محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك ليلة الجمعة 23 جمادى الأولى 1447هـ في دار المصطفى، بعنوان:
حقيقة العزة والشرف وميزان الاعتبارات والخروج من دوائر الأوهام والخيالات
- 0:52 العزة بطاعة الرحمن والذلة بالعصيان
- 4:09 الغايات والنهايات الكبرى
- 5:38 خطاب للخروج من الضلال إلى النور
- 9:27 احذروا السراب واذكروا المآب!
- 11:46 صفات الشاكر والكفور وعواقبهم
- 15:21 صِدق الذين بكوا من خشية ربهم
- 16:23 لمن حقيقة الشرف والكرامة؟!
- 18:04 الله أحق أن تخافه وترجوه!
- 20:38,الدخول في دائرة السعي المشكور
- 22:54 الاعتبار من الحياة الدنيا
- 24:32 أعز مَن على ظهر الأرض!
- 26:24 الهون والذلة بمعصية الله
- 27:54 دعوات مباركة
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله.. الحمد لله الذي اقتضت رحمته إبراز زين الوجود، وجعله الباب الأوسع للدخول إلى عطاء غير محدود، حلَّاهُ بأسنى ما يُحِب، وجعله أعظم مَن يحب، أحبه في السابق والأزل، وجعله في خلقه الآخر والأول، وجعله صاحب الشفاعة العظمى، والذي يطَّلع من أسرار الصفات والأسماء والذات على ما لم يطَّلع عليه غيره من أهل الأرض والسماوات.
العزة بطاعة الرحمن والذلة بالعصيان
- فتميَّز بالميزة التي بها حقيقة الفضل والعزة، بعيداً عن كل خيال وفكر وتصور، ابتُلي به المكلفون؛
- ليُعلَمَ الصادقون منهم والكاذبون، ويُعلَم المؤمنون والمنافقون (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت:11]، و: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال:37]،
- بحكمة من حِكَمِ الخالق، أودعها هذه الكائنات، وجعل المكلفين محل النظر فيما يبقى ويستمر من الشأن،
- وذلك حلولهم إمَّا في الجنان وإما في النيران، من غير حدٍّ ولا أمدٍ ولا انقضاء، أبداً سرمدا.
- وجعل بقية الكائنات مع أهل الجنة والنار متفاعلة فيمن يبقى من الملائكة أو العرش أو الكرسي أو اللوح أو القلم؛ في موالاة لأهل الجِنان، وإكبار لهم، لمَّا كَبُر شأنهم عند الإله الرحمن. وفي بُغضٍ لأهل النيران لمَّا أبغضوا إلههم وشريعته، ومَن أرسل مِن المقربين سادات أهل العرفان، وأصرُّوا على المخالفة والعصيان، وعلى الاغترار بالأفكار والظنون والأوهام والخيالات التي اختُبروا بها وابتُلوا، فأبوا أن يخرجوا من شبكاتها وأن يرتفعوا عن قاذوراتها؛ بما تحكَّّم فيهم من اتباع ذلك الوهم والظن والخيال، أبوا أن يرتفعوا عن الأقذار واستحلَوا ما هو مرٌّ وقار، وأبوا دعوة الإله الغفَّار، وقد بلَّغهم على ألسن مَن اختار مِن صفوته الأطهار: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75].
الغايات والنهايات الكبرى
- فالغايات والنهايات لا فيما يتعلَّق به الناس من هذه الكائنات،
- ولكن ذوات المكلفين من الإنس والجن هي التي يترتب عليها شؤون إبقاء وإدامة من الحيِّ القيوم.
- ومن أجل ذلك بنى الجنة وما فيها من درجاتها الكبيرة، و: "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وبنى النار وما فيها من أهوال وعذاب لا يُطاق، ووحشة وطرد وبُعدٍ وحجاب. نداؤهم من الجبار الأعلى جزاء ما أعرضوا عنه وتولوا عن أمره في الدنيا: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون:108]. بينما نداء أهل جنته: "هل رضيتم؟" وكيف لا نرضى وقد نجيتنا من النار وأدخلتنا الجنة وأعطيتنا وأعطيتنا! يقول: "ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟" يقولون: "يا ربنا وما أفضل من ذلك؟" يقول: "أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
خطاب للخروج من الضلال إلى النور
- أيُّها الأحباب، يا أولي الألباب، يا من آمنوا بالكتاب وسنة سيِّدِ الأحباب ﷺ، المخصوص بأعلى خطاب:
- يجب أن نخرج من هذه الأوهام وذلك الظلام.
- كل ما عُدَّ من دون الله، وكل ما خرج عن ميزان الله بأي اعتبار: فباطل في باطل، وضلال في ضلال،
- يُزَمْجَرُ نحوه وحوله ما يُزَمْجَر، ويُكَثَّرُ زخرف القول عنه ما يُكَثَّر، فما هو إلا باطل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور:39-40].
نوِّرنا يا ربنا، نوِّر قلوبنا، نوِّر أرواحنا، نوِّر أسرارنا، نوّر أجسادنا بأنوار طاعاتك؛ حتى يَسْرِي النور الذي طلبه عبدك المصطفى نور النور، إلى عظامنا وإلى لحومنا وإلى دمائنا وإلى جلودنا وإلى شعورنا يا حي يا قيوم.
- فما ميزة الجلود عن بعضها البعض إلا النور أو الظلمة، ولا الشُّعور ولا الدماء كذلك،
- ولا مكانتها عند الرب إلا بما استقت من هذا النور.
- (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) [النور:35]،
- (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور:35]،
- (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) [المائدة:15]،
- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ..) وفوق ذلك: (..وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ)!
- فما أعظم حظهم، ما أعظم غنائمهم، ما أعظم مكسبهم، ما أربح تجارتهم! (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)[النساء:174-175].
- يتعرَّف إليهم فيعرفونه، ويحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ويؤتيهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
احذروا السراب واذكروا المآب!
- يا أيها الحاضرون، يا أيها السامعون، يا أيها المؤمنون: أنتم المخاطبون الأوائل -والخطاب ممتد إلى كل ذي عقل من المكلفين في الشرق والغرب-:
- احذروا الَّسراب، اذكروا المآب، اعرفوا عظمة رب الأرباب!.
- ما خُلقتم لهواً ولا لعبا ولا عبثا، وكل ما في الوجود يُنْبِئكم أن الموجد ليس بذي عبث ولا لعب ولا هزو، وأنه أكبر وأكرم من أن يَخلُقَ شيئا بلا حكمة وبلا مراداتٍ تليقُ بعظمة هذا المكوِّنِ البديع البصير السميع (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ..) والخصوصية والمزية: (..وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [السجدة:7-9].
أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
صفات الشاكر والكفور وعواقبهم
أنت الذي تقول: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]، فنسألك يا بر يا شكور: أن تنظر إلينا وإلى جميع الحاضرين والسامعين؛ فتجعل الكل مِنَّا شاكراً ذاكراً داخلاً في كل صَبَّارٍ شكور.. يا الله.
- قال عن الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا..)
- وأين يذهب الشاكر؟ وأين يذهب الكفور؟ (..إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا..) وأين يذهب الشاكرون؟ (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا..) يشرب الأبرار شرابا طيبا مزاجه من هذا الكافور الذي هو التسنيم كما ذكر في الآية الأخرى.
- وهذا الكافور والتسنيم (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ..) خالصاً مباشرة (..يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)،
- لأنهم عاشوا في الدنيا على الوفاء ومراقبة عالم السِّرِّ وأخفى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ..)،
- وشأنهم في دفع الأهواء وردِّ ما يوحى إلى النفوس، من أنواع الكبرياء ومن أنواع الرياء ومن أنواع الحسد ومن أنواع الطغيان ومن أنواع الزلات: (..وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا..)،
- ويُترجمون عن صدقهم في كل ذلك بالبذل من أجل الله: (..وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا..)،
- مُرتَكِز شأنهم على الإخلاص بوجهه وإرادته وحده (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا..)،
- كيف وصلتم هذه المراتب؟ وخرجتم من هذه الأكاذيب والأضاليل والأباطيل بزمجرتها وبشدتها وبقسوتها وتخلَّصتم منها؟ (..إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا..)[الإنسان:3-10]، ما نسينا المآب، ولا يوم الحساب، ولا الرجوع إلى ربِّ الأرباب.
- يقول -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص:26].
- وبقدر النسيان ليوم الحساب تمكَّنت الأهواء منهم، وقادتهم يمنى ويسرى، ولعبت بهم، وأخرجتهم عن سر الإخلاص، وعن حقيقة الصدق مع الحق الذي يجمعهم يوم الأخذ بالنَّواص -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ بنسيانهم للمآب (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[الإنسان:10].
صِدق الذين بكوا من خشية ربهم
فعنهم رضي ربنا، كم من ساعات في الخلوات بكَت عيونهم من خوف ذاك اليوم والرجوع إلى الحي القيوم. وقل لعينك: كم بكت من ذكر ذاك اليوم؟ ومن حال ذكر كيف يكون حالها عند لقاء الحي القيوم -جل جلاله-؟! لكنهم صدقوا وبكوا من خشية ربهم (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا..)!
والنهايات والعواقب والجزاء: (..فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا). وهل غيره يقي شر ذاك اليوم؟ ذاك يوم الحسرة ويوم الندامة! (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)[مريم:39-40].
لمن حقيقة الشرف والكرامة؟!
فمن لم يعمل بطاعته لا رابح، إن كان رئيسا أو مرؤوسا، أميرا أو مأمورا، غنيا أو فقيرا، فردا أو جماعة أو هيئة، شعوبا أو دولا.. مَن خرج عن طاعته لا فوز! لا سعادة! لا شرف! لا كرامة!. ولن تُشرِّفهم دولاراتهم ولا أسلحتهم ولا عُملاتهم ولا كراسيهم، الخزي أمامهم!، بل البصائر تراهم مخزيين من اليوم! شِرَار الخلائق (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ..)، (أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أخس خلق الله، أرذل خلق الله هم. ما يُخرجهم من هذه الشِّرِّيَّة وهذا الخزي وهذه الضَّعَة أنهم كانوا رؤساء ولا تحايلوا ولا خدعوا ولا ضربوا ولا قادوا عساكر ولا جاءوا بأسلحة فتاكة، ما يُخرجهم عن هذا الانحطاط وعن هذا الخزي وعن هذه الشّرِّيَّة (أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)، (..إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:6-8]، (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).
الله أحق أن تخافه وترجوه!
يا من تخشى الأمراض، يا من تخشى الحكومات، يا من تخشى الفقر، يا من تخشى الموت، يا من تخشى الحوادث: ربك أحق أن تخشاه، ما في هذه الأشياء شيء يقدر أن يمسك إلا بأمره، ولا يقرب منك إلا بأمره، ولا يصيبك إلا بأمره..
- يا من ترجو الأثرياء، يا من ترجو الأغنياء، يا من ترجو الجمعيات، يا من ترجو الهيئات، يا من ترجو الحكومات، يا من ترجو القبيلة، يا من ترجو المسؤولين:
- الله أحق بالرجاء!
- هؤلاء كلهم -وعزته وجلاله- لا يوصل أحد منهم إليك ذرة من نفع إلا بأمره، وإلا بإرادته. هو أحق أن يُرجى!
- وما عندهم مما تحبه أو يمكن أن يوصلوه إليك أو يصل بسببهم إلى عندك.. قليل وحقير ومنقضٍ وزائل، وما عنده باقٍ! هو أحق بالرجاء!
- ما أحد منهم يقدر يعطيك كرامة حسن الخاتمة، ما أحد منهم يقدر يعطيك كرامة دخول الجنة، ما أحد منهم يقدر يعطيك شرف أن يبيضَّ وجهك (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)[آل عمران:106].
- ارجُ الله! الله أحق أن ترجوه! الله أحق أن تطمع فيه، وفي ما عنده! فهو القدير على كل شيء، وهو القاهر لكل شيء، وهو الفعَّال لما يريد، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو الذي يُنَعِّم بنعيم لا غاية له ولا نهاية، ويُعَذِّب بعذاب شديدٍ أليمٍ مهينٍ غليظٍ لا فوقه عذاب (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ..)
- ومَن الفائز؟ (..يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) التي اطمأننتي بذكر ربك وما جاء عنه وباتباع رسله (..يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر:25-30].
اجعل نفوسنا مطمئنة، تؤمن بلقائك، وتقنع بعطائك، وترضى بقضائك.. يا الله.
الدخول في دائرة السعي المشكور
سيدنا ومولانا: الضعيف منا والمنقطع عن حقيقة الشكر لك؛ انظر إليه في هذا المجمع قبل أن نتفرق، واجعله وجميع السامعين والمتصلين من الشاكرين. لا نبيت الليلة إلا وقد أدخلتنا في دائرة مَن شَكَر، وممن تُمَكِّن لهم الأقدام في الشكر حتى يلقوك يا بَرُّ يا أكرم مَن فَطَر، يا خير مدعو يا أكرم مرجو، نخاف منك ونرجوك..
والذي فيه رجوانا ومنه المهابة *** قدك داري بها قبل القضاء والكتابة
فامسح آثارها وإن كان فيها صلابة *** رُدّ يا الله جَلَامِدْها الصَّلِيبة مُذَابَة
يا من يقول للشيء كن فيكون: اجعلنا لك ممن يشكرون، ورقِّنا في مراقي الشكر سرا وجهرا، وارفعنا في مراتبه وارفع لنا به عندك قدراً، يا بر يا شكور، يا شاكر يا عليم (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)[البقرة:158].
يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين: أدخلنا فيمن (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)[الإسراء:19].
- يا إلهي: عظمة شكر سعيهم أنه من قِبَلِك، مشكور من قبلك أنت،
- أنت الذي تشكر سعيهم فسَعِدوا،
- أنت الذي تشكر سعيهم فاعتلوا وارتفعوا،
- أنت الذي تشكر سعيهم فابتهجوا وطَرِبُوا،
- وحُقَّ لهم ذلك (فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[الإسراء:19-20].
الاعتبار من الحياة الدنيا
انظر، يقول: جعلنا لكم الحياة لتعتبروا بها، لا لتغتروا بها ولا لتركنوا إليها. يقول -جل جلاله وتعالى في علاه- (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس:7-8]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، أبرزها لنا لنعتبر بها (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ..) في هذه الحياة الدنيا.. ذا منصبه مدري ايش، وذا في درجة مدري ايش، وذا مُقَدَّم هنا وذا هنا، (..ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا)[الإسراء:21].
قال الله ما جعلت هذا لكم في الدنيا لتغتروا به ولا تسقطوا فيه؛ إلا لتتذكروا كيف الدرجات عندي، إذا رأيتم الاعتبارات عند خلقي وعند الدول وعند…، قل: الاعتبار عند الله أين؟ كيف أكون عند ربي؟ مَن الرفيع عند الله؟ مَن الشريف عند الله؟ هؤلاء ورفعتهم زائلة، هؤلاء ورفعتهم مُنقضون منتهون. أين الرفعة عند الرب -جل جلاله-؟
اجعل برَبِّ العرش عِزَّك يَسْتَقِر ويَثْبُتُ ** فإذا اعتززتَ بمن يموت فإنَّ عِزَّكَ مَيِّتُ
تعتز بمن يموت! عزك ميت، أنت وإياه ميتين. شوف العِزّة عند الحي الذي لا يموت (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون:8].
أعز مَن على ظهر الأرض!
- فأعَزُّ مَن على ظهر الأرض:
- مَن صدَق مع رب الأرض والسماء،
- ووفى بعهد رب الأرض والسماء،
- وتحقَّق بالعبودية لربِّ الأرض والسماء،
- واقتدى بحبيبه الأسمى، وعَلِمَ أنه بابه إلى الحق، وأنه لا سبيل لصدقه في محبة الخالق إلا اتباعه لخير الخلائق (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي..) والنتائج المضمونة الكبيرة المأمونة: (..يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)[آل عمران:31-32].
قال: انظروا الاعتبارات عندي ليست بقياسكم أنتم (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ)[آل عمران:33-34]. وانتم تصلِّحون اصطفاء من بينكم! ذا مدري من ايش الفلاني وذا مدري من ايش الفلاني، المصطفون الذين اصطفيتهم أنا، أما أنتم اصفياؤكم!؟… وكان بعضهم من هؤلاء المشركين يقول: أنا العزيز الكريم، قال الله لمَّا يسحق في النار ويُدَسُّ وجهه بحريقها ولهبها وبحيَّاتها وعقاربها ويُشَرِّبُونه من الحميم، يقولون: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)[الدخان:49]! ذُق! أنت العزيز الكريم؟ لا عِزَّة ولا كرامة! أي كرامة؟ كذَّاب!
والله كل مَن خرج عن منهج الله وقال عندي عزة وكرامة، كذَّاب بيقين بلا ريب ولا شك. العزة في اتباع محمد.
الهون والذلة بمعصية الله
تضيِّع عزتك بعين تعصي، تضيع عزتك بيد تعصي، تمدها إلى ما حرَّم الله عليها، راحت عزتك. ما أهانت العباد أنفسها بمثل معصية الله، ولا أعزَّت أنفسها بمثل طاعة الله!
- خذ العِزَّة، ما دام الباب مفتوحاً لك؛
- لتعتز بالعزيز القوي -جل جلاله- بطاعته، وبالخضوع لجلاله.
- لا تعصه لا بقلبك ولا بجوارحك. فالمعصية مرضك، المعصية هُونك وذُلّك، المعصية نار، المعصية خزي، المعصية شر!
- "وأنَّ خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وأن شر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته".
- هذا هو الحق، تحقَّق به، واغنم عمرك القصير، يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وذكريات تتذكرها من أجل أن تُعَزَّ، وتُكَرَم، وتُطهَّر، وتُنقَّى، وتُرفَع، وتنال نصيبك ما دمت في هذه الحياة، وإلا ما أكثر الحسرات في القيامة! (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ)[الفرقان:27]، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء:42].
- فاتقوا الله، واشكروا نعمة ربكم، واصدقوا في الإقبال عليه.
دعوات مباركة
يا رب: لا بات مِنَّا أحد إلا وقد أذنت أن تكتبه في ديوان الشاكرين الذاكرين، أَعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسنِ عبادتك، وافعل كذلك بأهلينا وأولادِنا، وذرياتنا، وطلابنا، وجيراننا، وقراباتنا، وأصحابنا، يا الله: بك نسألك، وبأسمائك وصفاتك، وجميع محبوبيك: أن لا يبيت أحد من الحاضرين ولا من السامعين إلا مُثْبَت في ديوان الشاكرين، يا الله: أهل السعي المشكور لديك يا عزيز يا غفور، يا بَرُّ يا شكور يا الله..
وقد مددتُ يدي بالذُّلِّ مبتهلاً *** إليك يا خير مَن مُدَّت إليه يَدُ
فلا تردنها يا ربِّ خائبة *** فبحرُ جودك يروي كل من يَرِدُ
يا الله..
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها *** ما لي على حملها صَبْرٌ ولا جَلَدُ
أطلبُ منك أموراً أنت تعلمها *** ما لي على فقدها صَبْرٌ ولا جَلَدُ
يا حيُّ يا قيُّوم: بلِّغنا مُنانا، ووفِّر من فضلك عطانا، واغفر بجودك خَطانا، وثبِّت على الحق خُطَانا، وتولَّنا في ظواهرنا وخفايانا بما توليت به محبوبيك في عافية، يا رب العالمين، يا أول الأولين ويا آخر الآخرين ويا ذا القوة المتين ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين: حقِّق لنا كل ذلك، وزِدْنَا من فضلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، والحمدلله رب العالمين.