(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة مكتوبة للحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 20 ذو القعدة 1436هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: الاستجابة لنداء الله أساس كشف الضر في الحياة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله مُنادينا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، وعند التأخُّر في الاستجابة لأمرِ الله ولرسوله، والانحطاطِ الذي به يُعصى الحقُّ ويُستخفُّ بأمرِه وبمنهاجِه، ويخالَف شرعُه، وينتشر ذلك (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
ولكم في صور الحياة وفي صفحاتها ما تتذكرون به إنعامَ هذا المُنعِم الذي يجب ألا تغفلوا عنه، ولا تُعرضوا عنه، ولا تتولَّوا عن أمره جل جلاله، (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فقومُوا بحقِّ الأمانة في هذه الحياة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) اختبار وامتحان ( وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فمن اتقى اللهَ صار مالُه وولدُه قُربةً إلى الله، صار مالُه محلَّ إنفاق، وولده محلَّ تربية أخلاق، فقَرُب من الخلاق.. ومَن ضيَّع ذلك خسر في الفتنة وضاع عليه الربحُ والخير، وهلك مع الهالكين، (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ). اللهم ألحِقنا بهم. أدركُوا عظمة من خلقهم وسيَّروا ما بأيديهم في مرضاته، جل جلاله وتعالى في علاه.
بذلك كله، يجب أن ننظر إلى أحوالنا في استجابتها لدعوة الله ورسوله، لنتجنَّب ما أمَرنا اللهُ أن نجتنبَه لنحيا في هذه الحياة على استجابةٍ لأمرِ الله جل جلاله وتعالى في علاه، حتى لا يسود في واقع الفرد منا مناهج حكومات ولا شركات ولا مؤسسات ولا أحزاب على منهج الله، يكون منهجُ الله هو السائد، منهج الله هو المنفَّذ هو المطبّق، لا ما يُمليه علينا الأصدقاء ولا الأصحاب ولا الأحزاب ولا الهيئات ولا الدول.. من هم؟ ليس فيهم من خلقنا، هذا منهج خالقنا، وليس مرجعنا إلى أحد منهم، إليه مرجعُنا جل جلاله، فينبّئُنا بما كنا نعمل، ماذا اخترنا لأنفسنا في ضمن هذه الحياة مِن أخلاق، مِن معاملات، مِن مقابلات، مِن تنفيذ وتطبيق لأمرِ الحق سبحانه وتعالى، أو اغترار بما يُنشر من هنا ومن هناك، حتى تكون أموالنا وأولادنا محلَّ اتجارٍ مع الله، محلَّ عملٍ بطاعة الله جل جلاله، (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) وهكذا أثنى اللهُ على أهل هذه الدرجة، أهل الوعي وأهل هذا الإدراك والثقافة من المؤمنين قال سبحانه وتعالى ( رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ).
فما إدراكنا حقائق السعادة إلا أن نعيش متواصين بالحق وبالصبر، منفِّذين أمر الله بيننا ننتزع من بيننا الأوصاف السيئة، ننتزع من بيننا المرادات الساقطة، ننتزع من بيننا الذنوب والمعاصي في العيون وفي الألسن وفي الآذان وفي البطون وفي الفروج وفي الأيدي والأرجل ونسيِّرها في ما شرع لنا مُعطينا إياها، خالقها لنا، جل جلاله وتعالى في علاه، وبذلك نربح وبذلك نفوز، وهي البضاعة وهي دخولك في عُملة لا يمكن أن تنقص ولا أن تهبط ولا أن تسقط أبدَ الآبدين، وليس ذلك لشيء من العملات الأخرى، كلما تعلمونه من العملات عملات دول منقضية زائلة، فلابد أن تزول وأن تنقضي، هذه العملات، الدولار واليورو والريال والدرهم والجنيه، لابد أن تزول، نعم والله، لابد أن تسقط نعم كلها، بلا استثناء، كلها تسقط، كلها تهبط، كلها تصبح لا قيمة لها، تبقى عملة ملك الملوك، الحي الدائم، ما هي؟ الحسنات والسيئات، هذه عملة دولة رب العرش، دولة رب العالمين، هذه العملة فيها الحسنات والسيئات، فانظر كيف تربح وانظر كيف تكسب بعينك وبقلبك وبجوارحك، من الحسنات التي لها الوزنُ، وعند ذلك تنصب الموازين لهذه العملة، (من كانت عنده لأخيه مظلمة فليستحلَّه اليوم قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات)، (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).
وكم ممن يجد غير ذلك في ذاك اليوم وهم أكثر من على ظهر الأرض، إلا من رحم الله، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) اتخذت مع النبي محمد سبيل، أين السبيل؟ هذه العلوم هذه المجالس، هذه التوبة هذه الإنابة، هذا الذكر لله، هذه النيّات التي تكتسبها في ذي المجالس وتقوم بها بأمر ربك جل جلاله، (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا) تعرف فلان هذا إيش هو؟ فلان هو ذا هو، يقع صاحب يقه هيئة يقع مؤسسة يقع شركة، يقع وزارة يقع وزراء يقع رؤساء (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا) إيش وصف ذا فلان الذي يُتبرَّأ منه يوم القيامة؟ ويُتمنى أنه ما عرف وصفه (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي) كل من يضلك عن القرآن، كل من يضلك عن أوامر الله، هو هذا الذي تتمنى أنك ما عرفته يوم القيامة، (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) اخذل عنا عدوَّك المخذول، يا رب العالمين ولا تمكِّنه أن يخذلنا عن طاعتك، ولا أن يوقعنا في معصيتك، اللهم اقسِم لنا من خشيتِك ما تحولُ به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتَك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا في سبيلك ما أحييتنا، واجعله الوارث منا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبذلك تتحقق النجاة وغير أولئك هم الخاسرون (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، ونضع هذا، يسمونه مشروع على حد تعبيرهم، نضع هذا المشروع لكل عاقل في الأرض لإصلاح البلدان ، لدفع الفتن، للخروج مِن مآزقِ الصراعِ المرير، الذي جلب للأمة تمزُّقاً، تفرقاً، هدماً، هلاكاً، وباءً، وبالاً، وكلما هدأ حالٌ في أي مكان من الأمكنة، إن لم يقم على صلة بهذا النور فما هو إلا كبانٍ يبني على موجِ البحر أو كمثل العنكبوت اتَّخذت بيتا، (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا).
يا صغير يا كبير، يا شعب يا فرد، يا مؤسسات يا أحزاب يا حكومات، مهما اعتمدتُم واستندتم لشيء غير الله كائناً ما كان، تظنون أن يؤمِّنكم أو يصلحكم أو يعمركم، مع استمراركم على الاستخفاف بأمر الجبار فأنتم وهو هالكون، ولن تكون النجاة، إن أعجبتكم سنة، فستُبكيكم سنة أخرى، حتى تتصلوا بمالك الأرض ومالك السماء، مَن بيده أمر الملوك الكفار والمسلمين، مَن بيده أمرُ المقبلين والمدبرين، (ما مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا).
ومهما طلبتم سعادة في الدنيا قبل الآخرة، مع إصرار على مخالفته فلن تجدوها ولن تستطيعَ دول الأرض من دون استثناء أن تجلبَها لكم، (يا غلام إني أعلِّمك كلمات، احفظ اللهَ يحفظك، احفظ اللهَ تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصُّحف)، الذي يحدث على ظهر الأرض على مستوى الفرد والجماعة والشعوب والدول قد جفّت به الأقلام، رُسِم، اليوم تتعجب بعض العقول التي تقول الاحداث الفلانية، قد رسمت لها خطة قبل عشر سنين قبل عشرين سنة، اسمع، ساعطيك خبر أكبر من هذا، وهذا الذي رسموه منه ما يقع ومنه ما لا يقع، ومنه ما يتقدم ويتأخر، لكن كل ما هو كائن ويكون رُسم قبل خلقك وخلق السماوات والأرض، ولا ينقص، بدقَّة، ولا ينقص منه شيء ولا يزيد منه شيء، الله أكبر، قال صلى الله عليه وسلم: فما من شيء هو كائن إلى يوم القيامة إلا أمر اللهُ القلمَ أن يكتبه في اللوح. وبذا يقول أهل العقل: في اللوح ما فيه.
ولما تعجّبَ بعضُ الأنبياء من ظلم بعض المالكات ملكت بعض الأرض وكان من غير شك في سلسلة حكم الله في الوجود، أن يكون لذلك أسباب من مخالفة أناس لأمر الله، وقامت تظلم بين الناس، قال يارب هذه، قال إني خلقتها وخلقتُ لها أياماً، تظلم فيها فابتعد من أمامها حتى تمرَّ أيامُها، أي افهم الحكمة في أسرار قدَري وقضائي، وقم بما أمرتُك أن تقوم به من اجتهاد أو جهاد أو تعليم، لكن لا تظن أنك تغير حكمتي في البريّة ولا أن تُصادم أقداري، فما يقدر على مصادمتها أحد ولا على ردِّها أحد جل جلاله وتعالى في علاه، يقول ربي سبحانه وتعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، ، فكان إذا قرأ الآية بعض العارفين، قال اللهم إنك إن بلوتَنا فضحتَنا، فاستُرنا بسترك الجميل، وعاملنا بفضلك الجزيل (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) شريطة واحدة في سبيل الله، إيش في سبيل الله الدوافع والإرادة صادقة مخلصة لله، على نور من الشرع، في سبيل الله، مَن في سبيل الله؟ (يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، أيهم في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)، هذا وحده، خرج عن الأغراض كلها التي تدعو الناسَ إلى التصارع، وأراد فقط أن يرحم العباد بمنهج ربِّ العباد ليعلي كلمةَ الله بين الخلق. وهذا المقصود من العلم، يقول صلى الله عليه وسلم في ما صح من حديثه، (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليُحيي به الإسلام)، هذا المقصود من طلب العلم، (ليحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة)، في مراتب الصديقيّة الكبرى خلف النبيين مباشرة، من كانت نيته في طلب العلم أن يحيي به الإسلام، أن يحيي به الإسلام.
وليُحيِين الله دينه مهما تكاثرت الفتن والمحن هنا أو هناك، بما كُتب أيضاً في اللوح، وبما أُقر من قبل المقدر الجبار جل جلاله وتعالى في علاه، فيا فوز المقبلين على ربهم، الذين يؤثرونه على ما سواه وعلى أنفسهم ويتهذبون من أجله، ويتأدبون من أجله جل جلاله، ويستعدون في الحياة القصيرة للقائه، سبحانه وتعالى، جعل الله الحياة زيادةً لنا في كل خير، جعل الله الموت راحةً لنا من كل شر، غمرَ مجمعَنا بجمعية القلوب عليه، ياربي (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
يتوافد هذه الأيام المؤمنون إلى بيتك الحرام، ومشاعرك العِظام ودار نبيك عليه الصلاة والسلام، وكم بينهم في أحوالهم أفرداً وأُسر، وشعوباً وحكومات ما يناقض حقيقة الاقبال عليك والوجهة إليك، فنسألك أن تقبل الوافدين وأن تبعد هذا التناقض إلى إقامة الأمر كما تحب حتى تكشفَ هذه الغُمم، كم من مأسور منهم مأخوذة رقبته لفاجر أو كافر، خلِّص رقاب المسلمين، أنقِذ رقاب المسلمين، حرِّر قلوبَهم وحرِّر أراوحهم لتتحرر رقابهم ولتتحرر بلادهم، ولتتحرر ثرواتُهم الظاهرة والباطنة من يد عدوك، فإن في سُنتك أن لا يتسلط عدوُّك عليهم حتى يخونوا أمانتَك، وحتى يخالفوا أمرك، فإذا صدقوا معك سخَّرت لهم كل عدو، وسخَّرتَ لهم ما في الأرض والسماء.
وهكذا سمعتم في ما حملت إلينا أخبار الصحابة والتابعين، أن ملكاً من أهل الكتاب، كان في الصين وله جنود كثيرة، استغاث به ملك الروم، يقول عجباً لهؤلاء القوم، كلما واجهناهم من هم؟ أتباع محمد، أصولهم عرب، لا فقه عندهم في حرب، ولا قوة ولا عدد ولا عدة ولا خبرة، واليوم لا نواجههم في موقف إلا غلبونا، فأمدَّني بجيش، كتب إليه يقول له: قبل أن أمدَّك بجيش أرسِل مِن عيونك – يعني جواسيسك- بينهم من يرفع خبرَ عملهم في اليوم والليلة، ماذا يعمل هؤلاء!؟ وجاءت الأخبار قالوا ليلهم ما بين قارئ يقرأ الكتاب الذي نزل عليهم ومصلي يصلي وداعي وباكي يبكي هذا أكثرهم، يأخذون قسطاً من النوم، في وقت من الأوقات وباقي الليل هكذا هم في النهار قال يتعلمون الشرع الذي جابه نبيهم، ويخدم بعضهم بعض، ويستمعون لصلواتهم كتبه إليه قال هذا خبر التجسس على القوم، كتب إليه أنا مستعد أن أمدك بجيش يكون أوله عندك وآخره عندي ولكن من هذا عملهم لو اعترضتهم البحارُ الزاخرة والجبال الراسية لأبادها اللهُ دونهم، فنصيحتي لك أن تُدخِل بينهم مَن يشغلُهم عن هذه الأعمال، يشغلهم بأعمال أخرى، يتنافسون فيها على الفانيات ويتركون هذه الأوامر، التي جاء بها نبيهم، فإن فعلت ذلك تسترد ملكك منهم، أنت أو أحد أحفادك من بعدك ما تنحرف، وكان فاقه، رجل فاقه من خلال الكتب المنزلة، فكتب إليه، وصله الكتاب، قال ما داموا بهذا الوصف لا ولا أنت نقدر عليهم، يمدهم الحق جل جلاله، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)، وهكذا والذي يقول كيف هذا الأمر والناس لهم سنين، والآخر يقول والقرون، قل له اسمع في خلال هذه السنين والقرون، أكان هناك صوت قوي إلى اليوم يدوي في العالم ما قدر أحد يخفيه؟ هات الحقيقة، قل مبادئ الحضارات والدول تسقط من وقت لآخر وتنقلب رأساً على عقب، وتُغيّر تماماً والصوت هذا مدوي ما تغير منه شيء، أصوله هي الأصول، لم هذا؟ هذا للقوم الذين هم قلَّة من جهة العدد، صدقوا مع الواحد الأحد فبقي هذا الصوت ممتد، والذين يحاربون الإسلام بكل ما ملكوا، ما يملكون أن يمنعوا الأذان وسط بلدانهم ووسط ديارهم وتقام الصلاة هناك، هذا أمر.
والأمر الثاني أين الكثرة الكاثرة من أهل هذه الملة في استقامتهم.. ؟ أما خالفوا؟ أما عصَوا؟ أما ارتضوا بمناهج الغير المناقضة لما جاء به محمد؟ أما غيَّروا أزياءهم وسيرَهم وأخلاقهم إلى مناقضةِ ما جاء به محمد في تبعيّة هؤلاء الفجرة؟ فأي نصرٍ تريد؟ هل تريد أن يُنصر هؤلاء في مظاهر الحسّ؟ يكفيك هذا المظهر المعنويّ العجيب، بسبب أهل القلوب من بينهم بقي هذا الأمر، وسيأتي وقت تعود فيها القلوب إلى مقلِّبها، وتصدق معه من هذه الأمة، ولترينَّ ما لا يخطر على بالِك من النُّصرة الظاهرة، التي هي في مخيَّلتك مجرد النصرة هي وحدها، والأمر أكبر من ذلك قال رب الدنيا والآخرة (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) لا يغنيهم أنهم صفَّق الناس على خطابهم، هم واللي صفقوا معهم كلهم يتصفقون في النار بعدين ويتغربصون هناك، فما يفيدهم شيء، هذه العواقب الكبرى انتبه منها يا ذا الوعي ويا ذا العقل.
نظر الله إلينا وإليكم يارب اجعل مجمعنا مجمعا منظورا منك بعين عناية، إننا يارب فيه نقدم بين يديك أنفسنا وأيدينا بالتوبة عما كان منا، وننوب عن أمة حبيبك محمد، في شرق الأرض وغربها فاقبلنا يا يا من ليس لنا غيره قابل، ولا يقضي لنا سواه المطالب ولا المآمل، يا مَن بيده أمرُ العاجل والآجل، يا حي يا قيوم يا كافل، بيدِك الأمر كلُّه، آمنا بك وبما أرسلت به محمداً، مصدِّقاً لكتبك ورسلك، فقوِّ لنا الإيمان واليقين واحشرنا في زمرته يوم الدين، واجعل ما بقي مِن أعمارنا مصروفاً في اتباعه حقيقة كما تحب منا حتى حتى ننالَ محبتَك، فنحيا ونموت مع المحبوبين لك يا الله، بصادق وعد ما قلتَ (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) يا الله، اسقنا كأس (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، اخلع علينا خلع (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، انشر لنا رايات (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، وأحيِنا وتوفَّنا على ذلك، واحشرنا على ذلك يا الله، وما يقطعنا عن ذلك من أقوال وأفعال ونيات، تُبنا إليك منها فتُب علينا يا تواب، يا وهاب، يا ربَّ الأرباب، يا مسبِّب الأسباب.
نعوذ بعزتك وجلالك أن يتخلف أحدٌ ممن اجتمع معنا أو يسمعنا عن ركب حبيبك يوم القيامة نعوذ بك، ثم نعوذ بك، ونلوذ بك ونتوجه إليك أن لا تخلِّف أحداً منا يا حي يا قيوم عن ذلك الركب، وتلك الدائرة حتى نحضر معه في دار الكرامة.. يا الله، وأنتم مسعودون بندائه، فنداوا بتعظيم وإجلال، ما أعظم هذا النداء، أكف شُرِّفت ما امتدت إلى أحد من أهل الأرض ولا أهل السماء، إلا لربِّ الأرض والسماء، يا ما أعجبه من شرف، فتشرّف وقل: يا الله، بقلبٍ معظّم، بقلبٍ مكبّر، بقلبٍ صادق، بقلبٍ خاشع، بقلبٍ خاضع قل: يا الله، فإنه يسمعك، وإنه يراك، وإنه محيط بك، وإنه مطلع على خفاياك، وإنه متجلٍّ عليك في جمع كريم مبارك، فاتصل به، والجأ إليه ولُذ به وقل يا الله، أتدري حقيقة هذا الشرف؟ مَن ناديت؟ مَن دعوت؟ مَن خاطبت؟ من رجوت؟ أنت أنت؟ بقلبك وروحك وجسمك الذي كان من نطفة مذرة.. اليوم تناديه هو، وتسأله هو، ويسمعك هو، ما أعجب السعادة إذا أسعدك بهذا، اللهم حقِّق لنا الإجابة، ووفقنا لكمالِ الإنابة، وارزقنا كمال التوفيق للإصابة، وأعِذنا من الآفات والعاهات، في الظواهر والخفيات يا الله.
يا مَن ليس لنا ملجأ سواه، ولا ملاذ إلا إياه، يا مَن لا ملجأ ولا منجى لنا منه إلا إليه يا الله، اليوم ناديناك وإياهم، فلا تخزِ منا أحداً منا يوم اللقاء، لا تسوِّد وجه أحد منا يوم القيامة، ثقّل موازيننا، مُرّ بنا على الصراط، أسرع من لمح البصر، اجمعنا في دار الكرامة والنظر في زمرة صفوة مضر، خير البشر، حبيبك الأنور، وعبدك الأطهر محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم ونوّر به قلوبنا واغفر ذنوبنا واكشف كروبنا، ويا ربي واجعل من قبول الحج ظهور صلاحٍ أحوال في يمننا وشامنا، وشرقنا وغربنا، يا ربي قد كثُرت الآفاتُ والبلايا والرزايا، وقد بكى الباكي، وصاح الصايح وأنت الأعلم بما نزل والأرحم بخلقك يا من عزّ وجل، فتدارك وأغِث واقبلنا والوافدين على بيتك، وإلى رحاب نبيك واكشف هذه الغمة واجلِ هذه الظلمة، وارفع هذه النقمة، وكن لنا في كل مهمة، يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.
21 ذو القِعدة 1436