الوفاء بعهد الله ومعاني التوبة إليه وسعة جوده
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 10 جمادى الثانية 1440هـ بعنوان: الوفاء بعهد الله ومعاني التوبة إليه وسعة جوده.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ خَالقِ السَّمَاوات والْأَرْض ومَا بَيْنَهُمَا، ومُبَدِّلِ السماواتِ والأرضِ لأجلِ العَرْض، ومُوصِل كُلّ مَن عَاشَ أيّ زَمَنٍ كان- مِن المُكَلّفِين والملائكة في السماء والأرض إلى اجتماعِ الخِدْمَةِ والنِّهايةِ في دارينِ عظيمينِ خلَقَهُمَا جَلَّ جلاله، وأَنْبَأَ عنهما وأرسلَ رسلَه بالخبرِ عنهما ؛ هُمَا الجنة والنار. ولا يَستطِيعُ مُكَلّفٌ أنْ يَجِدَ أيَّ مَقَرٍّ ومآلٍ وملجأ غيرَ هذين قَطُّ قَطُّ قَط، حاوَلَ ما حاولَ أو أرادَ ما أراد ؛ ليس في وِسْعِ مخلوقٍ أن يُبَدّلَ حالَ مُكَلَّفٍ واحدٍ أن لا يرجعَ إلى هذين الدارين، لا يمكنُ ذلك. وكُلُّ مُكَلَّفٍ آمَنَ أو كَفَر صَدَّقَ أو كَذَّبَ أو أَقْبَلَ أو أَدْبَر المآلُ والمصيرُ إلى اِحدَى الدَّارين. فَمَا أَعظَمَه مِن مُستَقبَلٍ عظيمٍ، ما حَدّثَتنا عنه تجربةٌ ولا فكرةٌ بَشَر، ولكن حَدَّثنا عنه الذي خَلَقَ وفَطَر، واختارَ الأنبياءَ مِن آدمَ حتى ختمَهُم بصَفْوَةِ مُضَر، حبيبنا الأطهر الذي نحن في بهاءِ نورِهِ الأزهر، ونحن في معاني فَيْضِهِ الأَغْمَر، ونحنُ في معاني تَأسِيسِهِ الأقوَى الأَدْوَمِ الْأَشْهَر، ونحنُ في بركاتِ عنايةِ الرحمنِ به فيما بَطَن وفيما ظَهَر.
اللهم لك الحَمْدُ يا مُرسِلَ المصطفى، فَبِحَقِّهِ عليك اجعلنا وجميعَ الحاضرينَ والسَّامعينَ مِن أهلِ الوَفَاءِ بِعَهْدِكَ الذي عَاهَدتنَا عليه، وما عاهدَنا عليه وجَدَّدَ ذلك العهدَ حبيبُك المصطفى محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. يا ربَّنا ارزقنا الوفاء، اُرزُقْنَا كَمَالَ الوفاءِ في قلوبِنا، وكَمَالَ الوفاءِ في أَعيُنِنَا، وكَمَالَ الوَفَاءِ في أَسْمَاعِنَا، وكَمَالَ الوَفَاءِ في ألسِنَتِنِا وأيدينا وأَرجُلِنَا وبُطُونِنَا وسائر أَعْضائنَا، ارزقنا اللهمَّ تَمَامَ الوفاءِ فيها بِعَهْدِكَ الذي عاهدتَنا عليه. يا الله
وما حَصَل مِنها مِن زَلَلٍ فإننَّا نُوقِن ونُؤمِن أنك الرَّبُّ الذي يؤاخذُ على الزَّلَّةِ إن شاءَ ويَغفِر ويُسَامِح إنْ شَاء، وفَتَحت لنَا بابَ التوبةِ ودَعوتَنا إلى أن نتوبَ وأنت الغَنِيُّ عَنَّا ونحنُ المحتاجونَ الفُقَراءُ إليك، وإنَّا خَلْفَ حبيبِك سيدِ التَّوابين نقول: يا ربِّ بهِ تُبْ علينا، وما أَسْمَعْتَ اللهمَّ أرواحَنا وقلوبَنا مِن سِرِّ قولك ( لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) يا رؤوف يا رحيم اِرْأَف بِنَا كَمَا رَأَفْتَ بِهِم، وارحمنا كما رحمتَهم يا الله .. يا الله
وإنَّك عند ذكرِهم في مَوطِنٍ في كتابِكَ قُلتَ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فاجعلنا ممَّن بهم يَلْحَقُ يا حَق. يا الله أَعِد علينا عَوَائدَ تلك التوبةِ العظيمةِ المَنشورِ نورُها وخَبَرُهَا في الآياتِ الكريمةِ، يا وَاهِب المَوَاهِب الفَخِيمَة ويَا مُعطِي العَطَايَا الجَسِيمَة، يا الله. اُرزُقنَا يا مولانا مِن هذه المجالسِ خيرَ الغَنِيمَة. ولقد سُئِلَ نبيُّك صاحبُ الرسالة الدَّال بِأَحْسَنِ الدَّلَالَة: يا رسولَ الله ما غَنِيمَةُ مجالس الذِّكر؟ فأَجَابَ وقال: { غنيمةُ مجالس الذِّكر الجَنَّة}. اللهمَّ فاجعَل حاضريها وسامعيها مِن أهلِ الجَنَّةِ، يا ربَّنا وأهلُ الجنة على دَرَجَاتٍ فاجعلنا في أَعَالِيهَا، واجعلنا في أَرفَعِهَا، واجعلنا في تَمَامِهَا، فِإنَّا نسألُكَ الدرجاتِ العُلا مِن الجَنَّةِ، نسألُكَ الدَّرَجاتِ العُلا مِن الجنةِ في خَيْرٍ ولُطْفٍ وعَافِيَةٍ، يَا أرحمَ الرَّاحِمين يا أرحمَ الرَّاحِمينَ يا أرحمَ الرَّاحِمينَ نَسألك الدَّرَجَات العُلا مِن الجَنَّةِ.
وأهلُ الجَنَّة يومَ القِيَامَة مِائةٌ وعشرون صَفَّاً؛ ثَمَانُونَ مِن هذه الأُمَّة وأربعونَ مِن بَقِيَّةِ الأُمَم. مع أنَّنَا لَسْنَا في الأُمَمِ قبلَنا إلا كَشَعْرَة بيضاءَ في جِلْدِ ثَورٍ أسود، ومَعَ ذلك فَثُلثَا أهلِ الجنة مِنَّا مَعَاشِر الأُمَّة، لِأَجْلِ الوَاسِطَة، لأجلِ مُحَمَّدِ. لَسْنَا أقوَى مِن الأُمَمِ السَّابقةِ ولا أكثرَ عَمَلَاً مِن الأُمَمِ السَّابِقَةِ ولا أَقوَى اِستِعْدَادَاً مِن الأُمَمِ السَّابقة؛ نحن مِن أضْعَفِ الأُمَم ؟ لكن كُنَّا خَيْرَ الأُمَم، وسَبَقنَاهُم بالحَبِيبِ الأَكْرَم، فالسَّبْقُ له وهُمْ وأنبياؤهم تحت لوائه، اللهم اجمَعنا تحت ذلك اللِّوَاء. اسمُه "لِوَاء الحمد"، سَمِعتَ اسمَه، والله يُرِيك إيَّاه، سَمِعتَ اسمَه، والله يجعلك تحت ظِلُّه، سَمِعتَ اسمه والله يُقَرِّبك مِن صاحبِه، صاحبه الذي يَحْمِلُه اسمه "مُحَمَّد" الله يُعَرِّفُك وَصْفَه، الله يعَرِّفَك قَدْرَه، الله يعَرِّفَك نُورَه، الله يريك وَجْهَهُ، الله يجمعُك به، في دُنيَاك قبل آخِرَتك، عند الموت وفي البرزخ وفي الآخرةِ .. اللهم آمين يا رب، اللَّهُمَّ حَقِّق يَا رَبّ، الَّلهُمَّ أَجِب يَا رَب، اللهم أتحِف يا رب، اللهم أكرِم يا رب، اللهم مُنَّ يا رب، اللهم أسعِدنا بذلك يا ربُّ يا الله.
يا أهلَ الأرواحِ الشَّارِدَة إلى المَخَازِي التي تحجبُ الناسَ عن رؤيةِ الوجهِ الأشرف: اِنتَبِهُوا مِن رَقَدَاتِكُم وغَفْلَاتِكُم، فالنِّدَاء وَاصِلٌ إليكم قبلَ أن يُسْدَل السِّتَارُ أمامَكم وتنتهي الفرصة. على أيّ شيءٍ تُضَيِّعُون هذا الخيرَ العظيم ؟! مِن أجل بطونٍ أو فروجٍ ؟! مِن أجل مَظهَرٍ أو صورة ؟! مِن أجلِ ماذا ؟!
يا مَن مهما عَظُمَ الطَّلب فلَاحَظَت أعينُ الأرواح والقلوب ذَرَّةً مِن جُودِهِ خَفَّ الطَّلب، وصَغُرَ الطَّلب أمام ذَرَّةٍ مِن جُودِه- ؛ لأنَّكَ الله .. لأنَّكَ الله، وَوَاجِب وحَقَّ لمطالبي وأهل الجَمْعِ ومَن يَسمع ومطالب مَن قَبلَنا ومَن بعدَنا مِن أهل السماء والأرض إذا بَدَت لمحةٌ مِن جودِك أن تَصغُر؛ حُقَّ لها أن تَصْغُر. كيف لا تَصْغُر وهم خَلْقٌ وأنت خالق، كيف لا تَصْغُرُ وهم مَرْبُوبونَ وأنت رب، كيف لا تصغرُ وهم عبادٌ وأنت إِلَه. فأنَّى تَصِلُ مطالبُ العِبَاد أمامَ كَرَمِ إِلَه، أمام جُودِ إِلَه.
وفَتَحَ الله بَاب جُودِهِ فَآمَن مَن آمَنَ مِن قبلِكم مِن الأُمَم، ثم جاء الحبيبُ الأكرمُ فكان الفَتْحُ لكم أعظمَ. اللهم لك الحمد.
يا مُكْرِم يا عظيم يا الله لا يوصفُ كرمُك، كما أنَّ نقمتَك وغضبَك لا يُطيقُها أحد ولا يبلغُ مَدَاهَا عَقلُ أحد ( فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) لكن مِن بين الخلائق نفوسٌ مطمئنةٌ، ونداؤها: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).
سَلْهُ أن يُسمعَك هذا النداءَ. اللهمَّ بِنَبيِّ الهدى اجعَلنا ممَّن يَسمَعُ هذا النداء، شَرِّف نفوسَنا بسماعِه. منهم مَن يحصل له العجائب منه في القيامة، ولا تدري أنه قبلَك مَن مَضَى، والليلة هذه سَمِعت بعضُ هذه الأنفس هذا الخطابَ فدخلَت في العبادِ والجنة وهي في هذه الدنيا ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) أنت تَسمَع تلاوتَها ولكن نفوس مِن الإنسِ والجنِّ عندما تسمع أنت الآن تلاوتَها هي تسمعُها مِن مَصدَرِهَا ومِن مَحَلِّهَا فتدخلُ في العبادِ وتدخلُ في الجنة إذا خاطبَها القُدُّوسُ (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ..) هل يوجد ألطفَ مِن هذه الكلمة (إِلَىٰ رَبِّكِ) إلى ربك ؛ مُرَبِّيكِ، مُجْتَبِيكِ، مُصْطَفِيكِ، خالقِكِ، مُتَوَلِّيكِ (إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).
فتأمَّل مِن معاني ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { دخلتُ الجنَّةَ البارحة فسمعت خَشْخَشَتكَ يا بلال} – قدميك تمشي قُدَّامي في الجنة - فبأي شيءٍ ؟ "البارحة" ليس في القيامة، { دخلتُ الجنَّةَ البارحة } فإن لم تكن روحُ بلالٍ البارحةَ في الجنةِ ما معنى الرؤية ذا وما معنى الكلام ذا؟ وما هذا الوحي؟ هم وقتَ دخولِه في القيامة لا بلال ولا غير بلال كلهم وراءه ؛ لا أحد قدام محمد، لا أحد يتقدَّمُ محمدا " إِنَّمَا فَوقه العَلِيُّ العَظِيمُ "
أَيْنَ كلُّ العوالِـمِ العُلْوِيَّـة ** أَيْنَ كل العوالِـمِ السُّفْلِيَّـة
أَيْنَ كلُّ الوَرَى بِكُلِّ مَزِيَّة ** إِنَّمَا فَوقهُ العَلِيُّ العَظِيمُ
فَعَلَيْهِ الصَّلواتُ والتَّسْلِيمُ
سَيّد الرُّسل قَدْرُهُ مَعْلُومُ ** أَيْنَ مِنهُ المَسِيح أَيْنَ الكليمُ
أَيْنَ نوحٌ أَيْنَ إبراهيم ** كُلّهم عن مَقَامِهِ مَفْطُومُ
فَعَلَيْهِ الصَّلواتُ والتَّسْلِيمُ
وعليهم أجمعين صلوات الله وسلامه عليهم، يا رب أرِنَا وجوههم في ذلك اليوم.
يا مُجتَمِعِين تَسمَعُون مِن معاني نداء الرَّب جَلَّ جلاله : هل لكم أن تطئمنُّوا إليه وإلى ذِكرِهِ ؟ وهل لكم أن تعلمُوا مهمَّتَكم الكبيرةَ في الحياة ؟ وتأخذوا أمانةَ شريعتِه ومنهاجِه وَوَحْيهِ وبلاغِ رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ما يُقَاسُ به مهمةُ أحزابٍ ودولٍ صُغْرَى ولا كُبْرى، والله العظيم الدُّوَلُ الصُّغرى والكُبرَى عند هذه المهمة كُلُّها صُغْرَى، كلها صغرى، هذه مهمَّةٌ كبيرة. هل تعرفُ قدرَها ؟ هل تعرفُ مهمَّتَها أو واجبَها ؟ هل يهدي اللهُ بك رجلاً واحداً يكونُ لك خيراً مِن حُمْرِ النِّعَم ؟
يا مُتَكَاسِل يَا مُتَقَاعِس حتى عن قُرَاك القريبةِ منك، حتى عن مَوَاطِن وَادِيكَ حتى عن جيرانك ! ما تُحْسِن تُقَرِيبَهم للخيرِ وإيصالَ الخيرِ إليهم؟! وفي الأمةِ أرواح تَئنُّ مِن ألمِ البُعْدِ ومِن أَلَمِ الظَّلامِ، ومحتاجة لهذا النور، ومحتاجة لهذه الدعوة، ومحتاجة لهذا البلاغ، هل تعرف قدرَ هذه الدعوة ؟ هل تعرف قدرَ هذه الرسالة ؟ هل تعرفُ الشَّرَف بوحي، برسالة، بِنُبُوَّة قام بها زينُ الوجود صلى الله عليه وسلم ؛ وقال في تَشْرِيفِ أُمَّتِهِ بِسِرِّهَا ونُورِهَا وحقيقتِهَا : {ألا فليبلِّغِ الشاهدُ منكم الغائبَ}، { بَلِّغُوا عَنِّي ولو آية}، {فَوَالله لأن يَهدِيَ اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مِن حُمرِ النِّعَم }. وكم تزهقُ مِن النفوس ما عرفت هذا النورَ ! ومنها ما هو مُتَشوِّف ومنها مَا هُوَ مُتَلَفِّت، أين المخرجُ وأين النجاةُ، و( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) اللهم اهدِنا فيمَن هديتَ.
وإنك يا ربِّ تَقسِمُ أسرارَ هِدَايتك في البَرَيَّة بتوزيعِها بالسَّبَبَيَّة على أيدي مَن تَنْتَخِبُ ومَن تَرتَضِي فتهدي بذا، وتهدي بذا، وتُضِل بذا، وتُضِل بذا، وقد بَيَّنتَ لنا في قرآنِك ذلك، وقلتَ عمَّن مَضَى قبلَنا الصنف الأعظمَ الكريمُ منهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) هذا في مِن مِضَى. وقال عن الصنفِ المقابِل: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) في زمنِك أئمةٌ يدعونَ إلى الله، وأئمةٌ يدعونَ إلى النار، في كلِّ زمانٍ موجودون، بأيّ صورةٍ بأنواعِ التلبيسِ والخداعِ والكذبِ والدَّجَلِ مِن هنا أو من هناك، ولكن مهما صدقتَ معه فأنت تعلم "مَن نظرَ في وجهِه عَلِمَ أنه ليس بوجهِ كذاب" قال عبد الله بن سلام: "لمَّا وَقَعَ نظري عليه عرفتُ بأنه وجهٌ صدُوقٌ ثَبْتُ ليس بوجهِ كَذَّاب". قال أول ما وقع نظري على وجهه: هذا وجه نبي، هذا وجهُ مَن لا يكذب، هذا وجهُ الصَّادقِ المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه.
جَلَّى اللهُ عن قلبِك العَمَى، وجَلَّى اللهُ عن قلبِك الحِجَابَ، وجَلَّى اللهُ عن قلبِك الظَّلامَ، وجَلَّى اللهُ عن قلبِك العَمَشَ حتى ترى هذا الوجهَ. يا رب اجمَعنا به في الدنيا واجمَعنا به واجمَعنا به في البرزخ، واجمَعنا به في القيامة، واجمَعنا به في دارِ الكرامة، ونسألكَ الدرجاتِ العُلا مِن الجنة يا الله.
وأمامَ كُلِّ ما يُطَارِدُ الناسَ في هذا العالمِ مِن الظلماتِ والأوهامِ والشدائدِ ما أعجبَ هذا النداءُ العُلْوِيُّ الرفيعُ الكريمُ الوسيعُ الذي به يُخرَجُ الناسُ مِن عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ رَبِّ العباد، ومِن جَورِ الأديانِ إلى عَدْلِ الإسلام، ومِن ضيقِ الدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخرة. يخرجون بهذه الدعوة، ولا مخرجَ لهم مِن غيرِ هذه الدعوة؛ مَن لم يأخذْ هذه الدعوةَ فهو في ضيقِ الدنيا طولَ عمرِه، ولا يخرجُ منها- والعياذ بالله تعالى- حتى ينتقلَ إلى ضيقِ القبرِ وضيقِ يومِ القيامةِ، نعوذ بالله ( وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۚ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا) اللهمَّ ألحِقنا بهم يا ربَّنا.
دعانا نبِيُّك إلى التوبةِ إليك فنستغفرُك مما صَدَر مِنَّا، وما بقيَ مِن أعمارِنا فاجعَل الوفاءَ تَامَّاً مِن قلوبِنا وجميعِ أعضائنا حتى نلقاكَ، يا الله شَرِّفنا بتلبيةِ النداءِ العُلْوِي، وكُن لنا يا حيُّ يا قيُّوم في جميعِ شؤونِنا وأحوالِنا وأطوارِنا حتى نستقيمَ خيرَ الاستقامةِ ولأنواعِ الخير نَحوِي، برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
انظر إلى قلوبِنا وقلوبِ السامعين أجمعين نظرةً ربانيةً رحمانيةً محمَّديةً أحمديةً تشفِينا بها مِن الأمراضِ، تدفعُ بها عَنَّا البلايا والآفات وشَرَّ الأعراض. اللهم حَوِّل مُدبرِنا إلى مٌقبل، وحَوِّل غافلَنا إلى ذاكر، وحَوِّل عاصيَنا إلى طائع، اللهم وحَوِّل شَقِيِّنا إلى سعيد، إنَّكَ تُبدىء وتُعِيد، وأنت الغَفُورُ الوَدُود، ذو العَرْشِ المَجيد، فَعَّالٌ لِمَا تُرِيد، يا الله ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ).
وماذا فعل أمامَك في العالَم ؟ فعَلَ في الماضي ما يكفيك فتنةَ الحاصلِ اليوم (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) يكفيكَ أو ما يكفيك ؟ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) والحقيقة؟ (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ) وأنتم تستجيبُون لأمرِ هذا الإلهِ، وتتوجَّهون لنصرتِه فَيَا فوزكم. وماذا يُسَاوِي هؤلاء الذين أعرضُوا عن الله ثم تَقَوُّوا بغيرِ الله ؟ ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) لا شيء لغيرِه أصلا، آمَنَّا وصَدَّقنا، هو كذلك، وغيرُ هذا وهمٌ وخيال-، وحالُهم ؟ : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا..) وأين حالُ هؤلاء الذين تبرَّأوا مِن الذين اتبَّعوا مِن حَالِ مَن يقول " أصحابي يا رب، جماعتي يا رب، جيراني يا رب، هاتوا وهاتوا" ؛ فرق بين هؤلاء وهؤلاء ؛ هؤلاء يشَفَّعون ويدخلون في الدوائر وهؤلاء : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) اللهم أجِرنا مِن النارِ.
اجعلها ساعةَ قبولٍ يا رب، تُثْبِتنا بها في أهلِ الدرجاتِ العُلا في الجنة .. آمين، آمين.
فما حَضَرَ الحاضرون، ولا استمعَ السامعون إلا وهم لك يَرتجون، ولِمَا عندك يُؤمِّلون، آمنُوا أنك ربُّهم الذي تقولُ للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) وأنكَ العليمُ بما يُخفونَ وما يُعلِنون، فاجعَلهم أسبابَ رحمةٍ وهدايةٍ ونورٍ لهم ولأولادِهم ولأهلِ ديارِهم ولجيرانِهم ولقراباتِهم ولأمةِ حبيبِك أجمعين، يا أرحمَ الراحمينَ يا أكرمَ الأكرمين يا الله.
يا مَن تَصْغُر آمالُ المؤمِّلين إذا لَاحَ للقلوبِ بَارِقُ إفضالِه، وتَتَضَاءلُ طلباتُ الطالبين إذا بدَا سَنَا نوالِه، يا حيُّ يا قيُّوم، أَشْهِدْنَا جمالَك، وَوَالِ علينا إفضالَك، وكثِّر لنا نوالَك، وقرِّبنا إليك زُلفى. إنَّ لك عباداً تقول فيهم (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وقلتَ لإمامِهِم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وأيدي الفقرِ تطلبُ منك هذه المِنَن وتسألك أن تُكرِمَها يا عالمَ السرِّ والعلَن، فضلاً منكَ وجُودَاً، وعَطَاءَاً جَلَّ أن يكون مَحْصُورَاً أو مَحْدُودَاً. يا الله، يا مَن لا يَنفَد عطاؤه، ولا تُحصَى نَعمَاؤه، يا جميلاً فوقَ كُلِّ جميل، يا جليلاً فوقَ كُلِّ جليل اِهْدِنَا سواءَ السَّبيل، واسْقِنَا مِن أحلى سَلْسَبِيل، وأدخِلنَا في خِيَارِ الجِيل، يا أرحمَ الراحمين،َ يا الله.. يا الله .. يا الله
يَا توَّاب تُبْ عَلَيْنَا ** يَا توَّاب تُبْ عَلَيْنَا ** وَاَرْحَمْنَا وَانْظُر إِلَيْنَا
10 جمادى الآخر 1440