(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 18 شوال 1440هـ بعنوان:
سرايات علم ( لا إله إلا الله ) الأشرف الأقدس واستغفار حبيب الرحمن للمؤمنين والمؤمنات في قلوب الأمة وواقعها.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، مُشْرِقِ أنوارِ التوفيقِ والهُدى، وهو الذي استوَى في علمِه ما خَفِيَ وما بَدَا، وهو الذي إليهِ مَرْجِعُ الأوَّلين والآخِرِين لِيَحْكُمَ بينهم جلَّ جلاله في ما كانوا فيه يختلفون، {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، ألْحِقْنا اللهمَّ بهم يا أكرمَ الأكرمين.
وصلِّ وسلِّم على مَن بيَّنَ لنا هذهِ الحقائقَ عنكَ يا خالِق، فهَديتَ بهِ مَن سبَقَت له السَّعادةُ مِن الخلائق، عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمد، وعلى آلهِ وأصحابهِ وكُلِّ مُتابعٍ صادقٍ موافِق، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياءِ والمرسلين، الذين سبَقَت لهم منكَ أعلى السَّوابِق، بأعلى السَّعاداتِ في السَّوابِقِ واللَّواحِق، وعلى آلهِم وصَحبهِم وملائكتِكَ المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصَّالحين، وعلينا وعلى أهلِ مَجْمَعِنا ومَن يسمَعُنا معهم وفيهم، برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين، وجُودِكَ يا أجودَ الأجوَدين.
طافَتْ أرواحُكم حولَ حِكَم جامِعِكُم الذي بالفَضلِ جَمَع، ولكمُ الخيرَ أسْمَع، وربطَكُم بالنبيِّ المشفَّع، وجعلكُم في تلقِّي لفائضِ جُودهِ الذي يَهْمَع، وفضلهِ الذي يتتابَع، فأنْعِم به مِن إلهٍ كريم، بعثَ الرؤوفَ الرحيمَ بالحقِّ والهدى والمنهجِ القَويم، ووعدَهُ أنْ ينصُرَه، ويجعلَ في أُمَّتِه مَن يَتْبعُ أثَرَه، ومَن يقومُ بالاقتداءِ به والاهتداءِ بهديِهِ، وتجديدِ دِينهِ على مَمَرِّ السِّنينِ والقُرون، فَلِلَّهِ الحمدُ والمِنَّة.
ولقد جعلَ مِن شعارِنا في أعيادِنا: (لا إله إلا الله وحْدَهُ، صدقَ وعْدَهُ، ونَصَرَ عبدَهُ، وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه)، كلما تَحَزَّبَت فِئاتُ الكُفرِ والضَّلالِ في المشْرقِ والمغْربِ على دينِ الله ومِنهاجهِ وما بعثَ بهِ محمداً صلى الله عليه وسلم فحالُهم كما وصفَ الجبَّارُ في القرآن: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً واللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } جلَّ جلاله، وانْظُر إلى كَرمهِ على مَن اتَّبعَ واقتدَى واهتدَى؛ قال الذي يُوقَدُ مِن الحربِ ضِدَّهم الله يتولى إطفاءَهُ دونَهم: { أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }، اللهمَّ أصلِحنا واجعَلنا صالحين، واجعَلنا في عبادِك المُصلحِين.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ }، أي ما دامَت فيهم وِجْهَةُ الإقبالِ الصَّادِق على الله؛ في إرادةِ إصلاحِ أحوالِهم ومَن حوالَيْهِم على ما يَرْضاه، فإنه لا يُعذِّبُهم ولا يَعُمُّهم بِبَلاء، ويدفعُ السُّوءَ عنهم، ولا يُهلِكُهُم جلَّ جلاله ما دامَ فيهم حِسُّ التَّقويم، حِسُّ ترتيبِ الاقتداءِ والاهتداء، حِسُّ التَّخلُّصِ مِن تَبِعيَّاتِ أعداءِ اللهِ؛ مِن النُّفوسِ، والأهْوَاءِ، وشياطينِ الإنْسِ والجِن ، إلى الخضوعِ لجلالِ الله، والاقتداءِ بِرُسُلهِ وأنبياه، وسيِّدِهِم مُصْطَفاه، وآلهِ وصحبهِ ومَن اهتدى بهداه.
فيا ربِّ ثَبِّتنا على الحقِّ والهُدى ** ويا ربِّ اقْبِضنا على خيرِ مِلَّةِ
يا أهْلَ الجمْعِ في الوِجْهَة إلى الله: رزقكمُ اللهُ صِدقَ التَّوَجُّه إليه، وصِدقَ الإقبالِ عليه؛ فإنَّه قال جلَّ جلاله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}، والفوزُ لمن سَمَت وِجهتُه وعَظُمَت؛ فصار إلى الله مُتَوجِّه، وإلى ندائهِ وتعلميهِ مُتَنبِّه، لا يَلْوِي إلى دُعاةِ الفسادِ والضَّلال، ولا إلى الزَّيغِ الذي يترتَّبُ عليه سُوءُ الحالِ والمآل؛ فيقتدِي ويهتدِي ويَتنوَّر ويَتطهَّر، بصِدقِ وِجْهتهِ إلى الرب، اللهمَّ اجعَل وجهتَنا إليك، وارزُقنا صِدقَ الإقبالِ علَيك.
وأدخِلنا في تبعيةِ سيِّدِ مَن قال: ((وجَّهْتُ وجهِي للذي فَطَرَ السَّمواتِ والأرْض، حَنيفاً مُسْلِماً، وما أنا المشْرِكين))، ونتيجةُ الوِجهة: أنْ يكونَ بِكُلِّه لله، أنْ يكون بِكُلِّه: فِكراً، وذوقاً، وعملاً، ومُحاولةً، ووصْفاً لله، ((إنَّ صلاتي ونُسكِي ومَحْيَاي ومماتي، لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له))، ولا أُشْرِكُ به أحَدا، في وِجهتِي، ولا نِيَّتي، ولا عملي، ولا قصدِي، ولا إرادتي، ولا أخْذِي، ولا عطائي، ويَدْخلُ في دائرةٍ قال عنها زينُ الوجود: ((مَن أحبَّ لله، وأبْغَضَ لله، وأعْطى الله، ومَنَع لله، فقدِ اسْتَكْمَلَ حقيقةَ الإيمان)).
((أحَبَّ اللهِ، وأبْغَضَ للهِ)) صَحَّ الميزانُ عنده، فلا يُحِبُّ إلا اللهَ وما يُحبِّهُ اللهُ ومَن يُحبِّهُ اللهُ جلَّ جلاله، تدعوه نَفْسُه إلى محبَّةِ شهواتِها فيقولُ: لا؛ بل أُهَذِّبُكِ وأُهَذِّبُ شَهَواتِك، ولا أقبلُ إلا ما يُرضي ربَّكِ جلَّ جلاله، وسأقهرُكِ على تَركِ ما يَبْغضُ هذا الإله، وأنْ تتناولِيها بما شرعَ تعالى في عُلاه، ويدعوه شياطينُ الإنسِ والجنِّ إلى أنْ يُحِبَّ ما يَبغضُ اللهُ ومَن يَبْغضُ اللهُ، فيقول: (نُحِبَّ بِحُبِّكَ النَّاسَ، ونُعادي بِعَداوَتِكَ مَن خالفكَ مِن خَلْقِك).
((مَن أحَبَّ لله، وأبْغَضَ لله))، ولا يَبْغَض مُسْلماً، ولا يَبْغَض مؤمناً؛ بل ولا يبغضُ مخلوقاً مِن حيثُ يَتمنَّى هِدايةَ الجميع، ولا يبغضُ إلا ما أبْغَضَ اللهُ مِن الكفرِ والفُسوقِ والعصيانِ، جلَّ جلالُ الله تعالى في عُلاه، ((وأعْطَى لله، وَمَنَع لله))، لم يَعُد مُقاداً بِهوىً، لم يَعُد مُقاداً بِتَوَجُّهاتِ الفُسَّاق والمفسدين، لا يَمْنَةً ولا يَسْرَة؛ لله يُعطي، لله يَمْنع، لله يُحِب، لله يبغض ((فَقَدِ اسْتَكْمَل حَقِيقةَ الإيمان))، وإذا استكملَ حقيقةَ الإيمان صارَت وِجهَتُهُ وأعمالُه مُصَفَّاةً عن الأدْرَان.
وحينئذٍ يُصافَى مِن قِبَل الرَّحمن، ويذوقُ الوِداد، ويُدْرِكُ مِن سِرِّ المحبةِ الرَّبانِيَّة ما قال عنه الحقُّ في حديثهِ القُدسي، فيما روى الإمامُ البُخاري في صحيحهِ عن نبيِّنا محمد، عن إلهِنا الحق الأوْحَد: ((ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحَب إلي مِن أداءِ ما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ بعد أداءِ الفرائضِ حتى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَه الذي يَسْمَعُ به))، وهو الشَّأنُ الذي تَقْصُرُ الأفهامُ والعُقولُ عن الإحاطةِ بِمَعناهُ.
ولِكُلٍّ مِن ذَوِي الرُّسُوخِ في العِلم تفسيرٌ بما هداهُ اللهُ إليه، وحقيقتُه راجِعَةٌ إلى عَظَمَةِ الله، وعظَمَةِ عَطاياه، وعظمةِ توَلِّيهِ لمَن أحَبَّهُ واصطفاه، ((كنتُ سَمْعَهُ الذي يسمعُ به، وبصرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ، وَرِجْلَهُ التي يمشي بها؛ ولَئِن سألَني لأَعْطُيِنَّه، ولَئِن استعاذني لأُعِيذَنَّهُ))، وهل يَجِد مخلوقٌ على ظَهْرِ الأرض عَرْضَاً أكرَمَ مِن هذا العَرْض، مِن ربِّ السماءِ والأرضِ يَعْرِض عليه هذا العَرْض؟!.
يُغْرُونَهم بِحَقِيرَاتِ الأشياء، وبِسَبَبِها يَتنَكَّرون لِقِيَمِهِم، ويَتنكَّرون لأخلاقهِم، ويتنكَّرون لِسِيَرِهِم، ويتنكَّرون لأقوامهِم وبُلدانهِم، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولكن هذا عرْضُ الرحمن: أنْ يُحِبَّك؛ فيكون سَمْعَك وبَصَرَك، ويَتجلَّى عليكَ هذا التَّجلِّي، ويُعطيكَ هذا العطاءَ العظيم، الرَّفيعَ العَلِي، فما أعظمَ عَرْضَ ربِّنا علينا، بأداءِ ما افْتَرَض، والعَشْقَةِ لما يُقرِّبُ إليه، لما يُدْني مِن حَضْرَتِه مِن النَّوافِل، وحينئذٍ تَنْغَلِقُ أبوابُ المحرَّمات؛ بل المكروهات والشُّبُهات تنتهي مِن حياةِ هذا الإنسان، تنتهي مِن فِكْرِ هذا الإنسان، تنتهي مِن وِجْهَةِ هذا الإنسان؛ فلا يبقى شُبهةٌ ولا مكروهٌ فضلاً عن حرام، فيَصيرُ مَرْضِيّاً محبوباً، وحينئذٍ يُعطَى ما يليقُ بِمَحبَّةِ الذي ليس كمثلهِ شيء؛ وعطاؤه ليس كمثلِه عطاء، وفضلُه ليس كمثلِه فَضْل، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }، جلَّ العظيمُ جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فَلْتَتَعَشَّقِ القلوبُ هذا العَرْضَ مِن عَلَّامِ الغُيوب جلَّ جلاله، ولتَتَطهَّرَ عن دَنَسِها والعُيوب، ولْتُقْبِل على الرَّحمن، ارْزُقنا صِدقَ الإقبالِ عليكَ يا منَّان، وطَهِّرنا عن جميعِ الأدْرَان، واجعَلنا مِن الـمُغْتَنِمين للَّيالي والأزْمان، الذين تُصلِحُ لهم كُلَّ شأن، وتدفعُ عنهم كَيْدَ النَّفسِ والهوَى والشيطان؛ فإنَّا بِكَ نعوذُ، وبكَ نَلُوذُ، فأعِذْنا مِن كلِّ ما يَقْطُعَنا عنِ القُرْبِ مِن حَضْرِتك، والظَّفَرِ بِمَودَّتِك، والدخولِ في خِيرَتِكَ مِن عبادِكَ وصَفْوتِك، يا مُجيبَ الدَّعوات، يا قاضِيَ الحاجات، يا مُطَّلِعاً على الطَّوِيَّات، كُلُّ قاطِعٍ يقطعُ فرداً مِن حاضِرينا وسامِعينا فاقْطَعهُ عنه وهيِّئ له القُرب، واسْقهِ مِن أحْلى شُرْب، يا مَن يُستغاثُ فيُغِيث، ويُدرِكُ بالغِياثِ الحَثِيث، ويَدفعُ شَرَّ كلِّ قاطِعٍ وخَبيث؛ لا إلهَ إلا أنت، اجعَل قلوبَنا صادقةً في الوِجهةِ إليك، وارزقنا حُسْنَ التذلُّل بين يدَيك.. يا إلهَنا، ويا ربَّنا.
وهذه أيدينا بالاعترافِ، وبالتَّوبةِ إليك مِن سُوءِ الاقْتِراف، لنا ولأهلِ لا إلهَ إلا الله، في كلِّ ظاهرٍ وخافٍ، اللهم فآمِنَّا مِن جميعِ الأخْوَاف، وادفَع عنا جميعَ الشَّرِّ والضُّرِّ والإسْراف، وارزُقنا المتابعةَ لشريفِ الأشراف، حبيبِك المَبعوثِ إلينا بالمنهجِ القَويمِ القويِّ النظيفِ الصَّاف، ارزُقنا حُسْنَ مُتابعَتِه، وأكْرِمنا بمحبَّتِكَ ومحبَّتهِ.
وأنتَ القائل في الآيات التي أنْزَلْتها عليه، آمِراً إيَّاهُ أنْ يقولَ لنا ويُبلِّغَنا عنك: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}، اللهم نِداءَ: {فَاتَّبِعُونِي} مِن حَضْرَةِ رُبُوبِيَّتِك وألُوهِيَّتك وقَيُّومِيَّتِك وعظَمَتِكَ مَكِّن وصولَهُ إلى قلوبِنا، ومكِّن قلوبَنا مِن الاستِجابةِ له، والتَّلْبِيَة لهذا النِّداءِ يا كريم، يا رحيم، {فَاتَّبِعُونِي}، حتى لا يبقَى في القلوبِ عِشقٌ إلا لاتِّباعِ حَبيبِك المحبوب، وحتى يَنْقَطِعَ عنها كُلُّ رَغبةٍ فيما لا يُقَرِّب إليك، ولا يَدُلُّ عليك، مُلَبِيةً لنداءِ {فَاتَّبِعُونِي}.
نداءٌ نادى به زينُ الوجود بأمْرِ الإلهِ المعبود، والحقِّ المقصُود، تسمعُه قلوبُ مَن سَبَقت لهم السَّوابقُ بالسُّعود، يا الله اجعل قلوبَنا سامِعةً مُلبِّيةً لهذا النِّداء، واهْدِنا بِهُدَى نبيِّ الهدى، واجعَلنا مِن خواصِّ مَن له اتَّبعَ وبِه اقتدى، فيما خَفِيَ وما بدَا يا الله.. يا الله، ارزُقنا صِدقَ الاتباع، وأعِذنا مِن الآفاتِ والزِّيغِ والابتداعِ والضَّياع، وعامِلنا بما أنتَ أهْلُه، يا حيُّ يا قيُّوم، وأنِلْنا فوقَ المراداتِ والأطماع، مِن سِرِّ: {يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
ربَّنا: نشكُو إليكَ قلوباً تَصامَمَت عَن نداءِ: {فَاتَّبِعُونِي}، واسْتَمَعت إلى نِداءاتِ الفُسَّاقِ والأشرارِ، فصدَرَت عنها قبيحُ الأخلاق، وسُوءِ المعاملة لكَ يا خلَّاق، وهِيَ قلوبٌ تقولُ بألْسِنَتها: لا إلهَ إلا الله، فَبِحَقِّ (لا إلهَ إلا الله) اجعل سِرايةً مِن سِرِّها إلى قلوبِ مَن يقولُهَا يَسْرِي؛ حتى يستجيبَ لِندائِكَ الأعلى، وفي مَجْرى التَّلبيةِ يجري، يا حيُّ يا قيوم.
إنها كلمةٌ عَظُمَت لديكَ، وتَبْتَلي مَن تَبْتَلي بِقَولِها بلسانِهِ وغَيَاب حقيقتِها عَن جَنَانِه حتى لا يُخْتَمَ له بها، فلا يُحشَرُ مع أهلِها، والعياذُ بالله، فنسألكَ بحقِّها ومنزِلتِها عندكَ وحقِّ أهلِها المتحقِّقين بك، أنْ لا تَدَعَ في ديارِنا ومنازِلنا قَلْباً إلا حقَّقْتَهُ بحقائقِها، وإلا سَقَيْتَهُ كؤوسَها، وإلا شَرَّفْتَهُ بالتَّحَقُّقِ بـ(لا إلهَ إلا الله)، فيَسرِي إليهِ العِلْمُ الأنْفعُ الأرْفعُ الأحَقُّ الأصَدَقُ؛ الذي قلتَ عنه في خطابِ أعْلمِ الخَلْقِ بكَ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله}، وحبِيبُكَ هذا خيرُ مَن عَلِمَ هذهِ الحقيقةَ مِن جميعِ الخَلِيقَة.
إلهَنا.. والقلوبُ التي حُرِمَتِ السُّقْيا لمعرفةِ هذه الحقيقةِ مِن القائلينَ لها بالألْسُنِ ارحَمهم وأكْرِمهُم وتدارَكهم قبْلَ الفَوَات، وقبلَ المماتِ على سوءِ الخاتمات، وحقِّقهُم وحقِّقنا بحقائقِ (لا إلهَ إلا الله)، يا إلهَنا، وأهلَ مجمعِنا ومَن يسمعُنا أكرِمهم بنصيبٍ وافرٍ وحَظٍّ كامل مِن سِرِّ التحقُّقِ بحقيقةِ هذا العِلْمِ الإلهيِّ النبويِّ المحمديِّ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله}.
ونورٌ يَسْري مِن حقيقةِ هذا العِلم إلى قلبِكَ.. ذرَّةٌ من هذا النورِ لا تُبقِي في قَلْبِكَ ذميماً مِن الصِّفات ولا تَدَع، وبها إلى مَقامِ القُرْبِ تُرْفَع، ويَحْسُنُ ارتباطُك بِسَيِّد أهلِ العِلْم بها عبدِ الله وحبيبهِ المشفَّع، صلوات ربي وسلامه عليه، يا مَن علَّمتَهُ وجعلتَهُ أعلمَ مَن عَلِمَ عنكَ ارحَم قلوبَنا بِسِرَايةِ هذا العِلم فيها، والتحقُّقِ بحقائقِ معانيها.. يا الله.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..}، ونَقْرَأُ رأْفَتَكَ ورحمتكَ بالمؤمنين والمؤمنات، وأنتَ تُخاطِبُ عبْدَكَ الذي جعلتَهُ بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، وتقول له استغفِر لهم، اطلب منِّي أنْ أغْفِرَ لهم؛ فإني أريدُ أنْ أغفرَ لهم، فَتَوَجَّه إليهِم وتَشفَّعْ لهم، وكُن واسِطَتَهُم يا أحَبَّ محبوب، الله يقول لِأحَبِّ محبوب: استغفِر للمؤمنينَ والمؤمنات.
ما تَقْرأ في هذا عجائبِ رَأْفَة اللهِ ورحمتِه بالمؤمنينَ والمؤمنات؟!؛ قبل ما يجتمعَ مجمعُنا ويستغفرُ، قال اللهُ للرَّأسِ الأكبرِ استغفِر لهم، ما يجُون في وقتِك ولا مِن بعدِك إلا وقد سَبَقَت واسطتُك، وقد تهيَّأت أسرارُ إرادتي في الأزَل أنْ أرحمَهم بِتَوَسُّطِ أكرمِ الخَلْقِ عليَّ، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..}، فاستغفَر لنا.
في كُلِّ ليلةٍ كان يستغفرُ للمؤمنينَ والمؤمنات، وفي كلِّ يوم، وأمَر كلَّ مَن أحبَّه واتَّبعَه قال واستغفرُوا مَعي للمؤمنين والمؤمنات، ((ومَنِ استغفرَ اللهَ للمؤمنينَ والمؤمناتِ في كلِّ يومٍ سبعاً وعشرينَ مرة، كان ممَّن يُستجابُ لهم، وبهم يُرزقُ أهلُ الأرضِ ويُمطَرُون)).
إذا كانَ المستجيبُ المُلَبِّي لهذه الدعوةِ يُستجاب له ويُمطَرُ أهلُ الأرضِ بِسَببِه، ويُزرقُ أهلُ الأرضِ بسببِه؛ فكيفَ صاحبُ الأصلِ ؟! بالسِّراية التي تَسْرِي منه، واحد يقتدِي به ويستغفر اللهَ للمؤمنين والمؤمنات ويَمْتَثِل، يصير في حالٍ مع اللهِ بسببِه يَرزق، بِسببِه يُمطِر، وبسببه يُنزِل الخير؛ فكيف الأصل ؟!، هو هذا والذي صار بهذه الحالة أثَرٌ مِن آثارِ ذاك، فما منزلِةُ محمدٍ عند مَلِكِ الأملاك؟!.
{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }، صلوات ربي وسلامه عليه، وإذا ذكرتَ المقامَ المحمودَ هانَ عليك كلَّ ما يعطي ويَهَبُ في هذه الحياة إلهُنا الربُّ بواسطةِ هذا الأقربِ الأطيب، صاحبِ الجاه الأرْحَب الذي اسمه محمد، لاسْمهِ سِرايةٌ الملأ الأعلى يَهْتَزُّ لها، كيف والاسمُ على قوائمِ العرشِ مكتوب، مع اسمِ الربِّ جلَّ جلاله، لِيُعْلِنَ أنه أحبُّ محبوب: (لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسول الله).
ربِّ: وكما كتبتَها على قوائمِ العَرشِ فلا تدَع قلباً مِن قلوبنا نَقشتَها فيه، وثبَّتها فيه، وجعلتَ فيها حقيقة: (لا إلهَ إلا الله محمد رسول الله)، وكلُّ قلبٍ رسَخَت فيه الكلمة فهو مِن قوائمِ عرشِ ربِّك على ظَهْرِ هذه الأرض، وهو أثَرٌ مِن آثارِ التَّفضُّلِ الرَّبَّاني والجودِ الرَّحماني والمَنِّ الصَّمداني، يا ناظِراً إلى القلوب نوِّرها بنورِ محبَّتِك والحبيبِ المحبوب.
اللهمَّ ارحَم جمعَنا، واسمَع دعاءنا، وحقِّق رجاءَنا، وأنقِذ هذه الأمة، واكشفِ الغُّمة، وأزِح هذه الظُّلمة يا حيُّ يا قيوم، بحقِّ القلوب المتحقِّقة بـ(لا إله إلا الله) ارحم أُمَّةَ لا إله إلا الله، واجعلنا مِن خواصِّ أهلِ لا إله إلا الله، اللهم ثبِّت عِلْمَها في قلوبِنا.. اللهمَّ ثبِّت عِلمَها في قلوبِنا.. اللهم ثبِّت علمَها في قلوبِنا، واغفِر لنا ذنوبَنا.
اللهم حقِّقنا بحقائقِها، وارزُقنا الثباتَ على طَرَائِقها، والاطلاعَ على أسْرارِها ودقائقِها ورقائقِها يا الله؛ فإنها لو وُضِعَت في كِفَّة ووُضِعَت السمواتُ السَّبْعُ والأرَضُون السَّبْعُ في كِفَّة لرَجَحَت بِهِنَّ (لا إله إلا الله)، والمُتحَقِّقُ بها أوْزَنُ مِن السمواتِ السبعِ والأرَضينِ السَّبع، وأرْجَحُ مِن السمواتِ السَّبع والأرضينَ السبع، وأرْفَعُ قَدْراً مِن الأرضينَ السَّبعِ والسَّموات السَّبع، وأعْظَم شأناً مِن الأرَضينَ السَّبع والسَّموات السَّبع قلبٌ تحقَّقَ بِكلمةٍ ترْجِحُ السمواتِ السبع والأرَضِين السبع.
حقِّق قلوبَنا بحقائقها، اجعلنا مِن خَواصِّ أهلِ طَرَائِقها، يا رب هدية مِن هديَّاتِك، وعَطِيَّة مِن عطِيَّاتِك اعْطِها لنا وللحاضرين والسَّامعين، ولمَن في ديارهِم، ولمَن في أصلابهِم يا مُعطي العطايا، يا واهِب الهدايا، يا كاشِف الرَّزايا، يا دافِعَ البلايا، يا عالِمَ الظَّواهِر والخَفايا، يا ربَّ جميعِ البرايا، هَبْ لنا هذه المواهِب، وزِدْنا مِن فضلِكَ يا واهِب، وألْحِقْنا بأطيَبِ الأطايب، واسْقِنا مِن أحْلى المشارِب.
واجعلهُ مَجمعاً مشهوداً مذكوراً في الملأ الأعلى بأسنَى وأجَلِّ وأجْملِ وأكْملِ ما ذكرتَ وتذْكُر به مجامِع المحبوبين والمقرَّبين والعبادِ الصالحين، مِن الأوَّلين والآخِرِين يا أكرمَ الأكرمين، يا أرحمَ الراحمين، يا أوَّلَ الأوَّلين، ويا آخرَ الآخِرِين، ويا ذا القُوةِ المتين، ويا راحمَ المساكين، ويا أرحمَ الراحمين، حقِّق لنا ذلكَ في مجامِعِنا هذه يا رب العالمين، يا الله.. يالله.
على بابِ مَن وقَفْتمُ، وعلى الوِجْهَة لمن اجتمعتُم، ومَن ذا تسألون وتطلبون وتدعُون، الله الله، إنه الله، ما أسعدكَ بالله، اصْدُق في الوقوفِ مع الواقفِين؛ فَفِي الحَضْرَةِ قلوبٌ ما الْتَفَتَت إلى غيرِ الله مِن حُلول نظرِ عليها تعالى في عُلاه، ألحِقنا بأولئكَ الهُداةِ يا ربَّاه، يا غَوْثاه.
اللهم وسِرُّ استغفارِ نبيِّك للمؤمنينَ والمؤمناتِ الذي أمَرْتَهُ به اجعَل منه سِرايةً تَسْري إلى جميعِ صحائفِنا وما سُطِّر علينا فَتَمْحو جميعَ الذنوب مِن قلوبِنا ومِن أعضائنا ومِن ذَوَاكِر الأرض ومِن ذَواكرِ الحفَظةِ مِن الملائكة، ومِن الصُّحفِ التي سُجِّلت فيه السيئات، امْحُ كلَّ ذلك بسِرِّ استغفارِ خيرِ البريَّات، يا غافرَ الخطيئات، يا مُتجاوزاً عن السَّيِّئات، يا غافراً للذنوبِ الثَّقيلات، وارْزُقِ القلوبَ صِدقَ التوبةِ منها، وكمالَ الإقلاعِ عنها، يا أرحمَ الراحمين يا الله، وزِدنا مِن فَضْلِك ما أنتَ أهلُه، وأصلِح لنا وللأُمة الشأنَ كلَّه، واختِم لنا بالحسُنى وأنتَ راضٍ عنا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.
19 شوّال 1440