعالى، وسترى الغوث، وإنما تتصل هذه القلوب في أدبها بحسن طلبها ووجهتها إلى ربها، بأسرار القلوب التي خضعت قبلها، وتتصل تلك القلوب بتلك القلوب إلى أن يعود الأمر إلى حقيقة المقدَّم على الكل ومحبوب الرحمن صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وسر دعاءه وحضوره مع الله هو الذي يتفرّع في الأزمنة زمن بعد زمن، في العصور عصر بعد عصر، وفي القلوب قلب بعد قلب، تحضرون مع الله بسر ذلك الحضور، بأثره وبنُثاره وبذراته التي يوزعها الله على القلوب فتحضر معه، فهو هو صاحب السجدة وهو هو صاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلم، فإننا نستنصر المعبود بأكرمِ عابد، وكل دعائنا من تعليمه فهو مِن دعائه صلى الله عليه وسلم، وكل توجُّهِنا إلى الله من إرشاده، فهو من توجهه صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى.
ولكن إذا صح ذلك وصدق وقام على وجه التبيعة ارتبط الفرع بالأصل وجاء الخبر من الرب جل جلاله، وجاء الجواب والإجابة من الإله سبحانه وتعالى، كما نقرأ في الآية: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ومعنى سألك عني تعرّفوا إليَّ بك، وطلبوا معرفة شؤوني بواسطتك وجاءوا إلى عندك (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) يقول له في الآية الأخرى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ) عرفوا الباب الذي فتحته، وعرفوا الواسطة التي أقمتها لهم (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) ويطول من يطول ويسكت من يسكت ويقول من يقول، فنقف كلنا في موقف في القيامة كل كلام مني أنا ولا تتوسل، ويقوم صاحب الوسيلة يرجع الناس كلهم إليه. في صحيح البخاري يقول لنا: فإذا كرَب الناس في الموقف استغاثوا بآدم، فيعتذر.. وإلى نوح يعتذر، وإلى إبراهيم يعتذر، وإلى موسى يعتذر، وإلى عيسى يعتذر، هاتوا وسائلكم، أنتم عندكم أعمال صالحة حد منكم يقدر يتكلم؟ حد منكم يعرف ما معنى الوسيلة؟ حد منكم يعرف قَدْرَ هذا عند الحق جل جلاله، فإذا عندكم غير هذا هاتوا ما عندكم، ولا الأنبياء ولا الرسل ولا غيرهم بل يقولون إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله ولن يغضبَ بعده مثله.. نفسي نفسي.. اذهبوا إلى غيري.. ولماذا الأنبياء يقولون اذهبوا إلى غيري؟ ألا يوجد أحد من الأنبياء يعرف التوحيد حقكم!؟ يقول سلوا ربَّكم، الله لا يحتاج واسطة بينه وبين الخلق؟ لِمَاذا لا يقول أحد من الأنبياء يقول كذا؟ ألا يعرفون؟ تريدون تعلمونهم التوحيد؟ يقول آدم: اذهبوا إلى غيري، ويعينه اذهبوا إلى نوح.. وآدم أنت لِم لا تقول لهم سلوا الله؟ ماذا تريدون من نوح؟ وجاءوا عند نوح.. ونوح يحتاج أحد يعلمه التوحيد أو كيف؟ فيقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم.. ويقول إبراهيم: اذهبوا إلى غيري.. وما هذا التحويل من واحد إلى واحد إلى واحد؟ ما واحد منهم ما يقول لهم اسألوا الله؟
هنا تعرف سر الألوهية والربوبية.. وأن مثلي ومثلك وأعمالنا كلها لا تساوي شيء.. وإن كان من وسيلة فما أحبه الله والمحبوبية الكبرى عند محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله يحب منا أن نعرف قدر أصفيائه وأوليائه وأنبيائه، ولهذا يقول اذهبوا إلى فلان وإلى فلان، وليظهر كرامة سيدهم وتقدُّمه عليهم فيقول صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءوا إلي.." والنبي هو سيد الموحدين لا يقول تطلبون مخلوق، أنا مثلكم؟ (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وكلنا خلق واسألوا الخالق، ما ينفع إلا الخالق.. بل يقول: "أنا لها" يقول "أنا لها" يقول "أنا لها" عسى روحك تسمع، يقول أنا لها، عسى قلبك يسمع، يقول أنا لها، من شان تعرف من عظمة الألوهية سرَّ إجراء التفضل على العباد بواسطة هؤلاء المقربين وتعرف قدر محمد عند رب العالمين.
أنا لها أنا لها.. صلى الله عليه وسلم.. ويقول إذا حمد الله بالمحامد العظيمة حضرة الألوهية يقول: ارفع رأسك، قل يُسمع لقولك، سل تُعطَ واشفع تُشفّع. اللهم اربطنا به واحشرنا في زمرته برحمتك يا أرحم الراحمين..
شفاعات الأنبياء والأولياء والشهداء إذا فتح هو باب الشفاعة تُفتح باب الشفاعات لهم، فكلها اندرجت تحت شفاعته عليه الصلاة والسلام، كل واحد كان شهيد ولا يقدر يتكلم، كان نبي ولا يقدر، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـئِكَةُ صَفَّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَقَالَ صَوَاباً) من يأذن له؟ شي معك راس بيرتكز هناك؟ هو هذا صلى الله عليه وسلم، هو الذي يتكلم، هو صاحب أنا لها، صلوات ربي وسلامه عليه، اللهم يربطكم به ربط لا ينحل، ونحيا على متابعته والاقتداء به والتحقق بمحبته صلوات ربي وسلامه عليه، نِعم عبد الله المحبوب وصفوته الموهوب، اللهم ارزقنا حسنَ متابعته وبلِّغنا فوق آمالنا من شريف مرافقته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سألتم وطلبتم على باب الكريم وقفتم، والحمد لله على ذلك، وننوي النيابة على تلك القلوب الغافلة التي ما عرفت تسأل ربها ولا لها تشوّف ولا التفات إلى ذلك مأخوذة .. مأخوذة بالدنايا بالحقيرات.. مأخوذة ببرامج الكفار والفجار.. يارب نظرة إلى هذه القلوب ونحن من أمة محمد نسألك لنا ولهم ارحم أمة سيدنا محمد، فرِّج عن أمة سيدنا محمد، أغث قلوب أمة سيدنا محمد، ادفع البلاء عن أمة سيدنا محمد، واجعلنا في خيار أمة سيدنا محمد، وانفعنا بأمة سيدنا محمد عامة وبخاصَّتهم خاصة يا أرحم الراحمين.
نريد قلوباً تتوجه بصدق إلى الله في هذه الأشهر حتى تنفتح أبوابُ الفرج إن شاء الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ) هو ربهم هم لوحدهم أو ربنا نحن؟ هو واحد، ربنا لنا ولهم سبحانه وتعالى، فإذا توجهنا إليه واستغثناه سبحانه وتعالى أغاثنا كما أغاثهم، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) فاجعل يا رب مِن حظِّنا ونصرك لنا في الحياة الدنيا أن نرى رايات الحق ظاهرة في مشارق الأرض ومغاربها، وكيدَ الكفار والفجار والأشرار عاد عليهم وكُفي المسلمين شرورهم يا الله، واجعل من نصرك لنا يوم يقوم الأشهاد قُرباً من الناصر المنصور صاحب المقام المحمود، وسماعاً لحمدِه إذ يحمدك في ذلك المقام يا أرحم الراحمين .. يا أرحم الراحمين، ولا تخيبنا .. ولا تخيبنا في أنفسنا ولا في أحد من أهالينا ولا من أقاربنا ولا من طلابنا ولا من أصحابنا لا تخزنا في أحد منهم يا أكرم الأكرمين.
مِن سرِّ ما قلت لسيدنا: "إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك فيهم" اللهم ارضِه فينا وفي كل من اتصل بنا وكل من والانا يا حي يا قيوم يا الله.
هذه الأشهر المباركة، أرِنا انتشار رحمتِك فيها، وأخذها بيد العباد في الخافي وفي الباد، يا أكرم الأكرمين وأجود الأجواد، يا رب جميع العباد يا من بيده الأمر في كل خافٍ وبادٍ، يا ملك الدنيا وملك يوم التناد، يا من لا إله إلا أنت أغثنا يا مغيث بالغياث الحثيث تندفع به عنا شر كل خبيث يا الله.
ونتوب إليك فاقبل توبتنا، ونستغفرك فاغفر زلَّتنا وجميع ذنوبنا وخطيئاتنا يا خير الغافرين يا الله يا الله يا الله.. يا مَن تحب المُلحِّين في الدعاء ها نحن ندعوك في تبعيةٍ لخيرِ مَن دعاك فأجب دعاءنا ولبِّ ندائنا، من خير ما تنطق به قلوبنا وألسنتنا، اسمك الأعظم نقول لك: يا الله، اللهم كما شرَّفتنا وإياهم بإجراء هذا النداء لك يا عظيم بالاسم العظيم اجعلنا من أهل الفضل العظيم والحظِّ العظيم بالنبي العظيم، وثبِّتنا على الصراط المستقيم، وأجِرنا من الخزي والعذاب الأليم يا الله يا الله يا الله.. شرَّفتَنا بندائك فادفع عنا جميع بلائك، وأعذنا من عذابك، ولا تسوّد وجه أحد منا يوم لقائك، يا الله يا الله يا الله يا الله.. ندعوك للأمة فاكشف الغمة، أجِلَّ الظلمة ادفع النقمة يا حي يا قيوم يا الله.. بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان، أعنا على الصيام والقيام، احفظنا مِن الآثام، يا ذا الجلال والإكرام.. والحمد لله رب العالمين.
09 رَجب 1437