(236)
(536)
(575)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 27 محرم 1446هـ، بعنوان:
حقائق الدنيا والآخرة ومكانة النبيين بنور وميزان القرآن
الحمد لله الحقّ الحي القيوم الذي لا يموت أبدا، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يجمع الأولين والآخرين في يوم يحكم بينهم وهو مالك يوم الدين، فلا يكون أوسع جاه من حبيبه ومصطفاه، ولا يكون وراءه إلا جَاهَاتُ وقدر النبيين والمرسلين، ثم الملائكة المقرّبين والصدّيقين، وأهل المعرفة واليقين،
وحدهم هم الشُّفعَاء يوم القيامة، وحدهم هم الوجهاء يوم الطَّامة.
فأين ذهب الآخرون؟ أين ذهبوا بحضاراتهم؟ أين ذهبوا بمُلكِهِم؟ أين ذهبوا بثقافاتهم؟ أين ذهبوا بدُوَلهم؟
هذه الحقيقة التي تُطالِعها قلوب الصادقين طول الحياة، ولا تغيب عنهم حتى يلقوا الله، فلا تأتي القيامة إلا مُترجِمَةً عمَّا اعتقدوه، وعمَّا طووا ضمائرهم عليه من الحق المبين، لم يغترّوا بزخرف القول الغرور، ولم يغترّوا بزهرة الحياة الدنيا الزائلة الفانية المضمحلة، ولم يغترّوا بمُلكها الزائل، ولم يغترّوا بمظاهرها الكذابة البراقة الخداعة الغشاشة؛ لإصغاء قلوبهم إلى نداء ربهم الذي هو أرحم بهم من أنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم.
وقد اختار لهم رسلاً ونبيين، من خِيَارِ خَلْقِهِ اصطفاهم؛ ليواصلوا ما بينهم وبينه، ولتُكرَم أرواحهم بنداء مولاهم وخالقهم، وتَصِل تعاليمه إليهم، ولينالوا منه الكرامة الكبرى التي أَكرَمَ بها مَن قَبِلها مِن عباده، فلا يُعَذِّب حتى يَبْعَث المرسلين، وتبلغ دعوته إلى ذلك المُكَلَّف من الإنس أو الجنّ، فإن استجاب ولبَّى نداء ربَّ الأرباب؛ فتح له خزائن الفوز الأكبر، والعطاء الأفخر، والجود الأعظم، والفضل الأدوَم، بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلا يكون ما يمرُّ به في العمر القصير.. من مرض أو صحة، أو فقر أو غنى، أو ظهور أو استتار وخمول، أو سفر أو إقامة؛ إلا خزائن في كفَّةِ الحسنات، وأسباب للدرجات، وللارتقاء في مراتب السعادات.
(عجبًا للمؤمن إنَّ حاله كله خير، إن أصابته سرَّاء شَكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صَبَر فكان خيرًا له)، فهم الذين عند السراء لا يتكبرون ولا يغترّون، ولا يظلمون، ولا يتجاوزون الحد، ولا ينسون الواحد الأحد، ولا يأخذوا حقَّ أحد.
وهم عند الضرَّاء لا يجزعون، ولا يتبرَّمون، ولا يحزنون، ولربهم يصبرون؛ فيؤتيهم أجورهم بغير حساب، ما يعدّها عدَّادٌ ولا حَسَّاب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10]. قال صاحب الرسالة خاتم الأنبياء: (وليس ذلك إلا للمؤمن).
فأين ذهب غير المؤمنين بحضاراتهم؟! إلى وهمٍ وخيال، غايته ما تُشَاهِده العقول لمن له عقل، والأبصار لأولي الأبصار: تَكالبٌ وتَحَاربٌ على سياسات من رئاسات، وحُكم على رِقاب الخَلْق، وأخذٍ للثروات، وتقدّم في هذه الصِّناعات، وأسلحة تُمَهِّدُ لهم كبرياءهم وغرورهم، والوصول إلى شهواتهم، وتفتح لهم أبواب الظلم وأبواب الطغيان، هذا والله غاية ما عندهم!
وعِزَّة الذي خلقني وخلقكم وكوَّن الأكوان؛ ما في حضارتهم غير هذا! ما في ثقافاتهم غير هذا! ما في أحزابهم غير هذا! ما في دولهم غير هذا!
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)[الحديد:20]. صدقتَ يا رب.. فمَا هذا الحال الذي هم عليه؟ تكالب وتحارب على السُّلُطات وعلى الثروات وعلى الشهوات! وعلى انحطاط الإنسان عن إنسانيَّتِهِ! وكرامته وشرفه! ونسيان الإله الخالق! وكفرانٌ بالبداية والخَلْق، وبالنهاية والمصير! هذا الذي عندهم!
فمَا حقيقة هذا؟ (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ..)[الحديد:20]. الكفار أي: الزُّرَّاع (..ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)[الحديد:20].
وقد كان هذا الحال بالضبط لقابيل بن آدم، وقد كان هذا الحال بالضبط للذين كفروا بشيث بن آدم، وكان هذا الحال والواقع بالضبط للذين كذَّبوا إدريس وخالفوا النبي إدريس -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وكان هذا الحال والواقع بالضبط لمن كذَّبَ نوح وكفَر بالنبي نوح (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)[الحديد:7]. ونهايتهم كان هكذا (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)[الحديد:20].
نفس المصير كان لقوم عاد قوم النبي هود وانتهوا، ونفس المصير كان لثمود قوم صالح وانتهوا، وكان للطوائف وأُمَم كثيرة كثيرة كثيرة ما بين صالح والنبي إبراهيم، ثم كان نفس المصير للنّمرود، ثم كانت نفس الحقيقة عند الذين كذَّبوا بإسماعيل وإسحاق، ومن كذَّب بيعقوب، ومن كذَّب بيوسف -على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام-، ثم كان نفس المصير لفرعون وقارون وهامان، ثم نفس المصير لمن كذَّبوا سليمان وداؤود..
وهكذا حتى بُعِثَ الصَّفْوَة، السَّيِّد القدوة..
إمام كُلِّ ذي مُهِمَّة ** وقدوة في سَائرِ الخِصَالِ
_____________
وإنَّ رسول الله من غير ريبَةٍ ** إمامٌ على الإطلاقِ في كُلِّ حضرةِ
وَجِيهٌ لدى الرحمنِ في كُلِّ مَوْطِنٍ ** وصَدْرُ صدورِ العارفينَ الائمةِ
صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله.
وبلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَحَ الأُمَّة، وكشفَ الغمة، ونفى الظُّلْمَة، وجاهد في الله حَقَّ جِهَادِهِ، حتى أتاه اليقين..
وما مضى حتى أقام الدِّينَ ** وصار سَهْلًا واضحًا مبينا
فلم تَخَفْ أُمَّته فتونا ** بل عُصِموا في الجَمْعِ عن ضلال
والذين عاندوه، والذين كذَّبوه، والذين حاربوه، والذين آذوه ؛ كان لهم البَطْشَة في يوم بدر، وكان لهم الخَيْبَة في يوم الفتح، وكان بعد ذلك لكُلِّ مَن مات منهم على الكفر عذابٌ من تلك الأيام، إلى ليلتنا هذه وما بعد ليلتنا إلى النفخة في الصور، وصَعْقَة ما بين النفخة في الصور مُنتظرتهم -ومنتظرتنا جميعًا- ثم إحياء آخر وتأتي: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُون)[الدخان:16]، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ..) يمسخون ما عاد يبقى لهم بَقِيَّة (..لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء:42]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان:27-30].
فويلٌ لمن هَجَر القرآن! وويلٌ لمن أعرض عن القرآن! وويلٌ لمن خلا قلبه وذهنه وبيته وأسرته عن نور القرآن وسر القرآن! الذي كانت به معمورة الصدور الصادقين والمخلصين، رجال ونساء، صغارهم وكبارهم، وديارهم ومساجدهم وشوارعهم، حتى أسواقهم كان لها عِمارة بالقرآن! وجاء الخرَاب..! جاء الخرَاب بالألفاظ النَّابِيَة، والأغاني الماجنة، والتمثيليات الهابطة الساقطة، والبرامج المُحَطِّمة المدمّرة، وأنواع الظّلُمات! وخرَّبت كثير من العقول، وخرَّبت كثير من الديار، وخرَّبت كثير من الرجال والنساء! وهل يُعمَرُ مخلوق بغير ما أحبَّه منه الخالق الصانع الموجد المنشئ المبدئ الفاطر؟! (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)[البقرة:140].
وشاء الحَقُّ أن يكون في هذه الأُمَّة منه؛ رحمة وعناية، ونصر وبركة، وقوة واستمرار، ونشر الخير؛ رحمةً من الله بعباده، على مدى القرون، وعلى مدى السِّنين، و: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)، و: (يَحمِلُ هذا العلم من كُلِّ خَلَفٍ عدوله)، و: (إن الله يبعث في كل مائة سنة من يُجَدِّد للأُمَّةِ أمر دينها).
وهو في خلال كُلِّ هذه القرون والسنوات اختار قلوبًا فهَّمها ففَهِمَت، وعرَّفهَا فعَرَفَت، وعلَّمها فعَلِمَت، وأَيْقَظَها فاستيقظت، ونوَّرها فاستنارت، وأقبل عليها فأقبلت بِكُليّتها عليه -جلَّ جلاله-.
ولم يزل بتولِّيه للحبيب الأعظم وعنايته به؛ يُحدِثُ هذا في الأُمَّةِ في كُلِّ قرن، وفي كل زمان، وإن تمادى الكفر وطغى والبغي والقتل والظلم والعدوان؛ فإنه يختار على طول الأزمان بحقيقة ما قال في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ..) تَصنعهم يَدُ الألوهية والربوبيَّة في خزائن الوِراثات النبوية وتُبرِزهُم (.. يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)[المائدة:54].
اجعلنا منهم يا رب، اجعلنا فيهم يا رب، اجعلنا معهم يا رب، واجعل فيهم ومنهم ومعهم أهلينا كلهم، وأبناءنا وبناتنا كلهم، طُلَّابنا كلهم، قراباتنا كلهم، جيراننا كلهم.. يا حيُّ يا قيوم، وانشر الرحمة في البريَّة بوجاهة خير البرية.
ورأيتم مظاهر هذا التصرُّف الرباني، والفيض الامتناني؛ يَسوقُ مثل هذه القلوب.. تربَّى في هولندا، ودخل في مدارس نصرانية وغيرها، وتحرَّك القلب، وعَزَم أن يكون داعيًا إلى الله والحق بقية عمره، ويتمنى الإسلام لجميع أهل هولندا -وكذلك واجب كل مسلم- وهذه القلوب التي تُصطَفَى؛ لتعرف حق الأمانة وتَحمِلها؛ هي المُهَيَّأة للدخول في دائرة الثمانين صفّا! والثمانون صفًّا من أهل الجنة من جملة مائةٍ وعشرين صفا يُجمعون في القيامة (أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من بقيَّةِ الأمم).
مع أننا بالنسبة للعدد لسنا في الأمم قبلنا إلا كشعرةٍ بيضاء في جلد ثور أسود! ومع ذلك كله فالنسبة الكبيرة الداخلة إلى الجنة من هذه الأمة؛ لمكان نبيِّها، لمكان مُعلِّمها وهاديها، لمنزلة رسولها عند الرَّب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-!
كم دُمَع خرجت من عيونه في الليالي من أجل هذه الأمة! ومن أجل رحمة هذه الأمة! وكم وقع الدَّمع من عينيه الشريفتين على الأرض في سجداته من أجل هذه الأمة! ولسؤال الرَّب إله الأمة للأمة، ودعائه واهتمامه بهم في شأن الحياة، وما يكون حالهم عند الموافاة! فجزاه الله عنَّا خير ما جزى نبيًا عن أُمَّتِهِ ورسولاً عن قومه، وصلَّى عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين!
جزى الله عنا نبينا محمدًا ﷺ خيرا، جزى الله عنَّا نبينا محمد ﷺ أفضل ما جزى نبيًا عن أمته، جزى الله عنا نبينا محمد ﷺ ما هو أهله، اللهم آمين.
ولولا هذا النبي ومكانته عند إلهنا القوي، وكثرة دعائه وتضرعه؛ ما شَمَمْنَا شَمَّةً من هذه المجالس ولا المَآنِس، ولا أصلها الذي كان، ولا ما يترتب عليها من ثمرات تنتشر في الأكوان وفي العالم الأدنى وفي العالم الأعلى؛ بفائضات جُود ربنا الأعلى، بوساطة ووجاهة سيد أهل العالمين وسيد أهل الكونين..
محمد سَيِّدُ الكونين والثقلين ** والفريقين من عُرْبٍ ومن عَجَمِ
نبيُّنا الآمِرُ النَّاهِي فلا أَحَدٌ ** أَبَرَّّ في قَوْلِ لَا منه ولا نَعَمِ
هو الحبيب الذي تُرجَى شفاعته ** لكُلِّ هَوْلٍ من الأهوال مُقْتَحَمِ
دَعَا إلى الله فالمستمسكون بِهِ ** مستمسكون بِحَبلٍ غير مُنفَصِمِ
فالآمر النَّاهي بأمر الله: حبيبه محمد نبيكم ورسولكم. أبعِدوا الآمر الناهي اليهودي! أبعدوا الآمر الناهي النصراني! أبعِدوا الآمر الناهي صاحب الشرق أو صاحب الغرب! أبعِدوا الآمر الناهي صاحب الحضارة الزائفة! الآمر الناهي علينا وعلى أولادنا: محمد من عبد الله (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[الحشر:7].
تجعل لك آمر وناهي غيره؟! هذا آمر وناهي بأمر الإله! هذا آمر وناهي بحكم الخالق -تعالى في علاه-! ﷺ (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النساء:80]، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)[آل عمران:31]، و: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء)[النور:35].
فالحمد لله على بقاء هذا النور وهذا الخير، وواجب علينا أن نَرْحَم هؤلاء، من المُعرِضين والغافلين والمُلحدين والصادِّين والمُضادِّين، وأن ندعوهم إلى الله -جَلَّ جلاله- ومن أبى منهم إلا الإعتداء، وإلا الصدِّ عن سبيل الله: وَجَبَ أن يُجاهَد، ووجَبَ أن يُقاتَل كما قاتل، وأن يُبعَدَ من دَرْبِ إنارة الهدى لعباد الله في الشرق والغرب.
هذا ما جاء في مَسْلَكِ الهُدى وشأن الشريعة الغرّاء، إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها.
ولقد كان في وعد الخالق المُكَوِّن أن ينتشر دين الحق حتى يدخل كل بيت على ظهر الأرض، ولابد أن يكون ذلك.
وكان في وعده أن يُخرِج الله من ذريَّةِ محمد من يملأ الأرض عَدْلاً وقِسْطَا، بعد أن تُملأ جورًا وظُلماً. وكان من وعده أن يُنزِل نبيَّه وعبدَه عيسى بن مريم من السماء، إذ رفعه إليها أيام كان في حياته، من قبل ألفين ومن قبل ألفين وعشرين من السِّنين رفعه -جَلَّ جلاله- إلى السماء، فسينزل على ظهر هذه الأرض، ويحكم بهذه الشريعة، ويتبع المصطفى محمد ﷺ، ويُصلي كما صلَّى النبي ﷺ، ويصوم كما صام النبي محمد ﷺ، ويُزَكِّي كما زكى النبي محمد ﷺ، ويحكم بشريعة النبي محمد ﷺ، ويجعل الآمر الناهي في عموم دولته محمد بن عبدالله ﷺ، ويُنْعِش هذه الشريعة والدين في الأقطار.
وكل ذلك آت، لا يقدر أن يدفعه عُتاة ولا طغاة ولا بغاة، لا دول صغرى ولا دول كبرى -وكلها في عقيدتي صغرى-
الدولة الكبرى قامت من عند آدم بسِرِّ الوحي المُنَزَّل، ومرَّت على الأنبياء، وظهر رأسها ورئيسها بختم النبوة والرسالة، وباقي سرّها هي التي تجمع القلوب على هذه المعاني، وهي التي ينتشر منها هذا النور في القاصي والداني، هذه في عقيدتي هي الدولة العظمى، هذه في عقيدتي هي الدولة الكبرى، وهذا اعتقادٌ أعتقده في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ ويوم القيامة، أُشَاهِدُه بعيني مشاهدة، الدولة الكبرى: دولة محمد ﷺ، وزراؤها: النبيون، والقائمون فيها بالخدمة: الصدّيقون والمقرّبون، هذه الدولة الكبرى، هذه الدولة العُظمى بجميع المعاني من جميع الوجوه..
وما عدا ذلك فمَا عندهم؟
إنما: (اللهم اهدِ قومنا فإنهم لا يعلمون)! (اللهم اهدِ قومنا فإنهم لا يعلمون)! ورُدَّ كيد الأشرار والمُصرين المعاندين على الإيذاء والظلم والعدوان والزيغ والضلال وصَدِّ الناس عن سبيلك، ادفع شرهم عنَّا وعن المؤمنين، يا أكرم الأكرمين.
ومن قُتِل على أيديهم اكتب له الشهادة عندك.. يا الله، ونظرة إلى قلوب إخواننا المسلمين في فلسطين وغيرها، أسألك بوجهك الكريم أن لا تجعل في قلوبهم إلا إرادة وجهك، وألا تجعل لهم غَرَضًا ونيّة إلا أن تكون كلمتك هي العليا.. يا الله
وإذا وَهَبَ ذلك رَبِحنا الفوز، رَبِحنا الفوز! والنتائج القريبة التي في الحياة تأتي في وقتها، وتأتي في مكانها؛ ولكن الفوز الأكبر بــ: رضوان رب العرش، وبالوفاة على الإسلام، وبالدخول في عليين من البرازخ، وفي الحشر مع زين الوجود، وفي الورود على حوضه المورود! هذا الفوز الأكبر الذي نطلبه، والسعادة العظمى التي مَن فاتته فلا يُغني عنها شيء في الأرض ولا في السماء! هذا الفوز الأكبر! (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غافر:51-52].
فقَوِّم في فكرك وعقلك: مَن الآمر الناهي عندك؟ تُطِيع مَن؟ تُقَدِّم أوامر مَن؟ وتنتهي عن نواهي مَن؟ (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور:54]، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[الحشر:7].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم..
جعلنا الله من أتباعه حقيقة، ورفعنا به إلى حُسنِ الاستمساك بالعروة الوثيقة، وسَقَانَا -سبحانه وتعالى - ماءه وشُرْبَهُ ورَحِيقَه، وجعلنا من المستقيمين على منهجه والطريقة، وألحقنا بخيار الخليقة.
اللهم لا تجعل في مجمعنا ولا من يسمعنا ولا من يوالينا ويواليهم إلا ممدودًا منك بالإسعاد بهذه السَّعادة، ونَيْلِ الحسنى وزيادة.. يا الله يا الله يا الله.
واجعلهم هُدَاةً إليك، ودالِّين عليك، وقائمين بحقِّ أمرك، ناصرين لشريعتك ومِلّةِ نبيك وهديه ومنهاجه، في أعضائهم وفي قلوبهم، وفي أُسرهم، وفي عاداتهم وفي عباداتهم، وفي أقوالهم وفي أفعالهم.
يا الله.. اجعلنا من أنصارك وأنصار هذا المصطفى، في الظاهر والخفاء، بجميع ما آتيتنا وجميع ما تفضّلت به علينا، من روح وقلب، وعقل وفِكر ونظر، وأعضاء، ومال، وأَهْلٍ ووَلَدٍ، وحسٍّا ومعنى، اجعله كله لك، وفي سبيلك، منك وإليك، اللهم منك وإليك، اللهم منك وإليك، توكلنا عليك، واستزدناكَ من إفضالك وجزيل نوالك، فبارك في المجامع ومن فيها وفي السامعين وفي قلوبهم، واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، واجعلهم يا ربَّنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، واجعلهم يا إلهنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، رجالهم ونساؤهم، صغارهم وكبارهم.
وانظر إلينا في المجمع نظرة من عندك، نظرتك لأهل محبتك وودك، والموفين بعهدك، حتى تُدخلنا الجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، والرُّكَّعِ السجود، الموفين لك بالعهود، إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد.
يا الله.. نستنصرك للمسلمين، نستنصرك للمظلومين، نستنصرك للمُعتدَى عليهم، يا ربِّ كم أُزهِقَت من أرواح أطفال ونساء وعُزَّل، وكم قامت للفتنة على أيدي الظَّلمة والبغاة من قتل وأذى، اللهم والأمر أمرك، وأمر الآخرة كله والدنيا كله بيدك، وأمر الأرض والسماء بيدك (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[يونس:85-86]. (ربَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الممتحنة:5]. انصر الحق وأهل الحقِّ نصرًا عزيزًا مؤزَّرَا.
واجمع هذه القلوب المتوجهة إليك في شرق الأرض وغربها، وأَفِض عليها فائضات مَن سَبَقَ من أهل القلوب الصادقة الطاهرة النقية، واجعلها وُصْلَة لا تنقطع بالإمام القائد خير البرية ﷺ؛ حتى نُحشَر في الزُّمرة، ونَسْعَد بالنَّظرَة، وندخل في دوائر محبوبيك والمُقرّبين إليك.. يا الله
يا محلاها! ثُلَّة من أمة حبيبه على ظهر الأرض يُنادونه باسمه، ومعهم ملائكة ومعهم أرواح ما بين الأرض والسماء، ومن في السماوات.. لا إله إلا الله! يُنادونه ويتوجهون إليه. بينما اُبتُلِيَت قلوب أكثر الخَلْق متوجهة إلى خلق مثلهم، وإلى ماديات وإلى تُرُّهات وهؤلاء يقولون "يا الله،"! تشرّفتم بذلك، كُرِّمتم بذلك! الحمد لله!
يا الله..
ووراء الرَّكْب المبارك نقول: يا الله، كل الذين نطقوا بــ يا الله قبلنا من الأرواح الطاهرات إلى أكرم مَن نَطَق بها، وأكرم مَن قالها من الخلق، سيد الخلق محمد ﷺ، قال: يا الله، ونحن ورائه وورائهم نقول: يا الله
يرتحل علينا الشهر الأول من هذا العام الذي أقبل علينا، فاجعل هذا الشهر شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، وحُجَّةً لنا لا حجة علينا، وأَحسِن لنا ختامه.. يا الله، ويعقبه تباشير الفرج للأمة في المشارق والمغارب، يا كاشف الغمة، يا جالي الظلمة، يا دافع النِّقمَة، يا إله الرحمة..
يا الله .. يا الله.. يا الله .. يا الله
كم من مرحومٍ من الإنس والجن بقول "يا الله" هذه عند الغرغرة، وكم من مرحومٍ بها عند الوضع في القبر، وكم من مرحوم بهذه الكلمة التي يُنادي بها الرحمن الآن عند تطاير الصُّحُف، وعند وضع الميزان، وعند المرور على الصراط؛ يَسْعَد بهذه الكلمة؛ رحمة من الذي خاطبناه، وناديناه، ودعوناه، ورجوناه، وأمّلناه، وهذا كله من فضله! لولاه ما أمّلْنَاه، لولاه ما رجوناه، لولاه ما دعوناه، لولا فضله علينا ما سألناه! فكله منه وإليه! اللهم منك وإليك يا الله..
بالصدق قل: يا الله
بالإخلاص قل: يا الله
بالتواضع قل: يا الله
بالتذلل للإله الجليل قل: يا الله
بشهود العظمة الربانية قل: يا الله
بالتبعية لخير البرية قل: يا الله
يا الله..
وفي ليلة بدر نادى كثيرًا وناجى الرَّب: يا حي يا قيوم، ونقول وراءه: يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم
يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم
يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم .. يا الله يا حيّ يا قيّوم
يا الله يا حي يا قيوم.. ( 13 مره )
اقبلنا وإياهم أجمعين، أدخلنا في دائرة الحبيب الأمين، اجعلنا من أهل علم اليقين وعين اليقين وحقِّ اليقين، ثبِّتنا على ما تحب مِنَّا، وترضى به عنّا يا أرحم الراحمين، واختم لنا بـ "لا إله إلا الله"، واجعل آخر كلام كل فردٍ مِنَّا من حياته الدنيا "لا إله إلا الله"، واحشرنا في زمرة كُمَّلِ أهل "لا إله إلا الله" وأنت راضٍ عنَّا برحمتك يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
27 مُحرَّم 1446