(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 7 ربيع الأول 1445هـ، بعنوان:
أسرار الإرادة الربانية وسراية آثارها في البرية وشئونهم الظاهرة والخفية ومجلى الاختصاص للحضرة المحمدية
الْحَمْدُ لله على أسْرارِ إرادَتِه، وما بَثَّهُ في بَرِيَّتِه مِن عجائِبِ مِنَّتِه ونِعْمَتِه، سُبْحانَهُ هُوَ الْأعْلَمُ بِخَلِيقَتِه وصَنْعَتِه، وهو الذي كوَّنَ الأكْوانَ بِعِلْمِه الْمُحيطِ وبِحِكْمَتِه، وهو الذي اخْتارَ مِن بَيْنِهَا مَن جَعَلَهُ الأوَّلَ الآخِرَ الظَّاهِر والْباطِن، صَفْوَتَهُ مِنْ جميعِ بَرِيَّتِه؛ ذاكُمُ الذي بِه شُرِّفْنا، وبهِ أُكْرِمْنا وبه خَيْرَ أُمَّةٍ جُعِلْنا، وكانَ حَظَّنا مِن الأنبياءِ وكُنَّا حَظَّهُ مِنَ الْأُمَمِ.
ولَمَّا دَعا اللهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ
بُشْرى لَنا مَعْشَرَ الْإسْلامِ إنَّ لَنا مِنَ الْعِنَايَةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ
فَخُذْ يَا مُؤْمِنًا باللهِ ورَسولهِ نَصيبَكَ مِن هذهِ الْعِنايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، التي إذا حَلَّت منها ذَرَّةٌ في قلبِكَ نَظَّفَت قلبَك، ونَقَّت قلبَك، وطَهَّرَت قلبَك، وزَكَّت قَلْبَكَ، وصِرْتَ: عبداً خاضِعاً، عبداً خاشِعاً، عبداً مُتَواضِعاً، عبداً مُنيباً، عبداً أوَّاباً، عبداً أوَّاهاً، عبداً حَليماً، عبداً صَبُوراً، عبداً شَكُوراً.
وتَخَلَّصْتَ مِن آفاتِ سَيِّءِ الصِّفاتِ الْقَلْبِيَّة؛ التي تَقْطَعُ الْمُكَلَّفينَ على ظَهْرِ الْأرْضِ عن ربِّهمِ جلَّ جلاله، وتَحُولُ بَيْنَهُم وبينَ رحمتِه العظيمةِ الأبَديَّةِ السَّرْمَديَّة، وإنْ كانت رحمةُ الْخَلْقِ والإيجادِ قد بُثَّت للجميع؛ ولكنَّ رحمةُ الرِّضا، ورحمةُ القُرْبِ، ورحمةُ النَّعيم الْمُؤَبَّد، ومُرافَقَةُ الْمُقَرَّبينَ ما تُبْذَلُ إلَّا لِلْمؤمنينَ.
"إنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيا مَن يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِب، ولا يُعْطي الدِّينَ إلَّا مَن يُحِب"؛ فمن أعطاهُ الدِّينَ فقد أحَبَّهُ على قَدْرِ ما مَكَّنَهُ في هذا الدِّين؛ ما مَكَّنَهُ مِنَ التَّحَقُّقِ بِحَقائِق الإسْلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وما وَهَبَهُ مِن سِرِّ الْمَعْرِفَةِ الْخاصَّة والْمحبَّةِ الْخالِصَة، وما وراءَ ذلكَ مِنَ الْعَطايا الرَّبَّانِيَّة.
فَيَا أيُّها المؤمِن: لا يَشْغَلْكَ شَيْءٌ عن حُسْنِ طلَبِ نَصيبِكَ مِن الْعِنايَةِ الرَّبَّانِيَّة؛ إذْ جعلَكَ فرْدًا مِن أُمَّةِ خيرِ الْبَرِيَّة، حَبيبَهِ ونَبِيَّهِ، أقْرَبَ الْخَلْقِ إِليِه صَفِيَّه، مُخْتارَهُ وَنَجِيَّه؛ ذاكَ ابْنُ آمِنَة، ذاكَ أبو فاطِمَة، ذاك أبو القاسِم محمَّد بن عبدالله بن عبد الْمُطَّلِب بن هاشِم بن عَبد مَناف بن قُصَي بن حَكيم بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَي بن غالِب بن فِهْر بن مالِك بن النَّظْر بن كِنانَة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكَة بن إلياس بن مُضَر بن نِزَارِ بن مُعَد بن عدنان صَلَوَاتُ رَبِّي وسَلَامُهُ عليه.
ومِن عدنان آباء كِرام إلى سيِّدنا إسماعيل بن إبراهيم، ومِن إبراهيم آباء كِرام إلى مَن تقدَّم مِن الأنبياءِ، ومنهم إلى سيدنا نوح على نبيِّنا وعليهِ أفضلُ الصَّلاة والسَّلام، ومِن نوحٍ آباء كِرام إلى إدريس، ومن إدْريس آباء كِرام إلى شِيْثِ بن آدم، والْكُلُّ تَشَرَّفُوا بِظُهورِ نورِهِ فيهم، والْكُلُّ تَشَرَّفُوا بِاخْتِيَارِ الحقِّ تبارك وتعالى لهم أنْ يكونوا آباءَ وأُمَّهات خَيْرِ أهْلِ الأرْضِ والسَّماوات: محمَّد بن عبدالله؛ صاحِبِ الآياتِ البَيِّناتِ، صاحِبِ الْمَراتِب الرَّفِيعات، صاحِبِ الموَاهِب الرَّبَّانِيَّات، صاحِبِ الإخْتِصاص مِن قِبَلِ ربِّ الْعَرْشِ بما مَيَّزَهُ بهِ عن جميعْ الْمَوْجوداتِ صلى اللهُ وسلَّمَ وبارك عليه وعلى آله.
فحَمْدًا لِرَبٍّ خَصَّنا بِمُحَمَّدٍ، يا رَبِّ وَفِّرْ حَظَّنا مِن عِنايَتِكَ؛ لِنَكُونَ أقْرَبَ إلَيْكَ وإلَيْهِ، وأَحَبَّ إلَيْكَ وإلَيْهِ، وأَرْضى لَكَ ولَهُ في جميعِ ما نَنْوي ونَعْتَقِد، ونقولُ ونَقْصِد، ونَفْعَلُ ونَتَحَرَّكُ ونَسْكُن، ظاهِرًا وباطِنًا.. يا الله يا الله يا الله.
ونَهْرٌ مِن بَحْرِ العِنايَةِ الرَّبَّانِيَّة يجمَعُكُم في هذه المجامِع المباركةِ الْبَهِيَّةِ، وتَسْري منه سِراياتٌ ظاهِرةٌ وخَفِيَّة، فيمن شاءَ الرَّحمنُ مِن إنْسٍ ومِن جِنٍّ، بِحَقائِق تَفَضُّلٍ رَحْمانِيَّة ربَّانيَّة قُدُّوسِيَّة، تَفضَّلَ بها المولى بِواسِطَةِ الْحَضْرَةِ المحمَّديَّة الأحْمَديَّةِ النبويَّةِ المُصْطَفَوِيَّة؛ حَضْرَةُ الْـمُزَّمِّل، حَضْرَةُ الْـمُدَّثِّر، حَضْرَة طَهَ، حَضْرَة يس، حَضْرَة السِّراجُ المنير، حَضْرَة مَن خاطَبَتْهُ الْأُلوهِيَّةِ بقولْهِا لهُ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الطور:48-49].
سُبْحانَكَ يا حَيُّ يا قيُّوم، سُبحانكَ وبِحَمْدِكَ، نَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ وَحْدكَ لا شَريكَ لكَ، ونَشْهَدُ أنّ سيِّدنا محمَّداً عبدُكَ ورَسُولِك؛ فَوَفِّر حَظَّنا مِن عِنايَتِكَ بِأُمَّتِه؛ لِنَكُونَ في خيرِ أُمَّتِه، ولِنَكُونَ مِن أبْرَكِ أُمَّتِه على أُمَّتِه ومِن أنْفَعِ أُمَّتِه لأُمَّتِه، ومِن أحْسَنِ أُمَّتِه خِدْمَتاً لأُمَّتِه، وانْفَعْنا أُمَّتِه عامَّةً وبِخاصَّتهِم خاصَّة، يا ذا الجلالِ والإكْرامِ، يا ذا الطَّوْلِ والإنْعامِ.
ابْحَث عن مكانِك أو عن نصيبِكَ مِن هذه العِنايَةِ الرَّبَّانِيَّة يا أيُّها المومِن؛ فإنها تُنَقِّي، وإنَّها تُرَقِّي، وإنَّها تُرَبِّي، وإنها تَرْفَع، وإنَّها على الحبيبِ تَجْمَع؛ حتى يكونَ في خَواصِّ أهلِ هذهِ العِنَايَةِ مَن يَثْقُلُ عليهم أنْ تَمُرَّ الليلَة فَضْلاً عنِ اللَّيْلَتَيْنِ مِن دونِ تَشَرُّفِ الرُّوحِ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ الشَّريفِ.
قالَ لي بعضُ عُلماءِ سُوريا أيَّامَ شِدَّةٍ مَرَّت في سُوريا وحَوادِث كانت في (حماه): جاءَتِ امْرأةٌ تبْكي إليهِ وتَنْهَج بِالْبُكاءِ، وتَوَقَّعْتُ أنَّهُ قُتِلَ أبوها أو زْوجَها أو ولَدْها في الْحَوادِث، ما بِكِ؟!، حتى سَكَتَت قالت: لي ثلاثُةُ لَيَالٍ لَمْ أرَ رسُولَ اللهِ!، قال: تَبْكينَ مِن شَأْنِ هذا؟، قالت: نعم، قال: أنتِ تَرِينَهُ كُلِّ ليلة؟!، قالت: نعم أراهُ كُلَّ ليلةٍ؛ لكن ثلاث ليالي أيش الْمُصيبَة اللي حَلَّتْ بِي؟!، أيش الدَّاهِيَة لي دَهَتْني؟!، ما دَريتُ لماذا انْقَطَعَ عَنِّي، وبِأَيِّ مُصِيبَة وبِأَيِّ ذَنْبٍ أذْنَبْتُه!!.
قال: كم وِرْدُكِ مِنَ الصَّلاةِ عليه؟، قالت: ثلاثة عشرَ ألف كُلَّ يوم - وِرْدَها مِنَ الصَّلاة عليه صلى الله عليه وسلَّم -؛ وهِيَ إنَّما تَبْكي مِن شان هذا؛ مِن شان انْقِطاع ثلاث ليال!!.
قال الحبيبُ محمَّد الهدَّار: "يُذَكِّرْنا الحبيب حَسَن بن إسماعيل الحامِد عليهِ رَحْمَةُ اللهِ، وقال: أنتم طَلَبَةُ عِلْمٍ يُمْكِن يَمُر على الواحِد مِنكم أسبوع ما يَرى النَّبي؟!، أسبوع وما يَرى النَّبي وَهْوَ يَدَّعي أنَّهُ طالِبُ عِلْم؟!".
وكانت هذهِ أحْوالُ الأرْواحِ التي نازَلَها مِنَ الْعِنايَةِ ما قالَ سَيِّدُنا الإمام الْحدَّاد:
ولي مِنْ رَسولِ اللهِ جَدِّي عِنايَةٌ * وَوَجْهٌ وتَقْريبٌ وإرْثٌ وإيثارُ
عليهم الرِّضْوان.
ابْحَث أيُّها المؤمِن عن نَصيبِكَ مِن هذهِ العِنايَةِ؛ وإنَّما تُدْرِكُها بِصِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وحُسْنِ الاتِّباعِ، وتَنْقِيَةُ مَحَل نَظَر رَبِّ الْعَرْشِ؛ لا يَنْظُر إلى صُورَتِك، ولا يَنْظُر إلى كلامِك، ولا يَنْظُر إلى مَظْهَرِك؛ هُوَ يَنْظُرُ إلى قَلْبِكَ، وما حَلَّ في قَلْبِكَ؛ مِقْدارُ عُبودِيَّتِكَ لهُ، مِقْدارُ أدَبِكَ معهُ، مِقْدارُ تَعْظيمِكَ لهُ، مِقْدارُ خُضوعِكَ لِجَلالِهِ، مِقْدارُ تَواضُعِكَ لِعَظَمَتهِ، مِقْدارُ نَصِيحَتُكَ لِعِبَادِه، مِقْدارُ صِدْقُكَ معهُ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، يَنْظُر إلَيْهِ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه ما هُوَ في قَلْبِكَ.
رَبَّ السَّماوات ورَبَّ الأرَضِينَ ورَبَّ العَرْشِ العظيم: هذه قلوبُ الْحاضِرينَ والسَّامِعينَ والْمُشاهِدينَ والْمُتَعَلِّقينَ بَيْنَ يَدَيْكَ، ولَكَ نَظراتٌ تُصْلِحُ بها قُلوبًا كثيرةً، وتَهَبُها مِن مَواهِبِكَ الْوَفيرَة، وتَمُنُّ عليها بِتَنْوِيرٍ وبِتَقْرِيبٍ وَبِتَطْهيرٍ وبِجُودٍ منكَ غَزِير، لا إلهَ إلَّا أنتَ، نَسْألُكَ بِكَ وأسْمائِكَ وصِفَاتِكَ وحَبيبِكَ الْمُصْطَفى ومَكانَتِه عندكَ، أنْ تُنَوِّرَ قلُوبَنا هذهِ كُلَّها وأنْ تُطَهِّرَها وأنْ تُصَفِّيَها وأنْ تُزَكِّيَها، ما عَلِقَ بها مِن ذَميمِ الصِّفَاتِ انْزَعْهَا عنها وزَحْزِحْها منها وَباعِدْها يا الله، وما عَلِقَ بها مِن الذُّنوبِ والسَّيِئاتِ تُبْ عليها منها وطَهِّرْها، واجْعَل تَوْبَتَها إليكَ بِكَ ورَحْمَتِكَ نَصُوحًا صادِقًا، يا الله وما عَلِقَ بها مِنَ الْغَفَلاتِ انْزَعْهَا بِفَضْلِكَ عنها، وأكْرِمْها بالْحُضورِ الدَّائِمِ معكَ في جَميعِ شُؤونِها يا مُقَلِّب الْقُلوبِ والأبْصَارِ يا الله.
واجْعَل مِن سِرِّ مَحَبَّتِكَ ومَحبَّةِ رَسُولِكَ ما يُهَيِّمُها في الإقْبالِ الْكُلِّي عليكَ، وما يَجْعَلُ لَيالِيها وأيَّامَها مَشْحُونةً بِالشَّوْقِ إلى اللِّقاءِ، والاتِّباعِ لِلمُنْتَقى، والرَّغْبَةِ الصَّادِقَةِ في الْمُرافَقَةِ في مَراتِبِ خَيْرِ مُرْتَقى، يا الله.. مَن لِلْقُلوبِ سِواكَ؟!، مَن لِلْقُلوبِ غَيْرُكَ؟!.
يا مُقَلِّبَ الْقُلوبِ والأبْصَارِ هذا شَهْرُ ذِكْرَى ميلادِ حَبيبِكَ، هذا شَهْرُ ذِكْرى سُطُوعِ أنْوَارِ صَفِيِّكَ، هذا شَهْرُ إشْرَاقِ أنْوَارِ صَفْوَتِكَ مِن خَلِيقَتِكَ، يا الله بِجَاهِهِ عندكَ نَوِّر قُلوبَنا ومَن في دِيَارِنَا وجميع أَهْلينا وأوْلادِنا وقَراباتِنا وطُلَّابِنا وأحْبابِنا وأصْحَابِنا.
يا مُنَوِّرَ الْقُلوبِ، يا مُطَهِّرَ القُلوبِ، يا مُصْلِحَ الْقُلوبِ، يا مُنَقِّيَ الْقُلوبِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ تُب علينا لِنَتُوب، بِحَبيبِكَ الْمَحْبوبِ اسْقِنَا مِن أَحْلَى مَشْرُوبٍ يا الله يا الله.
ولقَدْ قُلْتَ لنا في كِتَابِكَ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، ثُمَّ أخْبَرْتَنا عن سَابِقِ إرَادَةٍ منكَ في حُكْمِكَ؛ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِكَ، وأنْبَأْتَنا عنِ الإرَادَةِ فَقُلْتَ: (فَسَأَكْتُبُهَا)؛ الرَّحْمَةُ الْعَظيمَةُ الُواسِعَةُ الكبيرةُ الْمُوصِلَةِ إلى دارِ النَّعيمِ والْخُلْدِ الْمُقيمِ ومُرافَقَةِ النَّبِيِّين، وَدَوامِ جِوَارِ ربِّ العالمينَ جَلَّ جَلالُه: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الاعراف: 156]، ما مَرَّ مِن لَحَظاتِ أعْمارِنا خارِجاً عن تَقْوَاكَ فإنِّا نَتُوبُ إليكَ، ونَتَوَجَّهُ إليكَ بِعَبْدِكَ الْأتْقَى، أنْ تَجْعلَ ما يَبْقى لنا مِن عُمْرٍ وقُلوبُنا في تَقْواكَ لا تَخْرجُ عنها أبدًا.. يا الله.
(فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ..) واجْعَلِ الْبَذْلَ أحَبَّ إلَيْنا مِنَ الأخْذِ، واجْعَلِ الْعَطاءَ أحَبَّ إلَيْنا مِنَ الاسْتِلام، واجْعَلِ الْإِنْفاقَ في وَجْهِكَ وسَبيلِكَ أشْهَى إلَيْنا مِن ألَذِّ طعامٍ ومِن خَيْرِ ما تَشْتَهيهِ الْأنْفُسُ مِن الْمَلاذِّ.. يا الله.
(وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) قَوِّنَا في الإيمانِ، ورَقِّنَا في مَرَاقِيهِ، وأعْلِنَا في مَراتبِهِ، واجْعَلْنا مِمَّن يَزْدادُ إيمانُهُم في كُلِّ لَمْحَةٍ أبَدًا.. يا الله.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ)، سَيِّدَنا وَمَوْلانا ضَعُفَت هذه المُتابَعة لِنَبِيِّكَ مِن صِغارٍ مِنَّا وكِبَارٍ، ورجالٍ ونِساءٍ، وفي مَن يَنْتَمي إلى دينِهِ مَنِ اسْتَبْدَلَ تَبَعِيَّتهُ بِتَبَعِيَّةِ فاسقٍ ومُجرمٍ وبعيدٍ ومَبْغُوضٍ وَعَدُوٍّ لكَ ولِرَسولِكَ، فَتَدارَك هذهِ الْأُمَّةِ دَرَكاً عاجٍلاً، وأَغِثْهُم غِيَاثًا شامِلاً، والْطُف بهم لُطْفًا كامِلاً.. يا سَرِيعَ الْغَوْثِ.
يا سَرِيعَ الْغَوْثِ غَوْثًا * مِنْكَ يُدْرِكْنا سَريعًا
يَهْزِمُ الْعُسْرَ وَيَأتي * بِالَّذِي نَرْجُوا جَميعًا
نَسْألُكَ بِكَ أنْ لا يكونَ بَيْتٌ مِن بِيُوتِنا، ولا دارٌ مِن دُورِنا، وَدُورِ مَن يَسْمَعُنا ومَن يَحْضُرُ معنا ومَن يُوَالينا فيكَ، إلَّا والتَّبَعيَّةُ فيهِ لِحَبيبِكَ، والْقُدْوَةُ فيهِ بِحَبيبِكَ، والْقِيَادَةُ فيهِ لِحَبيبِكَ ، لا لأَهْواءٍ، ولا لِأنْفُسٍ، ولا لِشَهواتٍ ،ولا لِأحْزابٍ، ولا لاتِّجاهاتٍ، ولا لِحُكوماتٍ، ولا لِدِوَلٍ، ولا لِشُعوبٍ، ولا لِصَغيرٍ ولا لِكبيرٍ؛ بل تَتَوجَّهُ بالْكُلِّيََةِ إليكَ، وتَقْتَدي بأكرمِ خَلْقِكَ عليك، اجعل دِيارَنا كذلك يا الله، واجْعَل مُناسَباتِنا كذلك يا الله.
لا تُغالِطُنا نُفوسُنا ولا أوْهامُنا ولا مَعْرُوضاتِ أعْدائِكَ، فَتَزِلَّ بِنا الْقَدَمُ أو نَنْحَرِفَ إلى ما لا تُحِبُّهُ مِن قولٍ أو فِعْلٍ أو حَركةٍ أو سُكونٍ، يا عَالِمَ الظُّهورِ والْبُطون، يا مَن يقولُ للشَّيْءِ: (كُنْ) فَيَكون، اجْعَلْنا لِحَبيبِكَ مِن خَواصِّ مَن يَتَّبِعونَ، وبهِ يَقْتَدون، وبِهَدْيِه يَهْتَدون، (يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الاعراف:157].
وإنَّنا نَحْمَدُكَ حَمْدًا مِنْكَ بِكَ إليك لائِقًا بِجُودِكَ على ما وَضَعْتَ عنَّا مِنَ الأُصْرِ على يَدِ هذا الحبيبِ، وما رَفَعْتَ عنَّا مِنَ الأغْلالِ بِواسِطَةِ هذا الحبيبِ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)؛ أيْ الفائزون، سُعَداءُ الدَّارَيْنِ (أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)، إذا آمَنْتَ أنَّهُ رسولُ الله وخاتَمُ النَّبيينَ كيف ما تَمْتَلي بِمَحبَّتِه؟!، كيف ما تَكُون سُنَّتُهُ هِيَ الْغَالِبِةُ عليك وعلى أقْوالِكَ وعلى أفْعالِكَ، وعلى أكْلِكَ وعلى شُرْبِكَ وعلى لِباسِكَ، وعلى نَوْمِكَ وعلى يَقظَتِكَ، وعلى دارِكَ وعلى مَن في دارِكَ، وعلى أولادِكَ وعلى أهْلِك؛ ما تُؤْمِن بهِ؟!.
(وَعَزَّرُوهُ)؛ أي عَظَّمُوهُ ﷺ، (وَعَزَّرُوهُ) لَيْسَ ظاهِر التَّعْظيمِ؛ مِنَ الْقَلْبِ إلى الْقالِب؛ في عَقْدِ الْمَجالِسِ، في ذِكْرهِ، في كَثْرَةِ الصَّلاةِ عليهِ، في ذِكْرِ شَمائِلهِ، في قراءةِ سيرَتهِ، في إقامَةِ سُنَّتهِ.
(وَنَصَرُوهُ) واجعل مِنْ نَصْرِكَ لَهُ: كُلُّ ما في بيتِكَ أو جوَّالِكَ أو شِنَطِك أو دُولابِكَ ما يُحِبُّهُ ولا يَرْضاهُ مِنْ صُورَةٍ أو مَظْهَرٍ أو كلامٍ أبْعِدْهُ وأخْرِجْهُ مِن بيتِكَ، أخْرِجْهُ مِن جَوَّالِكَ، أخْرِجْهُ مِن دُولابِكَ، أخْرِجْهُ مِن شَنْطَتِكَ؛ ما تَجْعَل فيها شَيء يَكْرَهُها.
كيفَ تَنْصُرهُ وأنتَ تحمِلُ الذي يَكْرَهُهُ !، وتَحُطُّ في جَيْبِكَ الذي يَكْرَهُه!، وتُقْفِل في شَنْطَتِكَ الذي يَكْرَهُه!، كيف تَنْصُرُهُ إذاً؟؛ انْصُرْهُ: كُلُّ ما لا يُحِبُّهُ أبْعِدهُ، لا تبقى صورةً؛ لا في شاشَةٍ لِجَوَّالٍ ولا أيبادٍ ولا لِتَلفزيونٍ ولا لغيرِه يَكْرَهُها ﷺ ، أبْعِدْها مِن دارِك، أبْعِدْها مِن أولادِك، أبْعِدْها مِن أهلِكَ، كُلُّ ما لا يُحِبُّهُ أبْعِدهُ، إنْصُرْهُ.. قُمْ بِنُصْرَتِه، واجعل بيتَكَ مِن بِيُوتِ أتباعِهِ، مِن بِيُوتِ أحبابهِ، مِن بِيُوتِ الْمُقتَدينَ بهِ، مِن بِيُوتِ المؤمنينَ بِه.
(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ) الْقرآنُ الكريمِ، والذِّكْرِ الْحَكيمِ، وعَجائِبَ مِن جُودِ العظيمِ، نورٌ أُنْزِلََ مع الحبيبِ الكريمِ، تَتَّبِعْهُ وَيُشْرِقُ النُّورُ في قلبِكَ، وَنُورًا بَعْدَ نورٍ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)، نَوِّرْنا يا ربِّ بهذا النُّورِ؛ نُورُ الحبيبِ والنُّورِ الذي أنْزَلتَهُ معَهُ؛ حتى تَجْعَلْنا معهُ في الدُّنيا والْبَرْزَخِ والآخِرَةِ يا أكْرَمَ الأكرمينَ ويا أرْحمَ الرَّاحمين.
وبِقِيَامِكُم يا مَن آمَنَ بهِ بهذهِ الواجِباتِ والْمُهِمَّاتِ والتَّعليماتِ، واضِحَةً بَيِّنةً؛ بِلا لَيٍّ وَلَا غَيٍّ، ولا تَأثُّرٌ بكلامِ شَرْقٍ ولا غَرْبٍ، ولا أُطْروحَةً مِن هُنا ومِنْ هناك؛ بِقِيَامِكُم بهذا الأمْرِ تُرْحَمُونَ، وَيُرْحَم بِكُم مَن عَداكُم مِنَ الذينَ لمْ يُؤْمِنوا بهِ؛ فيهدي الله منهم مَن يشاءُ، ويَكُفُّ سُوءاً عَمَّن يشاءُ، وَيَحْكُمُ سُبحانَهُ وتعالى بالْخاتِمَةِ الحسَنَةِ أوِ السَّيِّئَةِ كما يشاءُ على مَن يشاء؛ ولكنَّ أنوارَ هذهِ الْهِداياتِ تَنْفَعُ كُلَّ مَن على ظَهْرِ الأرْضِ، (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ..) [الفتح: 48] .
وَفِّر حَظَّنا مِن هذهِ الأنوارِ يا كريمُ يا غَفَّار، سَيِّدنا.. ولا يَحْصلُ شيءٌ مِن ذلك إلا بإرادَتِكَ وبِمَشيئَتِكَ، فَنَسْأَلُكَ يا صاحِبَ الإرادةِ التي تَنْدَرِجُ فيها جميعُ الإراداتِ؛ فلا إرادةَ معها إلا بها.
يا فَعَّالاً لما يُريدُ بِسِرِّ إرادتِكَ الأزَلِيَّةِ اجعلنا مِمَّن أرَدْتَ هدايتَهُم، وأرَدْتَ إسْعادَهُم، وأرَدْتَ إرْشادَهُم، وأرَدْتَ تَقْريبَهُم، وسَبَقَت لهم مِنكَ الْحُسْنى.. يا الله، حتى نرى في الدنيا علامةَ ذلك: أنْ لا نُريَد غيْرك، وتَنْقَطِعَ عن قُلوبِنا إرادة سِواكَ في جميع شُؤونِنَا.
نُرِيدُ وَجْهَكَ، نُرِيدُ وَجْهَكَ، نُرِيدُ وَجْهَكَ، وتُرِيدُ إسْعادَنا، وَتُرِيدُ إرْشادَنا، وتُرِيدُ هِدايَتُنا، وتُرِيدُ تَوْفيقَنا، وتُرِيدُ إنْعامَكَ علينا، وتُرِيدُ لنا مُرافَقةَ نبيِّكَ، اللهم أكْرِمْنا بذلِكَ يا فَعَّالاً لما يُريد، يا الله، يا الله، يا الله اجعل مُرادَكَ فينا خيرًا، وَتَوَلَّنا سِرًا وَجَهْرًا، وكُن لنا بما أنتَ أهلهُ، باطِنًا وظاهِرًا، دُنيا وأُخْرى.. يا الله.
وفَرِّج على أُمَّةِ حبيبِكَ في شَهْرِ ذِكْرى ميلادِهِ، وعَجِّل لهم بِكَشْفِ الشَّدائِدِ والْبَلايَا عنهم، ظاهِرًا وباطِنًا، يا مَن هُوَ لِطيفٌ بِعبادِه، يا لطيفًا بِعبادِه، يا خبيرًا بِعبادِه، يا عليمًا بِعبادِه، الْطُف بِنا وبالْمُسْلمينَ، يا لطيفًا بِخَلْقهِ، يا عليمًا بِخَلْقهِ، يا خبيرًا بِخَلْقهِ، الْطُف بِنا يا لَطيفُ يا عليمُ يا خبيرُ، الْطُف بِنا يا لَطيفُ يا عليمُ يا خبيرُ ، الْطُف بِنا يا لَطيفُ يا عليمُ يا خبيرُ يا الله.
وَتَوَجَّهُوا جميعًا إليهِ، ونادُوهُ تعالى مُتَذلِّلينَ بينَ يَدَيْهِ، واسْألُوا لُطْفَهُ ورحمتَهُ بِأُمَّةِ حبيبِهِ، وقولوا جميعًا: يا لطيفُ يا لطيفُ.. يا لطيفُ، يا لطيفُ.
الْطُف بِنَا وبالأُمَّةِ فيما تَجْري بهِ المقاديرُ، وكُنْ لنا عَوْنًا ونَصِير في كُلِّ ما إليهِ نَصير، يا لطيفًا بِخَلْقهِ، يا عليمًا بِخَلْقهِ، يا خبيرًا بِخَلْقهِ، الْطُف بِنا يا لَطيفُ يا عليمُ يا خبيرُ، الْطُف بِنَا وبالأُمَّةِ فيما تَجْري بهِ المقاديرُ، وأَجْرِ لُطْفَكَ في أُمُورِنا وأُمورِ المسلمينَ برحمتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمينَ.
07 ربيع الأول 1445