(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، في دار المصطفى، ليلة الجمعة 20 ربيع الأول 1442هـ بعنوان:
حقائق الوجود وغرائب العناد والجحود وتنكُّب من لا يؤمن باليوم الموعود
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم
الحمد لله القويِّ القادرِ، العزيزِ الفاطر، الرحمنِ الغافر، الأولِ الآخرِ الباطنِ الظاهرِ ربِّ السماوات والأرضين، ربِّ العالمين ربِّ الدنيا وربِّ البرزخ وربِّ الآخرة وربِّ كلِّ شيء، بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، الحيُّ القيومُ الذي لا يعزبُ عن علمِه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرُ مِن ذلك ولا أكبر إلا هو في كتابٍ مبين.
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
يتعرَّفُ إليكم، يصفُ نفسَه ويذكرُ لكم أسماءَه وصفاتِه لتسعدُوا بعبوديَّةٍ تتولَّاها ربوبيَّة، فتنجو مِن جميعِ الأوهامِ والظنونِ والخيالاتِ والظلماتِ في الحياةِ وعند المماتِ، وفي البرزخِ ويومَ الميقات، وتُثبَّتون خيرَ الثبات عند المرورِ على الصراطِ فتجتمعوا في الجنات، ذلكم لمَن قبِل فضلَ الله، ذلكم لِمَن قبِلَ مَنَّ الله، ذلكم لِمَن قَبِل كرامةَ الله، ذلكم لِمَن قَبِل البعثةَ والإرسالَ مِن الجبارِ الأعلى للأنبياءِ والمُرْسلين الذين خُتموا بزينِ الوجود محمد، خيرِ خلقِ اللهِ أحمد، مَن رفعَ اللهُ له المنزلَ والمشهَد، وأمدَّه بأعلى المدَد، وإن كان يُمِدُّ خلقَه بخلقِه فلا يَجري لخلقِه مِن المَددِ مثلُ الذي يُجريهِ الواحدُ الأحدُ على يدِ محمد أحمد، الهادي إلى مَسلكِ الرَّشَد.
هو النورُ المبينُ به اهتدَينا ** هو الداعي الى أقوَى سبيلِ
وحقائقُ ما جاء به لها قلوبٌ تتلقَّاها وتَعِيها وتتنوَّر بها وتُراعيها وتقومُ بحقِّها فترقَى بِمَراقيها، وهناك تشربُ مِن كؤوسِ المحبَّة صافيها، وينازلُها مِن الرحمن جلَّ جلاله بما عملَت مِن مَراضيهِ ما يُرضيها، وفوقَ ما يُرضيها مِن سرِّ رِضاها ومِن سرِّ رضاه عنهم {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ}.
هؤلاء السالِمُون مِن ورطاتِ الانقيادِ للفسادِ وأهلِ الفساد والعنادِ وأهلِ العِناد، والإبعاد وأهل الإبعاد، والشقاء وأهل الشقاء والمطرودين ومَن يدعو الى ما يُوجِب الطردَ والعياذُ باللهِ تبارك وتعالى يَسْلَمون مِن كلِّ هذا، وقبل خلقِنا وأول ما كان مِن الآدميِّين أبوهم آدم في عالمِ الأجساد وحدَه وأمرَ الحقُّ الملائكةَ بالسجودِ لآدم، وكشفَ غطاءً أنه يجعلُ لهُ ذريةً كبيرةً تملأ الأرضَ وتعمرُ الأرضَ وتعيشُ في الأرض، قروناً عدَّها الله جلَّ جلاله وسنوات عدَّها وأشهر عدَّها وأسابيع عدَّها وأيام عدَّها، ولحظات أعدَّها إلى لحظةِ النفخِ في الصور.
هذه اللحظاتُ المعدودة، تمرُّ فيها هذه القرون قرناً بعد قرن، فلا والله لا يزيد في عُمرِ الدنيا لحظة ولا ينقص لحظة {ومَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}
وقت محدد {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
ولكن {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}
وفي ما كَشَفَ مِن وجودِ هؤلاء الآدميِّين جاء حسدُ إبليس؛ أهذا الذي تأمرُنا أن نسجدَ له؟! وتجعل له وذريتَه أسرارَ خلافةٍ على ظهرِ الأرض يتَّصلون بك؟! ويصلُ إليهم بِرُّكَ ونوالُك؟ وتُرْفعُ لهم المراتبَ في البرازخِ ثم في القيامةِ ثم يسكنونَ الجنَّة؟
{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}
قال الجبَّار: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}
وقال جلَّ جلاله؛ واسمَع مني خبر، يا عدوّ استكْبرَ وياعدوٌّ أدْبرَ اسمع مني خبر: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} بما تمتدُّ إليه مملكتُك التي أُعطيكَ إياها اختباراً وامتحاناً.
كما قال تعالى في حِكمتِه في الذين صدُّوا، هذا إبليسُ قد أراه آيات وقد أراه سماوات وقد بسط له بساط، ثم عاندَ واستكبرَ فحقَّ عليه العذاب، وكذلك يقول الله تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}
{لَا يَشْعُرُونَ}: لا يشعرون بما انطوَى في المالِ والبنين مِن حزونٍ وآفاتٍ وقرباتٍ وأكدارٍ وأمراضٍ وشدائدَ وشؤونٍ تحصلُ في غير مُتَوَقَعِهم {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ }
ومَن الفائزُ يا رب؟
{إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا} قومٌ محرَّرين على ظهرِ الأرض مِن عبادِ الرحمن الذينَ ليس للشيطان عليهم سلطان {يُؤْتُونَ مَا آتَوا} يبذلون، ينصحون، يُرشدون، يتعبون، يجاهدون، { وقلوبُهم وَجِلة} أقُبِلَ منهم أم لا { أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}
{أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ومع ذلك فرحمتُنا اقتضت {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
ويقول في الآية الأخرى التي ذكرناها: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ} الغَمرة التي أخذتِ القلوبَ هذه وأخذوا يصدِّقون أنهم هم الصنَّاع وأنهم المتطوِّرون وأنهم المحرِّكون للعالَم وأنهم صنَّاع القرار وأنهم وأنهم.. غَمرة غمرَت قلوبَهم، ظنُّوا أنفسَهم أرباباً وما هم إلا عبيد، ظنُّوا أنفسَهم آلهةً وما هم إلا مخلوقون، يقول سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ} والمُترَفون في كلِّ زمانٍ لا تمرُّ السنون إلا وأخذُوا بِنَوعٍ مِن أنواعِ العذاب، كلُّ مَن رفعَ رأسَه قُمِع، الواحد بعد الثاني ويجيء الثاني يرفع رأسه.. هل تحب القمع؟ شاطح بنفسه ما درى أين يذهب؟ شف هذه الطريق فيها قمعُ الرؤوس، قد قُمِعَ الأول والثاني والثالث.. أين تذهب أنت؟ ما أمامك فرعون والنمرود؟ {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا} مِن أيام نوح والذين في زمانك أنت، كثير قدامك مشَوا في هذه الطريق وقُمِعوا.. هل تريد القمعَ ؟ كلما رفَع أحدُهم رأسَه قمعَه جلّ جلاله {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ}
عرَضنا عليكم، أكرَمناكم، أرسلَنا إليكم حبيبَنا وصفوتَنا، أنزَلنا عليكم الكتبَ، أريناكم الآياتِ في الوجود، خلقناكم مِن لا شيء، وكوَّنَّا أجسامَكم الغريبةَ الحاملةَ للعجائبِ مِن نُطفة وعلَقة ومُضغة وعِظام، وكسوناها لحماً ثم أنشأناها خلقاً آخر، فكفرتُم بنا؟ واغتررتُم بما عندكم؟
وقلتم نُقنِّن لنكاحِ المِثليّين، وقلتُم نتحدَّى الكتابَ المنزل والنبيَّ المرسَل.. وقلتُم وقلتم، مِن لعبٍ بسفكِ الدماء وتَلاعُبٍ على خلقِ اللهِ تعالى في الأرضِ جلَّ جلاله {إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ * قد كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}
تقولون القولَ البذيءَ، تنكرون الحقائقَ، تعاندون الخالقَ، تتكلمون على خيرِ الخلائق {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } أين ذهبت عقولهم؟ { أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
يا آلَ الشرق يا آلَ الغرب، يا عرب يا عجم آباؤنا وآباؤكم مضَوا مِن قرون ، فما كانت مسيرتُهم وما كانت نهاياتُهم؟ وما كانت عواقبُهم ومَن الذي فاز منهم وأفلحَ وأنجح؟ {أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ } ما عرفوا الصادقَ؟ ما عرفوا الأمينَ؟ ما عرفوا الرحيمَ؟ ما عرفوا الشفيقَ؟ ما عرَفوا العادل؟ ما عرفوا المُحسن البَرّ؟ ما عرفوا البدرَ المنير؟ ما عرفوا ختمَ النبوة؟ ما عرفوا صدقَه وأدبَه ووفاءَه وجُهدَه واجتهادَه وتواضعَه وحِلمَه وسخاءَه وكرمَه؟
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} يقلِبون الموازين ويسمُّون أهلَ العقل الأعلى والمدرِكين للحقائق مجانين! {أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} قال الله نحن ذكرنا أفكارَكم هذه وحالاتَكم وحلَّلناها لكم في الكتاب، وأرسلنا لكم في الكتب يقولون لكم الذي يفكر كذا نهايتُه كذا، والذي يتصوَّر كذا نهايتُه كذا، والذي يقول كذا نهايتُه كذا، وانظروا لمَن قبلَكم، قد فعلنا بهم مثلَ هذا، وأعطيناكم ذكرَكم {بَلْ أَتَيْنَٰهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ}
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} هل تطلبُ شيئاً منهم؟ ما أراد منكم شيء من الدنيا، وأتباعُه اليوم ما يريدون شيئا، إن كنتم مغترِّين بالتكنولوجيا خذوها، خيرُها سيُسخَّر لأتباعِ هذا الحبيبِ بنُور وهدى لا ضلالَ فيه، ظُلمتُها لكم وشرُّها لكم واستعمالُها في الفساد لكم، بماذا تغترُّون؟ ما نسألكم شيئاً مِن دنياكم؟
هل تريدون رئاساتٍ وسلطات!؟ ما لنا حاجة بها ولا نرغبُ فيها، وأما طريقتُنا يقول: (لو كانت الإمارةُ على الناس تصلحُ للدواب ما ارتضيتُها لدابَّتي لا أريد إمارةً على الناس، أنا أريد مكانةً عند ربِّ الناس، أريد منزلةً عندَ مَن بيدِه نواصِي الناس، أنا أريد فوق، ما أريد تحت..
والذين ملكوا كم عددهم؟ في وقتي كم! والذين قبلي كم؟ وكلهم انتهوا، وما بقي معهم ملك؟
مئات بل ألوف.. ملايين دخلوا فيه وكُسِّروا وانتهوا ولم يبقَ منهم مُلك؟
قال صاحب الرسالة لأتباعه كلهم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامةً يومَ القيامة)
يقول (مَن سألها وُكِلَ إليها، ومن طُلِب لها أُعين عليها)
ربَّى أُمتَهُ هذه التربية صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وكلٌّ أخذ مقدارَه في هذه التربية: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
فلا والله، لا استقامةَ فيما خالفَ منهاجَ مختارِ الربِّ وصفوتِه مِن البرية، الناطق بلسانِ الحقِّ المُزكَّى اللسان في القرآن {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، لا استقامةَ في شيءٍ خالفَ ما جاء به، جاء مِن عند غربٍ أو من عند شرقٍ أو مِن عربٍ أو مِن عجم أو مِن إنس أو مِن جن.
من هم؟ خالقُهم قال كذبوا وصدقَ رسولي، قلنا صدقتَ يا ربنا، كل مَن كذَّب رسولَك فهو كاذب ونحن نُكذِّبهم، نُكذِّب الكاذبين ونحن نعلمُ الصدقَ وأنَّ الذي جاء بالصدقِ خاتمُ المرسلين وأوائلُنا قالوا:
وفينا رسولُ الله يتلو كتابَه ** إذا انشقَّ معروفٌ مِن الفجر ساطعُ
يبيت ويجافي جنبَه عن فراشهِ ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ
أرانا الهُدى بعد العَمى فقلوبُنا ** بِهِ موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ
وهل في عُمرنا القصير هذا شاهَدنا في الحياة شيئاً غيرَ ما قال؟ ما شاهَدنا غير ما قال، (فقلوبنا بِهِ موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ) وأحاديثُه تُتْلى علينا الحمدُ لله، ويتحفَّظ مَن يتحفَّظ منها نصيبَه مع حِفظِه مِن الآياتِ العظيمة، حصون كريمة ومواهب عظيمة ومِنَن فخيمة مِن الله هي مصدرُ حياة هذه الأمة، الذين تستجيب قلوبُهم لهذه الحياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
ونقول في صنائعِكم وما عندكم وصناعاتكم، أنتم تفقدون حياةَ القلوب فهل تريدونها؟
{فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ}
وعُرِضت هذه الدعوةُ على أيدي النبوَّة على مدى القرون وإلى سيدِ المرسلين ومِن أتباعِه، وكل مَن استجابَ لها طابت حياتُه وطاب مماتُه وفاز في آخرتِه..
قل لهذا المُغترِّ بمُلكِه {هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ} تتطهَّر، أن تخرجَ من هذا الوسخ ؟
{وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ}
يقول أنتم باغتراراتكم الآن كم لهم وهم في مسألة الفضاء هذا يُؤسِّسون شركاتٍ ودورات ورحلات بعد رحلات، وما وصلوا إلى رُبعها ولا نصفها ويتحدثون عن خيالات واكتشافات.. أنت متى خُلِقْتَ حتى تكتشف النجم؟ وقبل ما يخلق أبوك وأمك وجدك وجد جدك، خالقه قد أرسل محمدا وبيّن لنا أين نمشي وأين نهتدي وإذا نجلس إلى أن تكتشف ستخسر الأمة لما يجيء اكتشافك ندرى بالحقيقة؛ الحقيقة قد كُشفت وبْيِّنت على لسان رب الخليقة بيد نبيه محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
قال: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا}: ما وصلوا السماء الجماعة عادهم والكواكب في كل ساعة يجيبون كلام، ويردّون على بعضهم البعض.
{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا}
قبل أن تطلعوا إلى الفضاء ابحثوا ما في الأرض تماماً يدلُّكم.. مَن الذي خلق، وعظمة الذي خلق .
عادكم في الجيولوجيا ما كَمُل اكتشافكم لما فيها {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
ولو علموا الباطنَ من الحياة الدنيا لعرفُوا من خلقَهم ولعرفُوا كيف يستعدُّون له ولكن يقفُون عند الظواهر، وكلما هالَ العقولَ والقلوبَ شيءٌ مِن كلِّ واحدٍ منهم لأنَّ فيهم آل السذاجة وآل البراءة.. وفيهم أرباب الحقد والعناد والكفر وفيهم أصناف.. وكثير منهم لما يكتشفون العجائبَ والغرائبَ يقولون لا يمكن أن يكون هذا عبثاً، ما يمكن هذا صدفة؛ طيب قد أُحلّ اللغز وقال لكم تعالوا أنا الذي خلقت وهذه أسمائي وهذه صفاتي ومرجعكم إلي.. لماذا لا تستجيبوا؟ وتبقَوا في العمى ؟ لا يمكن أن تكون عبثاً.. كم واحد منهم قالها؟ مِن هؤلاء الكفار أصحاب الفضاء، أصحاب الجيولوجيا، أصحاب البحار الى أن يندهشَ عقلُه ويقول لا يُمكن أن يمشي هذا الكون بنفسه.. وراءَه قوة، وراءَه قُدرة،
نحن قد قلنا لك تعال والحل موجود ونُعرِّفك هذه الحقيقة، فما الذي يغويك ؟! ما الذي يلهيك ؟ !
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحدُ
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} كل مَن لا يؤمنُ بالآخرةِ مِن مفكر، أو متطور، أو صانع، أو مخترع، أو جيولوجي، علم فضاء، علم طب، علم هندسة..
{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} متنكِّبين عن الصراط، لا يستقيمون على صراطٍ صحيح أبداً.
{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} وبهذا الغشِّ الذي تمسكوا به في بواطنهم وأبَوا سماع صوت الحق {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} حتى قال الله لو رُدُّوا مِن الآخرة إلى الدنيا لعَادوا لِما نُهُوا عنه وإنَّهم لكاذبون كما يقول جل جلاله.
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} هؤلاء لما توقَّفَت أمامَهم تقدمهم جاءوا وتكنولوجياتهم وما عندهم وتفنُّنهم في الطِّب، وسياساتهم والخطط القويَّة المجيدة المرتَّبة وأما فيروس كورونا خربطت عليهم الخطط والترتيب والصحة والتطور وقف، عجيب والله كل الذي كان في أذهانِهم قبلَ ظهور هذا الفيروس تغيَّرت صورتُه وتغيَّرت حقيقتُه، كان الذهن كذا ورجع كذا.. ما الحاصل؟ مَن الذي يقودُ العالم؟! مَن الذي يتصرَّف في الوجود؟ جل جلاله وتعالى في علاه.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} قال تعالوا أنتم مِن أين جئتم بأسماعِكم هذه؟ مِن أين جئتم بأبصارِكم؟ مالكم.. مالكم أين تذهبون؟ سمعُكم مِن أين؟ بصرُكم مِن أين؟ لا المصانع أعطتكم السمعَ .. أعطيتُكم السمعَ أعطيتُكم البصرَ، وصنعتُم بها المصانعَ بقُدرتِي، وتَنسوني وتذهبون وراءَ مصانعِكم هذه! أسماعُكم وأبصارُكم مِن عندي وبها صنعتُم ونسيتموني أنا! وأنتم ومصانعُكم مِن قدرتِي وتحت إرادتي.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}
إلٰهنا.. اجعل الجمعَ ومَن فيه ومَن يسمعُنا في الشاكرين، وأعِنّا على ذِكرِك وشُكرِك وحسنِ عبادتِك، وهؤلاء القليل أهلُ المقامِ الجليل، أهلُ سواءِ السبيل أهل الاتصالِ بالنبيِّ أهلِ التَّبجيل، أهل الاستظلالِ معه بالظلِّ الظليل، في لواءِ الحمدِ وتحت ظلِّ العرش وفي الجنَّة اِجعلنا منهم، اِجعلنا فيهم، اجعلنا معهم يا الله.. يا الله.. فإنَّكَ بالفضلِ جعلتَ لنا آمالاً متوجِّهة إلى هذه العطايا الجزيلة، بينما حبستَ أكثرَ أهل الأرض في دنياهم في الفانيات، في الزائلات في الشهوات في الأهواء، محبوسون فيها هنا ومحبوسون في النار في الآخرة والعياذ بالله، ولكن جعلت لقلوبِنا آمالاً لطلبِ هذه العطايا ونَيلِ هذه المزايا، فيا مَن أكرَمنا بفتحِ بابِ الرَّجا في قلوبِنا لهذه العطايا أكرم معطي أعطِنا ولا تَحرِمنا، واستجِب لنا ولا تردّنا، وبلِّغنا آمالَنا ولا تخيِّبنا.
يا كريماً يا رحيماً ** جُدْ وعَجِّل بالمطالب
مَن توجَّه نحو بابِك ** ما رجع مِن ذاك خائب
كيف يرجع خائباً مَن قصدَ بابَ ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب، الغفور التواب، مَن يعطي بغيرِ حساب.
واغفر اغفر ذنب عبدٍ ** قد أتى نحوك تائب
يا أكرمَ الأكرمين أثبِتنا في الشاكرين وارزقنا شكرَ نعمائك، بما تقدرُ عليه الخلائق وهم العاجزون لا إله إلا أنت، واشكر نفسَك عنَّا بما أنت أهله، يا برُّ يا شكور يا محمود يا حميد يا حيُّ يا مجيد يا مبدئ يا معيد يا الله، ونحن نسعدُ بندائك ونناديك بقلوبِنا وألسنتِنا ونقول يا الله، نناديك يارب عنا وعن القلوب التي آمنَت بك والتي ستؤمن بك في شرقِ الأرض وغربِها مِنْ مَنْ مضى ومِنْ مَن هو حاضر ومَن يأتي إلى يومِ الدين نستكفيك البلايا ونسألك المِننَ والمزايا ونقول لك يا الله.. تشعرون ناديتم مَنْ دعوتُم مَنْ؟ رجوتم مَنْ؟ طلبتم مَنْ؟ سألتم مَنْ؟ وقفتم على بابِ مَنْ؟ أتشعرون.. أتشعرون إنه الذي يقول للشيء كن فيكون، إنه الله.. يا قلوب إنه الله، يا عقول إنه الله، يا أرواح إنه الله، يا حاضرين يا سامعين.. يا مؤمنين إنه الله، أيها العالمون إنه الله ربُّ العالمين.
الله.. ما أحسن اسمَه وما ألذَّ اسمَه، وما أكرم اسمَه الله، ونحن نُناديه ونرجوه ونتوجَّه إليه، يا رب لنا وللأُمة اكشِف هذه الغمَّة وأجلِ هذه الظلمة وادفع هذه النِّقمة، ونسألك لنا ولجميعِ المؤمنين ونقول لك يا الله، بالصدق قولوها، بالخضوع قولوها، بالافتقار قولوها، بالانكسار قولوها، بصدق اللجاء إلى الربِّ قولوا يا الله، وليَبكِ عدوُّ الله.. وليَبكِ عدوُّ الله إذا لاح له بعضُ آثارِ استجابةِ يا الله في ساعة مِن ساعاتِ جودِ الله فليَبكِ.. فليَبكِ.
كم تقتل من مكره؟ كم توقف من شره؟ كم تفسد عليه من أمره؟ جل الله: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا} يا نعم الوكيل رُدَّ كيدَ إبليس عنا وعن ديارِنا وعن منازلِنا وعن أهلينا وعن أولادِنا، وعن صغارِنا وعن كبارِنا، وعن رعايانا وعن أمرائنا، وعن تجَّارنا وعن زرَّاعنا، وعن ذكورِنا وعن إناثنا، رُدَّ كيدَهُ وكيدَ أعدائك أجمعين، يا قويُّ يا متين، فإنا نطلبُك وإنَّا نسألك وإنَّا نرجوك وإنَّا ندعوك، وإنَّا نتضرع إليك وإنَّا نتمسك بحبلِ رجائك ونقول لك يا الله.
لو لم يُرِدكم على بساطِ ندائه ما ناديتُموه، ولا أحضرَكم، ولكن جاء بكم وجاء لكم بالخير، اللهم لك الحمد صلِّ على هذا المصطفى، وُلِدْ فينا فتحوَّل حالُ العالم وإلى اليوم ونحن نأخذ من هذا النور، مِن هذا النصيب، يا ما أكرمَه عليك.. وجودهُ يتجدد في الأمة هكذا، وعطاياه كلُّها تتجدَّد في الأمة هكذا، إلى الآن مِن ساعةِ المولد إلى هذه الساعة كم ساعات مرَّت وسَيلُها صبَّاب، غيثُها منساب، ويا كَم مِن قلب يُسقى مِن الحاضرين ومِن الغائبين صغار وكبار ويا كم مِن آثار، وستفدُ الوفود وسيُنجِزُ الله الوعود، وسيخسرُ أهل الجحود، ويثبِّت اللهُ مَن يشاء ويهدي اللهُ لنورهِ مَن يشاء، اللهم لا تجعل في مجمعِنا إلا مَن تجمَع قلبَه عليك، ولا في مَن يسمعنا يا مَن الأمرُ كلُّه إليك يا الله، فلا تخذِلهم لأنْ يأخذوا تراتيبَ أعدائك ويغيِّروا سننَ نبيِّك وهديِ نبيِّك إلى هديِ مَن أبغضتَ ومن لم تنظر إليه يا الله، افتَح لنا من خزائنِ التوفيقِ ما به نستفيق، وتثبِّت الأقدام على أقومِ طريق ونلحقُ بخيرِ فريق.
يا رب ونُسقى في الحياة الدنيا قبلَ الموت مِن أحلى رحيق، شراب المحبة، شراب المعرفة، شراب القرب، شراب الرضوان، يا الله.. يا الله
وبينهم من المولى علامة ** تدل على الرضا في كل آن ** ولا يخشون عقباها ندامة
ومَن طربت روحُه بحُسن عبوديَّة استجابتِه نداءَ ربِّه وتخلِّيه عن الكائنات كلِّها، قال:
دعوني فالذي أهوى دعـاني ** وأبـدى لي من البشرى علامه
وأظهر لي غميضات المعاني ** يقيناً عندما كشفَ اللثامة
سقاني الكأس أفدي من سقاني
وهذا الذي سقى قلوباً وأرواحاً في القرون الماضية كلِّها تراه يعدم وقتكم وقرنكم مِن مَسقيِّين يسقيهم؟ لا وعزَّتِه لا وعظمتِه؛ لكن تصفَّ، لكن أوفي بالعهد، لكن اقرب، لكن اُصدق، لكن اخضع، لكن اخشع وسيسقيك.
سقاني الكأس أفدي من سقاني ** ألا لله من تلك المدامة
راحُ اليقين أعزُّ مشروبٍ لنا ** فاشرَب وطِب واسكر بخيرِ سُلافِ
هذا شرابُ القومِ سادتنا وقد ** أخطأ الطريقة من يقل بخلافِ
والزم كتابَ الله واتبع سنةً ** واقتَد هداك اللهُ بالأسلافِ
أهل اليقين لعينِه ولحقِّه ** وصلوا وثَمَّ جواهرُ الأصدافِ
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً ** سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
قال: اترك ذا العنب والمخدرات والوسخ.. قال قبل ما يخلق هذا وقبل ما يجي نحن قد سكَرت أرواحنا بذكرِ الحبيب.
شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً ** سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
مِن كأسِ الهَناء والأنس لا مِن كأس خمرِ الباطلِ، وهكذا وكان يقولون: الساقي باقي، ويقول الإمام محسن بن علوي: ولكن أين مَن يُحيِّث السواقي.. عندنا السواقي كان يصلحون التَّحيِيث مِن شأن السيل إذا جاء تكون مستقبلة وتمشي مجراها الصحيح.
يا رب نظرة إلى قلوبِنا، يا رب نظرة إلى أرواحِنا، واسقِنا من هذا الكأسِ الذي شربَ منه أبو بكر فصارت لسعةُ الحيَّة عنده يسيرةً، وأبىٰ أنْ يحرِّك رجلَه مِن أجل نومةِ حبيبِك محمد، وفَداه بنفسه ومالِه وأنفق مالَه عليه قبل الفتح، وشرب بالكأس عمرُ فصارت له البكيات وصارت له الخشيات، وصار مِن بعد جبروتِ وطغيانِ الجاهلية البكَّاء الخاضع الخاشع الوقَّاف عند كتابِ الله، والذي لم يرضَ أنْ يأخذَ لأهلِه حلوى مدةً مِن الزمان، إذ لم يملكْ في أيامِ خلافتِه وإمارتِه شيئاً مِن المال مِن غير ما يدخل بالإسم العامي للمسلمين شيئاً، فمنعهم الحلوى أوقاتاً طويلة حتى تيسَّر لهم مما اكتسبه عليه الرضوان.
ولما قالت زوجته: فهذه الدراهم اشترِ لنا بها الحلوى، قال: ومن أين جئتي بالدراهم؟ قالت: نفقتُنا حق الشهر قصَّرتُ منها، قال: آه وعمر يأخذ أكثرَ مِن نفقتِه؟ هذه الدراهم زائدة.. كيف كفتنا في الشهر وهذه زائدة! هاتيها نردها إلى بيتِ المال، ومن الشهر الآتي تنقص مقدار هذا، نحن كنا نزيّد، هذا زائد على قدرنا، وما أطعمَهم الحلوى حتى دخلت عليه من باب واضح، بعد ما شرب من هذا الكأس.
وهكذا شرب منه عثمانُ بن عفان فجاء بها ثمانين ألف صبَّها في حجرِ المصطفى صلى الله عليه وسلم أمامه فقلَّبها بيده فقال: (ما ضرَّ عثمانُ ما فعل بعد اليوم). قال صلى الله عليه وسلم: مَن يشتري بئرَ رومة، وله الجنة؟ يجعلُها للمسلمين ويكون سهمُه كسهمِ واحد فيهم، قال سيدنا عثمان: أنا، واشتراها وتركَها لله سبحانه وتعالى، وهكذا لم يزَل اذا قام صلى مائةَ ركعة في الليل، وقد يدخل في ركعة واحدة يبدأ من الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء إلى سورة الناس فيُكمل المصحفَ كلَّه، وهو في ركعتِه، حيِيٌّ مِن الرحمن.
شربَ بهذا الكأس عليُّ بن أبي طالب وصار يقول كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلينا مِن أنفسِنا وأهلينا وأموالِنا ومِن الماءِ البارد على الظمأ، يتمَلمل في ليلةٍ في ظُلمته، ماسك على لحيتِه، وهو يقول: يا دنيا غُرِّي غيري.. إليَّ تشوَّفتي أم إليَّ تعرَّضتي، قد طلقتُك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيكِ، عمرُك قصير، وعيشُكِ حقير، وخطرك كبير آه.. آه.. آه.. مِن قلَّة الزاد وبُعدِ الطريق ووحشة السفر.
ثم يأخذ كؤوس: (أنت مني بمنزلة هارونَ مِن موسى إلّا أنهُ لا نبيَّ بعدي)، (أنت أخي في الدنيا والآخرة) أما يأخذ كؤوس: (وأشقى الآخرين الذي يضربك على هذه فيخضب منك هذه)،
فينظر في السماء ليلةَ مقتلِه ويقول: إنها للَّيلةُ التي وُعِدتُ، ويرى الحبيبَ في منامه، ويقول: ما ترى ما قابلني به هؤلاء؟ قال: بلَغنا كلُّ ذلك يا علي، فإن أحببتَ دعوتُ فانتصرتَ عليهم، وإنْ أحببتَ أنْ تُفطر غداً عندنا.. قال: بل أفطر غداً عندكم يا رسول الله، وخرج في صلاة الصبح وضُرِب على البُقعة التي قد عيَّنها بإصبعِه، في نفسِ البقعة التي خطَّها بإصبعه الشريفة جاءت الضربة فيها مِن أشقى الآخرين.
وهكذا شربوا هذه الكؤوس، وقالوا يا رسولَ الله واصِل حبالَ مِن شئتَ، واقطَع حبالَ مِن شئتَ، سَالِم مَن شئتَ، وحارِب مَن شئتَ، نحن حربٌ لِمَن حاربتَ، وسِلمٌ لِمَن سالَمتَ، إنَّما أمرُنا تبعٌ لأمرِك، والله لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك، ولو سِرت بنا حتى تبلغَ بِرْكَ الغِماد مِن الحبشةِ لَسِرنا معكَ، ما تخلَّف منَّا رجلٌ واحد، ولقد تخلَّف عنكَ أقوامٌ ما نحن بأشدَّ حبّاً لكَ منهم ولو علمُوا أنَّك تلقَى حرباً ما تخلَّفوا عنك، فامضِ لِمَا أمركَ الله، إنا لا نكره أن تلقَى بنا عدوَّنا غداً، انَّا لصُبُرٌ في الحربِ صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ اللهَ يريكَ منَّا ما تقرُّ به عينُك يا رسولَ الله. هكذا.. هكذا هكذا أدركُوا الحقيقة، ما قدرَت عليهم أوهامُ إبليسَ وأوهامُ الفرسِ وأوهامِ الروم، وأوهامِ القَبيَلةِ في تلكَ الأيام، وأوهامُ القوى المختلفة ما قدرَت عليهم، تنوَّروا بنُورِ لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسولُ الله، نحن لا نعرف سيادةً في الوجودِ لأوامرَ ونواهٍ غير أوامرِك ونواهيك، آمنَّا بك.. آمنَّا بك وصدَّقناك، وشَهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، ألا تعلمون أنَّ في كلِّ زمنٍ أرواحٌ تخاطبُ الجانبَ الأشرفَ بهذا الخطاب، ويُحشَرون يومَ القيامة مع أهلِ بدرٍ في صفوفِ أهلِ بدر، لا يتأخرون عنهم، فيا فوزَ أهل الصدق وهنيئا لهم السَّبق، في كلِّ زمان موجودون، عليهم رضوان ربِّنا جل جلاله وألحَقَنا اللهُ بهم.
يا رب اجعلنا مِن الشاكرين اجعلنا مِن الذاكرين، وزِدنا مِن فضلِك ما أنتَ أهلُه يا أكرمَ الأكرمين، ربَّنا وخاتمة شهرِ ذكرى ميلادِ نبيِّنا ففيه احتفالاتٌ واحتفالاتٌ في كثيرٍ مِن البقاع، ونرفعُ إليك أيدي الفقر ومقرِّين بكلِّ ما جاء به عنك ومصدِّقين أنهُ صفوتُك مِن بريَّتِك، مسلِّمين الزمامَ له في الأمرِ، فحقِّقنا بهذه الحقائق، وارفع عن الأمةِ الكُرَب والمَضائق، والشدائدَ والبوائق، وما أحاط بهم في المغارب والمشارق، يا ربَّ المغاربِ والمشارق يا ربَّنا الخالق، يا الله بحبيبِك الصادق اسقِنا الشرابَ الرائق وألحِقنا بخيرِ الخلائق، وارزقنا السَّبقَ مع كلِّ سابق.
يا الله.. يا الله.. يا الله نسألك ونلحُّ عليك، ونلحُّ عليك في المسألة ونُقسِم عليك بوجاهةِ حبيبِكَ هذا أنْ ترحمَ هذه القلوب، أنْ تُصلِحَ هذه القلوب، أنْ تتوبَ علينا لنتوب، أنْ تجعلَ حظَّنا موفَّراً مِن حبيبِك المحبوب، وفِّر حظَّنا مِن خاتمةِ الشهرِ الكريم، وتجعله لا يرحلُ عنَّا إلاَّ وقد رحلَت ظُلماتُنا وحُجبنا وآفاتنا وسيئاتُنا والقواطعُ كلُّها، والهمومُ والغمومُ عنَّا وعن الأمة.
يا الله.. يا الله امتلأت الأرضُ بمن يتوجه إلى ذا ومن يتوجَّه إلى ذاك ومَن يعدُّ ذا ومَن يعُدُّ ذاك، ونحن نتوجَّه إليك ونُعِدُّك أنت.. أنت العُدَّة يا رب.. أنت العُدَّة للظاهر أنت العدَّة للباطن، أنت العُدَّة للحس أنت العدَّة للمعنى، أنت العدَّة للمؤمنين وأنت العدَّة على الكافرين، وأنت العدَّة في كلِّ ظاهرٍ وباطن، يا مَن بيدِه الأمرُ كلُّه وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه اعتمَدنا عليك واستَندنا إليك.
ربِّ عليك اعتمادي ** كما إليك استنادي
صدقاً وأقصى مرادي ** رضاؤك الدائم الحال
ولا أحلَى منه
وأقصى مُرادي رضاؤك.. فاجعلنا نبيتُ وأنت راضٍ عنَّا، ونُصبحُ وأنت راضٍ عنَّا، ونحيا وأنت راضٍ عنَّا، ونموت وأنت راضٍ عنَّا، ونُحشرُ في القيامَة وأنت راضٍ عنا، وتُدخِلنا الجنةَ وأنت راضٍ عنا، وحبيبُك راضٍ عنا يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله سعدتُم بقَول يا الله، وأثرُها نراها إنْ شاء الله وترونَها في الحياةِ وعند الوفاة، في البرزخِ ويومِ المُوافاة، وفي دارِ الكرامة يا حيُّ يا قيوم يا رحمن يا رحيم، يا برُّ يا رحيم مُنَّ علينا وقِنا عذابَ السموم، ( إنَّا كنَّا من قبل ندعوه إنه البرُّ الرحيم ) يا برُّ يا رحيمُ مُنَّ علينا وقِنا عذابَ السموم، نسألكَ لنا ولهم وللأمَّة مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك ممَّا استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيِّدنا محمد، وأنت المُستَعان وعليكَ البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
21 ربيع الأول 1442