(229)
(536)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مقدِّر الأقدار، ومحدِّد الأعمار، مكوِّر النهار في الليل والليل في النهار، الواحد الأحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار..
أشهد أنه اللهُ الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، المتفرِّدُ بالبقاء والدوام، ذو الجلال والإكرام، الواحد الأحد الملك العلام، أرسل إلينا عبدَه المصطفى خيرَ الأنام، فنشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيه وحبيبه وصفيه وخليله، الأمين المأمون، خاطبه بقوله ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) وقال ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيدنا محمد الذي قال: مَن أُصيب بمصيبةٍ فليتذكَّر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب، ولن تُصاب أمتي بمثلي. فقد فقدناه وفارقناه صلى الله عليه وسلم بأمرِ الله، وها نحن في هذه الحياة أمامَ أعمارٍ محدودة، بأنفاسٍ معدودة، لا يزيد فيها نفسٌ ولا ينقص. قال جل جلاله (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ) وقال تعالى: ( فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )
أحضرن قلوبَكن في هذا المحضر، في هذا المكان، في هذا الموقف، في هذه الساعة أيتها المؤمنات الحاضرات في هذه المناسبة، وقد اختار الله سبحانه وتعالى فيها في يوم الإثنين الماضي في يوم عاشوراء أن ينقل إلى رحمتِه وجوارِه هذه الشريفةَ الموفقة المباركة الصالحة ذات الصفات الحميدة، والأخلاق الحسنة الجميلة، والنُّعوت الحميدة الطيبة.. عليها رضوان الله تبارك وتعالى.
قد قرر الله وقدَّر وعيَّن ساعةَ لقائها إياه قبل خلقِ السماوات والأرض، وقبل خلقِ هذه الكائنات، فكانت على ما قدَّر وعلى ما أراد ودبَّر جل جلاله وتعالى في علاه. وإذا حسُنَت الخاتمة للمؤمن والمؤمنة من هذه الحياة..
فالموت للمؤمن الأواب تحفتُه ** وفيه كلُّ الذي يبغي ويرتاد
لقاء الكريم تعالى مجدُه وسما ** مع النعيم الذي ما فيه أنكادُ
فرحم اللهُ السيدةَ الشريفة فاطمة بنت حبيبنا عبدالقادر بن صالح بن أحمد بن الشيخ أبي بكر بن سالم برحمته الواسعة الكبيرة الدائمة التامة المتنامية أبداً سرمدا، ورقّاها أعلى مراقي أهل الهدى، وجعل مستقرَّ روحها في الفردوس الأعلى، وأخلفها في أهلها، وأخلفها في ابنتها، وأخلفها في قراباتها، وأخلفها فينا وفي أهل البلدة وفي أهل السنة وفي الأمة المحمدية بخير خلف، وجعلها سبحانه وتعالى في أهل الدرجات العالية مع خواص أهل الشرف، وجعلها سبحانه وتعالى متلقِّيةً للبشائر، حاضرة في أشرف الحضائر
في مقعد الصدق الذي قد أشرقت ** أنواره بالعندية لك من سنا
والمتقون رجاله وحضوره ** يا رب ألحِقنا بهم يا ربنا
وإذا حضرتنَّ في مثل هذا المحضر والمناسبة فتذكرنَ هذا المصير، ومَن صار إليه وهو في الأربعين، أو قبلها أو في الخمسين أو في الستين أو في السبعين أو في الثمانين أو في التسعين، ليس لهم حالٌ ولا شان إلا بحسب ما كان بينهم وبين الرحمن، وبحسب ما كسبوا في أيام هذا العمر الفان، وإنما الدرجات عند الله تعالى بصفات القلوب وأحوالها.. فيا الله بحسن الخاتمة.
فتحضرين هذه المجالس وهذه التعزيات وهذه القراءات للصغيرات وللكبيرات، لمن هم أكبر منك، ولمن هم في سنِّك، ولمن هم أقل من سنّك، والقلب مأخوذ بالمتاع الفاني، وبالغفلة عن الله تبارك وتعالى، تحضرين مثل هذا المحضر، مرة بعد أخرى، محضر بعد محضر وصلاة الفجر مهملة في دارك أنت وأولادك فيهم من يؤخِّرها فتفوتهم الجماعة، وفيهم من يفوتُه الوقت كله حتى تطلعَ الشمس!!
ما الفائدة من حضور هذا المحضر إذا ما تذكّر قلبك، إذا ما خشع، إذا ما عرفتي شأن هذا المرجع إلى العلي الأكبر جل جلاله الذي أعطاكِ الفرصة في هذه الحياة، لتتزودي منها ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) وهل تكون واحدةٌ ممن أحسنَ العملَ وفكرُها مأخوذٌ بمشابهة الفاسقات والفاجرات في لباسِها ولباسِ بناتها.. هل أحسنت العملَ هذه!؟ هل عرفت لِم خلقت على ظهر الأرض ؟ لها فكر مأخوذ، تريد موضات تأتي من عند الكفار والفجار يبهدلون جسمها فيها ويلعبون به، هذه ما أحسنت العمل.. هذه أساءت، بدءاً من الطفولة تربي بناتِها على لباسِ قلِّ الحِشمة، وقِلِّ الحياء.. والعياذ بالله تعالى.. هذه أساءت ما أحسنت..
تحضرين مثل هذا المحضر وبيتك فيه الخربطة، فيه البرامج السيئة، فيه التفرج على المسلسلات الخبيثة!!
يا مؤمنة بالله تعالى: احضري مثل هذا المحضر وقلبُك حاضر أن هذا مصيرُك، لا تدرين أهو الليلة أو غدا أو بعد غد أو قريب أو بعيد، وكله قريب، وكلُّ آتٍ قريب.
وكلنا أموات ** لكن بخت من قدَّم إحسان
تذكري مثلَ رحيل هذه الموفَّقة، رحلت وقد تزوَّدت بزاد شريف من الصبر، من البِر، من التواضع، من الأخذ بالخواطر، من تعظيم الشريعة، من تعظيم الدين، من الخدمة للناس، من المسارعة إلى الخيرات، عليها رحمة الله، ومكارم ومحاسن كلٌّ يشهد بها ممن عرفها، والله يحفظها في بنتها ومن يواليهم حفظاً كاملا تاما، ويجعل النور والبركة في هذا الأسرة متسلسلا..
فما هي الأوصاف والأعمال التي تقدُمين بها على الله؟ وتقابلين بها الله؟ والتي تُرفع عنك إلى حضرة الرحمن في كل يوم في كل ليلة؟ تُرفع عنك أعمالُك، تُرفع عنك نياتُك، تُرفع عنك صفاتُك وأخلاقُك، قال سبحانه وتعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )
لا يقع نبأ بعد هذه الوفاة إلا ما كنت تعملين في الحياة، إن كنتي مُغتابةً للناس في كل يوم ولا تتوبين من الغيبة، وكل ما جلستي مع وحدة ذكرتي الناس بالسوء، فلانة فعلت!! وفلانة تركَت!! ويمرُّ عمرك على هذا الحال، فهذا أسوأ زاد تقابلين به رب العباد جل جلاله .. فهل تقدرين على مقابلة الله بهذا!؟
بينكن نساء ما عرفن قيمةَ العمر، حتى ربما جئنَ إلى مجلس الذكر ومجلس الدعاء وأخذت تمشِّط شعرها وتشوف نفسها، وتقعد أمام المرآة وتتزين، وضيعت الذكر وضيعت القراءة ، وأكبر وأجل إن كان في مثل مناسبة الموت، الناس في حزن وتذكُّر للمصير وهذه تلبس ثوب غير لائق وتعمل لها زينة!! هل الزينة في هذا الوقت!؟ هل هذا وقت عرس وزفاف أو وقت تذكر ودعاء وتضرع للموتى وتذكر المصير الذي نصير إليه!؟
أين تذهب عقولهن هؤلاء، ويقتدين بمن؟ ويستحسنن شيئا قبيحا وسيئا، الله تعالى في القرآن يعيب على الذين ضلّت عقولهم، يقول: ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً) سوءُ العمل يراه حسناً وهو سيء والعياذ بالله تبارك وتعالى، إذا ما تذكرتي في مثل هذا المحضر ما حضرتي، هل هي صورة، تجيء وتدخل وتخرج هكذا !! هذه إلا مجالس تذكُّر، ومجالس تبصُّر، ومجالس دعاء، ومجالس محاسبة للنفس، ومجالس استشعار للمصير، استشعار للمآب استشعار للرجعى ( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى )ويقول ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) المرجع إليه والحساب عليه سبحانه وتعالى.
ففكِّري واستفيدي من هذه المجالس، ومن هذه الذكريات، عسى ببركة قدوم هذه على الرب سبحانه وتعالى يذكِّر اللهَ القلوب، وينوِّر القلوب، وتكون عبرةً للصغار والكبار، يعرفن كيف يقضين الأعمار، وإذا دخل عام جديد عرَفن أن المُبديء المعيد يفعل فيه ما يريد، عسى مرادُه فينا خير، وعسى نبلغ العام كله ونمتَّع إلى حين، ما هو إلا إلى حين.. كم سيُمتَّع الإنسان في هذه الحياة!؟ العوام عندنا يقولون : من خلاّه الموت ما خلاّه الكبَر .. أي تعب من طلوعه، من نزوله، ومن قيامه من قعوده، ومن أكله مِن شُربه، أراد يقوم تعب، أراد النوم تعب، وهكذا الدنيا، ولا عيش إلا عيش الآخرة، يقول ﷺ لبيك إن العيش عيش الآخرة، وأوصى كلَّ واحد مِن أمته رأى شيئاً أعجبه مِن زُخرف الدنيا أن يقول: لبيك إن العيش عيشُ الآخرة..
ولما رأى الصحابة عليهم رضوان الله يتساعدون، سادتنا الأنصار آوَوا المهاجرين، وقاسمُوهم في أموالهم، والكل يشتغلون في نصرة الله ورسوله، في بناء مسجده الشريف قال :
اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.
وكانوا يشاهدونه عليه الصلاة والسلام وهم يحفرون الخندق يقول اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فيقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً ** على الجهاد ما بقينا أبدا
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
اعتبري وادّكري، العيونُ أمانةٌ عندك من الله أعطاكِ اللهُ إياها، لا تصرفيها إلى ما حرَّمَ الله، لا تصرفيها إلى المسلسلات الخبيثة، لا تصرفيها إلى الصور التي نهاكِ اللهُ عن النظر إليها، ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) أمرٌ ربّاني إلهي، حمله إليهن النبي وبلَّغنا إياه، بعد هذا الأمر كيف تفتح عينها في جوال ولا في آيباد ولا في شاشة من شاشات التلفزيون على ما لا يليق، وربنا يقول لها في كتابه ( يعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )
قومي بحق الأمانة في البصر وأدِّي شكرَه لله تعالى ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )
والسمع أمانة، اسمعي كلام الله وكلام الرسول..
في بعض النساء حاضرات في مثل ذا المحضر لا يسمعن مواعظ لا في تلفزيوناتهم ولا في إذاعاتهم في الدار أو في جوالاتهم، لا قرآن ولا حديث ولا صلاة على النبي ولا ذكر لله تعالى ولا علم ،، ماذا يسمعن!؟ يسمعن أشياء أخرى !! أما علمن أن السمع مسئولون عنه، ما علمن أن الله سيخاطبهم عن كل ما سمعن، ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا )
خذي من هذا المجلس المبارك نورَ الإدِّكار نورَ الاعتبار، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ترك فينا واعظين: ناطق وصامت، الناطق القرآن والصامت الموت، عبرة بيننا، واعظ بيننا .. فكيف لا تعتبرين بالقرآن، وكيف لا تعتبرين بهذا الموت!؟ لا تخرجي من المجلس إلا بقلب خاشع، خاضع، يقصد الله، ويريد الله، ويتهيّأ للقاء الله.
أحضِري القلب، إسمعي وأنصتي مادامت الفرصة معك، ولا زال ينفعك الكلام، وإلا عند الموت كل من ضيّعت وأهملت تتحسّر وتتمنى الرجعة، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) نسأل الله أن سبحانه وتعالى يجعل قبورنا رياض من رياض الجنة.
وهذه المنتقلة نسأل الله أن يرفعَ لها الدرجات، ويجعل وصفَ قبرِها من أوصاف أهل القبور في روضات الجنات العاليات الساميات الزاهيات الباهرات بأنوار البشارات من رب الأرض والسماوات، فإن المنعَّم في قبره يفتح له نافذة إلى منازله في الجنة ويتفرَّج عليها في كل صباح وعشية، وإذا حصّل منزلة عند الله بسبب شهادة أو غيرها أو صفاء قلب أو عمل صالح، صارت روحُه طيارة، كأرواح الشهداء تطير في حواصل طير خضر، تكرع من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، وتتغذى أرواحهم وهم في البرازخ بما لا يوجد عندنا في عالم الدنيا، لا مثله رز ولا مثله شيء من طعامنا لا البر ولا الذرة ولا غيرها، ولكن ثمار الجنة تتغذى أرواحهم منها ويشربون من أنهارها، الله يجعلها منهم ويرفع لها الدرجات إن شاء الله مع الصالحين والصالحات أهل المراتب العلى.
يا مؤمنة: تذكّري في هذا المجلس، تذكَّري في هذه الساعة، ما حضرتي إلا لتؤدي واجب التذكرة والذكرى وواجب التعزية وواجب الدعاء لموتانا ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) يا نعم الرؤوف الرحيم.
غفرَ الله لمن اجتمعتن بسببها، نسأل الله أن يعليَ لها المراتب والدرجات لديه، ووفَّر الله حظكن من الإدِّكار ومن الاعتبار ومن الانتباه .. الانتباه من الوجهة إلى الله، الانتباه من الأدب مع الله، الانتباه مِن أخذِ حقِّ المجالس وبركة المجالس، مجلس علم أو مجلس ذكر أو مجلس عزاء ما هو عرض زينة ولا عرض أزياء!! هذا مجلس إدكار واعتبار، ادخلي بقميصك، بعبايتك، بما عندك، اذكري الله، وتذكَّرى هذا المصير، ولا تتباهي بأثواب الزينة كأنه لا يهمك الأمر، ولا أنتِ مُبالية بهذا المصير ولا بالرجعة إلى العلي الكبير جل جلاله.
فالحمد لله على ما قضى وقدَّر، والله يجعل لنا مِن مثل هذا المحضر خيراً واسعاً ندخل فيه مداخل من سار في أحسن السِّير، ممن اقتفى الأثر، للحبيب المصطفى خير البشر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقد تربَّت في أحضان والدها عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وقد حمل من صفات البر والخير وتعظيم الدين وتعظيم أهل الدين نصيبا، وأوذي في الله سبحانه وتعالى ودخل السجن، وفي أيام سجنه وُلِدت قبل هذه من قبل شيء وأربعين سنة، كان في أيام سجنهم وأيام امتحانهم واختبارهم.. وصبروا، سنوات قضوها في السجن.. وأجرُها محفوظ لهم، واللي سجنهم إثمه محفوظ له، والدنيا زائلة ،، ويعرف الناس جزاء هذه الأعمال بعد هذه الحياة، واختار الله لها الزوج الصالح صاحب العلم وصاحب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وعاشت معه زوجته في الدنيا والآخرة، إن شاء الله يجعلهم الله في الدرجات الفاخرة..
فكلٌّ منكن تتأمل هذه الحقائق وأن المتأخِّر بمن سبق لاحق، كلٌّ يلحق ما أحد يبقى ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) ( قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين* لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُوم* ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ* لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ) أعاذنا الله.
بعد ذلك المصير إلى أين؟ ذكره في آخر سورة الواقعة قال ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) يعني الروح وصلت الحلقوم
( وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ) قال الله في كشف الحقيقة: ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ) أنتم تشوفون نفسكم قريبين وهذا يمسكه وذا يحمله قال: ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ) أي: أدرى وأعلم وأخبر وأعظم إحاطة به ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لّا تُبْصِرُونَ )
فهل يقدر أحد يرجِّع روح أحد!؟ ( فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) غير مُحاسَبين، غير مُجازين، غير راجعين إلينا كما أخبرناكم على لسان الرسول ( تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) رجِّعوا الروح، لا ترجع.. فأين تذهب؟ ( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ )
اللهم اجعل هذه المنتقلةَ منهم يا رب، وإيانا وأحبابنا، وأمتِع بوالدتها في عافية وتوفيق وفي رضا بما قضيت، فمن رضي فله الرضا، إذا أحبّ الله قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، فليغنم الإنسان الرضا
وكن راضي بما قدَّرَ المولى ودبَّر ** ولا تسخط قضاء الله رب العرش الأكبر
يخلفها في أخواتها وإخوانها وفي أهلها إن شاء الله وفينا وفي الأمة بخير خلف.
قال : ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين* وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ - يعني ضيافة - مِّنْ حَمِيمٍ ) والعياذ بالله، هذا الماء الذي يفور ويحرق الوجوه ويشويها ويقطع الأمعاء إذا أدخل في البطون، قال تعالى ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) ( وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ) (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ )
هذا المصير للناس كلهم، لا تغرُّك السيارات ولا الديار ولا الثياب ولا الموضات ولا الفلوس ولا الذهب، لا يغركم شيء من هذا، ما لهُ عبرة، المرجع بعدين ( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِين وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ )
ثلاثة أقسام ما لها رابع، كل واحد منا داخل في واحد منها ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَة* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ) قليل من الآخرين الذين يبلغون درجة المقربين، لأنه تنتشر بينهم الفتن ويذهبون وراءها، ويضيِّعون أوامرَ الله وأوامرَ رسوله عليه الصلاة والسلام.
فتذكرن وانتبهن وأقبِلن واغنمنَ مجالسكن، بعِّدن هذه المبالغة في الزينة وقت العزاء، والمبالغات في الزينة وقت المولد ووقت القراءة.. الناس قد مضى عليها نصف المولد، وهذه مشتغلة بمرآتها!! مرة تعمل شعرها كذا ومرة كذا !! يا ليت ما فيك شعرَة وحده، وفيك شُعور يعرف قدر الذِّكر، يعرف قدرَ المولد، لو أنتي صلعة أحسن، ولا ضيَّعتِي الذكر والتسبيح لله تعالى، ماذا يفيدك هذا الشعر وقت دخولك القبر، لا تفيدك مرآتك ولا شعرك، وإنما يفيدك ذكرُ الرحمن، تفيدك الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم..
وإلا كيف نساء جالسات في مجالس الذكر يتركن القارئة تقرأ.. فيتكلمن.. وهي تقول كيف حالك.. وتشرب شاي مُعرضة عمن تقرأ، لا تهتم بالقراءة ولا علاقة لها بالدعاء.. ما هكذا الحياة، ما هكذا العمل، ما هكذا غنيمة العمر، ما هكذا الاستعداد للقاء الله.
يا مؤمنة: آمنتي بربك الذي خلقك، فاستعدي للقائه، باتباع خاتم أنبيائه ﷺ واقتدي به، وللمصطفى ﷺ بضعةٌ بتول اسمها فاطمة الزهراء عليها رضوان الله تبارك وتعالى، لُقِّبَت بالبتول لتبتُّلِها إلى الله جل جلاله، وما مالَت إلى الدنيا الغرور بخاطر، وأقبلت بكلِّيِّتها على الله، وعاشت مِن صغرها في كنفِ سيدنا محمد بن عبدالله، تخدم الشريعة والدين، وتخدم هذا الرسول الكريم، وهي ابنة خمس سنين نزل الوحي على أبيها، ووصل الخبر في أول يوم من نزول الوحي إلى ذاك البيت، وتلقَّت عن أبيها وتربّت على يد أبيها فسمّاها أم أبيها، يقول لها يا أم أبيها، عليها رضوان الله تبارك وتعالى..
سيدنا البخاري كلما ذكرها من بين جميع الصحابة، من بين جميع التابعين من بين جميع من يذكرهم في كتابه من الأئمة يقول: عليها السلام، ويذكر الأئمة ويقول رضي الله عنهم، ولكن إذا ذكر فاطمة قال: عليها السلام من أول صحيح البخاري إلى آخره، سيدنا محمد بن إسماعيل البخاري ممتلئ المودة لله ولرسوله ولهذه البضعة الطاهرة، إذا ذكرها قال عليها السلام، كما يذكر الأنبياء وكما يذكر المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، يذكر بضعة سيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام. هل لكِ شوق للقاء بها أو تريدين تكونين مثل الممثلة، أو تريدين مع الممثلة يوم القيامة، أو مع صاحبة الزي الخبيث، أو تريدين لقاء للزهراء على حوض أبيها ﷺ.. كيف يكون ذلك إذا ما لك شوق وما لك اتباع وما لك اقتداء وما لك اهتداء!؟
الله ينظر إلينا وإليكن، وتخرجن من المجلس إن شاء الله والنور يتلألأ في صدوركن بالإقبال على الله، ويكون العام الجديد مباركاً علينا وعليكم، وقدوم هذه الشريفة على ربها تنفتح به أنوار في قلوبكن والإهتداء والاقتداء والمشي في طريق الهدى..
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملة
الله لا يصرفكن إلا بقلوب منوَّرة، ويجعل لكن حضور معه، ويجعل لكن إقبال عليه، ويجعل لكن كريمَ عفو من عفوه الواسع، يا كريم العفو، يا كريم الصفح، يا كريم الفضل.. يا أرحم الراحمين، اغمرنا بفائضات الجود، وبارك في هذا البيت وفي هذه الشريفة ولقائها لك، وبارك اللهم في بنتها بركة واسعة، وبارك في أمها، وبارك في أخواتها وفي زوجها، وبارك في قرابتها بركات متناميات أبديات، وبارك في الحاضرين والحاضرات واجعلنا من أهل الإنابة والادِّكار والخشية والاعتبار واقتفاء الآثار، واتباع النبي المختار..
اللهم يا من وفَّق أهلَ الخير للخير وأعانَهم عليه وفقِّنا للخير وأعنا عليه، واجعلنا يا مولانا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يتربَّى ويتصفَّى ويتهذَّب ويتأدَّب ويقوم بالواجب والخير في مثل هذه البلاد، وحيث ما كان، يكون على تقواك وعلى اتباع سبيل رضاك، لا تغلبه نفسه ولا هواه ولا شهواته ولا شيطان إنس ولا شيطان جن، واجعل هوانا تبعا لما جاء به حبيبك المصطفى ﷺ
يا محول الأحوال حوِّل حالَنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال والجهال، وبلِّغنا الآمال وفوق الآمال، وانظمنا في سِلكِ محبوبيك والمقربين إليك..
بسر الفاتحة إلى روحها وروح والدها وأصولهم وفروعهم، ووالدينا ووالدي الحاضرين، وساداتنا أهل بشار، وسادتنا أهل الحجون والشبيكة، وأولياء الله في غامض علمِه وإلى أرواح أموات المسلمين وأحيائهم إلى يوم الدين عامة ..
وإلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
للاستماع إلى المحاضرة:
http://www.alhabibomar.com/Lecture.aspx?SectionID=8&RefID=3145
12 مُحرَّم 1436