(536)
(228)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مُكرِمنا بأكرم داعٍ إليه، وخير دالٍ عليه، بحبيبه الصفيِّ صاحب الإسراء والمعراج، وهو النور وهو السراج، وهو الذي يسلم المجيب والملبِّي له مِن كل زيغ واعوجاج، صلِّ يارب وسلِّم على داعينا لأقوم منهاج، حبيبك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغرِّ الميامين، وآبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويُدخِل الله معهم وفيهم، في كل زمان من بهم اقتدى وبهديهم اهتدى، ومفتاح ذلك توبتُه إلى عالم ما خفي وما بدا، وإقلاعه عما لا يرضاه منه مولاه، في فعلِه وقوله ونيّته ووجهته وقصدِه، حتى يتطهَّر تطهُّرا، ويتنقى تنقيا، ويتصفى تصفية من آثار الذنوب والمعاصي والآثام، فما أوسع باب التوبة المفتوح، ليتحول به العاصي إلى مسامَحٍ وإلى معطى وإلى ممنوح، صفح عنه الرب الصفوح، حتى إذا شاء بدَّل سيئاته حسنات، وأكرمَه بواسع العطيّات، فيا خيبةَ مَن أغفل الدخول من هذا الباب، ومرَّ به العمرُ يوماً بعد يومٍ وهو مغرورٌ بالسراب، محرومٌ أن يدخلَ دوائرَ الأطياب، وأن يشربَ معهم حالي الشراب، الذي يسقيه اللهُ تعالى أولي الألباب من كل من خشع وخضع وأناب، وللدعوة استجاب، واستقام على ما يحبه ربه منه من الأقوال والأفعال والخصال والحِلية والأوصاف والآداب، وكلها مجموعةٌ في رسول الله، الأوصاف المحبوبة لله، أكملُها وأعظمُها وأتمّها وهي على التمام في خير الأنام، الخلال المحبوبة لله، النوايا المحبوبة لله، الوجهات المحبوبة لله، مجموعة في حبيب الله، في محمد بن عبدالله، رزقنا الله حسنَ متابعته.
وفي هذه الخلّة الكريمة، خلّة التوبة، هذه توبة من؟ إلى الرحمن، توبة الأطهر، توبة الأصفى الأنور، توبة السيد الأكبر، توبة محمد بن عبد الله، الطُّهر الطاهر، يتوب في تلك المنازل الرفيعة، يقول وقد رآه بعض الصالحين وكان قرأ حديثه، (إنه ليُغان على قلبي مرة)، فلما رآه قال "يا رسول الله قلت إنه ليغان على قلبي فأتوب إليه الله وأستغفر الله في اليوم 70 مرة، قال (ذاك غين أنوار، لا غين أغيار يا موفق)، هذا غين الأنوار: غين تزاحم الانوار في الدرجات الكبار وارتقاؤه من مقام إلى مقام، فما تمر لحظة على نبينا إلا ورقّاه الله، إلا وأعلاه الله ، حتى يكون كل مستقبله خير مما مضى (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، فهو سيد التائبين، سيد التوابين، شرع لنا التوبة ونحن أحقّ وأحوج أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى، فيارب بسيد التائبين اقبل صغار التائبين هؤلاء، الذين يرجون منك حقيقة التوبة، في شهر سماه صالحوا الأمة شهر التوبة، شهر رجب، شهر الاستغفار وجاء في حديث المصطفى ( فأكثروا فيه من الاستغفار)، ربنا اغفر لنا وتب علينا، يا خير التوابين.
وبتحقيق التوبة تتهيأ للدخول إلى الميادين الواسعة الرحبة، ميادين جود الله تعالى ووهبه، حتى ترافقَ الأحبة، فما أعظم شان التوبة، لكل طالبٍ لها بحق وصدق، وإنما تصدق وتتحقق بطلبِها على قدر معرفتِك بمن تتوب إليه، من تتوب إليه، من تتوب إليه، هذا العظيم، هذا المكوّن، هذا البارئ الخالق، هذا الذي هو أعلم بك مِن نفسك، في خلوتِك وفي جلوتك، وأعلم بسرِّك منك، هذا الذي بيده ملكوتُ كل شيء، هذا الذي هو خالق كل شيء، هذا الذي إليه يرجع الأمرُ كله، هو الله، رب العرش العظيم، المحيط بك، الآخِذ بناصيتك، الذي إليه مرجعُك ومآلُك ومصيرُك وعليه حسابُك، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)، على قدرِ ما تعرفُ من عظمة هذا الإله، تصدق في التوبة إلى الله، وتتحقق بالتوبة إلى الله، حتى يصير أصغرُ الذنوب عندك أخطر من نارٍ محرقة ومياهٍ مغرقة، وسمومٍ قاتلة، فتأنف من الذنوب، وتأنف مما يخلُّ بالأدب مع علّام الغيوب، جل جلاله.
ادخل هذه الميادين، تب إلى رب العالمين، فإنه ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) دائماً وفي مثل هذا الشهر خصوصاً، يتوب على كفار من الكفر إلى الإسلام، على أهل كبائر من المسلمين، فيتركون كبائرَ الذنوب التي اقتحموها، وعلى أهل صغائر فيتركون الصغائر التي كانوا يزاولونها وينطلقون فيها، ويتوب على خُلَّص من المؤمنين من الشبهات فلا يقربونها، من المكروهات فلا يأتونها، ويتوب على أخلص منهم من جميع الغفلات وفضول المباحات فلا يضيِّعون فيها أعمارهم ولا أفكارهم ولا هممَهم ولا أنظارهم، فيغلُو عندهم النظر والسمع والفكر أن يُصرف إلى الفضول الذي لا قربَ فيه، لا زيادة محبة فيه، لا زيادة يقين فيه، لا زيادة نور فيه، هل أشغل سمعي وبصري ووقتي وعمري بما لا يزيد به يقيني؟ ولا قربي من ربي؟ ولا معرفتي بإلهي؟ يعُدُّ هذا خبل، وخطل، وزلل، فيتوب الله عليهم، يتوب الله عليهم من فضول المباحات، وخلّص الخُلّص لا يزالون يتوبون من شهود غير الحق في لحظاتهم وأنفاسهم، ولا يزالون كلما انفتح لها باب شهود، انفتح لهم ما هو أوسع منه فهم تائبون أبداً.
إذا علمت ذلك لا تؤخر خطواتِك، وأنت صاحب صغائر وربما صاحب كبائر، لا تؤخر خطواتك، الحق بالركب، ادخل مع هذا الحزب حزب ربك، الذين أنابوا إليه، الذين خافوا المآل والرجوع إليه، وتهيؤوا للوقوف بين يديه، ما صار أحدهم يشك في ساعة يُقال له فيها "أين فلان ابن فلان، ليقم فلان بن فلان للعرض على الله، على قدر ما تعرف من عظمة ربي وربك ورب كل شيء تصدق في التوبة وتتحقق بالتوبة، وتتعمّق في معنى التوبة، فخذ نصيبَك مادمتَ في هذه الليالي، وهذا الشهر وهذه المواطن، وتحت هذه الرايات رايات الفضل الإلهي، التي عُقدت نحضرها معكم ضيوف لمولاها، ضيوف لمن نشرها وقام بها، نترقب منه عظيمَ النفحات وجزيل الهبات وكريمَ النظرات، ونحط أحمالَنا ببابه لائذين باعتابه، ونشعر بعظيم منَّته علينا بذلك، وننظر إلى قلوب ابتليت في الدنيا باللجوء إلى غيره والاعتماد على غيره، وطرح الأحمال على غيره، فإذا مات أحدُهم على ذلك ندم ندامة أبد، وخسر خسران أبد والعياذ بالله تبارك وتعالى، وإذا حضرت مثل ذي المحاضر حيث يطرح الحمول على الرب الوصول، من باب سيدنا الرسول، فتوجه بالصدق واحضر مع الحاضرين بحق، وأنِب إلى الله، واحمد الذي دعاك وأوصلك وسط هذه الدوائر، وجعلك فيها حاضر ذلك العزيز الفاطر، ويا كم من متراخ متأخر إذا انكشف له الحجاب ورأى يوم المآب آثار ما كان فيها من رب الأرباب من تجلٍ وإعطاء ثواب، تحسر وندم أنه سار إليها وترك كل شيء من أجلها، ولكن الله جعلنا في دار ستارة، مخفية عنا الحقائق حتى ينكشف الغطاء بالموت، إلا لأهل اليقين.. اللهم ألحقنا بهم.
وأما غيرهم فيقال له بعد الموت (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ* وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) حاضر، (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ* قَالَ قَرِينُهُ) الذي كان يشغله في الدنيا، ويطغيه ويأخذ به إلى معاصي باريه، وهو يحتج عليه يقول هذا الذي أطغاني وهذا الذي وسوس لي، وهذا الذي أوقعني في الذنب (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ* قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) محمد أرسلته، وقبله مئات من المرسلين، ألوف من النبيين، وكتب أنزلتها وبلاغ وصلكم (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ)، ظننتم أن دورَ حبيبي الذي قام به في الليالي، تقطر عيناه من خشيتي ورحمةً بكم يدعوني لكم عبث؟ ظننتم أن قيامه بهذه الأدوار بلاغاً للرسالة وهجرة من بلده مكة وغزوة بعد غزوة وجوعاً يربط به الحجر على بطنه، عبث أو لعب؟ قد قدمت إليكم بالوعيد، (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)، يُدخل بعث النار منا بني آدم في كل ألف 999 إلى النار، وواحد إلى الجنة، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ).
ولكن، هؤلاء الذين أنابوا وصدقوا وتابوا (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) رجاع إلى الله، أول الشهر له رجعة، وسط الشهر له رجعة، آخر الشهر له رجعة، كل محضر يحضره من محاضر الخير له أوبة إلى ربه، له رجعة إلى ربه، مما كان فيه إلى ما هو أحسن، إلى ما هو أجمل، ولذا كان يقول بعض العارفين من دعا وذكر الله وحضر حضرة، قال أخذت شي من الطرائف والتحف؟ فإن حضرة ما يدخلها أحد إلا ناله العطاء، فإذا قال لا ما حصلت شيء يقول له أنت ما دخلت الحضرة انت ما ذكرت أصلا، لو دخلت لأدركت لنالك العطاء، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، لهم أوبة إلى الله، (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) حفظ الأمانة، حفظ العين، حفظ العين، يا أهل الإسلام على ظهر الأرض نرجو لعيونكم أن ترى الطلعة الغراء في يوم القيامة فلا تلطخوها ولا توسخوها ولا تحرموها هذا العطاء، بتتبع هذه الصور الخبيثة في جوالات في انترنت في تلفزيونات في مجلات، تضيعون ماذا مقابل ماذا؟ ماذا تحصلون؟ ماذا تكسبون؟ ماذا تجدون؟ احفظوا العيون، احفظوا الأمانة، إن عيونكم أمانة من عند صانعها ومكوِّنها، لم تصنعها لكم مصانع دول ولا أحزاب ولا هيئات ولا إنس ولا جنّ، (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
شاكر نعمة العين يغضُّها عن كل ما حرم الله، لا ينظر إلى العورات، لا ينظر إلى الصور المحرمات، لا ينظر إلى مسلم بعين احتقار، لا ينظر إلى شيء من زخارف الدنيا بعين تعظيم، معصية! معصية تعظّم حقير عند الله، تنظر إلى شيء من الدنيا بعين تعظيم، فتكون من العصاة بعينك الذين كفروا نعمة الله في العين، أعطاك العين لتنظر بها إلى الدنيا بأنها حقيرة كما حقّرها، وتنظر بها إلى عظمة الكتاب، تنظر إلى القرآن بتعظيم، تنظر إلى محمد، وآثاره بتعظيم، آثاره ممدودة، هذا القرآن جاءك عن طريقه والصلاة هذه جاءتك عن طريقه، والمساجد هذه قامت به، هذه آثاره بيننا، علمه، أخباره وأخلاقه ووراثته وخلافته وورثته وخلفاءه، كلها آثاره قدامك انظر إلى محمد بعين التعظيم، فإنه العظيم عند العظيم، خلقه عظيم، ودينه عظيم، ومنهجه عظيم، وقلبه عظيم، وشانه عظيم، حبيب العظيم، ما عظّم العظيم كمحمد، يارب صلّ عليه.
ما نسيت ليلة الإسراء؟ ومن الإمام فيها؟ ومن المقدَّم فيها؟ ومن المُكرم فيها؟ ومن المعظَّم فيها؟ وأرباب العظمة عند الله من أنبيائه وملائكته، صلوا مأمومين، ووقفوا تحت رجل سيد المرسلين، وعلا فوق الكلّ، وارتفع فوق الكلّ، وصعد فوق الكلّ، وخاطبه الرب بما لم يعلمه أحدٌ من أهل السماوات ولا أهل الأرضين، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)، ما أوحى، ماحد يعرف، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) بسر هذا الفؤاد الذي رأى نسألك أن تنظر إلى أفئدتنا وتمكِّنها في التوبة، حتى يكون لها نصيبٌ من أسرار رؤيته في ما أذنت للأفئدة الطاهرة، أن ترى من أنوار عظمتك وعظمته، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فالفلاح مرتب على التقوى لابد من التوبة، وأساس الوصول إلى الفلاح (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وانظروا ما عظّم الله من شانها، حتى قال (لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ)، هذا الأطهر والأزكى (وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)، دخَّلهم معه وأعطاهم ذي العطايا لماذا؟ قال (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) بذلوا الثمن، وإن كان بالنسبة للعطاء قليل ويسير ولكنه شديد على النفوس وعظيم عند الله بقبوله صار عظيم، ما هو عظيم بالخلق، لكن عظيم بقبول الحق، (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، نِعْم الرؤوف الرحيم، وكذلك يكون بنا رؤوف رحيم فلنتب كما تابوا، ولنهتدِ بهديهم.
ذهب سيدنا أبو لبابة يربط نفسه في سارية من سواري المسجد لما رأى أنه عصى وخالف.. بماذا!؟ إفشاء سر من أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان حلفاؤه اليهود من بني قريظة قالوا نشاوره فأرسلوه إليهم، فلما جاء إليهم وكلموه وقالوا له "ترى ننزل على حكمه؟" قال "هل لكم غير ذلك؟"، قالوا: ماذا تتوقع حكمه إذا نزلنا عليه؟"، فأشار بيده يعني الذبح، أنتم مستحقين هذا، ثم رأى أنه تكلم بكلام لم يُؤذن له فيه، فرآها معصية، ثم خرج من عندهم، اشتغل فكرُه قال كيف انا اتصرف هذا التصرف من دون إذن من رسول الله، أنا اجترأت على الله ورسوله، راح نادم تائب إلى المسجد وربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وقال لا تفكوني حتى يفكني رسول الله ويتوب الله عليّ، النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش هناك منتظر .. فأخبروه أن أبا لبابة في المسجد مربوط بسارية، قالوا يا رسول الله إنه أشار هكذا بيديه إلى اليهود فعدّ ذلك خيانة وعدّ ذلك ذنباً فربط نفسه تائباً يقول لا أفك حتى تطلقه أنت، قال (اما إنه لو جاء إليّ فاستغفرت له أما وقد فعل ذلك اتركوه مكانه اتركوه في محله حتى يقضي الله به ما شاء) بقي مربوط في اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، موكل به من يفكه من شان الصلاة، وقضاء الحاجة ويرجع محله، يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد حتى نزلت آية التوبة عليه، نزلت توبته في الليل، فأخبر صلى الله عليه وسلم بعض من حواليه فخرجوا مباشرة يبشرون سيدنا أبا لبابة، وإلى عند السارية ليفكوه قال لا، دعوا رسول الله يفكني، هو الذي دلني على ربي، وعلمني كيف التوبة، وقبل ربي بسببه توبتي، هو اللي يفكني صلى الله عليه وسلم، فقال اتركوني مكاني، فخرج صلى الله عليه وسلم وقت الصبح وأبو لبابة مكانه قال (أما قد تاب الله عليك ، بشره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكما قال لمن أنزل حقهم التوبة (أبشر بخير يوم مر عليك في عمرك قط) كل عمره، خير يوم وهو يوم التوبة يوم تاب الله سبحانه وتعالى عليه، وأطلق سيدنا أبا لبابة.
انظروا كيف طلب التوبة، وكم أشرنا إشارات ولمحنا لمحات وحركنا حركات، ولا ربطنا أنفسنا بسواري ولا بغيرها، ولا حسينا بواجب رجوعنا وواجب أدبنا وواجب خضوعنا للرب، فالله ينظر إلينا نظرة يكرمنا بها بتوبة من توباته، نتوب إليه توبة نصوحا، يزكينا بها قلباً وجسماً وروحاً.
وتخلف ثلاثة من المؤمنين في وقت تخلَّف فيه عدد من المنافقين فانظر، انظر وزن الأمور بالميزان، لا تحسب أنه من سار وراء غيّه ومشتهيات نفسه أنه نجا، هذا الهالك، تخلفوا ، ثم جاؤوا يعتذرون كذب، قبِل بظواهرهم ووكَل سرائرهم إلى الله.. وويل لهم، لكن ثلاثة مؤمنين تخلفوا عن غزوة تبوك لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء النبي أقرُّوا بين يديه وانكبوا عليه وقالوا "ما لنا عذر، خلَّفتنا نفوسنا وعجزنا وكسلنا تخلفنا عنك من غير عذر، ادعُ الله لنا يتوب علينا"، قال (قم حتى يقضي الله فيك ما يشاء) الاول والثاني والثالث، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، انظر يطلبون التوبة وأول يوم وثاني يوم، قال (لا يكلمهم أحد، لا يخاطبهم ولا يعاملهم أحد) يمشون في الشوارع بين الناس، لا أحد يسلم عليهم ولا أحد يرد السلام عليهم يمشون، يتعجبون قال "أدخل إلى المسجد فأسلّم.. وأنظر إلى شفتي رسول الله أرد السلام علي أم لا" أجعل أسارقه النظر، فجعلت إذا نظرت إليه حوَّل وجهه عني، صلى الله عليه وسلم، اشتد الأمر عليهم، أيام أرسل لأهلهم لا يقربونكم، وأقاموا إلى خمسين ليلة، مقام التوبة، شان التوبة خمسين ليلة! هذا هو الصدق في التوبة، وبعد خمسين ليلة نزلت الآية (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، جل جلاله وتعالى في علاه.
وأتبعَها بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)، هؤلاء الصادقين، توبوا كما يتوب هؤلاء، اطلبوا التوبة إليَّ بصدق، ولو كلَّفتكم ما كلفتكم، تأملوا تعب القوم أمامكم من أجل تتحقق لهم توبتي، (اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) والصادقين مع مَن جاء بالصدق، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ).
يقول سيدنا كعب بن مالك، بينما أنا أمشي في السوق ما يكلمنا أحد، وإذا برجل نبطي جاء من الخارج وحامل رسالة، ويسأل عني، أين كعب بن مالك؟ يشيرون عليه يقولون له هذاك، جاء إليّ وأعطاني الرسالة وإذا بها رسالة جاءت من كبير من ملوك الأرض، لكن الصحابة لما دخل الإيمان في قلوبهم عرفوا الملك الأكبر، فما يقيمون وزن لملوك الأرض، من حيث ملكهم، يرثونهم ويحبون إنقاذهم من النار إلى الجنة، هذا شان المؤمن في نظره إلى ملوك الأرض، ملك كبير من ملوك الأرض يراسله، ملك الروم أو ملك فارس فيقول له "بلغنا أن صاحبك قد قلاك لك فهلمّ إلينا نواسيك ونكرمك وأنت عندنا بمكان"، شوف ذا العرض، في مجتمع ما حد يكلمه فيه، متعَب، منهك قال هذا من البلاء، فتيممت بها فسجرت بها التنّور، أخذ الكتاب ووضعهه وسط التنور، حرقه، شفت القلب كيف؟ هذا هم الذين آثروا الله وآثروا رسوله، وما أغرتهم إغراءات كبار ملوك الأرض في الشرق ولا في الغرب، اليوم واحد ينقلب في أسرع الأوقات بعروض خفيفة.. يا مقلب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك.
هذا شان التوبة مع التائبين عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ)، يارب تابوا إذ تبت عليهم ونحن عبيدك بين يديك، نخشى من عذابك وعقابك بسيئاتنا وذنوبنا، ما ظهر منها وما بطن، وما علمنا وما لم نعلم، وأيقنَّا أنه ليس لها غيرك، ولا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك، فبحقِّ مَن تُبتَ عليهم إلى سيدهم الأكبر تُب علينا يا تواب، تب علينا يا تواب، تُب على من يسمعنا، تب على مَن في ديارنا، تُب على أهلينا وأولادنا، تُب على أصحابنا وطلابنا، تُب على جيراننا وأهل وِدادنا، تب علينا وعلى المؤمنين والمؤمنات توبةً نصوحا، توبةً نصوحا، توبةً نصوحا، تزكينا بها قلباً وجسماً وروحا، نستغفر اللهَ ذا الجلال والإكرام من جميع الذنوب والآثام، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، لنا ولوالدينا وأهلينا وذوي الحقوق علينا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، من جميع الذنوب والمعاصي والآثام، بيننا وبين الله، وبيننا وبين عباد الله تقبّل يا تواب، وافتح لنا الباب.
إلهي لا تصرف مِن جَمعِنا أحداً إلا تُبت عليه، أدخِله باب التوبة من ليلته ولا يخرج من ميادينها إلى أن يلقاك يا الله، يا الله، يا الله، مهما مضى من أعمار كل واحدٍ منا، ثم لم يتحقق بالتوبة ومن نال رتبةً في التحقق بها فهذه أيدي الافتقار إليك يا غنيّ وأيدي الضعف إليك يا قوي، وأيدي الذلّة إليك يا عزيز، أن تكرم كل واحد منا بتحقيق التوبة ورفع رتبة، يا الله، يا الله، يا سميع، يا مجيب، يا قريب، يا رب العرش، يا مطَّلعاً علينا،
يا محيطاً بنا، يا عالماً بسرائرنا، يا مطلعاً على ضمائرنا، يا ناظراً إلى خفايانا، يا من استوى عنده السرُّ والعلانية، يا مولانا، يا رجاءنا، يا غوثنا، يا ملاذنا، يا ملجأنا، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا خالقَنا، يا مُوجدَنا، يا فاطرَنا، يا منشئنا، يا مَن أوجدتَنا من العدم، يا مَن واليتَ علينا النّعم، يا ربَّ الجود والكرم، يا الله، يا الله، يا الله، توبةً نصوحا، توبة نصوحا، توبة نصوحا، تزكينا بها قلباً وجسماً وروحا، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا الله، يا الله، يا الله.
في ديارنا كثيرٌ مما يُحتاج من التوبة إليك، يا رب نظرة إلى منازلنا ومَن فيها وما فيها يا الله، لا تجعل فيها ما ينزل عليه لعنة ولا غضب، ولا يحيق بأهله مكرٌ ولا صخب، ولا استدراجٌ ولا طرد، اجعلها بيوتَ القرآن، اجعلها بيوتَ التوبة، واجعلها بيوتَ الذكر، واجعلها بيوتَ الشكر، واجعلها بيوتَ حسن العبادة، فيها آثارُ حبيبك محمد، اعمر ديارَنا بآثار حبيبك محمد، من قرآن وصلاة وتوبة وإنابة وتقوى وآداب وأخلاق وذكر لك وأدب معك يا حيّ يا قيّوم، طهِّر ديارَنا عن آثار أعدائه، طهِّر ديارنا عن آثار أعدائه، طهِّر ديارَنا عن آثار أعدائه، لا تحلّ فيها برامجُهم، ولا أفكارُهم، ولا مخططاتُهم، ولا أسلحةُ غيِّهم وضلالهم، يا الله، اعمر الديار، وطهِّرها يا أكرم الأكرمين، واعمر القلوب، وطهِّرها يا رب العالمين، ونوِّر القبور، ووسِّعها لنا يا أرحم الراحمين، يا الله.
صلِّ على سيد التوّابين، واجعلنا من التوّابين، واجعلنا من المتطهرين، واجعلنا من عبادك الصالحين، آمين..
يا توّاب تب علينا، يا توّاب تب علينا، وارحمنا وانظر إلينا، وارحمنا وانظر إلينا.
09 رَجب 1435