(535)
(339)
(364)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 4 ربيع الثاني 1447هـ، بعنوان:
الغايات والنهايات الكبرى للعالم بخلود المكلفين في إحدى الدارين ومجالي تفضُّل الخلاق بإرسال المرسلين
الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام، والذي جعل في البقاء والدوام من أسرار ما كان في الأزل والابتداء؛ تجليَّاتٍ ومِنَحاً وعطايا تستمر في الخلائق؛ جوداً من كرم الخالق، وتنتهي الغايات إلى ما كَتَبَ من إبقاء وإدامة الدارين: الجنة والنار، وكل منهما ملأى من الإنس والجن المكلفين.
يُقال لكل داخل إلى جنة الله -جعلنا الله وإياكم من أهلها ومن السابقين إليها ومن يُدخلهم إياها بغير حساب يا رب الأرباب-، يُقال لكل داخل: "إن لكم أن تحيوا فيها فلا تموتوا أبداً، وأن تَشِبُّوا فلا تَهرموا أبداً، وأن تَصِحُّوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تَنعموا فلا تبأسوا أبداً"،
وفي الدار الأخرى (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود:106]، ويُقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]، ويُقال: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:8-11]، نعوذ بالله من غضب الله!
هذه النهايات الكبرى كل ما فيها مُرتَّب على ما كان خلال هذا العمر القصير الذي نحياه على ظهر الأرض.
وفي هذا العمر القصير، تكرَّم العليِّ الكبير بإنزال الكتب، والإيحاء إلى النبيين واصطفائهم، وقيامهم بتبليغ المكلفين من الإنس والجن؛ بشارة ونذارة، إلى أن جاء الخاتَم، الكامل، الأشرف، الأنظف، الأطهر، الأنور، الأسعد، الأمجد.. محمد، فكان تجلِّي الله على الأرض ومن فيها وعلى الإنس والجن وسواهم من سائر الكائنات؛ تجلياً أعظم بالمِنَن والمواهب والرحمات، له الحمد له المنّة.
ومن هنا ظهر في الأمة الأكابر والأخيار والصالحون الأطهار الأبرار، المؤثِرون لله على كل ما سواه؛ بسر ما آثرهم سبحانه، وقدَّمهم على من سواهم، واختصهم بخصائص ومِنَن منه.
ثم لا تبق في هذه السلسلة نورانية ربانية محمدية في شرق الأرض وغربها؛ إلا وهناك حبال اتصال بها من خلال هذه السلسلة المباركة الطيبة، -وإن تسلسل الأمر فيهم أباً عن جد- فلهم مع أهل أعصارهم وأزمانهم وبني عمومتهم وبقية خيار الأمة اتصالات اقتضتها الوراثة لمحمد، وألزمتهم بها النيابة عن أحمد، والحملُ لسِرِّه..
هم الحاملون السر بعد نبيهم ** ووُرَّاثه أكرم بها من وراثةِ
عليهم رضوان من الله، فكانوا أهل رحمةٍ للعالمين، وأهل شفقةٍ بالخلق أجمعين، وأهل إرادةٍ لبثِّ الخير ونشر الهدى فيما خفي وفيما بدا.
وكان من المتصلين بهذا الأصل المباشر لنا جماعة ممن فقدناهم: حبيبنا علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ، حبيبنا سالم بن عبد الله الشاطري، حبيبنا عبد الله بن محمد بن علوي بن شهاب الدين، وجماعة من أقرانهم. وكان من جملة أقران الحبيب سالم الشاطري والحبيب المشهور: حبيبنا عبد القادر بن سالم بن علوي الخرد، أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جناته. وكان حاضراً معنا أيام افتتاح هذه الدار، وله فيها القصيدة وتخميسها: أشرقت أنوار دار المصطفى، وتمنى تمنيات أن يكون دار للنساء فقامت دار الزهراء، وتمنى أمنيات أن يأتي الأجيال ويأتي الناس وحقق الله كل تلك الأمنيات.
وكان استقاؤه من سر المجالسة لمن أدركهم من شيبان الوادي وأئمته؛ كالحبيب علوي بن عبد الله بن شهاب الدين، وله الأخذ التام عن سيدي الوالد عليهم رحمة الله، ومن في طبقتهم من نجوم وبدور أكابر..
منهم مَن قضى نحبه وهو في الدعوة إلى الله تعالى وفي القيام بالتبليغ، كحبيبنا محمد بن علوي بن شهاب الدين عليه رحمة الله تبارك وتعالى:
عبر الحياة مضى للنُّصحِ مُحتَضِنًا *** لا تعتريه مشقَّاتٌ ولا مَلَلُ
حتى قضى النَّحْبَ يدعو الناس مُحتَسِبًا *** في حضرة الصدقِ من للخالقِ اِمتَثلُوا
أَكرِم بِذَا مِن خِتَامٍ فيه مَفْخَرَةٌ *** وفيه رجوى وفيه القصدُ والأملُ
عليه رضوان الله تبارك وتعالى
قضى الحياة بأعمالٍ مًنَزَّهَةٍ *** يبدو على ظهره من عِبئها ثِقَلُ
خوفًا لمولاه لا في سمعة ورياء *** فبينه والرياء البِيدُ والقُلَلُ
تقرأ سطوراً من الأنوار بيِّنَةً *** في قَامَةٍ قد كساها النُّبلُ والوَجَلُ
إذا نظرتَ إليه في مهابته *** ترى مثالاً لأسلافٍ له رحلوا
قد سار سيرتهم واختطَّ خطتهم *** كذاك كان إلى أن جاءه الأجلُ
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى..
وكم من أقرانٍ نُعَدِّد ممن اِنْصَبَّ نظرهم على هذه المسالك، وهذه الدعوات، وهذه التوجهات، وهذه الخدمة للقرآن والسنة، وللمصطفى محمد، وشريعته، ومنهاجه، ومِلَّتِه، وآل بيته وعترته، وصحابته، وأهل خلافته ولعموم أُمَّتِه.
والمتقون رجاله وحضوره *** …
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55].
في مقعدِ الصِّدقِ الذي قد أشرقت *** أنواره بالعِنْدِ يا لَكَ مِن سَنَا
والمتقون رجاله وحضوره *** يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربنا
يا ربِّ واجعل فيهم حبيبنا عبد القادر بن سالم بن علوي الخَرِد، وبوّئه المنازل العُلا والدرجات الكبيرة في الحظيرة القدسية وفي مقعد الصدق مع الصدِّيقين، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
انصبغ بصبغة العلم وصبغة الوجهة إلى الله، وصبغة السند المُتلَقَّى، فتكوَّنت عنده معارف ولطائف، أمره شيخنا الحبيب عبد القادر بن أحمد السقاف في آخر عمره عندما ضَعُفَ وصار يجلس في البيت أن يقيم الدرس للناس في جدة في بيته في ليلة كل اثنين، ودام لمدة سنوات، وفيه المنافع، مشيراً إلى أنه ممن حمل من النور ما يجب أن يُستفاد منه وما يجب أن يَبلُغ الخلق، وكلَّفه بذلك وقام به -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، وكان مشاركاً بوجهته ونيته وأدبه وحضوره وعلمه وشعره ونثره -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-، كما كان والده حبيبنا سالم بن علوي، وكان جده الحبيب علوي من أولياء الله، ومن أرباب السلوك القوي القويم على الصراط المستقيم؛ بالقلب السليم، والوعي والفهم لما أوحى الله ولما تلقى رسوله وتلقاه عنه أصفياء الله والصالحون من عباد الله.
وهي بضائع لا يمكن أن يَقرُبَ من قدرها وثمنها جميع ما في الشرق والغرب، مما يَغتَرُّ به الناس، ويلهو به الناس، ويُعظِّمه الناس، ثم يعود إلى حقيقته: لا شيء (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) [النور:39]. لا يُكرِم إلا أهل تقواه، ولا يُكرم إلا أهل الصدق معه، ويُخذل كل من سواهم ويُهينهم (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
وفي هذه الأيام فقدنا السيد عبد الرحمن بن حسن بن أحمد الجفري -أعلى الله درجاته-، ممن صبغهم الله بصبغة اتصال بأهل هذا المنوال والنصيب من هذا الإرث والتركة لمولى بلالٍ ﷺ، واتصل، وأقبل، وأجرى الله على يديه ما أجرى من الخير، الله يُعلي لهم الدرجات ويجمعنا بهم في أعلى الجنات.
وقبله فقدنا الحبيب محمد البكري بن محسن الحامد بن الشيخ أبي بكر بن سالم -أعلى الله درجاتهم-، وعدد ممن فقدناهم في الوقت القريب. الله يجعل جمعنا بهم في الدرجات العُلا، وعلى حوض النبي المورود، وتحت لواء الحمد، وفي ظل العرش، وفي الفردوس الأعلى.
فيَا ربِّ واجمعنا وأحبابًا لنا *** في دارك الفردوس في أطيَبِ مَوْضِعِ
وجميع ما آتيتهم وتفضَّلت به عليهم من المساعي الخيرات والأعمال الصالحات.. تقبلَّها منهم، وزدهم من فضلك ما أنت أهله، وبارك لنا في أولادهم، بارك لنا في أحفادهم وأسباطهم، بارك لنا في قراباتهم. وأمتعنا ببقية من في زمننا من أهل النور وأهل العلم وأهل الخشية وأهل الذوق، وأهل الاتصال بهذه السيرة؛ التي بالاتصال بها يُدرك السِّر ويُقرَب من الإله البر -جل جلاله- ويُتَّصل بالحبيب الأطهر ﷺ.
أمتعنا الله بالبقيَّة، وكثَّر فينا أرباب العلوم والفهوم والصدق مع الحي القيوم، عرباً وعجماً، ينشرهم الله في شرق الأرض وغربها؛ يحيي بهم حقائق الاتصال به وبرسوله، ويُظهر بهم دينه في المشارق والمغارب.
يا من يصطفي من يشاء لإظهار دينه ونشر سنة أمينه: اجعلنا فيمن تصطفيهم واجعلنا فيمن ترتضيهم لهذه العطايا الكبيرة يا أرحم الراحمين.
وكما مننتَ بجعل هذه المراكز محلُّ عقدٍ لألوية الدلالة عليك والدعوة إليك والانخراط في السِّلْك الذي يجري في خير فُلْك؛ نسألك اللهم أن تُتِمَّ النعمة علينا وعلى الحاضرين والسامعين، وأن تجمعنا بأحبابنا هؤلاء في دار الكرامة، وأن تبارك في الأهلين والأولاد والذرية لنا أجمعين، ولا تجعل فيهم محروماً ولا مطروداً ولا مقطوعاً عن هذا الرَّكب المبارك؛ حتى تجمع الكل في دار الكرامة ومستقر الرحمة..
فيَا ربِّ واجمعنا وأحباباً لنا *** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلاً وإحساناً ومناً منك *** يا ذا الجود والفضل الأتم الأوسعِ
يا أرحم الراحمين، الله يجعلها ساعة إجابة ويجعل الدعوات مستجابة، ويُمطِر على ساحات قلوبنا من صيّب فضلِه سحابة؛ نرقى بها مراقي الإنابة، وندخل في أهل الاستجابة، ونُكرَم من الرَّبِّ -سبحانه وتعالى- بما هو أهله، ويُذيقنا لذَّة وصله، ويُعاملنا بفضله، ويجعلنا عنده من أهل الفضل العظيم..
فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحق والهدى *** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وعُمَّ أصولًا والفروع برحمةٍ *** وأهلاً وأصحاباً وكل قرابةِ
وسائر أهل الدين من كل مسلمٍ *** أقام لك التوحيد من غير ريبةِ
وصلِّ وسلم دائم الدهر سرمداً *** على خير مبعوث إلى خير أمةِ
محمدٍ المخصوص منك بفضلك *** العظيم وإنزال الكتاب والحكمة
والحمدلله رب العالمين.
03 ربيع الثاني 1447