حصن ورابطة الذكر في حياة الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما جمعنا وأسمعنا وهو يوالي خيره علينا ونحن على بابه نتلقى من جوده وكرمه، ما عسى أن يقوّمنا إذا اعوجننا ويعيننا إذا استقمنا، وما عسى أن تغفر به الذنوب وما عسى به أن نتزود من الحياة القصيرة الى تلكم الحياة المقبلون عليها، وهي دار المقام و(وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) فيبقى بعد ذلك قيمة كل ما يدور على ظهر هذه الأرض، ويجري في هذه الحياة من حيث يُقبَل عند ملك الدنيا والآخرة، ومن حيث ينفع في تلك الدار الآخرة التي جعلها الله سبحانه وتعالى ( لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا). للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا وطهّروا أنفسَهم من إرادة العلو الموهوم المزعوم الصوريّ المنقضي بذكر الله جل جلاله، ولزوم بابه سبحانه وتعالى والاعتكاف على التذلل بين يديه والعمل بسُنّة نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورفع الهمم إلى العلي الأعلى جل جلاله، حتى قيل في خواصهم:
قوم همومهم بالله قد علقت.. فما لهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم.. يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
جل جلاله وتعالى في علاه
أخلصهم بخالصة، سبحانه، وأخلصوا له سبحانه وتعالى فآثروه على ما سواه فآثرهم جل جلاله وتعالى في علاه، وسلك الله بنا وإياكم في ذاك السبيل المبارك إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وتطهروا كذلك عن الفساد وإرادة الفساد في الأرض، بواسطة ذاك العكوف على باب عالم السر والنجوى، حتى تطهروا عن الفساد في النواظر، تطهروا عن الفساد في المسامع، تطهّروا عن الفساد في الألفاظ، وفي القول، فصاروا يتخيرون طيِّب الألفاظ وكانوا يصعب على أحدهم أن تجري النظرة من عينه على خائنة أو تجري على احتقار مسلم، أو على احتقار شيء من خلق الله جل جلاله، فيراعون حق الصانع في صنعته، ولا يتصرفون إلا بما أذن لهم، إلا بما شرع لهم، فصار هواهم تبعاً للقائد الإمام خير الأنام، صلوات ربي وسلامه عليه.
وحافظوا على ذلك بهذا السر، سر ذاك الذكر والتوجه والعكوف على باب الله سبحانه وتعالى، كما سمعتم في كلام الأحبة يحكون لكم عن من مضى في ملازمتهم للذكر، وملازمتهم للعلم، وبذلك حصل لهم النقاء وتحققوا بحقائق التقى، فالذاكر مذكور عند العلي الأعلى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)
وبذلك عُرف شأن هؤلاء الصادقين مع الله جل جلاله وتعالى في علاه، في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم، حتى فقدنا في هذه الأيام فرداً من أفراد أهل ذاك الوصف، الحبيب علي بن محمد بن سالم بن أبي بكر بن عبد الله العطاس، عليه رحمة الله ورضوانه.. ما فارق الذكر طول العمر والكتبا، بكّاء ليلته، سجّاد خلوته من خوف مالكه يستعذب التعبا.
سمعنا بعض الذي جالسوه قال له "من سبعين سنة وأورادي وقيامي ما تركته ولا ليله ولا نقص منه شيء" سبعون سنة كاملة على كل تلك الأوراد محافظاً ليله ونهاره عليها، كما هي في عكوفه على باب الله، والعلم شغّال، في الليل والنهار، في مئة وسنتين يباحثك في دقائق مسائل العلم إلى ليلة وفاته، وليلة وفاته كان يكرر عن مسائل في العلم ويباحث من ذكر هذه المسألة؟ وأين أصلها؟ وما الحكم فيها؟ حتى كان في ليلة وفاته يسألهم عن حكم الصلاة في الطائرة، والطائرة بين الأرض والسماء، ومن يقول بصحة الصلاة هناك ومن الذي يقول أن الصلاة لا تصح هناك.. إلى غير ذلك.. من هذه الآثار التي قامت عليها قلوب الأخيار، وقلوب الصالحين الأبرار، ومضت حياته لا يلوي على ظهور ولا سمعة ولا دعاية ولا شيء من هذه الأشياء التي تتعلق بها النفوس التي لم تتزكَّ، التي لم تتربَّ
ومضوا على قصد السبيل إلى العلا ** قدماً على قدمٍ بجدٍ أوزع
وفيهم وفيهم وفيهم، كثير من الأخفياء بين البرية، المشهورون في السماء شهرة علوية، الذين تُنشر لهم الرايات في يوم الحشر والجمع الأكبر، إذا جمع الله الأولين والآخرين.
حقائق ما سمعتم من أمر تلك المجالس والعلائق القلبية ذكر الشيخ حمود الهتار آباءه وأجداده، وما كانت في مجالسهم وكان ذلك سر صلة بالحيّ القيوم جل جلاله، تقوم بها أحوالهم على استقامة وعلى ورع وعلى تقوى تندفع عنهم آفات، وعمّن حواليهم أيضاً ، فتصلح الشؤون والأحوال لأنها خيوط ربط بالحيّ القيّوم، خيوط اتصال بالعليّ الأعلى جل جلاله وتعالى في علاه، حياة الذكر التي استُبدلت بالخوض في ما لا يعني، وبالانطلاق في ما يضر، وفي ما يفسد، وفي ما يظلم من برامج ومن مناظر ومن مسموعات سيئة، وتحمل في طياتها الخبائث، واحتلت قلوبَ الناس، واحتلت ديارَ الناس، واحتلت بين المسلمين من أوقاتهم وأفكارهم ما يسّر على الشيطان أن يقودَهم بعد ذلك إلى سوء القول، إلى سوء الفعل، إلى سوء التعامل، إلى سوء التقابل بينهم البين، لما فقدنا مجالس الذكر والذاكرين، والتعلق برب العالمين، في الحقيقة التي أشار نبينا أن قوام جميع قوالب العبادات يكون الحاكم في صحتها وقبولها وأثرها وعظمتها وجود الذكر لله تبارك وتعالى، فذكر في الحديث الصحيح (يا رسول الله: أي المصلين أعظم أجرا؟ قال أكثرهم لله ذكرا) رجعنا من غير الصلاة (أي الصائمين أعظم أجرا؟ قال أكثرهم لله ذكرا، يا رسول الله أي المتصدقين أعظم أجرا قال أكثرهم لله ذكرا، يا رسول الله أي المجاهدين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا)، سيدنا أبو بكر يسمع الجواب من النبي أولا وثانيا وثالثاً.. صلاة، صوم، صدقة، جهاد في سبيل الله، الفضل والعلو والصحة فيها كثرةُ الذكر، التفت لسيدنا عمر جنبه يقول "ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة" سمع النبي المقال قال (أجل .. ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة)، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك برحمتك يا أرحم الراحمين.
وهذا يهدينا إلى دواء تُداوى به الأحوال والظروف، قد قصرنا فيه، دواء الذكر الذي يمتزج بالقلب والفؤاد ويجري على اللسان، وينتشر في البيوت وفي المساجد وفي الطرقات وفي الأسواق (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فلابد من حسن استعمال هذا الدواء، لنداوي به مشاكلنا، لنداوي به مصائبنا، لنداوي به آفات وقعت علينا، لنتعرض به لدفع المُعضلات التي حلّت بهذه الأمّة، فذا سبب من أقوى الأسباب ومن أرفع الأسباب.
كان سيدنا جعفر الصادق يقول "إن الصاعقة تصيب المؤمن وغيره، ولا تصيب الذاكر لله"، قال تنزل الصاعقة من السماء تصيب مؤمن وكافر إلا الذاكر، وقت الذكر ما تصيبه الصاعقة، فالصاعقة ما تصيب الذاكر لله جل جلاله وتعالى في علاه، حتى كان يقول ابن عباس عليه رضوان الله تبارك وتعالى "من قال عند الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته فأصابه شيء فعليَّ ديته" إذا شاف الرعد والصواعق في السماء وقال هذه الكلمة وأصابه شيء ديّته عليّ ما يصيبه شيء، اذا قال هذا التسبيح، فإن الصاعقة لا تصيب الذاكر لله جل جلاله وتعالى في علاه.. الله يوفقنا لذكره ويعيننا على ذكره والقيام بحق هذا الذكر ويُخلف فينا الصالحين والأماثل. إذا مضوا علينا واحداً بعد الثاني، يذهب الصالحون الأمثل فالأمثل، الله يمتعنا بالبقية ويطول أعمارهم في عافية، وبصلحاء الأمة في المشارق والمغارب، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويمدنا وإياكم بصدق الإقبال عليه، صدق الوجهة إليه جل جلاله وتعالى في علاه، حتى نستفيد من فوائد المجلس والحضور فيه رابطةَ قلوب بمقلّبها تزداد بها بمعرفة، تزداد خضوعاً وخشوعا ونوراً وإيماناً نغنم به في حياتنا، ما ننطلق به مصلحين بين عباد الله، مقربين بين الخلف وخالقهم، وبين الخلق من أجل خالقهم بينهم البين ، وكما سمعتم أن الصادق في الإيمان بالله تعالى يقيم حق حسن التعايش حتى مع غير المسلم، فكيف بأهل لا إله إلا الله، فكيف بالمؤمن بالله جل جلاله وتعالى في علاه.
(ويحك ما تصنع بلا إله إلا الله) "قالها يا رسول الله تعوّذاَ" قال (هلا شققت عن قلبه، ويحك ما تصنع بلا إله إلا الله، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله!!؟)
شئون عظيمة خلّفنا عليها صاحب السيرة صلى الله عليه وسلم وصاحب الهدي، الله ينوِّر قلوبنا حتى تستمسك بما تركه فينا، اللهم انظر إلينا وإلى جمعنا، ولا ينصرف منا أحد إلا وقلبه مرتبط بك، مقبل عليك، ممتلئ بتعظيمك يا الله.
ما انساق إلى القلوب من تعظيم ما ليس بعظيم وما لم تعظّم من الدنايا، فزحزه عن قلوبنا وأبعِده عنها، وصفّها واصطفِها يا من نظره إلى القلوب، انظر إلى قلوبنا، فما اجتمعنا ولا أقبل إخواننا هؤلاء صغارهم وكبارهم إلا يرجونك، وإلا ينتظرون فضلك، وإلا يرتجون رحمتك ومغفرتك فارحم يا خير راحم، وأكرم يا ربنا، يا من بيده أمرُ جميع المكارم، أكرمنا بما أنت أهله، آتنا ما وعدتنا على رسلك، فلا تصرفنا من المجمَع إلا وقد تحقق قولُ ووعدُ نبيك أن (منادِ يناديهم من السماء أن انصرفوا مغفوراً لكم، قوموا مغفوراً لكم قد بُدّلت سيئاتكم حسنات) ننتظر منك ذلك يا رب البريات، يا رب الأرض والسماوات
غفراً للخطايا، وكشفا للرزايا، وصلاحا للعباد والبلاد، كل من قام بإصلاح وتقريب وخير أعِنه ووفقه وارزقه الإخلاص لوجهك، واجعلنا متحابين فيك، بارك لنا فينا، وفي من وفدوا علينا وفي من حضروا معنا، واجعلنا وإياهم أجمعين مربوطين برباط التقوى والخوف منك والرجاء فيك والمحبة فيك والأخوة فيك التي تدعو أربابها يوم الجمع الأكبر (أين المتحابون في؟ أين المتجالسون في؟ أين المتزاورون في؟ أين المتباذلون في؟ اليوم أظلهم في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي) في ذلك الظل اجمعنا، بحبيبك المصطفى من دعانا إليك، ودلَّنا عليك، اجمعنا في ظل عرشك، واجمعنا تحت لواء الحمد، واجمعنا على الحوض المورود.
يا بر يا ودود اجعل العام مباركاً علينا وعلى أهل الإسلام والإيمان، ونظرة منك لإخواننا في الشام، ونظرة لإخواننا في مصر، ونظرة لإخواننا في العراق، ونظرة لإخواننا في ليبيا، ونظرة لإخواننا في تونس، نظرة لإخواننا في الصومال، نظرة للمسلمين في بورما، نظرة للمسلمين في المشارق والمغارب، يا من بيده الحاضر والعواقب، أنت الرب وما سواك مربوب، أنت القادر ومن سواك مقدور عاجز، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلِح يمننا وشامنا، وشرقنا وغربنا، وادفع البلايا عنا، يا مَن هو العُدة لكل شدّة يا من هو المُرتجى لكل عظيمة هائلة، يا حي يا قيوم، غفرانا وعفواً ورضواناً وأماناً وفرجاً للإسلام وأهل الإسلام في كل خاص وعام، يا ذا الجلال والإكرام .. يارب العالمين ويا أرحم الراحمين.
للاستماع إلى الكلمة
11 مُحرَّم 1435