(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 27 شوال 1441 هـ بعنوان: حقيقة الفوارق بالمصير الأكبر والمستقبل الأخطر للخلائق.
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمد للهِ المُتَكَرِّمِ على عبادِه بِنِدَاه، وبيانِ ما يُوجِبُ القُرْبَ منه والمحبةِ والوِدادِ ورِضاه، وحَذَّرهم مِن سخَطِه، وأعلمَهم أنه ليس عليهم أَشَدُّ ولا أَشَقُّ مِن ذلك هناكَ ولا في هذه الحياة. ووعَى نداءَ المولى مَن سَبَقَت له سابقةُ السعادةِ منه تعالى في علاه {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
ولم يزلِ القُصُورُ في النَّظَرِ والالتفافُ حول دعوةِ الشؤون الفانيةِ وتعظيمِها وإجلالِها وإنزالِها في غير مَنزِلِها ومَحَلِّها واستعمالِ أسلحةِ الشَّهواتِ لمُخالفةِ أوامرِ مُكَوِّنِ الكائنات وربِّ الأرضِ والسماوات جلَّ جلاله؛ ولتَطغَى النفسُ وتخرجَ مِن الطهارةِ إلى الرجس، ولتؤثِرَ شهواتِها فتخلُد إلى الأرضِ فتَتَّبِع أهواءَها فتهِوي في الهاوية -والعياذ بالله جل جلاله- {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. والحقُّ في هذا الخطابِ يرسمُ أحوالَ المآبِ لكُلِّ المُكَلَّفين على ظهرِ الأرض؛ وما هناك مِن مستقَرٍّ غير الدارين، ولا هناك من مآلٍ لكُلِّ مُكَلَّفٍ من الإنسِ والجنِّ غير الجنةِ والنار قط، لا يكونُ شيءٌ سوى ذلك،
هما محلِّان ما للمرءِ غيرُهما *** فاختَر لنفسِك أيُّ الدار تختارُ
اللهم اجعَلنا مِن أهلِ جنَّتك..
{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}
وكل ما ذَكَر لنا الحق جلَّ جلاله شأنَ الذين لَبُّوا نِدَاه وخالفوا أهويتَهم وأقاموا نفوسَهم على ما ارتَضاه منهم ولهم فأصلَحوا وعَمِلوا الصالحاتِ مع الإيمان؛ ذَكَر أنَّ الفارقَ بينهم وبين الفُسَّاق والكفار: مآل، هذا إلى الجنة وهذا إلى النار {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ}.
وأين مجلَى عدمِ استوائهم؟ قال سبحانه وتعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ..} هذا الفرق، هذا البُعدُ في أن يستَووا أو أن يتقارَبوا.. فماذا أفادَ مَن مَآلُه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}.. ماذا يفيدُهم أنَّهم اتَّبعوا الشهواتِ في الدنيا؟ أنهم انتَهكُوا المحرَّمات في الدنيا؟ أنهم استهانُوا بحقوقِ الآخَرين في الدنيا؟ أنهم عاشوا على ظُلمِ أنفسِهم وظُلمِ العباد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ماذا يفيدُهم مِن كُلِّ هذا؟! وماذا يفيدُهم أنهم كسبُوا أجهزة أو صَفّوا دواليب أو عَبَّدوا طُرقاً أو غرسوا أشجاراً في المدة القصيرة ثم هذا المأوى، ماذا أفاد؟!
ماذا يفيدُ صفا المعاش -ولا يصفو لهم-
وماذا يفيدُ صَفَا المَعَاش وبعدَه ** غُصَصُ المعَادِ وكُربةٌ وحِسابُ
دَقِّق بفِكرِك يا فطينُ فإنَّها ** عِبَرٌ بها قد حَارَتِ الألبابُ
وهكذا في الكتابِ العزيز؛ كلما ذَكَرَ الفوارقَ بين الفريقين ذَكَرَ الفارقَ الأكبرَ الأعظمَ بالمآل والمصيرِ والنزولِ الدائم؛ هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}. اللهم اجعلنا منهم، وأدخِلنا الجنةَ مع السابقين مِن غيرِ سابقةِ عذاب ولا عتاب ولا فتنةٍ ولا حساب برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
وارتقاءُ الإنسانِ في قمَّةِ المدارك ومعرفةِ الحقيقة بَيَّنهُ الصحابةُ بما قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا نكونُ بين يديكَ نجلس معك فتُحَدِّثُنا عن الجنةِ والنار فكأنَّنا نراها رأيَ عَيْن» .. عليهم الرضوان. فاعتبروا هذا قِمَّةَ صفاء الإنسانِ وعُمقَ إدراكِه للحقيقة؛ أن يكونَ المآلُ الكبيرُ والمستقبلُ الخطيرُ أمامَ عينِه وكأنَّه يشاهدُه.
وهذه أحوالُهم التي سمعتُم الحديثَ عنها، يقول سيدُنا حارثةُ للمصطفى: أصبحتُ مؤمناً بالله حَقَّاً. قال له: إنَّ لكل قولٍ حقيقة، وما حقيقةُ إيمانك؟ قال: عَزَفَت نفسِي عن الدنيا فاستَوى عندي ذهبُها ومدرُها. -هذه عمودُ الصراعِ بين المُتصارعين في الدنيا مِن سلطتِها ومالِها- عَزَفَت نفسي عنها، أنا تحرَّرت، أنا صاحبُ حرية.. عَزَفَت نفسي عن الدنيا فاستَوى عندي ذهبُها ومدرُها، وأصبحتُ كأني أرى عرشَ ربِّي بارزا، وكأني أنظرُ إلى أهلِ الجنة يَتَنَعَمَّون فيها وأسمعُ أهلَ النار يتعاوَون فيها". – يصيحون-.
وتَستهزيء بهم الملائكةُ ويقول: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أنت الذي كنت تسمِّي نفسَك الفيلسوفَ والمخترع والدكتور والبروفسور ومؤسسَ الحزب الفلاني وقائدَ النهضة الفلانية.. ذُق خذ، خذ النتيجةَ حقَّك {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، كان يقول أنا العزيزُ الكريمُ في الدنيا فكلَّما أذاقوه مِن الحَميمِ وصاح قال {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} ذهبتِ الألقاب.. ما قيمة هذه المسمَّيات؟ قال الله في آلهتِهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم} فماذا تغنِي عنكم؟ ماذا تُغَيِّر مِن إرادةِ مُكَوِّنِ الكون؟ ماذا تُغَيِّر مِن خبرِ الذي أرسلَ إليكم الرُّسُلَ بالحقيقة؟ ألقاب ومسمَّيات وصور ووظائف.. ماذا تُغنِي؟ ماذا تُغَيِّر من الحقيقة؟! لعب ولَهو، هي في هذا محصورةٌ، وعليه مقصورة، والآخرة مُقبِلَةٌ على الكل {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ}.
وإذا بالتَّبعيَّات الممقوتةِ كلِّها يبكي منها أصحابُها ويتمنَّون تَبَعِيَّةً شريفةً، يتمنَّون أن كانَ لهم في الدنيا تبعيَّة نظيفة، رافعة مُنيفة { ويوم يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} هذه التبعيَّةُ الشريفة، هذه التبعيَّةُ الرفيعة التي ترفعُ صاحبَها {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} شوف النتيجةَ الكبيرة، شوف الثمرةَ العظيمة {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأنت في فِكر وسلوك تابعَت ذا وذا وذاك حَد مِن الشرق وحد مِن الغرب.. أينَ يوصلونا؟ ما النتيجة؟ ما الثمرة؟ ما الغاية؟!
بشرفَ؟ تركت شرفَ الإسلام وعلوَّ التبعيَّةِ للحقِّ ورسوله وصِرتَ تابعاً في هذا الفكرِ والسلوكِ لذاك الفاسقِ أو المجرم! وذَلَلْتَ وهُنْتَ وأنت في الدنيا قبلَ الآخرة!
وما النتيجة بعدَ ذلك في الآخرة؟ {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال الله في التبعيَّاتِ الفاسدة الفاسقة: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} على فرعون {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} في الحقيقة أوردَهم النارَ في الدنيا لمَّا تَبِعوه في الدنيا أوردَهم النار؛ ما أوردَهم نعيم ولا أوردهم حقيقةَ تكريم {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ..} ليعرفُوا شرفَ التبعيَّة العلويَّةِ الكريمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} هبَطوا وسقطوا {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} والغاية؟ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}
يا مَن عبدتَ نفسَك: لن تغنيَ عنك نفسُك شيئاً. يا مَن عبدتَ ما سميتَه العلم: لن يُغنِي عنك العلمُ شيئاً. يا مَن عبدتَ الحضارة: لن تغنيَ عنك الحضارةُ شيئاً. يا مَن عبدتَ المُتَقَدِّمِينَ المتطوِّرين: لن يغنوا عنكَ شيئاً {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. فهذا الأمر المتكرر في حياةِ الناسِ القصيرةِ في الدنيا؛ كلما عتَت طائفة وجماعة وأُمَّة وقرية ومدينة.. {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} والعاقبة الكبيرة: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
لك الحمدُ على نعمةِ الإيمان فارزقنا حقيقةَ تقواك، وامنَحنا عظيمَ رِضاك، وأدخِلنا دوائرَ أنبيائك وأصفياك، يا الله.
فهم في هذه الدنيا تحصلُ لهم في هذه الحياة هذه التقلُّبات، وانظر: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا* وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} هذا في الحياةِ الدنيا وهذا المصير الذي ذكرَه جل جلاله وتعالى في علاه، يقول سبحانه وتعالى: {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً..} عبرةٌ وعظةٌ لآل المَداركِ الكبرى الحَقيقيةِ الكبرى الواسعة، لأهلِ إدراكِ الحقيقة {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ..} -هنا الغاياتُ والمستقبلُ الكبير- {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} قدها معدودة أيام الدنيا؛ خالق الدنيا عَدَّ كم تتحرك الأرض وكم تبقى الأرض وكم تبقى الشمس فإذا جاء الإبَّان: {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ}، و: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} وانتهى كلُّ شيء..
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ..} وفيه إشارةٌ إلى مقامِ محمد، لا يَجرُؤ أحدٌ على الكلامِ وخطابِ الحَضرةِ قبلَه {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}. يقول في الآيةِ الأخرى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا}. فمَن يأذن له قبل محمد؟ ومَن يقول "أنا لها"؟ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا}.
وكلُّ ما في الوجود يجري يُذَكِّر بهذا المآبِ ويأخذُ أولوا الألباب من المؤمنين إلى أن يغتَنِموا العمرَ القصير، إلى أن يَتَزَوَّدوا، إلى أن يأخذوا نصيبَهم من فقهِ النبيِّ محمد وعِلمِه وإرشادِه، والتمسُّك بسنَّته؛ ليستعدُّوا للقاءِ المختارِ الذي اختاره، للقاءِ المُصطفِي الذي اصطفاه، للقاءِ الذي كرَّمَه وميَّزه على الكل، فالأنبياء مِن ورائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.. فكيف بِمَن دونَهم؟
فحمداً لربٍّ خصَّنا بمحَمَّدٍ
حَقِّق لنا حقيقةَ النِّسبَةِ إليه إيماناً ويقيناً وتبعيَّةً تامَّةً مُطلَقَةً عُلويَّةً شريفةً ننالُ بها محبَّتك وندخل بها مع أحبَّتِك في الدنيا والآخرة، يا ربَّ الدنيا والآخرة يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين.
وكُلُّ هذه المُذَكِّرات.. وما تسمعونَه من أنواعِ الأوبئة وغيرها -كشفَها الله ودفعَها عنَّا وعن الأمة- داخلة في دائرة: {الْعَذَابِ الأَدْنَى}، كلها في "العذاب الأدنى"؛ العذاب الأكبر هناك..
يا ويلَ الغافلين، يا ويلَ الفاسقين، يا ويلَ المجرمين، يا ويلَ مَن لا تُذَكِّره الحوادث، يا ويل مَن سَكِر بمحبَّةِ الدنيا ومحبَّةِ السُّلطةِ ومحبَّةِ المال حتى صار لا يُبَالي بِظُلمِ هذا أو قتلِ هذا أو سبِّ هذا أو إنزالِ هذا غير منزلتِه أو تصويرِ الأمر على غيرِ حالِه؛ وَيْلٌ لهم؛ العذاب الأكبر مُقبِلٌ عليهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى- {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ..} من أجل يرجع مَن يَرجِع فيَظفَر وينجو ويفوز ويتذَكَّر مَن يتذَكَّر فَيَسْلَم مِن الشر ويستعِد للقاءِ الكبير {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
فالله يهيِّىء لقلوبِ المؤمنين خاصَّة على ظهرِ الأرض ويهيِّىء قلوباً مِن غير المؤمنين لأن تؤمِنَ وتُحسِنَ الرجوعَ إلى ربِّها على ظهرِ هذه الأرض، يا ربِّ كَثِّر أولئك، واسلُك بنا وإياهم في أشرفِ المَسالك.
فإذا رجعَ الراجعون فهم المَرفوعون، وهم المَنظورون، وهم الذين أدركوا الحكمةَ فيما يدُور. ويرتفع أنواعُ البلايا والشرور ويندفعُ كلُّ محذور. ولا يبقى الرَّفْعُ إلا لمَن اتَّصلَ بالعزيزِ الغفور، وإلا لمن ارتبطَ بحبيبِه بدرِ البدور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فشعارُنا وروابطُنا وثقافتُنا ودينُنا وعمادُنا ووِجهتُنا: "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله". على ذلك نَحيا وعليه نموتُ وعليه نُبعَث إن شاء الله مِن الآمنين.
يا ربِّ لا تجعل غَبَشَاً على عقولِنا وقلوبِنا ننحرفُ به عن عظمةِ هذا الشِّعار، ونستبدل أحداً مِن الأشرار والفُجَّار بدلَ الإلهِ وبدلَ المختار؛ اجعل ولاءَنا لك وفيك ومِن أجلك، نُحِبُّ بحبِّك الناس ونُعادي بعَداوتِك مَن خالفَك مِن خلقِك. اللهمَّ هذا الدعاءُ ومنكَ الإجابة، وهذا الجهدُ وعليك التُّكْلَان، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم. ويا ذا الحبلِ الشديد والأمن الرشيد نسألكَ الأمنَ يومَ الوعيد، نسألك الأمنَ يومَ الوعيد، نسألكَ الأمن يوم الوعيد، والجنةَ يومَ الخلود مع المقرَّبين الشهود والرُّكَّعِ السجود المُوفين لكَ بالعهود إنَّك رحيمٌ ودود، وأنت تفعلُ ما تريد.
يا فعَّالٌ لِمَا يريد {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا..} -اللهم اجعلنا منهم وأهلَنا كلَّهم، وجميعَ الحاضرين والسامعين، ومَن في ديارنا ومَن في جِوارنا، وقراباتِنا، وطُلَّابِنا وأصحابِنَا ومَن والانا فيك اجعلنا مِن خواصِّ السعداء- {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ..} تاريخ متكرِّر في البشر؛ مهما ظهر في وقتِك أيُّ دعوة وأيُّ مغالَطة وأي زخرفة لا تَقلق {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم} قال مُكَوِّن الكون: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ..} كلُّ واحد بانعطيه حقه، كل واحد بانعطيه جزاءَه {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} ، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ} ، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} يعني فاتوا علينا ولا خرجوا مِن قبضتِنا.. ما ذهبوا، أين سيذهبون {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}.
أنتم اعرفوا قدرَ الدعوة وابذلوا وسعَكم فيها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ} ومالا تستطيعون ما عليكم، ولا يُخوِّفونكم من شيء؛ أنا الذي أمرتُكم أن تُعِدُّوا ما تستطيعون أكفيكم مالا تستطيعون، عليكم ما استطعتم، وأنا فوقَ الكل، دعوهم يجيبون ما يجيبون.. كثرة أو عدد؛ اصدُقوا معي، وكونوا مع أمري في اتباعِ رسولي ولا عليكم من العواقب؛ لي، يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
فالله يرزقنا كمالَ الإيمان، ويبارك لنا ولكم في الذكرى والاعتبار، ويرحم مَن ماتَ مِن علمائنا وصلحائنا وأخيارِنا وأحبابِنا خاصَّة، والمسلمين والمسلمات عامة، ويأذن برَفعِ الوباء والأذى والبلاء عنَّا وعن أهل الكون.
يا مُكَوِّن الأكوان يا كريمُ يا رحمنُ طَهِّرنا عن الأدران، والطُف بِنَا في السِّرِّ والإعلان، وعامِلنا بمحضِ الامتِنان، واجعلنا ممَّن ترعاهم عينُ عنايتِك في جميعِ الأطوارِ في السرِّ والإجهار؛ فلا يتعرَّض أحدٌ مِنَّا للنار ولا للَهِيبِ النار ولا للقُرب مِن النار، واجعلنا مِن: {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} اجعَلنا مِن أسعدِ الناسِ في ذلك اليومِ بالقُربِ من سَيِّدِ القوم، والورودِ في أوائلِ الواردين على حوضِه المورود، والاستِظلال بِظِلِّ لوائه المَعقود، والمُرورِ معه على الصراطِ إلى جنَّاتِ الخلود، يا برُّ يا ودود، يا ذا الكرمِ والجود، يا ربَّ العالمين، يا أكرمَ الأكرمين.
يا أرحم الراحمين نظرة تُصلِح لنا بها كلَّ قلبٍ وقالب، وتُنيلَنا بها غاياتِ المطالب، وتدفع عنَّا البلايا والشرورَ والآفات والمتاعِب والمصاعب، يا حيُّ يا قُّوم يا مَن الكل إليه آئب
يا الله .. يا الله .. يا الله .. قولُوها وخُذوا خَيْرَها، قولُوها واهنأُوا بثَمرِهَا، يا فوزَ المُنادِين لربِّ العالمين والداعِين لأكرمِ الأكرمين.
يا الله .. يا رجاءَنا، يا حِصْنَنَا، يا غَوْثَنَا، يا حِرْزَنَا، يا أَمَانَنَا، يا مَن عليه توكُّلُنا، وعليه اعتمادُنا، عليك توكَّلنا، إليك أنَبنا، سامِحنا فيما جنَينا، ولا تؤاخِذنا بما فعلَ السفهاءُ مِنَّا، واغفر لنا يا خيرَ الغافرين يا الله.
28 شوّال 1441