خلع رمضان وأحوال الزمان والمصير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله باسط بساط الجود الذي لا حد له، والذي لم يزل يتفضَّل سبحانه وتعالى على كل من أقبل عليه سبحانه وتعالى وتوجَّه إليه بوجهِ مَن ختم به رسلَه، ذاكم النور المبين والسراج المنير والبشير النذير، ذاكم محمد بن عبد الله صاحب بُسط الرحمة وبسط المنَّة الربانية، انبسطت لنا فدخل الناسُ إلى ساحاتها الواسعة بمفتاح لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهناك استقبلوا في هذه الساحة مواطنَ الصلاة لله تبارك وتعالى، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفي ليلة فرضِها أسري بسيد الكونين وكان فرضُها في المقام الأدنى والمنزلة العالية والمنزل الأسنى، حيث لا يصل مِن الملائكة ولا مِن النبيين ولا مِمن سواهم أحدٌ غير محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}النجم8-10.
وينفتح باب الزكوات وباب الصدقات بواسطة لا إله إلا الله، ويقول الله عمن فقدها: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}التوبة53 وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ}التوبة54. والعياذ بالله تبارك وتعالى.
واذا دخلتَ بهذا المفتاح إلى هذه الساحة انفتح باب الصيام، وانفتح معنى رمضان، وأسرار رمضان، وأدركتَ نصيبك مما كُتب لك من العمر أن تحضر في مثل هذا الشهر الكريم المبارك الذي رحل عنا.. نسأل الله أن يجعله شاهداً لنا، ونسأل الله أن يجعله حُجَّةً لنا، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم بأعلى كسواته وخلعاته التي خلعَها على المقبولين فيه، وأن لا يجعله آخر العهد من رمضان ويعيدنا إلى أمثاله في صلاح لأحوال الأمة في المشارق والمغارب.
وبقية أعمال الطاعات وهي دوائر القرب مِن رب البريات سبحانه وتعالى، وهي الحصون الحصينة من الآفات والعاهات، ومعانقة اجتناب المحرمات والمكروهات والشبهات بِورعٍ في القلب حاجز، يفوز به كلُّ فائز، ويصبح للخيرات حائز، وهنا لا ينقطع عن الخير في ليل أو نهار، في الأشهر كلها وفي العمر كله، ولا يزال التجلي له من الله نازلاً عليه وخيرُ مولاه واصلا إليه في كل وقتٍ يتذكر، ويَذكر فيُذكر، ويشكر فيُشكر، وفي كل وقت يتنبَّه، ويلاحظ نفسَه فيما إليه توجَّه، فيقيم توجُّهَه ويضاعف تنبُّهه، ويدركه من الله ما يدركه حتى يدرك حقائق المحبة والولع والولاء، ويعيش في دوائر العطاء الرباني والجود الامتناني والاحسان الصمداني من حضرة ربكم جل جلاله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}الجمعة4.
ولكن بالمفتاح بعد دخوله بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وبذلكم كانت مفتاح الجنة، فلا يدخل داخلٌ إلى الجنة إلا بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فالإسمان الكريمان على كل باب من أبواب الجنة، وعلى كل شجرة من شجر الجنة.. لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى كل قصر من قصور الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.
كل ما فيها من الدرجات يُرتقى إليها بعد الدخول بسر لا إله إلا الله، مُرتَّب على ما جرى للإنسان في حياته بعد أن فتح له بلا إله إلا الله فدخل إلى دائرة الصلاة والزكاة والصوم والحج والذكر والتلاوة وصلة الرحم والصدق في الحديث والورع والزهد والخشية من الله سبحانه وتعالى والمحبة له والمحبة لعباده من أجله سبحانه وتعالى والجهاد في سبيله والصبر والشكر إلى غير ذلك من المقامات والدوائر التي يحصِّلها في ساحة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم.
وعلى قدر دخوله في تلك الدوائر وتنقُّله في حضائرها تكون الدرجات في الجنة، وتكون مراتبه في الجنة، حتى قالوا.. لو فرضنا أن إنسانا مثلك في الإيمان ومثلك في العمل وإنما زاد في صحيفته مره واحده من سبحان الله او مرة واحدة من الحمدلله او ركعة او صدقة بدرهم زائد كان بينك وبينه في الجنة درجة ما تبلغها كما بين السماء والأرض، بزيادة هذه الطاعة بزيادة هذه الحسنة، يقول الحق: "ادخلوها برحمتي واقتسموها بأعمالكم واخلدوا فيها بنياتكم" بأمره جل جلاله وتعالى في علاه.
اذا علمتم ذلك أدركتم سر هذه الوظيفة الشريفة، وظيفة العبادة في هذه الحياة، وأنكم بها ترتقون المراتب والدرجات في جنة الله جل جلاله وتعالى في علاه، ولا يخلد في النار إلا من انقطع عن لا اله الا الله محمد رسول الله، ولو لحظه وفاته والعياذ بالله تبارك وتعالى فلقي الله مقطوعا عن سر لا إله إلا الله منزوع من قلبه..
ثم لا تكون الدركات من الطبقة الأولى التي هي جهنم إلى ما بعدها من لظى والسعير والنار والحطمة إلى الهاوية آخرها الدركات فيها كلها مرتبة على المعاصي والذنوب والسيئات، على المخالفات لشريعة الله في الاقوال والافعال والنيات والمقاصد، كلها مواطن لدوائر المعصية في الأرض ومواطن المخالفة لشريعة الله، بالنظر أو بالسمع أو بالكلام إلى غير ذلك من أعمال الجوارح والقلوب.
ومن هنا تدرك اسرار التقدير في الازل مَن كان من اهل الجنة فإلى الجنة في مدة الحياة أيام التكليف يعمل باعمال اهل الجنة، قال "خلق للجنة اهلا فهم بعمل اهل الجنة يعملون، وخلق للنار أهلا فهم بعمل أهل النار يعملون" فكان هذا العنوان الظاهر الواضح الأغلب على الناس وبعد ذلك تصريف القدر فيما يُقدِّم ويؤخر جل جلاله.. ويا الله بحسن الخاتمة.
وخِلع رمضان إذا خُلعت على مَن خُلعت عليه كانت سببا في مقابلةِ أحداث الحياة بما يوجب المزيد من الخير والدفع للشر والضير، إن كانت شدة أو رخاء أو سراء أو ضرَّاء، ثم تكون سبباً لتعجيل دفع كثير من النوازل والبلايا والافات على ظهر الأرض، وإلا ففي رمضان وبعد رمضان الآن، في عالم الحس والظاهر كم من بقع من بقع اخوانكم المسلمين اشتدت فيها كربات ويسمعون فيها الدوي والأصوات المزعجات التي تعجز كبار وصغار ورجال ونساء.
يكلمني أحدهم اليوم، قال: انتقلنا من موطنا الذي نحن فيه ما استقر الصبيان والأولاد، واشتد الأمر إلى موطن ثاني في بيت الوالد في محل آخر ونحن في ذلك المكان، ونرجو منكم الدعاء، والدعاء مطلوب من كل من آمن بهذا الإله استرحاماً واستعطافاً حتى يرفع البلاء عن الأمة.
لكن خلع رمضان لمن خلعت عليه مفاتيح لأبوابِ دفعِ الشرور والنوازل التي حلَّت بالأمة وكشف تلك الغمة وبسط بساط الرحمة على عباد الله جل جلاله، ومن حُظي بخِلعة مِن خِلع رمضان فحالُه طيبٌ من كل حال من شدة أو رخاء، إنما يكتسب الثواب والاقتراب والرحمة مِن رب الأرباب جل جلاله، ولكن من ضيع هذه الخِلع والعطايا الربانية يزداد إثما وظُلمة وظلما في مختلف أحواله يغفل ويلهو.
ربما خرج من رمضان وقابلَ مناسبة عنده في زواج أو غيره، فما اختار إلا المجون ولا اختار إلا الخلاعة، ولا صارت تفتخر زوجته التي خرجت من رمضان وبنته التي خرجت من رمضان إلا بزيادة تقصير الثياب وإبعاد الأكمام من أصلها وإظهار النحور والصدور والظهور.. هذه كسوة رمضان؟! هذه علامة واضحة أن القلب بعيد، أن الحال شديد، وهذه أشياء ما تقل عن سماع أصوات المدافع هناك والقنابل والبنادق في مثل تلك المحلات، رؤية هذه المناظر وسماع هذا الكلام الماجن، هذا كما ذا، بل ذا أشد، بل ذا سبب لذاك!
فيجب أن نفقه مدرسةَ رمضان، يجب أن نفقهَ مدرسة القرآن، يجب أن نفقهَ مدرسة البلاغ من الحق للخلق على يدِ سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}آل عمران165. أنتم الذين تسبَّبتم في نزول تلك الأشياء {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}الشورى30. جل جلاله وتعالى في علاه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}فاطر45. ومع هذه التنبيهات مِن وقت إلى وقت، ومِن مكان إلى مكان.
في جوارِ هذه الأماكن قد مرت قبل الأربعين سنة، وقبل الخمسين سنة، على بُقع فيها أنواع من الإفضال الحسي، ومن وجود النعيم والمتع، وحصلت خيانة، وحصل خروج عن سواء السبيل، وتحولت إلى سماع دوي القذائف والمدافع وما إلى ذلك، في فترة من الفترات، كان بعض شيوخنا يقول: أرى هذه الآية ظهرت وبرزت في البلدة الفلانية، وهي قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}النحل112
قال بعض الذين خرجوا في تلك البلاد قبل بعض شدة الحوادث فيها: جينا مع جماعة لأجل الدعوة إلى الله، فاخترنا مسجدا كبيرا، من حواليه البيوت، في سوق مزدحم، فقلنا هنا تكون الصلاة والجمع، فدخلنا المسجد، ثم أذن المؤذن، ثم مكثنا منتظرين الوافدين ليفدوا ويملأوا المسجد، فما وجدنا غير المؤذن جالسا حتى دخل الإمام!! وقام المؤذن يقيم الصلاة، وما رأينا غير الإمام والمؤذن، فأقام الصلاة وقمنا نصلي خلف الإمام، وأثناء الصلاة لاحظنا أن المقيم غير موجود بيننا، فتعجبنا!! أكملنا الصلاة ولا يوجد إلا الإمام وحده، ونحن الغرباء الذين وفدنا، ثم خرجنا إلى خارج المسجد في السوق، فإذا بالمقيم الذي أقام الصلاة جالسا في التكه يتفرج في السوق، قال أنت الذي كنت معنا في المسجد؟ قال: نعم، وأقمتَ الصلاة!؟ قال: نعم، قال: فما رأيناك في الصلاة!؟ قال: أنا مستأجر على الأذان والإقامة، ما لي دخل في الصلاة، أنا مؤجَّر، عندي راتب للأذان والإقامة، أما الصلاة فليس لي راتب عليها، فلا دخل لي فيها!
هذا يُريك حالة القلوب كيف صارت في معاملتها مع ذا الوحي، وذي الشريعة، وذا الدين.. وما عقب ذلك وما كان نتائج ذلك؟ إذا كان الإنسان في عمره القصر يرى العبر هنا وهنا، ولا زال الناس يكررون سوء أدبهم مع الجبار، وخروجهم عن منهج المختار صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا أرادوا أن يطلبوا الخروج من أزمة أو الفرج أو تحصيل حاله طيبة لهم.. قال: اتصلوا بالمؤسسة الفلانية والدولة الفلانية ورتبوا مع الحزب الفلاني!! ما أنقذوقهم ولن ينقذوهم، ما أغاثوهم ولن يغيثوهم! كما قال تعالى: { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ }الرعد14.
الإنقاذ بيد واحد، الأمر بيد واحد، القوة مع واحد، الخالقية لواحد، وبابه واحد، بابه محمد صلى الله على سيدنا محمد {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}الأنفال9.
وجاءت مظاهر الشدة للاختبار وللابتلاء ولمعرفة الاساس الذي أُسِّس عليه هذا الدين واذا بالنتائج تحصل سريعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}الأحزاب9-11. وذكر الله كلام المنافقين وهو متشابه في الظروف والأحوال إلى يوم القيامة، وما كانوا يقولون {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}الأحزاب12. وهؤلاء يقولون {لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً }الأحزاب13. وعملوا ما عملوا.
لكن ببركة المظهر الصادق لأهل الرسوخ من أهل الثقة بالحق، ومعهم إمامُهم ومقدَّمُهم صلى الله عليه وسلم يقول: فُتِحت لي مدن فارس، وفُتحت لي مدائن الروم، وفُتحت لي قصور صنعاء، وهو في ذلك الحال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وذكر الله المؤتمِّين به فيما قاموا به في الائتمام {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}الأحزاب22،23. فتفرق الجيش بعد ذلك وجاءتهم الريح وجنود ما رآها الناس وكل الخطط فشلت، وعاد الناسُ من حيث جاؤوا، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إلى المدينة، إلى بيته، ووضع ثيابه والدرع الذي كان يلبسه، (لامة الحرب التي كان يلبسها) قال لجبريل: هل وضعتم لامة الحرب؟ قال: لا يا محمد نحن الملائكة لم نضعها بعد.. الذيول التي دخلت في الفتنة عليكم الآن بالقضاء عليهم، اخرج إليهم فإني نازلٌ إليهم فمزلزلٌ بهم، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، إلى هناك وواصل مسيره، مرَّ على قوم في الطريق، فسألهم: هل مر أحدٌ هنا؟ فأجابوا: نعم، مرَّ دحية الكلبي على فرس. قال: ذاكم جبريل، ومضى وكانت النتيجة الثانية استلموها، هذولاك هربوا ، وهؤلاء قُتل مَن قُتل منهم، وسُبِي مَن سُبي منهم، وانتهت الفتنة، باب من ابواب الفتنة.. بِم؟
بصبر، بيقين، بثبات، بعمل، باجتهاد.. كم أيام عملوا الخندق؟ أربعين ذراعا من هنا الى هناك، تسعة أذرع في العمق، وعرضه أربعون ذراعا من عند الجبل إلى عند المدخل الثاني الذي فيه بنو قريظة والجماعة، والمدخل هذا كله سدوه، كم حفروا!؟ وأثناء الحفر كان وقت برد في المدينة المنورة، والطعام غير موجود، والدفء غير موجود، خزينة الدولة ما عندها الدفئ الذي تدفيهم به، يأخذ بعضهم مُرط زوجته ويخرج به إلى الخندق، يتغطى به في الليل في الخندق، منهم حذيفة بن اليمان صاحب السر، أخذ مُرط زوجته يتدفأ به وسط الخندق.
حتى لما رأى سيدنا جابر انتشار الجوع في الصحابة وقلَّة الطعام أرسل إليه يقول له: عندي شويهة صغيرة وصاع من شعير معنا، فتفضل أنت وثلاثة أو أربعه من أصحابك، فلما بلغه الخبر أمر المنادي ينادي، بلال.. أذن في الجيش، قل لهم: إن جابر صنع لكم طعاما فحيا بكم، وسمع جابر المنادي فهرب إلى البيت ينادي زوجته: يا أم سُليم: رسول الله جاب الجيش، ما عندنا طعام!! قالت: هل أخبرتَه بمقدار ما عندنا!؟ قال: نعم، قد أخبرته، قالت: فالله ورسوله أعلم، إذن لا تخف..
وتقدم صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل إلى البيت، وقد أرسل إليهم قال لهم: لا تخبزوا ولا تنزلوا البرمة حتى آتي، فدخل والعجين معجون ما خبزوا شيئا منه، قرأ عليه ووقف محله في محل الطبخ صلى الله عليه وآله وسلم يغرف، وناولهم قال لزوجة سيدنا جابر ادعي مَن يخبز معك، وهو إلا صاع واحد بتخبزه وحدها، فقال هاتي خبازات، ودعت بعض النساء فكان يخرج لهن من العجين ويعطي هذه وهذه، وكل واحدة تخبز والعجين في مكانه، فإذا حضّروا أقراص تكفي لعشرة غرف لهم من المَرق واللحم وقال ادخلهم عشرة فعشرة، يأكل عشرة فيخرجون، ويدخل عشرة فيخرجون، والقِدر في مكانه والعجين في مكانه ما نقص منه شيء.. ألف وخمسمائة نفر.. أكلوا كلهم، قال: هل بقي أحد؟ قال جابر: بقي أهل الدار وأنا وأنت، قال: خذ اعطِ أهل الدار، وتناول بعضَ الطعام ثم قال له: ارسل لبعض الناس فقد أصابتهم مجاعة، قسِّم مِن طعامك، فخرج، قال جابر: وإن عجيننا ليُخبز وإن برمتَنا لتغط، القدر مليان، قال فأخذنا نرسل إلى الجيران، وإلى الناس في المدينة، وإلى ذوي الحاجة في المدينة.. بعد صبر .. صبروا هذا الصبر.
في ليلة من الليالي والبرد فيها شديد، والتفت النبي يقول: من يأتيني بخبر القوم؟ فسكت الناس، قال سيدنا حذيفة: التفتَ إلي، قال: حذيفة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: قم، فقمت، فقال لي: اذهب إليهم وانظر ماذا يصنعون ثم عُد إلَي. قال حذيفة: قلت لبيكَ يا رسول الله، قال: لا تُحدِث في القوم شيئا حتى تعود إلي، حتى ترجع، قال: لبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه في خدمة رسولك فقِه البرد. قال حذيفة: فما مشيت خطوات إلا وكأني دخلتُ في حمام حار، فلم أحتَج لمرط زوجتي، ولم أتدفأ بشيء، ومشيتُ وتسلَّلتُ في الظلام حتى دخلت بين القوم، وإذا القوم عندهم ريحٌ شديدة تقلع قدورهم، وتقلع خيامهم، قال حتى نظرتُ إلى أبي سفيان يتدفأ بنارٍ له أوقدها ليتدفأ بها، قال: فجئتُ مِن خلف ظهرِه، وتمكَّنتُ مِن رميِه، قال: وحملتُ قوسي وسهمي وأردتُ أن أرميَه، فتذكَّرت قولَ النبي: لا تُحدِث في القوم شيئاً حتى ترجع إلي" قال: فرددتُ سهمي، قال: وإذا به يلتفت يقول يا قوم: حصل ما ترون وقد خانت بنا يهود، فالآن أحدثكم، ليتأكد كل واحد من صاحبه، وأنه ما بيننا أحد، قال: فبادرتُ إلى مَن بجنبي، قلت: مَن أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قلت له: تمام، طيب، كأنه من الجيش يريد أن يطمئن حتى لا يعرفوا ويعثروا عليه ويقولوا من أين جاء، قال فسمعت أبا سفيان يقول: أنا الآن مرتحل، ومن أراد منكم أن يجلس فليجلس، وانتهت المعركة، فأخذ أبو سفيان يشد رحله ويهرب، وبدأ القوم وراءه يمشون.
قال حذيفة: فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وصلت إليه، فإذا به قائم يصلي، وعليه شملة - وهي كساءٌ من شعر- متغطِّي به صلى الله عليه وآله وسلم من البرد، فما هو إلا أن وصلتُ إليه حتى رجع إليَّ البرد، وكان قد زال مني وما شعرت به طول المهمة، فلما رجعت عاد إلي البرد، فجعلت أنتفض، قال: فنظر إلي، وأشار إلي صلى الله عليه وآله وسلم أن اقرب، وقربت، قال: وغطاني بشملته!
ويكفيه جزاءً على مهمته هذه، ساعة والحبيب يناجي الحبيب فيها، وذا قائم وسط الشملة، داخل معه في أي من حضرة؟ ومَن يكلم مَن؟ ومَن يصلي لمَن؟ وهنيئا لحذيفة ..
وأكمل صلى الله عليه وسلم الصلاة، فأخبرته أنهم على رحيل، ولم يبقَ منهم أحد، فتأكد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني، وأصبح الصباح، فإذا بمكانهم خالي، ولم يبقَ منهم أحد.
بعد هذا الصبر الطويل، بعد هذا الجهد، جاءت تلكم النتائج..
واليوم يأتي ما يأتي من الأحداث، فإذا توجد مقابلة بمثل هذه المقابلة فسُنَّةُ المعاملة مِن الله واحدة هي واحدة {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }الفتح25. فيُحفَظ الناس ويؤخَّر العذاب حتى عن الكفار بوجود هذا الصنف، وهذه سنة في معاملة الله في خلقه جل جلاله.
فالله يكثِّر فينا القلوب التي تعي أخبارَ الحق ورسوله، وخِلع رمضان إن شاء الله نظفر بأعلاها وأغلاها وتدوم معنا حتى نلقى اللهَ على خير الأحوال.
يا رب افتح أبواب الفرج للأمة، يا رب ائذن بكَشف الغمة، يا رب اجعل هذه القلوب سبباً لنزول الرحمة، ولدفع البلايا والظلمة، وكن لنا في كل مهمة بما أنت أهله يا حي يا قيوم، احيي القلوب تحيا وأصلِح لنا الأعمال في الدين والدنيا، وأصلِح لنا الأحوال في العاقبة والمحيا.
اللهم تولَّنا بما أنت أهله وأصلح لنا وللأمة الشأن كله، اللهم سريعَ الحساب، مُنزِل الكتاب هازِم الأحزاب، منشئ السحاب اهزم أحزاب الباطل والشر والضر والضلال، وادفع شرَّهم وزلزِل بهم وادفعهم عنا وعن جميع المسلمين، يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وتولَّنا بما أن
أهله في الأقوال والأفعال، ولا تجعل فينا أسبابَ نزول النقمة ولا أسباب اشتداد المصيبة بمخالفةِ أمرك وشرعك والافتخار بالخروج عن دربِ رسولك صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
يا رب احفظ القلوب، يا رب نقِّها عن الشوب، يا رب حوِّل الأحوال إلى أحسنها، وبلِّغنا فوق الآمال مما أنت أهله مِن خيرِ الدنيا والمآل، يا كريم يا وال، يا دائم الافضال، يا ذا النِّعم والعطايا الجِزال.. يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
(( للإستماع ))
15 شوّال 1433