حقائق العواقب والمآلات الكبرى وارتباطها بنداء ملك الدنيا والأخرى
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 13 ذي القعدة 1444هـ بعنوان:
حقائق العواقب والمآلات الكبرى وارتباطها بنداء ملك الدنيا والأخرى
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله جامعكم على الوِجهة إليه، والتذلُّل بين يديه والتعرُّض لنفَحاته، والظّفر في هذه الحياة الدنّيا برحماته، والاستعداد للقائه لِما هيّأ وأعدَّ لنا ولجميع هؤلاء الذين يعيشون على ظهر هذه الأرض من حياة البرزخ (وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ) [المؤمنون:100 ] ويوم البعث والنشور، وما ذكره لنا ربنا على ألسُن الأنبياء والمرسلِين هو الحق الذي لا ريبَ فيه ولا شكَ فيه ولا ميل عنه، (وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا) [الكهف:47 ] إن كان مؤمن، وإن كان كافر، وإن كان صالح، وإن كان شرير، وإن كان تقي، وإن كان مُفسد مجرم، فالكل يحضرون والكل يرجعون والكل يجتمعون، وحُكمٌ لِواحد أحد حيٌّ قيوم جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، ويفوز من حكم له بجنّاته جعلنا الله وإياكم منهم ومن خواصهم ومن أوائلهم اللهم آمين، ونسألك الدرجات العُلى من الجنة.
ويحكم للآخرين بسوء المصير والعياذ بالله، وهم الذين انتهى سعيهم في هذه الحياة الدنّيا إلى الضلال والعياذ بالله تبارك وتعالى، وما نفعتهم بعد ذلك لا حضارات ولا وزارات ولا رئاسات ولا طائرات ولا شيء مما التهَوا به واشتغلوا به في الدنيا وحرصوا عليه، وظنّوا أنه يجلب لهم خيرات، أو أنهُ يرفعهم أوأنهُ يُسعِدهم وما إلى ذلك، وعامة الناس في الظنون واقعين فيها، والذي يشُق أكثر أن العدد الكثير من المسلمين يقعون فريسة لهذه الظنون الكاذبة الواهمة التي لا حقيقة لها، ويبيعون أنفسهم والعياذ بالله تبارك وتعالى للشهوات ولأهواء ولأرباب شهوات وأهواء، يأخذون بهم يمنةً ويسرة، ويُرتِّبون بهم إفساد ويُرتِّبون بهم نشر فساد، ويُرتِّبون بهم بعث خوف في البلدان وفي الأماكن وفي المناطق وما إلى ذلك، وإلى أين يصيرون؟ وما هذه الخديعة التي خُدعوا بها!.
لمن حقيقة السعادة وحسن المصير
ولو أصغت قلوبهم وعقولهم إلى نداء رب الأرض والسماء، وما بعث به خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وهو النداء الذي استجابت له قلوبٌ كثيرة على ظهر الأرض فهم وحدهم السعداء، وهم وحدهم الذين لهم حُسن المصير وحُسن المآب عند الرجوع إلى العلي الكبير جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، بل هذه الحقائق تظهر من حين الغرغرة فما بعدها، في أيام البرزخ، ثم في مواقف القيامة كلها ثم إلى الاستقرار، وما لنا ولا لأحدٍ من المُكلَّفين إنساً وجِنّا من استقرار إلا إمّا في الجنة وإمّا في النار، قبل ذلك ما لهم استقرار، هذا هو الاستقرار الحقيقي إما الجنة وإما النار.
اللهم اجعلنا من أهل جنتك، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب.
مجامع الخير والقلوب الصادقة مع الله
فما أعظم من اجتمعتم لأجله ووقفتم بين يديه وتعرّضتم لرحماته، والقائد والمعلّم والمُرشد لهذه الخيرات عبدهُ وحبيبهُ وصفيُّه ونبيُّه ورسولُه، خاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فما قامت خيار الأمة بالمجامع، ولا بما يُدار ويُقرأ فيها ويُقال فيها إلا من أنوار بلاغِهِ، وهدايتِهِ، وتعيينِهِ، وتبييِنِهِ، وإرشادهِ ﷺ، وقالوا قولهم الصريح:
واعلم بأنك لا تُفضي إلى غرضٍ ** بدونِ أن تقتفي في الوردِ والصدرِ
خير النبيين هادينا ومرشدنا ** بما أتانا من الآيات والسورِ
صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقالوا:
واعلم بأن الخير كله أجمع ** ضمن اتباعك للنبي المشفع
عليه صلى الله ما تشعشع ** فجر وما سالت سيول الأشعاب
واجتمعتم بين يَديه جلَّ جلاله بسوابقِ فضل منه، قامت بها سوائق قلوبكم، ما ساق قلوبكم حتى تحضروا في مثل هذا المحضر، ومعكم قلوب مُقبلة على الله في شرق الأرض وغربها، يُتابعونكم ويذكرونكم ويتوجّهون إلى الرحمن -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- معكم، والله يقبلنا وينظر إلينا وإلى القلوب الطاهرة على ظهر الأرض والمُتوجِّهة إليه والمقبلة عليه، والتي خرجت من خديعة النفس والهوى وشياطين الإنس والجن، إلى استبيان الحقيقة من حيث بيّنها رب الخليقة وبعث بها خير الخليقة، فكان هو العروة الوثيقة صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونادانا ربنا: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام:153] والعياذ بالله تبارك وتعالى، واتِّباع هذه السُّبل في الفكرِ وفي المقاصد، وفي النيات وفي الأخلاق، هو الذي أردى من أردى، وأهلك من أهلك، وأفسد من أفسد من مختلف الضالين والمجرمين والفاسدين على ظهر الأرض، بمختلف تفكيراتهم على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، و (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) "اللّهم اهدِنا فيمن هديت"، وفي كلّ زمانٍ وفي كلّ مكانٍ، وفي كلّ عصرٍ وفي كلّ ظرفٍ وفي كلّ حال، يفوز من يفوز من الصادقين المخلصين لِوجهِ الله المقبلين بالكُليّة على الله، العاملين بشرع الله الباذلين وسعهم فيما أرشدهم إليه ربِهم ونبيّه المُنيب الأواه ﷺ.
أمنيات أهل الإيمان ونتائجها الأبدية
وغيرهم - كائناً من كان - يخيبون ويسقطون ويتألّمون، ويصيرون إلى سوء المصير، وإنما الذين استجابوا لنداء ربّ الأرباب وقالوا: (رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّا) [ال عمران:193] انظر طلباتهم، نتيجة أفكارهم ومقاصدهم، نتيجة إيمانهم: (رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ) [ال عمران:193] (رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا) أهمّتهم ذنوبهم ورجعوا إلى الرحمن، وعلِموا أنه لا يصيبهم حقيقة شر ولا ضر إلا من الذنوب، (وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ) فأين صارت الأُمنيات مع من؟ والالتفات إلى من؟ (رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ) [ال عمران:194] يا الله.
والنتيجة، ما هي قرارات دول ولا أُمّم متحدة تبيد، وتزول وتضمحِل وتتلاشى بلا ريب ولا شك، ولكنها أمور كما قال أرباب العقول عنها: (ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من الموت)، كلّهم يتيقّنون أنهم يموتوا وكأنهم كلّهم لا يموتون، كل واحد كأنه ما يموت وهو متيقن أنه سيموت، جميعُ هذه القرارات والشئون المُغتر بها العباد، ما تساوي شيء أمام هذا الحكم من الجبار جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، ومن حكم له بالسعادة فهو سعيد الأبد، ومن حكم عليه بالشقاوة فهو شقي الأبد، نعوذ بالله من غضب الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، أسعِدنا مع السعداء يا رب، واجعلنا من خواصّ السعداء فيما خفي وفيما بدا، يا جبار يا كريم يا غفار يا قهار يا من بيده الأمر كلّه وإليه يرجع الأمر كلّه، اجعل قلوبنا مُلبِّيَة لنِدائك ونِداء خاتم أنبيائك، ونداء أهل محبتك وولائك من خواص عبادك، برحمتك يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين يا أكرم الأكرمين يا أكرم الأكرمين، لا تجعل في المجمع ولا من يسمع إلا من حكمتَ له بسعادة الأبد، وقضيتَ له مرافقة النبي محمد، آمين آمين آمين يا رب العالمين ويا أكرم الأكرمين.
قرار محكمة الله مع حسن الثواب
يقول تعالى في الحُكم الذي قضى لهذا الصنف من البشر: (فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ)، شُفت القرار الذي صدر؟!، يساوي قرار محكمة؟ محكمة من؟ يساوي قرار دولة؟ دولة من؟ هذا قرار جبار السماوات والأرض، من بيده ملكوت كل شيء (فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ) [ال عمران:195]، يقول لهم: لي حكمة في إجراء أحداث الحياة، ويصيب كثير من أنبيائي ومن أوليائي شِدّة، أو تأتي بهم، أو يد تمتد إليهم، ولكن العاقبة كلّها محسومة ومحكومة من عندي والمرجِع إلي، ومن حصل عليهم شيء من ذلك، وصبروا وصدقوا (لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ ) [ال عمران:195]
فإن توهمت أن حسن الثواب بيد هيئة، أو بيد مؤسسة، أو بيد حكومة، أو بيد دولة، فقد قابلتَ نبأ الحق سبحانه وتعالى بالتكذيب، حُسن الثواب عنده هو، ليس عند المؤسسات، ليس عند الوزارات، ليس عند الدول، حسن الثواب عند رب الأرباب، والله عنده حسن الثواب.
غرور الذين كفروا وعاقبتهم
خذ الحقيقة (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ) [ال عمران:196]، لا عندهم حسن الثواب، ولا إليهم المآب، ما هم إلا في غرور بِسراب عما قريب يذهب وينتهي وينذاب (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ * مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ) [ال عمران:196-197]، فيُرثى لهم مساكين، هم وحضاراتهم يُرثى لهم، هم وغرورهم كله هذا، لكن يَشُق علينا أنهم غرّوا بقوم يقولون لا إله إلا الله، فكأنهم ما قالوها! فيصدقونهم ويظنون أنهم على شيء (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ) [ال عمران:196] (وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا) [النور:39]، فما يجوز أن تُدخلهم إلى قلوب أولادك، ولا قلوب زوجاتك يصدقونهم فيما يدّعون، والله ليس بيدهم شيء.. والله ليس بيدهم شيء.. والله ليس بيدهم شيء! والأمر ظاهره وباطنه وأوله وآخره بيد حيّ قيّوم قادر، بيده ملكوت كل شيء جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
قال سيدنا هود عليه السلام لقومه: (إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ * مِن دُونِهِۦفَكِيدُونِي جَمِيعٗا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) [هود:54-55]، ماذا معك يا هود؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ) [هود:56] (فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِ) [ هود: 57]، مُهمّتي أدّيتها وشؤوني أعددتها للقاء من خلقني، وللاستعداد لحياة الأبد ببهائها وجمالها وسعادتها وما فيها وانتهت المسألة، فقد أبلغتكم ما أُُرسلِت بهِ إليكم.
استخلاف الأنبياء وخاتمهم سيدنا محمد ﷺ
واسمعوا حتى الأرض هذه، لا يزال فيها يُبعث بعدي نبي بعد نبيّ، إلى أن يجيء خاتم الأنبياء، ومن بعده يقوم ولي بعد ولي، وصادق بعد صادق والحق قائم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) [هود:57] ما تظنوا أنكم لو قتلتموني أو متّ بينكم أو هلكت وراح هود، وراحت لا إله إلا الله وراحت الديانة، سيبقى هذا الحق وسيبقى هذا الخير، وعاد بيجي مئات أنبياء، وبيجي خاتمهم محمد، وبيبقى الخير في هذه الأمة.
(وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔا) [هود:57] ما تضرون الله شيء، بكفركم ولا بجحودكم ولا بإلحادكم ما تضرونه شيء، وسيُبقي دينه فيمن أحب إلى آخر الزمان جل جلاله وتعالى في عُلاه، وكم لهم من أيام هود إلى اليوم؟ آلاف السنين، وباقي بعده من أثر ما أُرسل به وجاء به من حقيقة الدين، كم يُردَّد عليه: السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك وعلى سيدنا محمد، السلام عليك وعلى فلان و فلان من الأنبياء والمرسلين، أين قومه الذين قالوا من أشد منّا قوة؟ أين قومه الذين استكبروا في الأرض؟ (وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ) [هود:57]، وعاد كم جاء بعد سيدنا هود عليه السلام، جاء سيدنا صالح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وجاء بعد صالح مئات من الأنبياء حتى جاء إبراهيم، وجاء بعد إبراهيم مئات من الأنبياء حتى خُتموا بعيسى قبل سيدنا محمد، وجاء الخاتم الكبير، السراج المنير، البشير النذير، الذي أنتم في أثر دعوته وأنتم في أثر هدايته، وأنتم في أثر بلاغه وأنتم في أثر دلالته على الرب، وأنتم في نور ذريّته ونور سنّته ونور كتابه، ونور ورثته والعلماء بشرعه، الحمد لله، الحمد لله على هذه النعمة.
وقد أتانا خاتِمُ الرِّسالة ** بِكُلِّ ما جاؤوا به من حالة ** فَعَمَّ كلَّ الخلقِ بالدَّلالة ** وأشرقت مناهِج الكمالِ
فكلُّهُ فضلاً أتى ورحمة ** وكلُّه حكمُ هُدىً وحِكمة ** وهو إمام كُلِّ ذي مُهِمّة ** وقُدوَةً في سائر الخِصالِ
حفظ الله للدين من الفساد
ويا من فرحتُم بنشر الفساد بين الناس، ويا من فرحتم بنشر الحروب بين الناس، وانتشر بينها وبين قادتكم ما انتشر، ستذهب وتتلاشى بقدرة الله، وسيبقى على ظهر الأرض قلوب صادقة مع الله مُقبلة على الله وسينتهي الفساد من كثير من أقطار الأرض، وسيرتفع وسيذهب وسيختار الجبار الأعلى قوماً على ظهر الأرض صادقين معه، ومقبلين عليه (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54] من الذي يأتي بهم؟ سوف يأتي الله، قال - الله أكبر- فسوف يأتي الله، الله يأتي بهم، ما هو نتيجة شيء من مدارسكم ولا جامعاتكم ولا مؤسساتكم، رب العرش بيخرجهم هؤلاء، ينتقيهم ويقيم قلوبهم (فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ) [المائدة:54] هؤلاء القوم اجعلنا منهم يا رب، نزِّه قلوبنا عن التعلّق بمن دونك، واجعلنا من قوم تُحِبّهم ويحبونك، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
(مَتَٰعٞ قَلِيلٞ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ * لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا نُزُلٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ) -ضيافة من عند الله- (وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّلۡأَبۡرَارِ) [ال عمران:197-198] اجعلنا من الأبرار واسلك بنا مسالك الأخيار، وارحمنا في مجمعنا هذا رحمة تجعل كل واحد مِنّا بها مِن قوم تُحِبّهم ويُحِبّونك، يوفون بعهودك ويقفون عند حدودك، ويُحسِنون اتباع حبيبك محمد سيّد أهل شهودك، اجعلنا كذلك يا رب العالمين، ثبِّتنا على الحق والدين القويم.
فيا ربِّ ثبتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
قال تعالى: ( وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ * وَتِلۡكَ عَادٞ جَحَدُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَعَصَوۡاْ رُسُلَهُۥ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ) [هود:58-59] ومن عمل بعملهم في أي زمان نهايته نهايتهم وآخرته آخرتهم وعاقبته عاقبتهم، جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسوله واتبعوا أمر كلّ جبار عنيد (وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ) والعياذ بالله تعالى، وأُبعِد كلّ من خالف زين الوجود من هذه الأمة وقد بلغه ما جاء به عن الإله الودود.
دعوات وتضرع إلى الله
اللهم فرِّج كرُوبَنا والمسلمين وادفع البلاء عنا والمؤمنين، وبارِك في مجمعنا وحضور أحبابنا، وحضرنا الليلة المنصب الحبيب أحمد بن حسن أطال الله عمره في عافية وأعلى درجات والديه، وقريبا فقدنا من صالحات الوادي والدته جمعنا الله بها وإياهم في أعلى درجات دار الكرامة من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، وأمتِعنا بصالحي زماننا وأطال اعمارهم في عافية، وبارِك لنا في هؤلاء الحضور من أهل النور أهل البطون وأهل الظهور، واجعل في ذلك مفتاحًا لأبواب الفرج للأمة وكشف الغُمة، وانجِلاء الظلمة ودفع كل نقمة وتحويل الأحوال إلى أحسنها.
يا مُحوِّل الأحوال حوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسنِ حال، وعافنا من أحوال أهل الضلالِ وفعل الجهال، يا كبير يا متعال، يا منان يا رحمن يا بر يا قيوم يا حي يا وال، يا ذا النوال والعطايا الجزال والإعطاء قبل السؤال وبعد السؤال، لا إله إلا أنتَ آمنا بك فأحِطنا برعايتك في كل حال، وعاملنا بما أنت أهله في الدنيا ودار المآل، فإن الملك مُلكُك والحكم حكمك والأمر لك، قولك الحق ولك الملك يوم ينفخ في الصور، أنت عالم الغيب والشهادة وأنت الحكيم والخبير، فعامِلنا بالإفضال وأسعِدنا في الدنيا والمآل، وأرِنا طلعة ووجه باهي الجمال، عبدك خاتم الأنباءِ والإرسال واجعلنا من مرافقيه في دار المآل، في مواقف القيامة وتحت لواء الحمد وعلى الحوض المورود وفي الدرجات العَوال، وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
واكتب ذلك لكلّ من أهلينا وأولادنا وذرياتنا وذوينا وأحبابنا وطلابنا وأصحابنا ومن والانا فيك، يا مجيب الدعاء يا من لا يخيّب الرجاء يا رب الأرض والسماء، يا الله يا الله يا الله يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على المصطفى محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.
13 ذو القِعدة 1444