حاجة الأمة لأخذ معنى الهجرة

محاضرة للحبيب عمربن حفيظ في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى ليلة الجمعة تاريخ 28 ذي الحجة 1429هـ ضمن سلسلة إرشادات السلوك. بعنوان:
حاجة الأمة لأخذ معنى الهجرة
نص المحاضرة:
الحمدُ لله، اللهُ الحقُّ الحيُّ القيُّوم، لا إله غيرُه ولا ربَّ سواه، خالقُ كلِّ شيءٍ، بيده ملكوتُ كلِّ شيء، وإليه تُرجعون. (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)، اجعلنا اللهمَّ من الرابحين في ذلك اليوم.
ولقد حدانا حادي التوفيق من ربِّنا فاجتمعنا نطلب قُربَه، نطلب نظرَه، نطلب رعايتَه، نطلب عنايتَه، نطلب مغفرتَه.
وداع العام وذكرى الهجرة
نودِّع عامًا من أعوامٍ هجريةٍ تُذكِّرنا بهجرة خير البريَّة، صاحب السيرة السَّويَّة، جامع المحاسن النبويَّة، خاتم الرسالات الربانيَّة، مَجمَع الأسرار الإلهيَّة، جعله الله النُّخبة والصَّفوة من بين جميع البريَّة، فصلِّ اللهمَّ وسلِّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأنبيائك ورُسُلك ومن سار على دربهم، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
نودِّعُ هذا العام الذي قد خطَّت الأقلامُ عنَّا فيه أخبارًا عُرِضت على مولانا الذي إليه المرجع وإليه المصير، وبين يديه يكون وقوفي ووقوف كلِّ فردٍ منكم، إذا نُودي باسمه في محكمة القيامة: ليقُم فلان ابن فلان للعرض على الله، ليقُم فلان ابن فلان للعرض على الله! فنسأل الله سبحانه وتعالى توفيقًا من عنده يجعلنا به من خواصِّ السُّعداء، ويتولَّانا بما هو أهلُه هنا وغدًا، إنه أكرم الأكرمين.
موسم الحج والرحمة الإلهية
وقد مرَّ بهذه الأمَّة موسمُ الحجِّ المبارك والوفادة على الرحمن وعلى من أُنزل عليه القرآن، على المصطفى من عدنان ﷺ، وتوارد أهلُ الإسلام والإيمان من مختلف الأقطار ونادوا المَلِيك الغفَّار، وأعلنوا بالتلبية، وطلبوا نصيبَهم من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى وليِّ الرحمة ووليِّ النعمة جلَّ جلاله، ونابوا عن بقية أهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وكلٌّ نال ما نال على حسب الاستقبال والإقبال والتوجُّه إلى ذي الجلال جلَّ جلاله.
وارتبطت القلوبُ المتوجِّهة في الأماكن التي خُصِّصَت بعقد المواسم فيها ونزول الرحمة عليها، وبقيَّة مواطن العالم القلوبُ التي صدقت مع ربِّ العالم جلَّ جلاله، ارتبطت برباط التوجُّه إليه والتذلُّل بين يديه، وكانت الألسنةُ بالأحوال الملبِّية من أهل المراتب العَوال في شرق الأرض وغربها هي محطّ النظر من ذي الجلال، وسبب الرحمة لمن ضاهاهم ومن كان على شاكلتهم من الحاضرين في مواطن الرحمة ومواطن المغفرة ومواطن التجلِّي والمباهاة، وكان بهم رحمةٌ من عداهم من قِبَل مولاهم جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وتفيض منه الرحمةُ على أهل لا إله إلا الله في مشارق الأرض ومغاربها بقلوبٍ سبقت لها سابقةُ الرحمة الكبرى منه، فتأدَّبت معه وحضرت بين يديه، وأخذت نصيبَها من المعرفة بجلاله سبحانه وتعالى وعظمته وكبريائه وجماله الأسنى وكماله الأعلى جلَّ وعلا.
اللهمَّ ارحمنا برحمتك الواسعة يا من يختصُّ برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). اللهمَّ أجِرنا من عذابك الأليم، اللهمَّ أجِرنا من عذابك الأليم.
كلمة التوحيد والثبات عليها
ومهما تنوَّعت وتقلَّبت وتعدَّدت الأحوالُ بالناس هنا أو هناك على أيِّ وجهٍ من الوجوه، الحقُّ واحد، وكلمةُ الحقِّ واحدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. على قوائم العرش "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، على أبواب الجِنان "لا إله إلا الله محمد رسول الله". فلا خيرَ إلا في من أُعطي "لا إله إلا الله محمد رسول الله". اللهمَّ اجعلنا من خواصِّ أهلها، واجعلنا من كُمَّل أهلها، واجعلنا من أقوياء أهلها، واجعلنا من المتمكِّنين فيها من أهلها.
وفيها انطوت حقائق الحقِّ كلّها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. أحيِنا عليها يا حيُّ وأمِتنا عليها يا مُميت، وابعثنا عليها يا باعث.
الاستقامة على الطريقة
ساقتكم العنايةُ بكلِّ هذه المعاني في هذا الموقف نتذكَّر هذه الحقيقة ونرقُب شعاعَ خير الخليقة لنستقيم على الطريقة. (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا). أتحسب أنه الماءُ الذي ينزل على الأراضي وحدها، أم الماءُ الغَدَق الذي هو أعلى وأكمل ممَّا يُصيب ساحات القلوب ومساحاتها وأراضيها ورياضها التي تُثمر معاني المعرفة بالملك القدُّوس جلَّ جلاله وتعالى في علاه!
وما من كرامةٍ بغير الاستقامة، من حُرِم الاستقامة فقد حُرِم الخيرَ كلَّه في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة. (وَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ). (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).
التحذير من الركون إلى الظالمين
الركونُ إلى النفس الأمَّارة سببٌ لأن تمسَّنا النار، الركونُ إلى الأهواء سببٌ أن تمسَّنا النار، الركونُ إلى ما يُديره ويُجريه أهلُ الغفلة عن الله على ظهر هذه الأرض من فكرٍ وعملٍ مخالفٍ لشرعه سببٌ لأن تمسَّنا النار. (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
السؤال عن حال القلب
هل ينصرف العام وقد أُثبِتَّ عند الله في المحسنين؟ أم لا زلتَ خارجًا عنهم وعن دوائرهم، بعيدًا عن الاتصاف بأوصافهم؟ أو هل عدِمتَ الشوقَ لأن تلحق بركبهم وتدخل في دائرتهم وأن تكون منهم؟
يا من بيده الأمرُ، حرِّك في هذه القلوب دواعي اللُّحوق بأهل الإحسان، وارزقنا اللهمَّ الاستفادة من هذه الأعمار القصيرة التي تمرُّ بنا يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، واجعل العامَ يرحل شاهدًا لنا عندك يا مولانا، لا شاهدًا علينا، وحُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا.
الاستغفار والتوبة
إلهنا، ما كان في الطُّروس وما كان في الصحائف ممَّا لا ترضاه، فإنَّا نستغفرك منه وننْدَم عليه ونعوذ بك من شرِّه، ونسألك أن تمحوه، ونسألك أن تغفره، ونسألك أن تُبدِّله إلى حسناتٍ يا أرحم الراحمين.
فإنك لو علَّقتَ رقابنا بواحدٍ من آثامنا لم تُخلِّصنا منه، لهلكنا ولم يُنجِنا أحد، ولم تنفعنا مظاهر، ولم تنفعنا مؤسَّسات، ولم تنفعنا حركاتٌ ولا سكناتٌ في ظلِّ هذه الحياة القصيرة.
يا من بيده الأمرُ كلُّه، لا تُبقِ في صحائفنا سيِّئةً إلا محوتَها. يا ربّ، وما بقي من أعمارنا اكتب لنا التوفيقَ فيه، اكتب لنا الاستقامةَ فيه، اكتب لنا فيه حُسنَ التهيُّؤ للقائك يا أكرم الأكرمين.
التهيؤ للقاء الله
وهل فائدةُ العمر إلا حُسنُ التهيُّؤ للقاء؟ أيُّ لقاء؟ لقاءُ الملك الأعلى، لقاءُ الواحد الأحد، لقاءُ الإله الفرد الصَّمد، لقاءُ الرحمن، لقاءُ المنَّان، لقاءُ الكريم، لقاءُ الجبَّار، لقاءُ من يُكوِّر النهارَ في الليل ويُكوِّر الليلَ في النهار، لقاءُ من رفع السماءَ بغير عَمَد، لقاءُ من بسط الأرضَ على الماء فجَمَد، لقاءُ الفرد الصَّمد، لقاء الله.
اللهمَّ ارزقنا حُسنَ التهيُّؤ للقائك، ما يقطعكم عن حُسن هذا التهيُّؤ فشؤمٌ يجب رفضُه ويجب التخلُّص منه، اعقِلوا حقائقَ ما دُعيتم إليه من ربِّكم على لسان نبيِّكم المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وأحسِنوا التهيُّؤَ للقاء هذا الإله، فإنه لا بُدَّ لنا من لقاء (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ). (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
معنى الهجرة الحقيقية
نحتاج وتحتاجون، تحتاج الأمَّةُ معنا في إنصاتنا إلى ما وصلنا مِن ربِّنا عن ربِّنا على لسان نبيِّنا ﷺ، أن نُعِدَّ عُدَّتنا في خاتمة العام واستقبال العام المُقبِل بتحقيق معنًى في الهجرة، بتحقيق معنًى في الهجرة! قال عنها في حجَّة الوداع: "والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه".
من غرَّنا وغرَّ الديارَ وأهلَ الديار فينا بمحبَّة ما نهى الله عنه؟ وبالتلاؤم مع ما نهى الله عنه، وبالإصرار على ما نهى الله عنه، في أقوالٍ أو في أفعالٍ، أو في صُوَرٍ تُنظَر، أو في كلماتٍ تُسمَع، أو في معاملاتٍ تكون؟
التنبيه على المحرمات في البيوت
من الذي هوَّن عندنا أن يكون في البيت نظرٌ حرام وليس ذلك بهيِّن؟ من الذي هوَّن أن يكون في البيت والمنزل قطيعةُ رَحِم وليس ذلك بهيِّن؟ من الذي هوَّن في نظرنا أن يكون في البيت كذبٌ من صغار أهل البيت أو كبارهم في الليل أو النهار وليس ذلكم والله بهيِّن؟ من الذي هوَّن علينا أن يقوم العقوقُ للوالدين وسط البيوت وليس ذلك بهيِّن؟ من الذي هوَّن علينا أن نجعل من أورادنا في المنازل غِيبةَ أهل البلاد في كلِّ يومٍ وليس ذلك والله بهيِّن؟
المهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه؛ إنَّ الجبَّارَ ينظر إلى القلوب التي عظَّمت أمرَه ليُصلِح أمرَها، ليُصلِح شأنَها، ليدفع السوءَ عنها، فأين القلوبُ المعظِّمة لأمر هذا العظيم، لأمر هذا الجبَّار الكريم جلَّ جلاله وتعالى في علاه؟ هي التي تنتهض في مثل وداع هذه الأعوام واستقبال الليالي والأيام لأن لا يبقى في مَقولها ولا في أعمالها ولا في نيَّاتها ولا في تعاملاتها حرام، لا يبقى حرامٌ حرَّمه الله على لسان مصطفاه ﷺ.
حال مساجد الأمة
كم في المنازل، كم في الشوارع، كم في الأسواق، بل يكاد كثيرٌ من بيوت المسلمين يُستهان فيها بمحرَّماتٍ حرَّمها الله تبارك وتعالى، ما سلِمت كثيرٌ من مساجد الأمَّة اليوم من سبٍّ لأحياءٍ أو أموات، ما سلِمت كثيرٌ من مساجد الأمَّة اليوم من نشر بساط التكبُّر والإغراء به، ما سلِمت كثيرٌ من مساجد الأمَّة اليوم من تعليم سوء الظنِّ بخلق الله تعالى والتحامُل عليهم.
يا الله أنقِذنا، يا الله تداركنا، نحتاج والأمَّة أن ننتهض لندرك معنًى من معاني الهجرة إذا تذكَّرنا هذه الهجرة، قبل أن يتحوَّل الأمرُ إلى حسرةٍ، إلى ندامةٍ لا تنفع أهلَها.
التطهر من أمراض القلوب
لا بُدَّ مِن هجر ما نهى الله عنه؛ تُهمِل قلبَك إلى سنة كم؟ عامٌ بعد عامٍ يمرُّ عليك، في قلبك من المنهيَّات كلَّ يوم: سوءُ ظنٍّ، حسدٌ، كِبْرٌ، رياءٌ، غرورٌ، متى تتطهَّر؟ اهجُر ما نهى الله عنه. من أغراك بهذه الرذائل؟ من أغراك بهذه الأوساخ؟ هذه قاذورات. أحسُنت في نظرك أم راقت لطبعك وعقلك؟ إنها الأوساخ، إنها القاذورات والدنايا، إنها موجباتُ الغضب الجبَّاري، إنها أسبابُ دخول النار؛ طهِّر قلبَك منها، اهجُر ما نهى الله عنه.
نهاك الله أن تتكبَّر، نهاك الله أن تغترَّ، نهاك الله أن تُسيء الظنَّ بالعباد، نهاك الله أن تتمنَّى السوءَ لمسلم، نهاك الله أن تُبطِن في قلبك الخيانةَ ولو لكافر. طهِّر قلبَك ممَّا نهاك الله عنه. نهاك الله أن تُعظِّم ما حقَّر، فإلى متى أنت معظِّمُه؟ عَظُم الصغيرُ في عقلك وعينك وما أردتَ أن تتخلَّص من هذه البليَّة، اهجُر ما نهى الله عنه.
تعظيم ما عظَّم الله
العظمةُ في القرآن، فمتى عظَّمتَه وكيف عظَّمتَه؟ العظمةُ في الصلوات الخمس وإقامتها وجماعتها، متى عظَّمتَها وكيف عظَّمتَها؟ العظمةُ في البكاء في الخلوة من خشية الله أو محبَّةً وشوقًا إلى الله، متى عظَّمتَ ذلك وكيف عظَّمتَه؟
تعظيمُ اللُّقمة، تعظيمُ الخِرقة، تعظيمُ المباني، تعظيمُ المظاهر، متى تتخلَّص منها؟ من أمرك بتعظيمها؟ الله نهاك ورسولُه نهاك، ورأيتَه يقول لسيِّد الوجود: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ)، فماذا تُعظِّم وأين تذهب وتطلب أي صحبة لك من خلال هذه الحياة؟! قال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) هم هم، فقط! (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
التحذير من اتباع الغافلين
اليوم لمَّا يَعرِض أمرٌ لكثيرٍ من المسلمين وهم مسلمين، يستحلي فيه رأيَ من أُغفِل قلبُه عن ذكر الله واتَّبع هواه ويعُدُّه فيصلاً حكمًا! وإذا قيل له: التفِت إلى آراء الذاكرين الصادقين المخلصين، قال: هؤلاء ما يعرفون الحقائق، ما يعرفون هذه الأشياء، اتركهم في عبادتهم. وأنت مأمورٌ بطاعة من أُغفِل قلبُه عن ذكر الله؟ ومأمورٌ باحتقار أهل الذِّكر والحضور مع الله؟ ما هذا التعكيس؟ ومتى تُهاجر؟
هجرةٌ تُذكَر لك مرَّةً بعد مرَّة وعامًا بعد عام، يُذكِّرها بك كل عام، متى تُهاجر؟ متى تُهاجر؟ المهاجرُ مَن هجر ما نهى الله عنه.
آداب النظر والمحبة في الله
نهانا الله أن ننظر بعين احتقارٍ إلى شيءٍ من المخلوقات والكائنات، أدبًا مع مُكوِّنها جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وأمرنا سبحانه أن نَبغض القواطعَ عنه والشواغلَ عنه والصارفات عن بابه من حيث أنه نصبها في معنى العداوة له، فنُعاديها بعداوته جلَّ جلاله، ونُحِبُّ بحُبِّه الناس، ونُحِبُّ بحُبِّه ما أعان على طاعته وما حملنا على المعرفة به وما ساعدنا على التهيُّؤ للقائه. نُحِبُّ بحُبِّك الناسَ ونُعادي بعداوتك من خالفك من خلقك.
الدعاء لاستقبال العام الجديد
اغنم نصيبَك، بقي معك ساعاتٌ من هذا العام الكريم، يرحل علينا عام تسعة وعشرين بعد أربمعئة وألف، من هجرة الصابر، من هجرة الشاكر، من هجرة المبلِّغ، من هجرة المؤدِّي للأمانة، من هجرة المبيِّن للطريق، من هجرة الداعي إلى الرحمن صلوات ربي وسلامه عليه.
ويدخل علينا عامُ الثلاثين، يا رب، اجعله مباركًا على أمَّة هذا النبيِّ، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأُنثاهم، في شرق الأرض وغربها. يا من بعثتَ نبيَّ البركة بالبركة، بارِك لنا ولأمَّته في خاتمة هذا العام وفي العام الذي أقبل علينا، في كلِّ ليلةٍ من لياليه وفي كلِّ يومٍ من أيامه، وفي كلِّ ساعةٍ من ساعاته وفي كلِّ لحظةٍ من لحظاته، وفي كلِّ نَفَسٍ من أنفاسه؛ اجعل لنا بركةً وزيادةً في الإيمان، وزيادةً في اليقين، وزيادةً في المعرفة، وزيادةً في النور، وزيادةً في الخشوع، وزيادةً في الخضوع، وزيادةً في الأدب معك، وزيادةً في حُسن التذلُّل بين يديك، وزيادةً في التهيُّؤ للقائك، وزيادةً في اليقين بما أوحيتَه إلى خاتم أنبيائك، وزيادةً في المحبَّة بيننا، وزيادةً في اجتماع شملنا، وزيادةً في التأليف بيننا، وزيادةً في تبصيرنا بعيوبنا، وزيادةً في مباعدتنا عن الذنوب، وزيادةً في تخليصنا من العيوب، وزيادةً في حُسن التهيُّؤ للقائك يا الله.
تضرع وابتهال
يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين، انظر إلى هذه القلوب ومن وراءنا من قلوب أهل لا إله إلا الله. أغِث يا مُغيث، وارحم يا رحيم، وتدارك يا قويُّ، وأعِن يا مُعين يا قادر، وادفع عنَّا جميعَ المصائب والبلايا في البواطن والظواهر ، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
نظرُك لأهل الإيمان، يا ربُّ افتح أبوابَ الهجرة المحمودة المحبوبة لك لنا ولمن في ديارنا ولأصحابنا ولجيراننا ولكثيرٍ من عبادك في زمننا.
يا رب، من هذه الأمَّة المحمديَّة ارزقهم الهجرةَ المرضيَّة بما أخبر نبيُّك: "والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنه". فلا ينقضي العامُ إلا وقد تحقَّق هجرانُنا لما نهيتَ ومحبَّتُنا لما شرعتَ وأحببتَ، يا أرحم الراحمين.
ندعو الإلهَ السميعَ البصير، القريبَ المجيب، الذي لا ملجأَ ولا منجى لنا منه إلا إليه، الذي نواصيكم بيديه، والذي مرجعُنا وإيَّاكم إليه، الله القويّ القادر القاهر، ندعو الله فعظِّموا الله، وتوجَّهوا جميعًا إلى الله وقولوا بكُلِّيَّاتكم وقلوبكم: يا الله! عسى أن يرحمكم الله، عسى أن يقبلكم الله، عسى أن ينظر إليكم الله، عسى أن يبسط لكم بساطَ جوده، عسى أن يمُدَّكم بإسعاده، عسى أن يرتضيكم في خِيرة عباده.
يا رب لا تخذلنا، يا رب لا تقطعنا، يا رب لا تُبعِدنا، يا رب لا تُفرِّق بيننا وبين نبيِّك، وبين هدي نبيِّك، وبين سُنَّة نبيِّك، وبين طاعة نبيِّك، وبين اقتفاء أثر نبيِّك، بحقِّ نبيِّك ومنزلته لديك، يا أكرم الأكرمين.
أحيِ فينا سِيَرَ الصالحين، وادفع عنَّا شرَّ الغافلين والفاسقين، واجعل هوانا تبعًا لما جاء به النبيُّ الأمين، قولوا لربِّنا: آمين، آمين، آمين، يا ربَّ العالمين، يا أرحم الراحمين.
بِسِرِّ تلبية أهل عرفات لبِّ نداءَنا، حقِّق رجاءَنا، بلِّغنا آمالَنا، أصلِح أحوالَنا، تذهب عنَّا هذه السنة الهجريَّة وقد أدخلتَنا دائرةَ الهجرة المرضيَّة، آمين يا ربَّنا، آمين يا من يسمعُنا، آمين يا من يرانا، آمين يا من هو أرحمُ بنا من أنفسنا، آمين يا أرحم الراحمين، آمين يا أوَّل الأوَّلين، آمين يا آخِر الآخِرين، آمين يا ذا القوَّة المتين، آمين يا راحم المساكين، آمين يا أرحم الراحمين.
نسترحمُك، نسترحمُك، نسترحمُك، فهل تذهب رحمتُك إلى من شئتَ من عبادك وتحرم من استرحمك؟ يا أرحم الراحمين، استرحمناك فارحمنا، وأعطِنا ولا تحرِمنا، وزِدنا ولا تنقصنا، وأكرِمنا ولا تُهِنَّا، وآثِرنا ولا تُؤثِر علينا، وعافِنا واعفُ عنَّا، آمين يا الله، آمين يا الله.
فينا مرضى قلوبٍ فنسألك أن لا ينصرف العام إلا وقد شفيتَهم، وبفضلك عافيتَهم، وبجودك طهَّرتَ قلوبَهم، يا الله، يا عافي، يا مُعافي، يا شافي، يا برُّ يا لطيف يا كافي، اشفِ قلوبَنا، عافِ قلوبَنا، طهِّر قلوبَنا، نوِّر قلوبَنا، أصلِح قلوبَنا، ثبِّت قلوبَنا، احشُ قلوبَنا بنور المعرفة بك، احشُ قلوبَنا بنور المعرفة بك، احشُ قلوبَنا بنور المعرفة بك، سِر بنا في سبيلك، واجعلنا في دائرة حبيبك وخليلك، آمين يا الله، آمين يا الله، آمين يا الله.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّاب الرحيم، والحمدُ لله رب العالمين.
02 مُحرَّم 1430