(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بمصلى أهل الكساء بدار المصطفى بتريم ، ليلة الجمعة 11 شوال 1440هـ، بعنوان: المقاصد الكبرى .. أصولها وغاياتها وفروعها وثوابتها وميزة المؤمن بها
الحمد لله، مُنَوِّعِ المواهبِ والعطايا، عظيمِ المِنَن والمزايا، عالِمِ الظواهِر والخفايا، ربُّ جميع البرايا، اختار واصْطَفى؛ فماذا يفوقُ اختيارَ مَن أنشأ وأوْجَد، وخلَقَ سُبحانه وتعالى مِن العَدَم، ووحْدَهُ بالخالِقِيَّةِ والدَّوامِ تفرَّد، ماذا يفوقُ اصطفاءَه؟!، وماذا يفوقُ اجْتِباءَه؟!، {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ..}الحج75.
لكَ الحمدُ يا وهَّاب، لكَ الحمدُ يا فاتِحَ الأبواب، لكَ الحمدُ يا ربَّ الأرباب، لكَ الحمْدُ يا مُسِبَّب الأسْباب، لك الحمدُ يا غفورُ يا توَّاب، لكَ الحمدُ يا مَن يُعْطي بغَيرِ حِساب، فَصَلِّ وسلِّم على أوْسَعِ الأبواب، عالي الجَناب، سيِّدِ الأحباب، حبيبِك المصطفى محمد، وعلى آله خيرِ آل، وأصحابهِ خيرِ أصحاب، وعلى أُمَّتِه خيرِ أمة، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياءِ والمرسلين؛ الذين رفعتَهم إلى أعلى قِمَّة، وجعلتَهم معَادِنَ الجُودِ والكرَمِ والفَضْلِ والرَّحمة، وعلى آلهِم وصحبهِم والملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِكَ الصالحين، وعلينا وعلى أهل مَجْمَعِنا، ومَن يسْمَعُنا، وعلى المؤمنينَ والمؤمنات، والمسلمينَ والمسلمات، يا مُجيبَ الدَّعوات، يا قاضِيَ الحاجات، يا جَزِيل العَطِيَّات، يا دافعَ البَلِيَّات، يا جامِعَ الخلائِق ليَومِ الميقات، ثبِّتنا أكملَ الثَّباتِ، على ما تُحِبُّه مِنَّا، وترضى به عنا؛ في الأقوالِ والأفعالِ والنِّياتِ والمقاصِد والصِّفات، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
ويتميَّزُ الخَلْقُ على ظَهْرِ الأرضِ، ثم يكونُ تَميُّزهُم في يومِ العَرْض، ثم تَميُّزهُم كذلك في درَجاتِ الجنَّة ودَرَكاتِ النار على حَسَبِ تَميُّزِ مَقاصِدِهم في هذه الحياة؛ حياة التَّكليف، حياة التَّشريع، حياة الإرسال، حياة الخِطاب، حياة الدِّين، حياة المنهج الربَّاني، حياة الاختبار، حياة الابتلاء؛ الحياة الدنيا.
مقاصدُهم في أيام كانوا في الحياة الدنيا يتفاوتون فيها، وأوَّل ما يَحْصُلُ الفَصْلُ بين المؤمن والكافر في المقصدِ الأسْمَى عِند المؤمن، في المرادِ الأسمى عند المؤمن؛ أنه يريدُ رضا الرحمن، وأنْ يلقاهُ وهو عنه راضٍ، ويريد أنْ يتهيَّأَ للقائِه بحُسنِ الاستعداد، هذا المقصدُ السَّامي الذي حُرِمَه مَن كَفَر، وحُرِمَه مَن لم يؤمِن بإلههِ العَليِّ الأكبر.
فمن نَسِيَ نفسَه، ونَسِيَ ربَّه، فأنْساهُ الله نفسَه، فلا يُغنِيهِ مِن غيرِ اللهِ شيءٌ عنِ الله، ولا يُغْنِيه شيءٌ في مَرْجَعِه وعُقْباه، فما أسْوَأ أحوالهَم في الحياة وبعد الوَفاة، ويا فوزَ المؤمنين بالله، اللهم أقِم عندنا المقاصِدَ على ما هو أحبُّ إليك يا أحَدُ يا واحِد، واجعل مقاصدَنا مِن مقاصِدِ الأنبياء، والمقرَّبين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، يا أكرمَ الأكرمين؛ عبادَك الذين أنعمتَ عليهم.
وهذه الميزةُ التي يتميَّزُ بها المؤمِن في حياتِه، وفي ضِمن أيَّامِه ولياليهِ وساعاتِه، عنِ الجُفاةِ.. عن الكَفَرَةِ.. عن المنافقين. عن المحْجُوبين.. عن المقطوعين، عمَّن لم يصِل إلى قلبِه نورُ الحق، ونورُ الأيمان، ونورُ (لا إلهَ إلا الله)؛ هي مقاصِدُ السعادةِ الحقيقية، هي مقاصِدُ الرُّقِيِّ إلى ذُرْوَةِ القُربِ مِن ربِّ العالمين جلَّ جلاله، وهل يساوي ذلك شيء؟!.
حقِّق مقاصدَك؛ وما جاء رمضانُ، ولا صِيامُه ولا قِيامُه، ولا الصَّلواتُ الخمس، ولا الحجُّ لبيتِ الله، إلا لِيُقَوِّيَ فيكَ المقْصَدَ الأسْمَى، مِيزَتك عن كلِّ مَن غَوِي، مِيزَتُك عن كل مَن خرجَ عن المنهجِ السَّوِي، مِيزتُك عن كلِّ كافِر وفاجِر ومنافقٍ ومُدْبِر، مِيزتُك عن كلِّ مَن لم ينظرِ الرحمنُ إليهم نظرَ الرِّضا، مقاصدُك التي تَحِلُّ في قلبِك، وتَقْوَى في باطِنك، وتحيا مِن أجْلِها في حقيقةِ: ((إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرتُ، وأنا مِن المسلمين))، اللهم حقِّقْنا بتلكَ الحقائق، واربُطنا بخيرِ الخلائق.
يا أيُّها الجَمْعُ الكريمُ المبارك، ويا جميعَ مَن يسمَع أو سَيَسْمَع هنا أو هناك: مَلِكُ الأملاك يَبْسُطُ مَوائِدَه لِتُنَقِّيَنا عن مُوجِباتِ الهلاك؛ بل عن مُوجِباتِ فَوَاتِ المَنزلِ الأسمَى، والمقامِ الأعلى، والنَّعيمِ الأصْفَى، والخُلْدِ في الكرَامةِ والهناء، ومُجَاوَرَةِ ربِّ العرشِ الأعلى، ومُرَافقةِ الأنبياء، كلُّ ما يقطعُنا عن ذلك الحَقُّ تعالى جَعَل لنا الوسائلَ لِنَتَنَزَّه عن تلك القَوَاطِع، وتَتحقَّقَ فينا المقاصِدُ التي خَلَقَنا مِن أجْلِها جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وهي في غاياتِها وأصْلِها وأساسِيَّاتِها راجِعةٌ إلى المعْرِفةِ بالله جلَّ جلاله، والمحبَّةِ مِنه وله، والقُرْبِ منه سبحانه وتعالى، ونَيْلِ رضوانِه، هذه غاياتُ المقاصِد، هذه نهاياتُ المقاصِد، هذه الغايةُ القُصْوَى التي تَنْتَهي إليها مقاصِدُ المقرَّبين، ومقاصِدُ الذين عَقَلوا سِرَّ خَلْقِهم ووُجودِهم، وسِرَّ إيجادِهم، وسِرَّ حِكْمَةِ مُوجِدِهم في إيجادِهم جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. الذي لا يَبْخلُ بإسعادِهم إذا عرفوا ألوهِيَّتَه.. إذا عرفوا رُبُوبِيَّتَه، إذا عرفوا عظَمَتَه، لا يَبْخَلُ بإسعادِهم، ولا يبخلُ بإمدادِهم، ولا يبخلُ برفعِ قَدْرِهم، ولا يبخلُ بإعطائِهم ما لا يَخْطُر على بالِهم، ولا على بالِ أحَدٍ مِن الكائناتِ والمخلوقات؛ وهو القائِل: ((أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر))، وإذا جمعَ أهل الجنة في الجنة - جمعنا وإياكم فيها معهَم، مِن غيرِ سابقةِ عذابٍ ولا عتابٍ ولا فتنةٍ ولا حساب - نازَلَهم مِن تَنزُّلاتِه، وتَعَرَّفَ إليهم بعظيم تَعَرُّفاتِه، وبَسَطَ لهم موائِدَ إحسانِه ومِنَنِه وعَطِيَّاتِه.
وقال: مقاصِدُكُم الكُبرى التي تعلَّقَت بها قلوبُكم عندما أدركتُم الحقيقة اليومَ أُقِرُّ أعْيُنَكُم بإعطائكم أعلاها، وإسْدَاءِ أفضلِها إليكم، على الخُلْدِ والأبَدِ والدَّوَام: ((يا أهلَ الجنَّة هل رَضِيتم؟!))، يا ربَّنا كيف لا نرضى؟!؛ ألم تُنَجِّنا مِن النار؟، ألم تُبَيِّض وجُوهَنا؟!، ألم تُدخلْنا الجنة؟!، ألم تُعطِنا وتُعطِنا فيها؟ ((ألا أُعْطِيكم ما هو أفْضلُ مِن ذلك))، وما هو أفضلُ مِن ذلك؟!؛ ((أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسْخَطُ عليكم بعدَه أبداً)).
يا أيُّها المغْتَرُّون بِلَذَائِذِ المأكولاتِ والمشروباتِ والمنكوحاتِ والملبُوسات، وبَهَجَاتِ الأوْهَامِ في السُّلطاتِ والجَاهَاتِ بين الناس: كُلُّ تلك اللذائذِ ذَرَّةٌ اخْتَبَر اللهُ بها عِبادَهُ، ولكن جعلَ لَذَّةَ كلِّ روحٍ خَلَقها وأوْجَدَها العُظْمى.. الكُبرى.. العَالِيَة، التي لا تُوصف بِلَذَّةِ مَأْكَلٍ ولا مَشْرَبٍ ولا مَنْكَحٍ ولا سُلْطَةٍ ولا جَاه.
وعِزَّةِ الذي خَلَقنا وخَلَقَكُم وخَلَق كل شيء؛ مآكِلُ الخَلْقِ مِن أوَّلِهم إلى آخرِهم، ومَشَارِبُهم، ونكاحاتُهم، وأنواعُ لذائذِهِم التي تلذَّذُوا بها في الحياةِ الدُّنيا؛ ومنها ما تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ مِن السُّلُطَاتِ والشُّهْرَةِ بين الناس، ونَيْلِ الجاهات، وعِزَّةِ الربِّ الذي خَلَقَني وخَلَقَكُم: هي مِن أوَّلِها إلى آخرِها مُنْفَصِلةً عن طَلَبِ رضوان هذا المولى لا تُساوِي ذرَّةً مِن لحظة تَجَلِّي الحقِّ بالرِّضا على عبدِه المرضيِّ عنه، والله العظيم، فلا تَغُرَّنَّكُم، ولا تَخْدَعَنَّكُم، ولا تَقْطَعَنَّكُم.
مِن قِبَل الرَّبِّ الأكْبَر على أَلْسُنِ أنْبِيَائهِ نُودِيتُم إلى ما هو أصْفَى، وإلى ما هو أحْلَى، وإلى ما هو أعْلَى، وإلى ما هُو ألَذُّ، وإلى ما هو أطْيَبُ، وإلى ما هو أرْفَعُ، وإلى ما هو أجَلُّ، وإلى ما هو أجْمَلُ، وإلى ما هو أكْمَل؛ فَتَبَّاً لها مِن قَوَاطِعَ قَطَعَت أكثرَ الخَلْق، واقْتَضَت مِن انْقِطَاعِهم وانْسِيَابِهِم وَرَاءَ سُوءِ المقاصِدِ في هذهِ الحياة أنْ يُناديَ المنادي مِن قِبَل الْجَبَّارِ الأعلى: قُمْ يا آدمُ أخْرِج بَعْثَ النارِ مِن ذُرِّيَّتِك، يا ربِّ وكم أُخْرِج؟!، في كلِّ ألْفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار!.
فسَدَت مقاصِدُهم، فَسَدَت أنْحَاءُ وُجْهَاتِهم وإراداتِهم، اغْتَرُّوا بالشَّهَوات الحَقِيرَة، قُلْتُ لهم: عندي ما لا يَخْطُرُ على بالِكُم ما صَدَّقوا!، أرْسَلْتُ رُسُلِي، أنزلتُ كُتُبِي، راحوا وراءَ الملذَّاتِ الحقِيرَةِ التي حذَّرْتُهُم منها، وقُلْتُ لهم: سَيِّرُوها بِمِنْهاجي في مَرْضاتي، أجْعَلْها لذَّاتٍ مُعَجَّلَةً أُعْطِيكم الأُخْرَى الْكُبْرى التي لا حَدَّ لها، فَأَبَوْا إلا أنْ يَنْحَصِروا فيها، وأنْ يُسْتَعْبَدُوا لها، وأنْ يُسْتَذَلُّوا لها، وتَصَامَمُوا عن نِدَائي، وعن رُسُلي، وعن أنبيائي، واحْتَقَرُوا أوْلِيَائي.
تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وَوَاحِد إلى الجنة!!، وحينئذٍ تَشِيبُ رُؤوسُ الْولدان؛ ما تنفع الرِّئاسةُ الدُّنيوية أحَداً في ذاك المكان ولا ذاك الموقف الآتي علينا وعلى الأولينَ والآخرين، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً }.
لو ترونَ ما يُهِيلُ مما يَنْزلُ مِن أعْيُنِ أكثرِ زُعماءِ العالم ورُؤسائه وأهلِ التَّجَبُّرِ فيه مِن الدُّموعِ التي تعقبُها الدِّماء لهالَكُم الموقف! ولهالَكم المنْظر!؛ ضَيَّعُوا أنْفُسَهُم، ضيَّعُوا حياتَهم، ضيَّعُوا الْـمُلْكَ الأكبر بالْـمُلْكِ الحَقِير {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِالله الْغَرُورُ }، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، اللهم اجعلنا مِن الصَّابرين الصَّادقين الموَفَّقين.
المقصدُ الأسْمَى هذهِ الغايات، والمسائلُ والمقاصدُ الفَرْعِيَّة التي هِيَ وسائلُ للوصولِ إلى تِلْكَ المقاصدِ العَلِيَّةِ للمؤمنِ في هذهِ الحياة: صلاحُ قَلْبِه، صلاحُ أُسْرَتِه، حُسْنُ قيامِهِ بأمرِ ربِّه، نَفْعُه لِلْعباد، وَحْدَةُ هذه الأمَّة، كَسْبُه للخَيرِ مِن الحلال، هذه مقاصدُ فرعيِّة، هذه مقاصدُ مُؤَدِّيَة إلى بلوغِ الغايات في المقاصدِ، هذه مقاصدُ المؤمن.
يُعَلِّمُه رمضانُ كيف يَقْوَى على تحقِيقِها، ويُحْسِن أدَاءَها، إذا خرَج مِن رمضان قَوِيَ عَمَلُه على ما يُصلِحُ القلب، وعلى الارتقاءِ في صلاحِه، على ما يُصلحُ الأسْرةَ وعلى الارتقاءِ في صلاحِهم، على ما يُقِيمُ به الأمْرَ كما ينبغي، على نَفْعِ العِباد، على كَسْبِ الحلالِ بالوَسائِل. ومنها الوسائِل الكُبرى التي يَخْتَصُّ أربابُ المراتِب العُلى بالنَّصيبِ الأوْفى منها؛ كَوَسِيلَةِ التَّقوى، وسيلةِ الإخلاص في طلَبِ العِلم، وسيلةِ الجِهادِ في سبيلِ الله.
ووسائل تَعُم البَرَّ والفاجِرَ: زِراعَة، صِناعَة، تِجارَة، أخْذ وعَطَاء، وسائِل تَعُم البّر والفاجر، ولكنَّ المؤمنَ يُقِيمُهَا وهي له مقصَدٌ في هذه الحياة، لكن بِنُورَانِيَّةِ المنهاجِ الرَّبَّاني، وعلى النِّظامِ الإلهي، ولا تَغُرَّنَّهُ أنْظِمَةُ اشْتِراكيَّة ولا رَأْس مالِيَّة، وأيُّ اسْمٍ كان قبْلَهُم، أو أيّ اسْمٍ يَحْدُث فيما بعد؛ مِن أنظمةِ كَسْبِ الأموالِ، أو السَّعيِ في تحصيلِ الأرْزَاق.
كُّل نِظَامٍ قامَ على خِلافِ مَنْهجِ اللهِ فلا يُرْبِح على حَقِيقة، ولا يَنْجَحُ على حقيقة، ولا يُصْلِحُ على حقيقة، لا والله؛ لا يحلُّ المشاكلَ الواقعةَ بين الناس في شئونِهم المالية والمادية النظامُ الاشتراكي ولا الرأسُمالي، واسَألُوهُم مِن حين ما قَوَّموا هذه الأساسات في القَرْن الذي مضى قبلكُم ونشرُوها في العالم، وتصارعُوا على العالَم مِن أجلِ ثرواتِ العالَم، ومِن أجلِ مادَّةِ العالَم، وكُلٌّ يُمَنِّي أتباعَهُ بأنَّهُ الذي يضمنُ لهم الرخاءَ والاستقرارَ والطمأنينةَ.. ماذا حصَّلُوا؟!.
واعرِضُوا صفحةَ مائةِ عام؛ إلى أين وصلوا؟!، وماذا حقَّقوا، ومالهم يُجدِّدون المشاكلَ بعد مُرورِ مائةِ سنةٍ مِن أجلِ هذا الحطام!؟؛ بالحروبِ، وبالاعتداء، ما هذا الفَشَل؟!، ما هذا الخَطَل؟!، ما هذا الخَبَل؟!، ويَجِيء المسلم عاده يريدُ يتَّبعهم!!؛ نظامُ ربِّك نزَل مِن السماء، بلَّغَهُ محمَّد، قوِّم به مالَك ومعاملتَك الماليةَ والاقتصادية.. تَفُزْ بخيرِ الدنيا والآخرة.
وإلا ففشلُ القوم، وسوءُ مآلهم، وسوءُ الحالِ الذي هم فيه؛ مالهم لم يغتنُوا؟!، وبعد ذلك هل تراجعُوا أو لم يتراجعوا عن نظرياتٍ وضعُوها وأُسُسٍ أسَّسُوها في هذا الجانب وهذا الجانب، تراجعوا!، أقرُّوا بالفَشلِ فيها.. أهُم مَتبوعُون؟!، أَهُم قدوةٌ؟!، أين الله؟!، أين المكوِّنُ، أين معنَى الرسالة.
ما مقصدُك يا أيها المؤمنُ في الحياة؟!، بمَن تقتدِي، بمَن تهتدي؛ تريد تُغيِّب مِن منهجِ قُدوتِك في الحياة صاحبَ الرسالة وخاتَمِها؟!، سيِّدَ الأنبياء ومُقدَّمهم؟!، صاحبَ لواء الحَمْد يوم القيامة؟!، وتضع قُدَّامَه أو بدلَه نصراني؟!.. أو يهودي!.. أو مُلْحِد؟!، مَن أنت إذاً؟!؛ لا والله لا أنت بالمؤمن، وبالمتحقِّق بحقائقِ الإيمان، ابحَث عن دينٍ صحيح، ابحث عن تقويمِ دينك كما ينبغي.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ..}؛ يعني يقصر نظر الرحمن ومنهاج رسوله ويجيب نظام ثاني أحسن!، {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والعياذ بالله تبارك وتعالى، قبلها بآية يقول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا..}، هذا المظهر، هذه الصورة ما تكفي؛ مَن قدوَتُك في الحياة؟!، إلى مَن تَنتمي في باطنِك؟، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }؛ الله قال مهما قالوا آمنا وأطعنا قال ربي في شهادتِه عليهم: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.
هل تسمع؟! أو فاسمَع وأسْمِعْها مَن في صُلْبِك؛ فدعوةُ محمد بَلَغَت، وما قَصَّر في الأداء؛ لِيَحمِلَ اللواءَ يوم القيامة، وليُقْطَعَ كلُّ من لم يسْتَجِب له إلى ظُلُماتِ النيران ووَقودها، وليَظْفَر ويفوز مَن أطاعَه بالدخول تحتَ لواءِ الحمد؛ حتى الأنبياء.. حتى الرسل الأصفياء تحتَ لوائه، ويا ربِّ اجعلنا تحت لوائه، وأهلينا كلُّهم، وأولادنا كلُّهم، وأصحابنا كلهم، ونشهد أنَّ حبيبك بلَّغ، وأدَّى الأمانة، ونصَحَ الأمة، وكشَفَ الغُمَّة، وجلَا الظُّلْمَة، وصوتُ ندائه يُجَلْجِلُ في أسماعِ قلوبِنا وقلوبِ كلِّ مَن يَسمع، إلى أنْ تَرِثَ الأرضَ ومَن عليها وأنت خيرُ الوارثين؛{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا }، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }.
إنْ كان خَلَق جُزءاً من الأرضِ غيرُ الله اذهبُوا بنا إلى نظامِه لنأخُذَ في الجزء الذي خلقَه نظامَه؛ الأرضُ كلُّها خلْقُه وإيجادهُ، لِمَ نطلبُ أنظمةَ غيره؟!، لِمَ نطلبُ تراتيبَ سِوَاه، لا خلقونا ولا خلقُوا الأرضَ والسَّماء، مَنِ الذي ركزَهم آلهةً يُعارضونَ منهجَ السَّماء بأفكارِهم، يُعارضون منهجَ الرَّبِّ الأعلى بعقولِهم القاصِرة ثم نتبعُهم نحن وأبناؤنا وبناتُنا!.
يا خَزْوَتاه على أهلِ الإسلام، يا حَيْرةَ العقلِ ممَّن يشهدُ أن لا إله إلا الله ثم يَسْقُط في عينِ قلبِه ربُّه ونبيُّه ويتَّبع: فاسقاً.. فاسداً.. مجرماً مِن حطب جهنم، إنْ خلَقُوا شيئاً مِن الأرض فليُرونا إياه، ففِيه نأتي ونتَّبع نظامَهم حيث خلقُوا، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}.
يا مُفَكِّرين في العالم: أنتم شركاءُ في السماءِ الأولى أو الثانية أو الثالثة؟!، أين مَحَلُّكم، هاتوا لي شِبْراً من الأرض أنتم خلقتمُوه، أحْسِنوا الفِكْرَ واخضعُوا لمَن خلقَكم وخلقَ السماءَ والأرض، واستجيبُوا لندائه، ولبُّوا دعوةَ خاتمِ أنبيائه؛ فما لنا إلا هو، وراءه.. وراءه، فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهدى.
دعانا إلى حَقٍّ بِحَقٍ مُنَزَّلٍ ** عليه مِن الرَّحمن أفضلَ دعوةِ
أجَبْنا قَبِلْنا مُذْعِنينَ لأمْرِهِ ** سمِعنا أطعنا عن هُدىً وبصيرةِ
فيا ربِّ ثَبِّتنا على الحقِّ والهدى ** ويا رب اقبضنا على خيرِ مِلَّةِ
ويتوسَّطُ المقاصدَ مقصدان، ما أعظمَ قوةَ اتصالهِما بالمقاصدِ الكبرى العُليا الغاية والأساس والمقاصدِ الفرعيةِ الأخرى: (إيمان، وعمل صالح)، المقصدانِ الوَسَط، قَوِيِّي الاتصال بالرِّضا.. بالمحبة.. بالمعرفة.. بالقُرب، قويِّي الاتصال ببقية الأعمال الأخرى؛ ولهذا كرَّرها ربك وسَطَ الكتاب: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ.. }، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. }.
فهذا مقصدُك الوسط؛ إيمانٌ يَقْوَى ويزْدَاد ويرْسَخُ ويَعْمُقُ فيك، وعملٌ صالحٌ تستقيمُ عليه، تَنْتَهِجُ فيه، تَعْمُر به عُمْرَك.
واعْمُر بأوراد العِبادة عُمرَك ** الفاني وساعاتِ الزمان الْـمُزْمَعِ
قوِّ المقاصِد، ولْتَكُن علامةَ قبولِك في رمضان، وخروجك بالخير مِن الرحمن، والصِّلة القَوِيَّة بالكريم المنَّان.
وما جاء رمضان إلا لِيُطَهِّر عن الذنوب والأدْرَان، وعن كلِّ معاني الضَّعفِ في الإيمانِ والإيقان، ولِتَقْوَى الصِّلةُ، ولِنَرْتَبِط بالسِّلسِلة، ولِنُؤَدي الدَّورَ في الحياةِ كما يرضاه مَن خَلَق الحياةَ جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
يا ربِّ انظُر إلى الأمة، وأرِنا آثارَ قبولهِم، وأرِنا آثارَ توفيقِكَ إياهم، وأرِنا آثارَ رمضانَ فيما بعدَ رمضان، في السِّرِّ والإعْلان، يا كريمُ يا منَّان: جعلتَ الخيرَ خزائن، وجعلتَ للخزائنِ مفاتيح، وطُوبى لعبدٍ جعلتَهُ مِفتاحاً للخيرِ مِغْلاقاً للشَّر، وويلٌ لعَبدٍ جعلتَهُ مِغْلاقاً للخير مفتاحاً للشر، وويلٌ ثم ويلٌ لمَن قال: لمَ وكيف.
نحن عبيدُك؛ لا لمَ ولا كيف أمامَك، آمنَّا بك وبما جاءَ عنك، وسلَّمْنا لأمْرِك؛ فاجعلنا مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، لا تجعَل في ديارنا أحَداً إلا مفتاحاً للخير مِغْلاقاً للشر، لا تجعل فينا وفي مَن يَسْمُعنا أحَداً إلا مفتاحاً للخير ومِغْلاقاً للشَّر، يا كريمُ يا بَر، فيما بَطَن وما ظَهَر، واجعل تبعيِّتَنا لحبيبِك الأنوَر، وصفيِّك الأطهَر، خيرِ البشر، سيدِنا محمد صلى اللهُ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبِه ومَن سارَ في منهجهِ الأقْوَم الأنوَر، ثبِّتنا على دَرْبِه، واسْقِنا مِن شُرْبِه، املأ قلوبنا بِحُبِّه.
يا رب، اجتَمعنا في أوائل اجتماعاتِنا التي بَسَطْتَ لنا موائدَها بعد ما مَرَّ علينا الموسمُ الكريم فابسُط لنا بساطَ الجودِ والتكريم، والفضلِ العظيم، واقبَلنا يا رحيم، وأقِم عاداتِنا وعباداتِنا على ما يُرضيكَ يا كريم، وعلى النَّهْجِ القويم، والصراطِ المستقيم، طَهِّرنا عنِ التَّبعِيَّة لأهلِ الفساد، والشَّرِّ والنَّكاد، والكُفر والعِناد، واجعل تبعيَّتَنا لك في تبعيِّةِ رسولِك، وتبعيِّةِ صحابتِه، وتبعيةِ أهل بيتِه، وتبعيَّةِ الأنبياء والمرسلين والعبادِ الصالحين الصادقين المنيبِين يا ربَّ العالمين.
قَوِّمِ المقاصِدَ فينا، وأصْلِح ظواهِرَنا وخوافينا، وبِحَقِّك عليك لا تَرُّدُّ بالخَيْبَةِ أيادِينا؛ فما توجَّهَت إليك إلا بإفضالِك، وبتوفيقِك، وبرأفتِك، وبرحمتِك، وبجودِك، وبإحسانِك، ولولا ذلك ما قدَرَت هذه الأيدي أنْ تَمْتَدَّ إليك، وكم خَذَلْتَ مِن يدٍ مُدَّت إلى من سِواك، وأكرمتَ مِن يَدٍ تعلَّقت بِعطاك، وتوجَّهت إليك، فقد مدَدْنا أيديَنا بالذُّل مُبْتَهلين إليك يا خيرَ مَن مُدَّت إليه يدُ
فلا تَرُدّنها يا ربِّ خائبةً؛ فَبَحْرُ جُودِك يَرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ
لَبِسْتُ ثوبَ الرجاء والناس قد رقدوا..
واستطال رُقَادُهم العميقُ في رجاءِ الدنيا وما فيها وأهليها ومؤسَّساتها ورجاءِ غيرِك.
لَبِسْتُ ثوبَ الرجاء والناسُ قد رقدُوا ** وبِتُّ أشكو إلى مولاي ما أجِدُ
وقلتُ يا أمَلِي في كُلِّ نائِبَةٍ ** ومَن عليه لِكَشْفِ الضُّرِّ أعْتَمِدُ
أشكو إليكَ أموراً أنتَ تعلَمُها ** ما لي على حَمْلِها صَبْرٌ ولا جَلَدُ
وقد مَدَدْتُ يدي بالذُّلِّ مُفْتَقِراً ** إليكَ يا خيرَ مَن مُدَّت إليه يَدُ
فلا تَرُدَّنَّها يا ربِّ خائِبَةً ** فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوِي كُلَّ مَن يَرِدُ
بِوَجَاهَةِ حبيبِك الـمُقَرَّب، وأهلِ المقامِ الأعلى الأطْيَبِ، ثَبِّتْنا على ما تُحِبُّه يا رب يا رب، وأسْعِدنا بالسَّعادةِ الكُبرى في الدنيا وفي الـمُنْقَلَب، يا الله.. يالله.
ولا تجعلْه آخِرَ العَهْدِ مِن رمضان، وأعِدْنا إلى أمثالهِ في صَلاحٍ لأهلِ الإسْلامِ والإيمان، ودَفعٍ لكَيدِ النَّفْسِ والهوَى والشَّيْطان، ومَن قَضَيْتَ أجَلَهُ خلالَ العامِ مِن أهلِ الإسلام فاختِم لهم بالحُسْنى، وثبِّتهم على حُسْنِ المقاصِد عند لقائِك، وارزُقنا وإياهم رضوانَك، ولا تقطَعْنا عن ذلك بشيء مِن تَوَافِهِ القَوَاطع السُّفْلِيات، يا مُجيبَ الدعوات.
نستودعُك ما آتيتَنا مِن الإسلام فاحفَظه علينا، وارزُقنا فيه الزِّيادة، ونستودعُك ما آتيتَنا من الإيمان فاحفَظه علينا، وارزُقنا فيه الزِّيادة، ونستودعُك ما آتيتَنا من العافية فاحفَظها علينا، وارزُقنا فيها الزِّيادة، ونستودعُك كلَّ ما تكرَّمتَ وتفضَّلتَ به علينا في ظاهرٍ أو باطنٍ فاحفَظها علينا، وارزُقنا فيها الزِّيادة.
ونستكفيكَ كلَّ شَرٍّ وهَمٍّ وغَمٍّ وضُرٍّ ظاهرٍ أو باطنٍ في الدنيا والآخرةِ، فادفع عنا جميعَ الأضرار، والشرور والآفات وكلَّ مَحْذُورٍ في الدنيا والآخرة، يا ربَّ الدنيا والآخرة، يا مالِكَ الدنيا والآخرة، يا خالِقَ الدنيا والآخرة، يا مُتَصَرِّفاً في الدنيا والآخرة، يا إلهَ الدنيا وإلهَ الآخرة، يا مَن بيدهِ الأمورُ الباطنةُ والظاهرة، لا إلهَ إلا أنتَ، سبحانَك إني كنتُ من الظالمين، فَنَجِّنا وأحبابَنا مِن كُلِّ غَمٍّ في الدُّنيا ويومَ القيامة، وأكْرِمْنا بما أنتَ أهْلُه، وأعلى الكرامةِ يا أرحم الراحمين.
وصلِّ وسلِّم على المصطفى وآله وصحبِه، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
12 شوّال 1440