الحياة بالاستجابة لهادي الطريق
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
الحمدُ لله الذي أكرمنا بهذه المِنَح، والحمدُ لله الذي لهُ الجودُ وهو أكرَمُ مَن فَتَحْ. وصلى الله وسلَّم وبارك وكرَّمَ على الموحَى إليه بقول ربه ﴿ألم نشرح﴾. فلم يُشرَح صدرٌ كما شُرِحَ صدرُ الحبيب، وقد حظَيَت الأمةُ بنصيبٍ وافرٍ من شرْح الصدور، لمُقْتَفيه في الأمور، والمستنير بذلك النور على ممرِّ العصور، بما لم تحظَ به الأممُ قبلنا، فاللهم اشرَحْ صدورَنا، ويسِّرْ أمُورَنا، وارفَع لنا الذِّكر بمن رفعْتَ ذكرَه، واحمِلْ عنا الوِزر بمن حملت عنه وِزْرَه، ووضعتَ عنه وِزرَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّم، يا أكرم الأكرمين.
وإذ قد طُرِح بين أيديكم معاني نداءات من باريكم جلَّ جلالُه، تجلَّت في تعاليم هاديكم. فهو الهادي ونعم الهادي. وما أحوجَنا إلى أن نُدْرِك مشاعرَ ومفاهيمَ وأحساسيسَ قولِ سيِّدِنا الصدِّيق وهو يمشي معه في الطريق إلى المدينة المنورة، فإذا سأله أحدٌ " من هذا الذي معك يا أبا بكر؟ " قال " هادٍ يهديني الطريق ." هادٍ يهديني الطريق. ولقد قال ربُّكم جلَّ جلالُه ﴿ ولكل قوم هاد ﴾ ولقد قال ربكم جلَّ جلالُه لخيرِ العباد ﴿ وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم، صراطِ الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ﴾ فلا يضرُّكم أحدٌ ممن في الأرض، يقول لكم عندي ما ليس عندكم، عندي ما ليس عند هاديكم، عندي ما ليس عند معلِّمكم، قل له كذَبْتَ. إن كان لك خيرٌ اهتديتَ إلى هادينا فهداك إلى بارينا، فصلُحَ حالُك في الدارين، وإلا فنحن نعيش معك عيشةَ من يعتقد أنك ميِّت فُرضت علينا رحمتُه ورجاء أن يحيى قبل أن يموت موتَةَ الأبد.
فلا حيَّ إلا من حيِيَ بحياة نداءِ نبيِّنا محمد، الهادي إلى الحي القيوم. يقولُ مولاكم جلَّ جلالُه ﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم ﴾ وقال جلَّ جلالُه ﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينَّه حياة طيبة ﴾ ومَن عدا هؤلاء فهم أمواتٌ قُبِرَت أرواحُهم في أجسادٍ قادَها إبليسُ وجندُه وهُمْ في الدنيا، قبل أن تُقبَر أجسادُهم أيضاً على تراب الأرض. قُبِروا فأجسادُهم قبل القبور قبور. إنما الحيُّ من حييَ بحياةِ الاستجابة لنداء الحيِّ الذي لا يموت، جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، وما عدا ذلك من أنواع الحياة، فإنها حياةٌ محصورةٌ قاصرةٌ قليلةٌ فانيةٌ لا شأنَ لها، ولا مكانةَ لها، ولكن مَن حيِيَ قلبُه بحبِّ ربه، وحُبِّ رسولِ ربه، ومضى في العُمر القصير بمنهاجِ مِن العليِّ الكبير يستنيرُ بنورِ السميع البصير واللطيفِ الخبير جلَّ جلالُه، وعلى هدي مُصطفاهُ يسير، فهو صاحب الحياة. فإن مات لم يكن الموتُ له إلا بشارات تُنثَر لا حدَّ لها، ولم يكن الموت بالنسبة له إلا رفعةٌ لا ضَعَة بعدها، ولم يكنِ الموتُ بالنسبة له إلا انكشافُ ستاراتٍ عن جمال الحق يَسْعدُ بمطالعته بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر على قلب بشر. وما كان الموتُ بالنسبة له إلا جمعٌ مع الأحبة في أرفعِ رتبة. فيحِقُّ أن يقول ما قال بلالٌ عند الوفاة : " واطرَباه، واطَرباه. غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه ." واطرباه. وجديرٌ أن ينالها مَن صَدَقَ مع الله، واستضاء بنور الله، وأخلص لله في خلال هذه الحياة واقتفى محمداً واتبعَ هُداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم. فنِعْم الهادي هو.
إننا نتعامل مع موتى القلوب تعامُلَ الرحمة، وتعامل الرثاء، وتعامُل الاستعانة بشؤون الدنيا على حياةِ القلوب، راجين من الله الثبات، وراجين من الله أن يحفَظَ قلوبنا من أن تموت، وأن يحفظها من أن تُظلم وأن تتكدر وتتلطخ بأوساخ الذنوب والمعاصي والإعراض عن الله تعالى. فكم من قلبٍ عند الموتِ أَعْرَض، فأعرضَ الله عنه فمن له بعد ذلك ؟ من له من ساعة الموت إلى ما لا نهاية، إلى الأبد، من له ؟ من له إن أعرض القدُّوْس عنه ُ ؟ من له إن أعرضَ الحي القيوم عنه ؟ من له إن أعرض صاحبُ الأمر في حُكْم القيامة عنه ؟ من له إن أعرضَ جبارُ السماوات والأرض عنه ؟ من له إن أعرض إلهُهُ الذي خَلَقَهُ عنه ؟ أقبِل بوجهك علينا، وارزقنا صدق الإقبال عليك.
خذوا نصيبكم لتحيوا الحياة الطيبة، ويحيى بها أهلُكم وأولادكم وانطلقوا بصدق. وانطلقوا بالإخلاص في عِمارة هذه الأعمار وهذه الأيام والليال، ولا ينبغي أن يَشْغَلَكُم ما يفنى عما لا يفنى، ولا ينبغي أن يشغلكم ما لا يدوم عما يدوم. فأحسِنوا الميزان في المعاملة مع القريب والبعيد، واعلموا أن الله تَعَبََدكُم بعمارِة هذه الأرض، ظاهراً وباطنا، بمنهاجه سبحانه وتعالى، الذي فيه التعامُل مع مختَلَفِ عباد الله جلَّ جلالُه، لكن بميزان قويم، وصراط مستقيم، وقلْبٍ سليم، ومعارفَ لأسرارِ الوحيِ العظيم، من الله العظيم، إلى النبي العظيم، بهذا الدين العظيم، والمنهج العظيم الذي برز في حلة الواقع المُشاهَد في هذه الحياة، بِسِرِّ ﴿ وإنك لعلى خُلُق عظيم ﴾. من سر هذا الخلق.
أرأيتم أخاكم هذا صهيب – طالب بدار المصطفى أسلم حديثا- من بريطانيا، يذكر حديث " وددت لو رأينا إخواننا " ويذكُر خيار سلف الأمة كأمثال الماضين من هؤلاء الأخيار، فيقول " سَلَفُنَا " وقد صدق، فمن يوم آمن فهم سلفُه. من يوم دخل الإسلام، الفقيه مِن سَلَفِه، والمهاجر من سلفه، وصلحاء أهل البيت الطاهر والصحابة الأكابر وأخيار هذه الأمة من سلفه. هم سلَفُ من آمن. هم سلف من صدَّق، ويا ما أقرب من الحياة الحقيقية القلوبُ التي تتعشَّق إرثَ النبوة وسُلوك مسالك الفتوة من شرق الأرض وغربها، إلا إن هذه أغلى البضائع، جاءتنا من عند جميل الصنائع، حملها إلينا أكرمُ مُشَفَّع وأول شافع، فاعلَمُوا قدْر الفضل من المتفضل، والطَّوْل من المُتَطَوِّل، وسيروا خلف هذا النور المبين.
هو النور المبين به اهتدينا **** هو الداعي إلى أقوى سبيل
اللهم ثبِّتنا على دربِه، واسقِنا من شُربه، واجعلنا من أهل حبِّه، بأسرار ذلك التعلُّق والإيمان والتصديق بما جاء به، نجتمع مع إخواننا، ونتوارد في هذا المورد، من البلد ومن خارج البلد، ومن الوفود التي تَفِد، فبارك الله فيمن حضر معنا، في ليلتنا وفي من يسمعنا، سمعتم المتابعات القلبية ووراء الأجهزة من شرق الأرض وغربها، ليقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولا، ليحيى من حيَّ عن بيِّنة ويهلك من هلك عن بينة. كثير يُتابعون مثل ذي الساعة، وصَبَّاب المطر يصبُّ على قلوبهم، هذا في شرق وهذا في غرب.
وأهل الجمع لا تحرم أحد منهم يا رب. أهل الجمع ومن يسمعنا لا تحرم أحداً منهم يارب، مَطْرَة من سحائب الإفضال يستقيمون بها على أحسن الأحوال إلى يوم المآل، فينظُرُ الجميع يوم القيامة إلى الوجه المُتلال، لا يُقطَع أحدٌ عن الحوض الزُّلال، حتى نَرِدَ الموارد العُلى مع خِيار الملا، إلى دار الكرامة يا جزيل النوال، يا واسع الإفضال، لا تصرِف منا أحداً إلا وقلبُه عليك مجموع ودعاؤه عندك مسموع، وعملُه إليك مرفوع، وقلبُه بأسرار الصدق معك مودوعة فيه يا من يُحسنُ الودائع، يا ربَّنا كُن لنا بما أنت أهلُه، يا جميل الصنائع، يا ربَّنا اكشِف عن الأمة كل غمة، أصلح يمننا وشامنا وبلاد المسلمين، وادفع البلاء عن أهلِ لا إله إلا الله أجمعين، اختم لنا بالحسنى واليقين، واجعلنا من أنفعِ الخلق للخلق ظاهراً وباطنا، يا قويُّ يا متين، يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
(( للإستماع ))
(( للمشاهدة ))
27 صفَر 1433