(536)
(204)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 21 ربيع الأول 1445هـ، بعنوان:
إكسير العلم وحاجة الأمة إليه وسر المعية والفضل الكبير للمؤمنين
الحمدُ لله المَلِكِ العظيم القدير العليم، الحيُّ القيوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، والذي رحم عباده وجعل في بني آدم على ظهر الأرض خلافةً غبطتهم عليها ملائكة السماوات، وجعل فيهم بروز خير البريات وسَيِّد أهل الأرض والسماوات، ذاكُم مُحمَّد بن عبد الله، ذاكم أبو البتول الزهراء، ذاكم أبو القاسم وعبد الله الطَّيِّب الطاهر وإبراهيم وأبو زينب و رقية وأم كلثوم، ذاكم ابن آمنة، ذاكم الأمين، أمينٌ في الأرض أمينٌ في السماء، ذاكم الجمال الكبير، ذاكُم البدر المنير كما سماهُ ربكم في الكتاب (..إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) [الأحزاب:45-47] اللهم حقِّقنا بِحقائق الإيمان وهَب لنا فضلك الكبير، وزِدنا من فضلك الكبير، ووَفِّر حظّنا مِن فضلك الكبير يا كبير، يا مَن لا يتعاظمهُ سؤال ولا يعظم عليه نوال، يا حيُّ يا قيُّوم يا كريم يا وال يا الله.
المؤمنون بُشِّروا بأنَّ لهم الفضل الكبير على قدر إيمانهم، والإيمان قائمٌ على ما سمعتم الإشارة إليه، وأنه مكمن حاجة جميع الخلق على ظهر الأرض، وإذا فقدوهُ فلن تُعَوِّضَهُم عنهُ ثرواتٌ ولا أسلحة ولا حضاراتٌ ولا غير ذلك، العِلم بِالحقِّ وأحكامه ليس مُجرَّد العِلم ولا مُطلق العلم؛ بل العلم المقرون بِنورِ المعرفة والخشية والإنابة والتزكية وحمل أمانة الخلافة والدعوة إلى الله، هذا وحدهُ فيه حلّ مشاكل مَن يعيش على ظهر الأرض مِن ذكرٍ وأُنثى، إنساً وجنّاً، ومِن دونه لن يحل مشاكلهم شيء كائناً ما كان، مِن كُلِّ تفكير وكل نظام وكل منهج، لأفراد وجماعات، لدول ولشعوب، لن تنحلَّ مشاكلهم على الحقيقة ولن تطمئن قلوبهم إلا بهذا العلم، على هذا الحال وعلى هذه الصورة وعلى هذا المِنوال وعلى هذه الكيفية، فما يدورُ بينكم وفي حلقاتكم وفي مجامعكم هو الإكسيرُ الذي تحتاجه الأمة في شرق الأرض وغربها لِدواءِ أنواع جروحها، بل ولإنقاذها الإنقاذ الدائم التام لجسدها ولروحها، لحياتها وما بعد حياتها.
أيها المؤمنون بالله إنما ينال الفضل الكبير مَن تحقَّق بحقائق الإيمان على قدر تحقُّقِه، والتحقُّق بحقائق الإيمان يقتضي فِقهاً في الدين وعملاً بِمُقتضاه، ويقتضي حمل الأمانةِ في نُصحِ خلق الله ودعوة عباد الله إلى الله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-، موقنين أنّنا بواسطةِ هذا النبي الأمين دُعينا وانتُخِبنا مِن قِبَل ربّ العالمين لأن نقوم بهذه المهمة في الأرض بين الخلائق أجمعين، فنعرِفُ بعض معنى ما قال ربعِي: "الله ابتعثنا" ، الله ابتعثنا! الله! "الله ابتعثنا لِنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومِن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الآخرة."
أيها المؤمنون بالله خذوا نصيبكم من الإيمان، وأبشِروا بالفضل الكبير بِنَصِّ القرآن على لسان سيد الأكوان، ولا يقطعكُم عن ذلك نفسٌ ولا هوى ولا شيطان، ولا شيءٌ من ترويجات الكفار والفُجّار وإبليس وجنده، فإنهم أقلُّ وأذل مِن أن يصدُقَ لهم وعد، وأقل وأذل مِن أن يتخلَّف وعد الله لأجل أحدٍ منهم، وإذا كان الله هو الذي يبتعثكُم على قدرِ قَبولكم لأخبار رسالة هذا المرسل الأمين خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي صرَّح بهذه المعاني في قوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغاب"، وفي قوله: "بَلِّغوا عني ولو آية"، وُدعينا من الرحمن جلّ جلاله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ال عمران :104]، فالفوز والفلاح والنجاح لهم على وجهِ الحقيقة في الدنيا ثُمّ في البرزخ ثُمّ في الآخرة، لا يساوي شيء أمام نجاحهم نجاحُ أهل الصناعات ولا نجاح أهل الطائرات ولا نجاح أهل الحضارات! (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [ال عمران :105] تفرَّقوا بالأهواء واختلفوا لأجلِ الأطماع في الحقير الفاني (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) بأهوائهِم مِن أتباعِ الأنبياء قبلنا، فرَّقتهُم الأهواء واختلفوا مِن بعد ما جاءتهم البينات فحملتهم الشهوات والمطامع في الفانيات على أن يُغَيِّروا ويُبدِّلوا كلام الله، ويُضِلّوا عباد الله تبارك وتعالى ويُكّذِّب بعضهم بعضاً (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).
أيها المؤمنون بالله حافظوا على حقائق هذا الإيمان لِتُؤدّوا به واجبكُم في مُدّةِ أعماركم المحدودة على ظهر الأرض المعدودة أنفاسها، أدُّوا واجبكم فيها واسعَوا سعي الصادق، السعي الحثيث، بِقصدِ وجه الرب جلّ جلاله اغتناماً لهذا العمر وما فيه من خزائن، خزائن جود الرحمن لِمَن أقبل، خزائن فضل الرحمن لِمَن صدق، خزائن كرم الإله الحق لِمَن أخلص لوجهه سبحانه وتعالى، فيا فوز المخلصين الصادقين المُقبلين بالكُلِّيَّة على الرَّبِّ جلّ جلاله الذين يعيشون معنا على ظهر الأرض، لا يقطع حُسن استماعهم لِنداءِ الله نداءات شرقي ولا غربي ولا إنسي ولا جني، ولا صغير ولا كبير ولا أفراد ولا جماعات، سَلِموا مِن كُلِّ تلك النقائص ومِن كُلِّ تِلكمُ السواقط واحتكم استماعهم لِنداء الأعلى وسمعوا نداءات الحق، وصلت إليهم على لسان الأصدق، خير مَن بَيَّن وأحسن مَن وضَّح وأجمل مَن شرح حقائق الصِّلَة بين الخلق وخالقهم، وما يكونُ مِن حال العبد مع سيِّده وكيف يظفر بِمَوَدَّتهِ ومَحبَّته؛ فَيُكرَم بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويسعد سعادة الأبد.
إنها نداءات ربّانيات إلهيّات قُدُّوسيات رحمانيِات، بلَّغها لسان الصِّدق، لسان خير البريات، لسان محمد، لسان أحمد، لسان طه، لسان ياسين، لسان المزمل، لسان المدثر، لسان الطُّهر الطّاهر، لسان العَلَم الزاهر، لسان السِّراج المُنير، لسان البشير النذير، وحقائقها التي حلَّت في قلوبِ مَن اتَّصلوا بجنابهِ ودخلوا على الرحمن من بابه، وتخلَّقوا بأخلاقه وتأدَّبوا بآدابه، يظهر فيها في المظهر الحِسِّي لسان رسالته ونبوَّتهِ واصطفائهِ واجتبائهِ وبلاغهِ فيما يهدون عباد الله بِهَدي هذا المصطفى، وفيما يدلّونهُم عليه، فهي بذلك لم تنقطع أيضاً في عالم الحِس لِسانهُ المَصون، لسانهُ الصادق، لسانهُ الذي قال الجبّار عنه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم:3-4]
لا يزال اللسان قائماً بالهداية والدلالة في ألسُن الصحابة وآل البيت الطاهر، فألسُن التابعين وتابعي التابعين من أهل علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين إلى الموجودين منهم في زماننا، وإلى من سمعنا ألسنهم تحدو وتدعو إلى الله، وتهدي بهداية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فاصغوا للنداء ولبّوا مُنادي الهُدى، واقبلوا على عالم ما خفيَ وما بدا، واغنموا الأعمار فإن هذا الدّين يفوزُ من قام بِحَقّه وعزم على نشره وهو المحتاج إليه النرويج والمحتاج إليه الشرق والغرب، والمحتاج إليه جميع الخلائق، والمحتاج إليه جميع المُكلّفين على ظهر الأرض، وهو نور الله وهو هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق الذي كل ما خالفه باطل وكل ما خالفه ضلال، هو الهدى الذي كل ما خالفه ضلال، وهو النور الذي كل ما خرج عنه ظُلمة، وهو الصدق الذي كل ما خالفه وضادّهُ كذب، قولُ حقٍّ وصدق ويقين لا ريب فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [محمد:1-3]
(لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) في مُجريات أحداث العالم وما يكون فيها لكم آمال ورجوى يُحَقَّقُ بإذنه تعالى في وقته، (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) ، (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح:27-28].
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) اللهم اجعلنا معه يا الله! حتى لا ينصرف مثل أخينا الذي جاء من النرويج إلا وهو في رُتبة من المَعِيّة معه فيقومون بإظهارِ جمالِ محمدٍ وكمالِ محمدٍ وجلال محمدٍ، وفضل محمدٍ ونور محمدٍ في النرويج وغيرها، وينقذون به هؤلاء الشباب الذين قطعوا صِلتهم بالنور، وقطعوا صلتهم بهذا الجناب، واغترّوا بالغرور واغترّوا بالزُّور، وظنوا أن هناك شيء من حقيقة اللذّة أو الطمأنينة في المُحرّمات وفي المُخدّرات وفي المُسكرات، وفي الفواحش وفي جمع الأموال، والخالق الذي كوَّن الكون لم يجعل حقائق سعادة ولا طمأنينة في شيء من هذا أصلاً، فالباحث عن شيء من السعادة فيه كمن يُريد البحث عن نار يستوقدُ بها ويستضيء وسط البحر ووسط الماء، أراد يخرج نار تعب! اسبح في البحر إلى أن تموت النار لن تخرج لك من وسط البحر! وكذلك هذه الأشياء ليس وسطها سعادة وليس وسطها طمأنينة، لا المال وحده ولا المُحرّمات ولا قضاء الشهوات فيها حقيقة طمأنينة ولا سكينة ولا سعادة أصلاً، ما فيها شيء! هي في خزائن المولى جعلها في الإيمان به، وجعلها في حقيقة ذكره، وجعلها في شكره، وجعلها في قلوب الذين دخلوا حظائر قُربهِ، هناك السعادة والله العظيم! وهناك الطمأنينة وهناك السرور، وهناك الأنس والحبور المتصل بأنس القبور وأنس يوم النشور، وبأنس دار الكرامة ومُستقرِّ الرحمة إلى ساحة النظر إلى وجه الله الكريم، أكرمنا بهذه المآنس يا رب.
(وَالَّذِينَ مَعَهُ) وهذه صفاتهم: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي لا يقبلون منهم كفراً ولا عصياناً ولا شيئا مخالفاً للشرع قَط! بأي وجه من الوجوه وبأي صورة من الصور، هذه شِدّتهم! لا والله لا معناها يسبون ولا معناها يؤذون ولا معناها يخونون عهود، ولا معناها يقتلون، ولكن معناها لا يقبلون الشرّ والكفر بأصنافه وصورهِ كلها، ولا يقبلون ما خالف شرع الله سبحانه وتعالى؛ فلذلك هم أعِزّاء على الكافرين، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) هذه شدتهم، ومع ذلك مَن سالمهم مِن الكفار سالموه، ومَن قبل منهم دعوه، وأرادوا فيما يَطوونَ في بواطنهم للجميع الإنقاذ والهداية، ولا يُحِبون السوء والشر لأحد، ومن بغى وطغى وقاتل قاتلوه، لا لِغيظ أنفسهم ولا لأغراضهم، ولكن لما فرض عليهم خالق الجميع لإقامة الحقِّ والهدى، ولإنقاذ من أراد الله إنقاذه ولو ذلك المحارب وذلك المقاتل نفسه الذي يقاتلونه، "أرأيت يا رسول الله لو أنّ كافر قاتلني فقطع يدي ثم لاذ بشجرة فقال لا إله إلا الله أأقتله؟ قال: لا!" قال إنه قطع يدي يا رسول الله، قال لا تقتله! "قال بعد ما قطع يدي راح إلى عند شجرة وقال لا إله إلا الله، قال لا تقتله فإنك إن قتلتهُ صرت بمثابتهِ قبل أن يقول كلمته وصار هو بِمثابتك قبل أن تقتله" ، فما عندهم شهوات ولا أهواء ولا غيظ لأنفسهم، ولكن لِله وفي الله ومِن أجل الله، فما أعجب هذا النموذج على ظهر الأرض.
وجد منهُ الأسرى في رحاب المصطفى إنعاماً وإحساناً وإيثاراً من قِبَل كبار المُقرّبين الصِّدّيقين الجيش النبوي إيثاراً منهم بالطعام الحَسن لأولئك الأسرى، فهل عرفنا هذا في تاريخ شيء من الدول الحديثة؟ هل عرفنا هذا في تاريخ شيء من هذه الحضارات؟ ابحثوا عن سجونهم، ابحثوا عن تصرُّفاتهم، ابحثوا عن غوانتانامو، ابحثوا عن اللعبة في الشرق والغرب ومن الذي ورائها، ماذا في خبايا هؤلاء! ماذا في جيوب هؤلاء؟ والله الأمان والهدى والخير والوفاء في جيب محمد! وفي جيوب من آمن به وصدَّق على قدر إيمانهم وصِدقهم في اتباعه صلى الله عليه وسلم، الله يجعلنا منهم!
(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) حتى وصلت بهم الرحمة لأن يفدوا بعضهم البعض بأرواحهم، وكم جازوا بالسيئة إحساناً، وكم واجهوا من آذاهم بعجيب صفحهم وعفوهم، وكم أحسنوا إلى من أساء إليهم! عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وأوصافهم مبثوثة في الكتاب العزيز: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63] الجاهلون يُخاطبون بماذا؟ يُخاطبون بالاستفزاز، يخاطبون بالسب، يخاطبون بالشتم، لكن هم يجيء منهم سلام (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) والحال كما قال سيدنا عيسى، يا نبيَّ الله إنه يذمّك ويسبّك وأنت تدعو له! قال كُلٌّ يُنفِق مِمّا عنده، عليه صلوات الله وتسليماته.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) قرأتُم في سيرة سيّدهُم صلى الله عليه وسلم وإمامهُم، وقد مضى وهو راجع من الطائف ﷺ بعض أصحابه جرت به ناقته وكان عليه لابساً نعال غليظة قوية الجلد، فدقّت في رجل المصطفى ﷺ ناقته، قرِبت من ناقة المصطفى ودقّت رجله بِنعله في رجل الحبيب بقوة، وكان ﷺ بيده السوط فضربه وقال تنحّى عني ابعد عني، ورأى الرجل ماذا عمل وماذا ضرب.. أي رجل ضربها، وخاف على نفسه ومشى، قال فخِفتُ أن ينزل فِيَّ قُرآن يذمّني ويسبّني، قال فجعلت نفسي في أُخرَيات الناس وذهبت إلى عِند دوابّ القوم أقوم بِخِدمتها لِأكون بعيد، قال فما أدري والنبي جاء يقسّم الغنائم إلا وبعث واحد، قال قُل لِفُلان يجيء، قال فجئت إليه خِفت قلت نزل الآن فيّ شيء وعليّ عقوبة! آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودققت رجله بِغِلَظ نعلي، فأقبل عليه قال فلان، قال نعم، قال خُذ هذه العشرين من الغنم وعشرين من الإبل مكان ما ضربتك أمس! لأنك لما أوجعتَ رجلي قُلتُ بسوطي فيك كذا، فالآن خذ هذا مقابل هذا سامحني في ذا، قال أنا الذي أسامحك أم أنت تسامحنا! أنا الذي أوجعتك وأنا الذي سبقت وآذيتك، قال فخذ هذا مقابل هذا وزوَّده بالمال، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ..) يخافون هذا الوعيد، يخافون هذا الوعيد! (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) يعني مُلازم لأصحابه شديد عليهم ما يُفارقهم، (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ)، أطهار بعيدين عن الرفث والسوء (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) ، (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) يخشعون ويخضعون ويرجعون وينيبون، (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، أمام المتقين في كُلِّ خير يُحِبّونه ويفعلونه يجدوننا أمامهم فيه، في كُلِّ مَكرمة وكُلّ مَفخرَة وكُل قيمة مِن القِيَم وكُلّ خُلُق كريم يجدوننا أمامهم، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) اللهم اجعلنا منهم يا رب، واجعلنا مع حبيبك محمد.
(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) اللهم اجعلنا منهم، وإيش الذي في بواطنهم؟ أحلامهم، آمالهم، رغباتهم، طموحاتهم، هواياتهم، ايش عندهم؟ (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) يبتغون فضلاً من الله ورِضواناً! اجعلنا منهم يا رب.
شعاراتهم؟ الشيء الذي يُحِبّونه ويُحِبّون يظهر فيهم ويبرزون به.. إيش هذا الشعار حقهم؟ (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) شِعارهم ذِلّة لله تعالى ظهر نورها على جِباههم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فصار أحدهم كزين العابدين:
يُغضِي حَياءً ويُغضى مِن مهابتِهِ ** فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبتسِمُ
(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال الله قُل لهم يا مُحمّد هذا الصِّنف أهل هذه الأوصاف مِن أُمّتك قبل أن أُظهِر بِعثتَك ورسالتك وأُنزِل القرآن عليك أنا تكلّمت عنهم في الكُتُب السابقة على الأنبياء، في الأُمَم السابقة مِن قبلهم (ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ)، قال أنا اعتنيت بهم قبل خلقهِم وإيجادهِم، أصحاب هذه الأوصاف مِن أمّتك أنا تولَّيت الثّناء عليهم في كُتُبي المُنزلَة قبل أن أُظهِر رسالتك وبِعثتك، ولهُم محبّة عندي ومكانةٌ لدي، وتولّيتُ نشر فضائلهم في الكُتُب التي أنزلتها على الأنبياء من قبلهم (ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً) يا غفّار اغفر لنا!
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) تعرف معنى عظيم؟ عظيم جاءت من عند العظيم! مهما تصوَّرت عن العظمة فأنت دون ذلك، ولهذا قال: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)، أعددتُ لِعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الله ينظُر إلينا، الله يبارك فينا، الله يُثَبِّت أقدامنا، الله يُبارِك في خاتِمة ربيع الأول لنا ولأمة هذا الحبيب في شرق الأرض وغربها، وهذه الأوصاف الحميدة المذكورة المنشورة في الكتاب العزيز حقِّقنا يا ربِّ وخلِّقنا بها واجعلنا عندك من أهلها، ولا تحرِمنا حقيقتها، وأحيِنا عليها وتوفّنا عليها، وابعثنا مع خواصِّ أهلها، يا مُعطي المواهب، ويا من يَهَب الجزيل من العطايا والغيوث السواكب، يا حيُّ يا قيُّوم لا يتعاظمهُ طَلَبُ طالِب حقِّقنا بِحقائق هذه الأوصاف، واسقِنا شرابها العَذب الصَّاف، وأصلِح لنا بها كُلّ ظاهِرٍ وخاف، وآمِنّا في الدارين مِن جميعِ الأخواف، بِخَوفٍ مِنكَ يملأ قلوبَنا ورجاء أكبر مِنه يحِلُّ في صدورنا، فلا نخافُ إلا أنتَ ولا نرجو سِواك يا الله!
أيدي فُقَراء مِن أمّة حبيبك إليك امتدّت، تسألك عظيم ما عندك، اللهم فأثبِتنا في ديوان أولئك الأكياس مِن خِيار الناس، اللهم اذهب عنا العِلّة والوسواس والبأس، اللهم تولَّنا بِما تولَّيتَ بهِ خِيارَ الناس، اللهم قَوِّم في الصِّدقِ معك لنا الأساس، اللهم عَجِّل بِتفريجِ كروب الأمة وأخزِ عدوَّك الوسواس الخنّاس، ومن تبعهُ من الأشرار من مُختلف الأجناس، لا تُبَلِّغهم مُراداً فينا ولا في أمة حبيبك يا رب الناس، يا خالق الناس، يا ملك الناس، يا إله الناس، يا حيُّ يا قيوم يا قدير، يا واحد يا أحد يا سميع يا بصير، يا عظيم يا جليل يا منّان يا كبير، يا الله.
توجَّهوا إليه وتذلَّلوا بين يديه، فكم مِن خِلعةٍ باطِنِيّة يُخلَعُها حاضرٍ أو سامع يزهو بها في القيامة، وينال بها الكرامة، ارفعوا القلوب وضعوها بين يديه، وارفعوا أكفَّ الافتقار إليه، وقولوا يا الله! قولوا يا الله! قولوا يا الله! يا إلهنا، يا ربّنا، يا خالقنا، يا رازقنا، يا سيدنا يا سندنا، يا موجدنا يا مُنشئنا، يا فاطرنا يا مُطَّلِعاً علينا، يا محيطا بنا، يا جوادًا يا حميدًا يا مجيدًا يا وهاباً، يا رزاق يا فتّاح يا عليم، يا من بيدهِ أمرنا، يا من بيده نواصينا، يا من بيده قلوبنا، يا ربنا يا إلهنا، يا غوثنا يا غِنانا، يا رجانا يا إلهنا، يا حيُّ يا قيُّوم، اربُطنا بالنبي المعصوم واجعلنا معه، معه، معه، معه! في الدنيا وعند الموت وفي البرزخ وفي الآخرة، يا ربّنا معه، يا ربّنا معه، يا ربنا معه، هُنا ويوم لا يُخزي الله النبي والذين آمنوا معه، يا ربنا معه، يا الله! وأوصاف مَن هُم معه خلِّقنا بها، وحقِّقنا بِحقائقها، واجعلنا معه أبداً سرمداً يا الله.
وأنقِذ أمّته وأغِث أمته، وأصلِح أمّته واجمع شمل أمته، فرِّج كروب أمته، واجعلنا في خيار أمته، وانفعنا بأمته عامة وبخاصَّتهِم خاصة، واجعلنا في أنفعهِم لهم وأبركهِم عليهم يا الله!
نِعمَ الإله الذي تدعونهُ وترتجونهُ وتستغيثونهُ وتطلبونهُ، وتتذلّلونَ بين يديه فينظُر بِنَظَر الرَّحمة ويُدخِل المُسيء في بركة المُحسِن، والمُقصِّر في بركة المُشمِّر، والغافل في بركة الذاكر، ويُنادي مُناديهِ لملائكتهم: هُمُ القوم الذي لا يشقى بهم جليسهم! ما أعظمه مِن إله! ما أكرمه مِن رَب! ما أعظم إحسانه مِن منّان، وهاب كريم، إنه الله، إنه الله، اسمع يا مؤمن: إنه الله! اسمع يا مؤمن: إنه الله، إنه الله! تعالى في علاه، تعالى في علاه.
نَوِّر هذه القلوب يا رب، نقِّها عن كُلِّ شوب يا رب، في آخر شهر ربيع الأول يحتكِم اتِّصالها بنبيك المُرسَل، ترقى مراقي الصادقين مِن كُل مُكمَّل يا الله، فرجك القريب، غياثك العاجل، لُطفَك الشامل، يا الله يا الله يا الله يا الله! برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.
21 ربيع الأول 1445