(536)
(204)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 29 ذو الحجة 1445هـ، بعنوان:
تجلي الرحمن بخلق الأكوان وإرسال الرسل وإنزال الكتب وعجائب ما يترتب على ذلك في السر والإعلان
الحمد لله، الحيّ القيوم الباقي، الواحد الأحد، ملك الملوك، من بيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، الذي تجلِّى فخلق نور النبي محمد ﷺ، وتجلَّى به فخلَق العرش والكرسي والقلم، وخلق السماوات والأرض وما بينهما؛ فكُلها له، ومرجعها كلها إليه، وتصريفها وتقديرها وبدايتها ونهايتها؛ منه وإليه.. لا إله إلا هو.
وسَرَت سِرَايَة إرادته -التي لا رادَّ لها- أن يَخلُقَ هذا الخلق بهذه الأصناف، ويجعل العُقلاء من الملائكة والإنس والجن روح هذه الكائنات التي خلقها وأعظمهم، ثم يوجّه الخطاب؛ بما آتى من عقول وأسماع وأبصار خاصة، وأرواح للمكلفين من الإنس والجن، وتكرَّم وتفضَّل بإرسال الرسل، وإنزال الكتب عليهم، وبلَّغوا أممهم حتى جاء المُبَلِّغ العام المُرسَل للخلق على التمام ﷺ، وجعله الله الختام لجميع الأنبياء والرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم-
وكانت أمته خير أُمَّة، وتعدَّدت وتنوعت وتميَّزت اصطفاءات الحق -تبارك وتعالى- لهذه الأمة.
وكما سمعتم دخولهم في دائرة الاصطفاء بقول الحق: (ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَیۡنَا مِنۡ عِبَادِنَا فَمِنۡهُمۡ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَیۡرَ ٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ)[فاطر: 32].
إنَّا يا ربنا نحب هؤلاء السابقين فلا تُخلِّفنا عنهم، ونحب هؤلاء المقتصدين ونرجوك أن تزيدهم من فضلك.
سؤال المغفرة:
ونستغفرك لنا وللظالمين أنفسهم من هذه الأمة.. فيَا خير الغافرين غفرانك، يا خير الغافرين غفرانك، يا خير الغافرين غفرانك (غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ * لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَیۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَاۤ إِن نَّسِینَاۤ أَوۡ أَخۡطَأۡنَا رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَاۤ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)[البقرة:285-286]، يا أكرم الأكرمين.
بقاء نور الله رغم معاداة أهل الشر:
وهو القائل لنا في بيان حكمة هذا الوجود والخلق: (إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَ)[الأنفال:36].
أفراد وجماعات وأسَر ودولاً من عهد النبي ﷺ أنفقوا؛ ليُخفوا هذا النور، أنفقوا ليُبعدوا هذا الخير، أنفقوا ليُميتوا هذا السِّر، أنفقوا في حياته ﷺ كثير أفراداً وجماعات وبعد وفاته، وأيام الخلفاء الراشدين، وتنوَّعت أنواع الإنفاقات، إلى ما أُنفِق من أجل الخَطْف الذي سمعتم عنه في بلادنا هذه، والسَّحْل لبعض العلماء، والحَبْس للآخرين.. أُنفقت أموال؛ من أجل أن يخبو هذا النّور، وهو يزداد ظهوراً، وهو يزداد انتشاراً ، (فَسَیُنفِقُونَهَا)!
وعَجَب للموجودين ما يعتبرون !معاداة الحق بداية من الانحراف الفكري والذهني؛ بغلبة الهوى عند قابيل، وعمل مصيبة كبيرة، وقتل أخاه، وتحمَّل مصائب كبيرة.. ولكن نور الحق ما انطفى! لا في أيام آدم وأولاده، ولا في أولاد أولاده، وإلى أن جاء إدريس، ومن بين إدريس إلى نوح، وجاء نوح.. وعملوا مشاكل وقالوا وسخروا منه وعملوا وانتهوا.. وما عاد لهم باقية بقَت، وبقي أهل السفينة وحدهم.
وذهب مَن بعدهم، إلى هود وقوم عاد، وإلى ثمود ومن بعدهم، ومرّ كثير.. إلى إبراهيم -عليه السلام- مرَّت أيام ظهر الأرض ما عليها من الإنس موحِّدًا إلا هو (إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ كَانَ أُمَّةࣰ)[النحل:120]، ما خبأ النور ولا انطفى، وأؤذي ووضع وأُلقي وسط النار، والذي أوقد عليه النار راح إلى النار، والنار التي أوقدها تحوّلت برداً وسلاماً على إبراهيم !وظهرت ملّة إبراهيم، والذين دخَّلوه النار وانطمست آثارهم وانطمست أخبارهم وقدراتهم ودولهم!
وجاء إسماعيل، وجاء إسحاق، وجاء سيدنا يعقوب، وجاء سيدنا يوسف واُبتلي بابتلاءات واختبارات، وكان ما كان، ومن بعدهم إلى أن جاء داؤود، وجاء سليمان، ومن بعدهم إلى موسى -عليه السلام- ومن بعده إلى عيسى -عليه السلام- والفترة فوق خمسمائة سنة إلى بعثة الحبيب الأعظم.
عظمة مجيء سيدنا محمد ﷺ:
جاء السِّراج الكبير، جاء النور المبين، جاء الهادي الأعظم، جاء محمد خير البشر، جاء أحمد الأطهر، جاء مَن به شُرِّفتم، وجاء مَن به كُرِّمتم، وجاء مَن به قُدِّمتم من أجله.
مَن مات منكم على الإيمان يتقدَّم في الحساب والوزن والمرور على الصراط قبل المقربين الصدِّيقين من الأمم السابقين كلهم!
لِمَ؟ من أجل عين تُكرم ألف عين، أُكرِمَت ملايين العيون من أجل محمد ﷺ، "لا تجوزوا حتى أكون أول من أجوز بأمتي على الصراط"، "إن الله حرَّم الجنة على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وحرَّمها على الأمم حتى تدخلها أمتي".
فاجعلنا من أمته الذين يدخلونها معه يا رب، معه يا رب، معه يا رب، معه يا رب..
وهو القائل: "وأنا أول من يأتي باب الجنة فأحُرِّكُ حِلَقَها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر" ﷺ..
اللهم اجعلنا معه برحمتك يا أرحم الراحمين.
غاية ما ينفق في الخير أو الشر:
وقال تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[الأنفال: 36-37] .
فما أُنفِق من عهد آدم إلى الساعة التي نتكلم الآن فيها.. أشياء كثيرة وملايين مما يتعلق بالدراهم والدنانير؛ كل ما أُنفِق للمضادة وللصدِّ عن سبيل الله، أو حتى لمُجرد الشهوات: ذهب هباء منثور، ولا عاد له باقي إلا ما كان من ظلمة أو عذاب وعقاب.
وكل ما أُنفِق من تلك الأيام إلى الساعة هذه يُقصد به وجه القوي الباقي الدائم الحي القيوم؛ هو المخبوء؛ أنوارًا وحسنات، وظلًّا يوم القيامة، ومرافقة للنبوة.
فاحذر أن تُنفِق شيئًا من عينك أو بصرك أو سمعك أو كلامك أو مالك لغيره! سيفوت عليك! وغايته: أن تَسْلَم من العذاب عليه -إذا لم يكن في معصية- ستحسَر! ولو أنفقتَه له سيُخَبأ لك وسيكون سببًا لقربك، وسببًا لِمُرافَقَتِكَ، وسببًا لِدَرَجاتٍ في الجنة.
أما هؤلاء (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[الأنفال: 36-37].
نعم المولى ونعم النصير:
وبعد هذه البيانات والإنذارات الواسعة قال الله لحبيبه ﷺ: بلِّغهم إقامتي الحُجَّةَ والمَحَجَّةَ والإنذار، وأني فاتحُ البابِ لهم (قُل لِّلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِن یَنتَهُوا۟ یُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ..)[الأنفال:38]، كفرهم وشركهم وأذاهم.. سأغفره لهم، قل لهم يرجعوا، يقصدوني من بابك بما أرسلتك وأنا سأسامحهم (یُغۡفَرۡ لَهُم)!
هل يوجد أكرم من هذا؟ هل يوجد أعظم من هذا؟ هل يوجد حُجَّة بعدَ هذا؟ (لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ)[النساء:165]، فكيفَ خاتَمُ الرسلِ!
(إِن یَنتَهُوا۟ یُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ وَإِن یَعُودُوا۟ فَقَدۡ مَضَتۡ سُنَّتُ ٱلۡأَوَّلِینَ..) يتقلَّبون ويرجعون ويعادون.. هي السُّنَّة هذه ماضية! (..وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا یَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ * وَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَىٰكُمۡۚ..) تسمع الكلمة؟ (فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَىٰكُمۡۚ) إن لجئوا إلى خطط، إن لجئوا إلى تجمع، إن لجئوا إلى خداع.. قال المولى: أنا لكم! دعوهم يفعلون ما شاءوا ويكيدون ما شاءوا (..فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَىٰكُمۡۚ نِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ)[الأنفال:38-40]، (أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)[البقرة:286].
يا الله..
نعم الولاية: ولاية الله للمؤمنين:
وهذه الولاية من الله للمؤمنين به -ولهم الفخر- (وَٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ)[آل عمران:68]، (وَهُوَ یَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِینَ)[الأعراف:196]، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- (ٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ)[البقرة:257].
قال عنها سيدنا يوسف بعد أن مرَّ بالمِحَن وردَّ الله عليه أبويه وجاء إخوانه وخرّوا له سجدا: (وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّی حَقࣰّا وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِیۤ إِذۡ أَخۡرَجَنِی مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَاۤءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بَیۡنِی وَبَیۡنَ إِخۡوَتِیۤۚ إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ)[يوسف:100].
واللطيف علَّمك الُّلطف؛ فما قال: من بعد ما آذونا إخواني.. بل قال (مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بَیۡنِی وَبَیۡنَ إِخۡوَتِیۤۚ إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ * رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِیِّۦ..)[يوسف:100-101].
حَوْلَ الولاية يَدُورون! مولاهم ما مثله مولى! (ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَأَنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ)[محمد:11].
هو مولاك، وعلى درجة إيمانك كلما ارتقَت تولَّاك بولايته العَلِيَّة الربَّانية الرحمانيَّة أقوى وأكثر وأعظم (فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَوۡلَىٰكُمۡۚ)[الأنفال:40].
قال: (أَنتَ وَلِیِّۦ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ)[يوسف:101].
(تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ) وهكذا تكرر على ألسن الأنبياء وورثتهم..
الولاية الدائمة والولاية المنقطعة:
ونعم الولاية التي يتولى الله بها المؤمنين (ٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ)[البقرة:257].
وأولياء الطاغوت عدَّهُم لا شيء (لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ)[محمد:11]؛ لأن ولايتهم تنقضي وتنتهي، وتعود إلى تلاعن وتخاصم وتباعد وتضارب بينهم! فأين الولاية؟!
(وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَاۤءَكُمُ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِیكُمۡ شُرَكَـٰۤؤُا۟ لَقَد تَّقَطَّعَ بَیۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ)[الأنعام94]،
(إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِینَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟..) أين الولاية؟ أين هي؟ ما عادت ولاية عندهم؟ ما لهم مولى (إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِینَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ وَرَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ)[البقرة:166]، (وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ)[آل عمران:192].
لكن أهل ولايته هو، يقول: (رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِی وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ)[غافر:8].
و: "المُتحابّون في الله على منابر من نور يوم القيامة، يغبطهم الأنبياء والشهداء"، لمَّا تولّوا الحق تعالى وتولاهم -جلَّ جلاله-؛ رأيت الولاية النَّافقة الدائمة النافعة؟
(وَأَنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ)[محمد:11]. والآخرين ولايتهم انتهت؟ قال: (لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ). وما هم أولياء بعض؟ هو قد قال -سبحانه وتعالى-: (وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضٍۚ)[الأنفال:73]، لكن قال: (وَأَنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ لَا مَوۡلَىٰ لَهُمۡ)[محمد:11]، يعني الولاية التي بينهم كلها حقيرة وقصيرة وتنتهي ويرجعون يلعن بعضهم بعضًا! أين الولاية!؟
الولاية ولاية مَن تولَّى (وَمَن یَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ)[المائدة:56].
من مظاهر تولي الله لنا:
والحمد لله من مظاهر تولي الحق لنا في هذا الزمن -مع كل ما فيه من أنواع الفتن- تجتمعون من قبائل شتى ومن بلاد شتى آمنين مطمئنين، تذكرون الله، تجتمعون على ذكر الله وتذكرونه، وتتواصون بالحق والصبر، وتسمعون علماؤكم، وجاءنا العلماء والصلحاء من الشرق ومن الغرب من البلد ذا ومن البلد ذا.. الحمد لله!
وجاء من يقصد الوصول إلى الله، وجاء من يقصد القبول عند الله، وجاء من يقصد الاتصال بمُصطفاه؛ نِعَم من نِعَم الله بسطها لنا ولكم، ومجلس يَستَقِي منه هنا وهناك أناس كثيرين وجنّ كثيرين، وغيرهم ممن خلق الله -سبحانه وتعالى-
فإن سر الصلة بهذه الولاية يفرح بها حتى الحيتان، حتى الهوام؛ ولهذا يستغفرون لمُعَلِّم الناس الخير؛ الحوت في بحره، والهوام يستغفرون للمعلمين، لأنه يصلهم خيرهم، يصلهم خير دلالتهم على الله ويصلهم خير دعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى.
فالحمد لله على هذه الخيور.. الله يبارك لنا في هذه المجامع، وفي هذه اللقاءات، ويفتح بها أبواب الفرج للمسلمين وغياثهم، ويختم عامنا بخير.
استقبال العام الهجري:
ويُقبِل علينا العام السادس والأربعين بعد الأربعمائة والألف من هجرة سيّد المرسلين؛ بالفرج الكبير والخير الوفير، والعطاء الواسع من حضرة الواسع، يا واسع: بالحبيب الشافع، بلِّغنا المطامع وفوق المطامع.
اللهم ولا ينصرف المجلس إلا وكلّ من فيه وكلّ من يستمعه وكلّ من يشاهده: عندك مقبولين، وعليك مجموعة قلوبهم متوجّهين، وبحبيبك المصطفى مربوطين، وبسنّته عاملين، ولدعوته ناشرين، ولشريعته مُطَبِّقين، وبسُنَّتِهِ مُسْتَنِّين، آمين، حتى تجمعنا في زمرته ودائرته، وتدخلنا الجنّة في مرافقته.
يا الله.. يا الله.. يا الله
الدعاء لتدارك الأمة:
وفرجاً يا مولانا لأهل الضفة الغربية، وفرجاً لأهل رفح، وفرجاً لأهل غزّة، وفرجاً لأكناف بيت المقدس، وفرجاً لأهل السودان، وفرجاً لأهل الصومال، وفرجاً لأهل ليبيا، وفرجاً لأهل الشام، وفرجاً لأهل اليمن، عاجلًا كبيرًا عظيمًا.
يا مفرّج الكروب، يا دافع الخطوب، إليك نؤوب، وعليك نعتمد، وعليك نتَّكِل، وإليك نستند، فيا الله يا حي يا قيوم: ندعوك بدعاء حبيبك المعصوم؛ أن تُزيل عنَّا الهموم والغموم، وأن تُبَلِّغنا ما نروم وفوق ما نروم، يا حي يا قيوم.. يا الله.
جمعكم ويسمعكم، فنادوه: يا الله، يعلم ما في بواطنكم، ويُحب منكم الاستكانة له والتذلّل بين يديه، ويُفيض عليكم من فائضات جوده ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فتذللوا لهذا الإله العظيم الناظر إليكم، ونادوه بلسان الذِّلَّة والافتقار والانكسار؛ أن يتدارككم والأمة، وقولوا: يا الله.. يا الله.. يا الله.
أعطاكم الإيمان به، ووفّقكم لندائه ومناجاته ودعائه -سبحانه وتعالى- ووعدكم القبول، رَبٌّ وصول، عطاؤه جزيل وفضله جليل وكله جميل، هو رَبُّ الجمال وهو خالق الجمال، ولا جميل إلا مَن جمَّله هو -جلَّ جلاله-.
فيَا ربنا يا عظيم المَنّ، يا ذا الفضل في السر والعلن؛ انظر إلينا بالحبيب المؤتمن، وأصلح لنا ما ظهر وما بطن، وتولّنا في الدنيا والآخرة، واجعلنا من خواص أهل الوجوه الناضرة التي هي إلى ربِّها ناظرة، يا الله.. يا الله.
وجميع الحاضرين، ومن ساعد في حضور أحد منهم؛ اعطف على الجميع برحمة من عندك تُثبتهم بها في السعداء هاهنا وغدا، يا رب هاهنا ويا رب غدا، يا حي يا قيوم يا مُسعِدَ السعداء، يا عالم ما خفي وما بدا.. يا الله يا الله.
يراكم ويسمعكم الله:
يراكم ويسمعكم، ويحب تذللّكم، وهو يحب المُلحّين في الدعاء، ويأمر مناديه -إذا رضي عن مجلس من مجالس الخير على ظهر الأرض- أمر مناديه أن ينادي: أن قوموا مغفورًا لكم قد بُدّلت سيئاتكم حسنات.
هذا هو الله يا أحبابنا، هذا هو الله يا أصحابنا، هذا هو الله يا طلابنا، هذا هو الله يا من يسمعنا، هذا هو الله، واسع الإفضال، جزيل النوال! لو عاملنا بما نستحقّ لرمى بنا بعيدًا، ولا رأينا مثل ذا المجمع، ولا هذه الساعة، ولا ذا المكان! لكنه الله يا أحبابنا، لكنه الله يا أصحابنا، لكنه الله يا طلابنا، لكنه الله يا من يسمعنا، الجواد الكريم، الرحمن الرحيم!
(قُلۡ یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ أَسۡرَفُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُوا۟ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِیعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ)[الزمر:53]، (وَأَنِیبُوۤا۟ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ..) لا تجعل فينا قلبًا إلا منيبًا إليك يا الله (وَأَنِیبُوۤا۟ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُوا۟ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَٱتَّبِعُوۤا۟ أَحۡسَنَ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَكُمُ ٱلۡعَذَابُ بَغۡتَةࣰ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ * أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ * أوْ تَقُولَ لَوْ أنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أوْ تَقُولَ حِينَ تَرى العَذابَ لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ * بَلَىٰ قَدۡ جَاۤءَتۡكَ ءَایَـٰتِی فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)[الزمر:54-59]، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌ..)[الزمر:60]. كل الكفار والفجار ومن يدعو إلى معصية الله كذبوا على الله.
الأنبياء والمرسلون صدقوا؛ صدقوا مع الله، وصدقوا من الله، وصدقوا فيما بلغوا عن الله، وأتباعهم كذلك، فاجعلنا من الصادقين (قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡ)[المائدة:119].
نظرة من نظراتك يا رحمن تُصلِح لنا بها كل الشأن، وترفعنا بها إلى أعلى مكان، يا حنّان يا منَّان، يا قديم الإحسان، يا مُنزِل القرآن على قلب سيد الأكوان حبيبك المصطفى محمد: ارفعنا بالقرآن، واحفظنا بما حَفِظت به القرآن، وانصرنا بما نصرتَ به المرسلين، وكُن لنا بما أنت أهله يا أرحم الراحمين.
وِجهتكم جميعًا إلى الله، وقولوا جميعًا:
يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين ** يا أرحم الراحمين فرِّج على المسلمين
28 ذو الحِجّة 1445