(535)
(371)
(606)
(339)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ، في مدرسة الجنيد الإسلامية، سنغافورة، الخميس 24 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان:
موقف القيادة الدينية من الأحداث المعاصرة
تحدث فيها عن القيادة الدينية في مواجهة التحديات المعاصرة، مبيّنًا معالمها وأسسها في ضوء الوحي والشريعة.
جزاكم الله خيرًا، وجزى الله الحبيب عمر بن حامد الجيلاني خير الجزاء، وقد شرَّفَ المدرسة، وشرَّف المجلس، وما سمعتم منه من التنبيهات المُهمة في هذا المجال فيه الخيرُ الكثير، وما نحتاجه في فقهنا لمهمتنا، ولواجباتنا، ولأدوارنا التي يجب أن تتم في هذه الحياة.
الحمد لله، جامعكم على الوجهة إليه وإدراك ما يتعلق بكم من المهمات في أداء الواجبات والأدوار التي أُنيطت بكم من خلال كونكم في مرتبة قيادةٍ من القيادات من خلال التدريس والتعليم، وهي القيادة التي رتَّب الله لها الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، لعموم الخلق لإصلاح المعاش والمعاد.
وهذهِ القيادةُ التي تقومُ على أساسين عظيمين، قيادة الدين تقوم على أساس الصبر واليقين، وعلى أساس التحقُّق بالعبادة.
ففي الصبر يقول الحق تبارك وتعالى عمن كان قبلنا من أتباع الأنبياء في الأمم السابقة: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
ويقول عن ساداتنا الأنبياء، سيدنا إبراهيم وولَدَيه إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، يقول: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).
أوصاف القيادة كما يشير إليها القرآن الكريم تتعلق أيضاً بما سمعتم من كلام الحبيب عمر الجيلاني في فضل هذا العلم، وأنه يُعلمنا أنَّنا نحتاج إلى العلم.
كلما ازددنا علمًا، ازددْنا معرفة بحاجتنا إلى العلم، وأن العلم لا نهايةَ له، والله يقول لأعلم الخلق به على الإطلاق وهو نبيُّنا محمد ﷺ: (وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، (وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
ولذا لما رُوي سيدنا الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله تعالى، حامل مِحبرة — ما كان يسهل عليهم الكتابة، يحتاج إلى قلم قُصبي ومعه محبرة وأوراق، ويغمس القلم في المحبرة ثم يكتب — وحامل المحبرة وهو شايب، قالوا: إلى متى مع المحبرة يا إمام؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة. مع المحبرة إلى المقبرة، إلى أن نموت.
ومن هنا عرفتم الحكمةَ المنتشرة بين الناس أن العلم من المَهد إلى اللَّحد، بمعنى أنه يستطيعُ الإنسان أن يزداد علمًا ولن يحيط بالعلم.
لما سأل ابنُ لقمان الحكيم والدَه: مَن الذي يحيط بالعلم؟ فأجابَه: كل الناس، قال: كيف كل الناس؟ قال: فيما مكَّن الله الناسَ أن يعلموه، ما ينفرد في هذا العلم منهم أحد، إلا مجموعُهم يعلمون يحيطون بالعلم، أي يحيطون بالعلم فيما أُوتوه. فيما أُوتي الناس من العلم. ما يحيط به بعضهم دون بعض، فمهما أحاط هذا بأجزاء وأنواع ومواد من العلم، فهناك أجزاء ومواد لم يعرفها، فلا يحيط بالعلم الذي أُوتيَهُ الناسَ إلا كلُّ الناس، كل الناس يحيطون بالعلم الذي أُوتوه.
وأما ما لم يؤتوا، فيجب أن نعلم أننا ما لم نؤتَ أكثر ُمما أُوتينا، والحق يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، ويقول في بيان الحقيقة: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، يعنِي مهما علمتم فما جهِلتُم أكثر مما علمتم، ولا يحيط بالعلم من كل جانب بكل معنى إلا الله سبحانه وتعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
من هنا، أصحاب قيادة الدين يعلَمُون عظمةَ اتصالِهم بهذا الإله، وعظمة هذا العلم من بين العلوم، كما سمعتم في كلام الحبيب عمر بن حامد الجيلاني، أطال الله عمره في لطف وعافية وزيادة من كل خير.
هذا العلم الكريم يحتاج إلى أن يعرف قدرَ العلم المُتعلّق بأمرِ الشريعة، وأنه تحتَ ضَوئه تُستخدم العلوم بأصنافها، ومعنى تحت ضوئِه: أنه لا يُسلك بها مَسلك المخالفة لحكم الله المحيط علمًا بكل شيء، فإنَّ علمَ الشريعة الذي أنزله الله وهو المحيط علمًا بكل شيء يُعطِي الميزانَ لكلِّ ما يُقبل وكل ما يُرفض، وكيفية ما يستعمل؛ أن تكون الكيفيةُ مقررةً من قبل الشريعة المطهرة.
فالحق تعالى بعث الأنبياء والمرسلين بالكتب وبالميزان، يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). والميزانُ: عبارة عن ضوابطَ وأسسٍ يقوم عليها فقهُ ما يُقبل وما يُردّ، ما يُرضى به وما لا يُرضى به، ما يَصح وما لا يَصح، ما هو محمود وما هو مذموم، ما هو صالح وما هو فاسِد، ما هو حقّ وما هو باطل، موجود في الميزان.
فالواعي لكتاب الله الذي نزل يستقرّ عنده الميزان من خلال الأسُسِ والضوابطِ والقواعدِ في فقه الشريعة، ليَقبل كل ما يتفق مع الشريعة، وهو كل ما تترتب عليه حقيقة نفع في الدنيا وفي الآخرة، يتَّفق مع الشرع المصون، ويتَّفق مع الكتاب المُنزّل وبلاغ النبي المرسل ﷺ، وبيانُه عن هذا الأمر.
(أنزلنا معهم الكتاب والميزان)، قال: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، ولم يقل ليقومَ المسلمون بالقسط ولا ليقوم أتباعُ الأنبياء، بل ليقوم الناس، بياناً أن الحكم في الشرع المطهَّر لا يجد الناس أصلح منه لمعاشهم قبل معادهم، ولمعادهم من باب أولى، لا يجدون أصلح منه لهم، وأنه لو فُسِحَ له المجال لقام القسط والعدل بين جميع الناس.
يقول لنبيه ﷺ: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) — ليس بين المسلمين — (بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، بما علّمك الله تبارك وتعالى وبيّن لك الحق تحكم بين الناس، وكل من احتكم إليك فيجد الحق عندك، ويجد العدل والإنصافَ عندك، ويجد إعطاء كل ذي حق حقَّه عندك؛ من خلال هذا الوحي الذي نزل إليك.
فإذًا، علم الشرع مصون ومُعظَّم ومُقدَّس، وجميع العلوم بحسب النية فيها وكيفية استعمالها تكتسب شرفًا أو كرامةً أو خيريةً أو نورانيةً أو حسنةً أو ثوابًا، وبحسب سوءِ استخدامها أو سوءِ النية فيها، إذًا تكتسب ضُرًا أو شرًا أو فسادًا أو إيذاءً أو أيَّ ضرٍّ من الأضرار على المجتمع.
ونقول كل علم: من علم طب أو هندسةٍ أو تكنولوجيا أو علم البحار أو علم الجيولوجيا في الأرض أو علم الفضاء وغير ذلك، كلُّ ما استُخدم على وجهٍ صحيح متوافق مع الشرع، لكن، كل ما استُخدم على وجه يُحرِّمه الشارع ويخالفه، فلا بد أن يترتب عليه ضُر.
الآن، بماذا يتضرَّرُ العالم من خلال استعمال الأجهزة الحديثة؟ عند استعمالها في الإيذاء، عند استعمالها في نشر الفواحش، عند استعمالها في الخديعة والكذب، عند استعمالها في أخذ حق الغير بغير حق، عند استعمالها بأيدي العصابات الذين يضرُّون الناس ويخرجون عن القانون والمجتمع ويؤذون الناس، عند استعمالها في الظلم، ضُر الغير.
هذا شرها، وهذه مشاكلها الموجودة في العالم. ما هناك مشكلة من استخدام حتى الآن الأسلحة التي يتفاخر مع دعوى طويلة في الحضارة والتقدم يتفاخرون بملك الأسلحة الفتَّاكة وأسلحة الدمار الشَّامل، حتى أن أصحابها ما يحبون أن ينافسهم أحد ويقولون لا يجوز لأحد أن يمتلك من هذه الأسلحة الغالية أبدًا إلا تحت نظرنا وبأمرنا ونحن الذين نتفرد بذلك.
ما الشر فيها؟ ما الضرُّ فيها؟ عندما تُستخدم للظلم، عندما يقتل الصبيان بها، عندما تُكسَّر بيوت الآمنين والمنازل بها، عندما تُكسَّر المساجد بها، عندما تُكسَّر مستشفيات بها، عندما تقوم الإبادة الجماعية بها، هذا مصيبتها!
وهذه المصيبة التي وقعت فيها هي مخالفة الشرع، مخالفة الشرع.. لو استُعملت من أجل رد الظلم، من أجل الدفاع عن النفس بالحق، لكانت متطابقة مع الشرع، ولا يكون في استخدامها ضرٌّ لا على مسلم ولا على كافر، لا على رجل ولا على امرأة، لا على صغير ولا على كبير.
لكن أي شيء، سلاح، جوال تلفون، كمبيوتر، وسائل اتصال، إن استُخدمت في مخالفة الشرع تأتي للمجتمع بمصائب، تأتي بمشاكل، تأتي بتعب، تأتي بآفات! لو استُخدِمَتْ من أجل قضاء الحاجات المشروعة، مِن أجل التواصل بين الناس بالمودَّة والبرّ والإحسان، لا استُخدمت في سبّ ولا في شتم ولا في كذب ولا في لعن ولا في متابعة لحق الغير ولا في تتبُّع العورات، لما كان منها مشكلة.
يعني، إذا طُبقت بما يتناسب مع علم الشريعة نفعَت، ومهما خالفَ أسلوبُ تطبيقها علمَ الشريعة المطهرة تضر، فالأمر الجامع، أمرُ الذي أحاط بكل شيء علمًا وهو الله، يتشرّف أهل الدين عند قيامهم به وأخذهم مركز القيادة للناس في أنهم تجاوزوا الأوهام وتجاوزوا التخيُّلات إلى الحقيقة، والحقيقة أن ما عندهم من علم الشرع المصون معصومٌ من حيثُ كونُه من علم الله تبارك وتعالى، في كل ما جاء صريحًا في كتاب الله أو سنة رسوله أو تمَّ الإجماعُ عليه في الأمة، هذه الأمور أمور قطعيّ أحقيَّتها وصلاحيتها وخيريَّتها (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
إذًا، فنحن من خلال إقامة الميزان، والميزان فيما نحن بصدده من الموضوع الذي نتحدث عنه، وضوحُ وبيانُ المقاصدِ لصاحب القيادة الدينية، إذا تبيَّن وتوضَّح له أنه يريدُ إقرارَ المصالح العامة من العَدل ومن الإنصاف ومِن الصدق ومِن الوفاء بالعهد ومن احترامِ الإنسانيةِ، واحترامِ خصوصياتِ الإنسانيَّة من هذه الكلِّيات: الدم والعرض والمال والديانة والعقل.
إذا اسْتَوعبَ أنه يريدُ القيامَ بخدمة هذه الأشياء، ويريدُ الخيرَ للجميع، فما هو واضح أمامه من هذه القِيَم والمُثُل يستطيع أن يُسخِّر علمَه وقيادته لخدمة هذه المُثُل. ما خرج عن هذه المُثُل وخالفها، لا يتصرَّفُ به ولا يرضى لنفسه أن ينزِل إليه، فيكونُ بذلك خائنًا، مضيِّعًا لحق الأمانة فيما علم وفيما قاد الناس إليه.
والعجيب أن هذه القِيَم عقلاء البشر يجتمعونَ عليها، عقلاء البشر المنصفون يجتمعون عليها، ليس المسلمين وحدهم، ما أي عاقل من بني آدم يقول: نحن نريد الظلم، من يريد الظلم؟ نحن نريد أخذ حق الغير، نحن نريد الفوضى، نحن نريد انتشار الفواحش والمحرَّمات وانتهاكِ الأعراض؟! ما هناك عاقل يرى أن في هذا خير ولا مصلحة أصلًا؛ بل قيمةُ العدل، قيمة الصدق، قيمةُ الوفاء بالعهد، أمر ٌمجمَعٌ عليه، وهذا الذي جاء به نبينا ﷺ، بل الأنبياء والمرسلون كلهم صلوات الله وسلامه عليهم، وكان التأكيدُ والتوضيح والتبيِين على يد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
نستوضح الأهداف، نستقبل كلَّ ما يحدثُ وكلَّ ما يجيء، نحاكمه إلى تلك القِيَم، ما يخلُّ بها لا نقبله، ما يتوافق معها نقبلُه، مُوسِّعِين الآفاق بمقدار الصحة، والصحة هنا: موافقتُها للقيم والمبادئ، وما خالف القيمة والمبدأ فلا.
وإذا أردنا أن نستعمل مثلًا وصفَ الحرية مثلًا، ونعدُّها أمر ضروري للإنسان، فإنَّ العقل والقِيم تقتضي أن للحرية معنىً فيما لا يتعارض مع المصالح العامَّة ولا أخذ حقوق الغير، ولا في عاقل في الدنيا يقول معنى الحرية: اضرِبْ مَن شئت، واقتُلْ من شئت، وكل ما شئت، وارفس ما شئت، وخذ ما شئت، واترك ما شئت.. هذا كلام، هذا كلام مجنون أو كلام خارج عن العقل، فما وظيفة العقل إذًا؟ ما وظيفة القانون إذًا إذا كانت الحرية بهذا المعنى؟ ما الداعي للقوانين؟ ما الداعي للدساتير؟ ما الداعي للحُكَّام؟ ما الداعي للوَزارات؟ حرية؟! فوضى ولعب! والله ما تكون الحرية بهذا المعنى!
الحُرية الصحيحة: أن أتحرَّر من دواعي الشر والضر والإيذاء للغير، ما يضرُّني ويضرُّ غيري، أتحرر منها وأتنزه عنها، أنضبط للنظام، أنضبط للقانون، هذا حرية وإلا تقييد؟ لكن نجد هذا الاختلال في معنى الحرية، المتشدِّقُون به في جانبِ معاداةِ الدين، نعم، نظام الدين، نظام الأوامر السماوية، يقول الإنسان حرّ.
لكن في قانونه، في قانون وزارته، حتى قانون مدرسته، حتى قانون الملعب، ملعب الرياضة حقه، لا توجد حرية، أيّ حرية؟ لابد تلتزم، نظام. عجيب! والحريّة فقط أن تعادِي نظامَ الله يعني!؟ أن تعادي قانون الشريعة فقط تتخلى عنه؟ أن تفعل المنكرات في الشريعة هو هذا الحرية عندك؟
يجيئون للمرأة يقولون لها حرية، ما الحرية؟ تتعلم ما شاءت، حرية! تتعلم ما شاءت؟ تملك ما شاءت، طيب، بالحلال؟ هل معنى الحرية أن المرأة تتنكر لِدينها تتبرَّج؟ تظهر زينتَها للرجال الأجانب؟ هذه حرية؟ أن التَّنكُّر لقانون السماء وقانون القرآنِ هو الحرِّية؟ كيف تكون الحرِّية بهذا المعنى؟
المرأة المسلمة لها شرف الانتظام في نظام الرحمن، كما يتشرّف أهل الملاعب وأهل الوزارات وأهل الحكومات بالالتزام بالنظام، فعندها شرف أكبر بالتزامها بنظام من فوق عقول البشر، ومن عند عالِم أحاط بكل شيء علمًا وهو الله جل جلاله وتعالى في علاه، ومن عندِ معلِّم ومُبلِّغ ما عرف الخلق كلُّهم ولا الناس كلهم ولا البشرية كلها أطهر منه ولا أكمل منه ولا أعقل منه ولا أجمل منه ولا أحسن منه، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
إذًا، فنحن نحتاج إقامةَ هذا الميزان أمامَ كلِّ ما يحدث ويستجدُّ في العالم، ونأخذ كل جميل، وكل ما يتوافق مع هذا الشرع من مختلف الوسائل، من مختلف الأسباب، من مُختلف المَظاهر التي لا تمسُّ بثوابت القِيَم، وثوابت الدِّيانة، وثوابت ما يتَّفق عليه العقلاء من جهةِ الكلام على الناس عامَّة.
ونحن بأنفسنا ما يتَّفِق مع منهجِ ربِّنا وقانونِ إلهنا وتعليم خالقنا، وما نستعدُّ به للقائه سبحانه وتعالى ويكون حالُنا جميلاً عند الرجوع إليه جل جلاله وتعالى في علاه، ومن هنا نعطي الأشياء حقها.
سمعتم في كلام الحبيب عمر الجيلاني أننا يمكن أن ننتبه من لغاتنا القومية والتي نشأنا عليها في البلدان، لكن مع هذا ما يُعفِينا ونحن مسلمون مِن معرفة قدر اللغة العربية، لا لكونها لغة العرب، العرب صنف من بني آدم يُقابلهم العَجَم وعددُهم أكثر. لكن ما تشرّفت بكون العرب يتكلمون بِها، ما اكتسبت هذا الشرف إلا مِن حيثُ أن الله اختار أن يُخاطِب بني آدم والجِنِّ معهم من جميع المكلفين من عهد النبي محمد إلى أن تقوم الساعة بهذه اللغة، الله ما خاطب العربَ وحدهم، ولا وجدنا في آية: "يا أيها العرب"، أبدًا! ما وجدنا في القرآن إلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، (يَا بَنِي آدَمَ). لا توجد "يا أيها العرب"؟ هل فيه آية واحدة "يا أيها العرب"؟ ما سمعنا بآية "يا أيها العرب".
الله يخاطب الكل، اختار هذه اللغة، لا بد أن تكون فيها خصائص هي الصالحة للرسالة الخاتمة العالمية، بحكمة الحكيم وعلم العليم، فاختار هذه اللغة، وأنزل القرآن بها، وجعلَها لسانَ نبِيِّه خاتم النَّبيِّين حامل الرسالة ﷺ، فلا إشكال أننا نعلمُ لغات كثيرة ونحترمُ لغة قومنا وجماعتنا، ما هناك إشكال، لكن أن نجهل أو نظن أن احتقارَنا للغة العربيَّة حُريَّة أو تقدُّم أو تطوُّر، نقول: قف عند حدك، هنا لا.
هذه لغة الله خاطبنا بها، وقال لكم الحبيب عمر الجيلاني خصوصًا من أراد أن يتخصص في علوم الشريعة، وهذا صحيح من باب أولى، لأن الخطاب مباشر جاء بهذه اللغة، ففَهمُ دلالاته ومعانيه مع معرفة اللغة أقوى بكثير من أن تترجم لك، قد تكون على قدر المترجِم، فتستفيد على قدر المترجم، والمترجم مخلوقٌ مثلك، بلّغ لك، لكن لما تأخذ مباشرة، على قدر المتكلم وهو الله، يتسع لك المجال نورًا وروحًا.. نعم، قد يمتدُّ شيء من هذا النور والروح بواسطة الترجمة ولكنه محدود ومحصور، لكن لما تأتي مباشرة وتفهم أنت اللغة التي خاطب الله بها والتي خاطب النبي بها ﷺ أمَّته، يكون مجال فهمِك واتساعِك أوسع بكثير، ونورانيتها أيضًا وروحانيتها أقوى عندما تأخذها مباشرة.
بهذا كلِّه عَلِمنا مهماتنا الكبيرة في هذه القيادة الدينيَّة: أنَّنا لا ننخدع بما يُطرح علينا، فكثير مما يُطرح وينشر تلبيس وتدليس وكَذِب.
ذكرنا مثال مثلًا الحرية أو مثال المرأة أو مثال اللغة، على سبيل المثال والنموذج. لكن الحقائق أننا إذا عرفنا قدر القِيَم، وأنها بترتيب مَن خَلَقنا وخلق السماوات والأرض وما بينهما وإليه ميراثها ومرجعها جل جلاله، أننا أدركنا الحقَّ والحقيقة، فنُحاكم كل ما يجيء إلى هذه الحقيقة، فنقبل ما وافق منهج الله تبارك وتعالى، نعم قد نحتاج إلى حُسنِ بَيان، إلى حسن تَعبير، إلى استعمال وسائلَ أمامَ نفسيَّات الناس، عقليات الناس، طريقةُ تفكير الناس تختلف.
فنحن نحتاج أن نورد المورد والمعنى الذي نحمله بما يتناسب مع هذه العقلية، مع هذه النفسية، بالأسلوب؛ فالأساليب والوسائل وطرقُ التفهيم، هذه يأتي فيها التجديد، يأتي فيها الاتساع، لكن الأصل القائم هو هو، ومثاله في تكوين الإنسان، يقال الإنسان تطور وعلى مدى الزمان يتطور، نعم. لكن لما تطور من عهد أبينا آدم إلى اليوم، هل تبدَّل من أنه يمشي على رجلين؟ هل الإنسان تطور صار يمشي على رجل واحدة؟ أو صار ثلاثة وأربعة؟ ما يتأتى! يتغير تقويمُه وتكويمُه يخرج من الأحسن إلى أسوأ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
أمر ثابت، يُبصر بعينين، كمال الإنسان أن يكون له عينان يبصر بهما؛ فهل مع تطور الإنسان يقول لك هو يبصر بجبهة؟ يبصر بيد؟ فهذه ثوابت مهما تطوَّر الإنسان وتقدَّم، نعم، تطور كونُه يستعمل العينين، يجعل لها نظَّارة، ويجعل لها عملية، تمام.. لكن يتبدل أصلُ البصر وأصل النظر ما يتناسب مع الكمال في هذا الإنسان.
وهكذا الكمالاتُ الخُلُقِيَّة كمثل الكمالات الخَلقِيَّة، الكمال الخَلقِي بما جعله الله من هذه الصورة يقابله كمال خُلُقِي، كمال الأخلاق والشيم، فهي هذه، ما يتأتى أنه مثلًا الكذِب عيب وحرام في عهد آدم، لكن بعد ذلك تطور الإنسان صار الكذب جميل، كيف الكذب جميل؟ الكذب كذب، حرام حرام، ضر ضر.. الظُلم كان حرام فقط عند المتقدمين.. نعم وبعدها؟ لما تطورنا الظلم حسن كيف؟ ما يقبلُ العقلُ مثل هذا. فإذًا عندنا ثوابت ما يمكن نقضها، ولا يمكن تغييرها.
فبهذا كله نَعلَم عظمة انتمائِنا لدينِ الله ومنهج الله، وأننا نحن ومن معنا في العالم محتاجون إلى فقه هذا الدين، وإلى وَعيِ ما فيه من المصالح، حتى من لم يُحظَ بالإيمان بالدار الآخرة والإيمان بالإله الخالق، فحياته في الدنيا هذا خير له، صحة وفكرًا واجتماعًا وطمأنينةً وهدوءًا واستقرارًا وأمانًا، هذا أصح، وهذا خير لهم.
فنُعمِل أفكارَنا في كيفية بيان الحقيقة، وأن لا نغترَّ بالأطروحات التي تُناقض هذه الحقائق والتي تريد أن تَحرفنا عن تقديس القِيَم الثابتة الدائمة؛ وهي كُلُّ ما حُرِّم في جميع الشرائع وكل ما وَجب في جميع الشرائع فهو من الأمور العالَمِية المثالية القِيَمِيَّة العامَّة لجميع الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة لا يمكن أن تتغيَّر، وإنما طريقة العرض، الأسلوب، الوسيلة، هذا الذي يأتي فيها التجديد، يأتي فيها التغيير، يأتي فيها استعمال المناسب وما إلى ذلك.
نظر الله إليكم وزادكم توفيقًا، جزى الله القائمين على هذه المدرسة خير الجزاء، ورحم الله المتقدِّمين وبارك لنا في الإدارة القائمة، وفي من يأخذون عنهم، وبارك لنا في المدرسين والمدرسات، وأعاننا على أداء هذا الواجب العظيم والمهمة الكبيرة والأمانة الربانيَّة الدينية الإنسانية التي نَحملها مِن خلال جلوسنا في مقاعد التعليم التي هي في الأصل مقاعدُ الأنبياء والمرسلين. "إنما بعثتُ معلمًا" يقول ﷺ، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.
جمعنا الله وإياكم على الخير وبارك لنا في ما اجتمعنا عليه، والحمد لله رب العالمين.
أحيانًا يأتي تلبيس الحقائق وقلبها بتعبير مُنمق وزين، وصاحبه يُعبر بتعبيرات تبهر السامعين، حتى ما ندري كيف نعمل أمام هذه التعبيرات ونحن نعلم الحق في غير ما يقول، فما ندري كيف نقابل هذا؟
العلم خزائن، ومفاتيح العلم السؤال، فبارك الله فيك.
الإنسان ينبغي له أن يُحرر المسألة، إذا سأل عن مسألة أن يحررها حتى يكون الجواب مطابقًا لها، هذه المسألة التي هي عدم الإحاطة بكلام المتكلم، والتصوُّر على غير مراد المتكلم، يكون معه الاستيضاح، ويكون معه السؤال، فالإنسان بقدر ما يستطيع أن يستوعب الكلام يكون عنده التصوُّر المناسب المقصود من كلام المتكلم والموجِّه والمعلِّم، كما سمعنا في التوجيهات التي فيها التأسيس، وفيها الكلام النفيس في كلام الحبيب عمر بن حفيظ، حفظه الله تعالى.
فالكلامُ هو باللغة العربية، واللغة العربية هي التي فيها التوجيهات النبوية والتوجيهات القرآنية، إذا أشكَل على الإنسان السامع شيءٌ ممَّا لم يكن له به دِراية فليستوضحْ، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يستوضِحُون من رسول الله ﷺ ما خفي عنهم، وبيَّن الله عز وجل ذلك حين قال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ)، البينات التي هي الدلائل التي يكون بها إيضاح الحقائق، يستفسر الإنسان عما أشكل عليه، وإلا فالكلام عليه نورانية، والنورانيَّة هذه تخترقُ القلوبَ فتصل إليها وتتمكَّن منها ويكون بها الهدايةُ من الله والدلالة الموصلة للمقصود. بارك الله فيك.
أحسن الله إليكم. وهكذا، هذا يبين الحبيبُ عمر الجيلاني أنه: ما لم يتوَضَّح للسامع من كلام المتكلم، طريقه فيه الاستيضاح والاستبيان، وأنه أيضًا قد يَشعرُ في قلبه بنورانية الكلام إذا جاء من وجهِ الحق، والأمر كما ذكر، هذا على وجه سؤال.
الوجه الثاني للسؤال، قد سألت أيضًا في سؤالك طرحت طرح ثاني أيضًا أنه: إذا كان أحد من أرباب التلبيس للحقائق وأهل الباطل يريدون ويطرحون قضاياهم بشكل مُزخرف، قول وحُجة وفي ظاهره حجة، حتى يتحيَّر السامع كيف يردّ عليهم، وهذا الذي كان يقول فيه سيدنا عمر فيما ورد عن النبي ﷺ: "إن أخوَف ما أخاف عليكم المنافق العليم". منافق عليم، قال: كيف يكون منافق عليم؟ قال: عليم اللسان، لسانه عنده علم لكنه منافق، فيفسدُ الأمة ويأتي بكلام.
كذلك أيضًا الذي يطرح حتى من غير المسلمين، أحيانًا يطرح أمر غير صحيح، لكن يحاول يستدلُّ عليه ويُزخرف القول عنده، وهذا الذي ورد أيضًا في القرآن: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا).
فالطريق في هذا: تزَيُّنُك أنت بالثبات على الحق، وبحسنِ التَّأنِّي، والبيان ما تستطيع؛ لا بد أن يَغلب الباطل قريب أو بعيد. تحتاج إلى تأمل وحسن تبيين بما تستطيع وصبر، ومقارنة لهذا القول بأقاويل الحقّ من كلام الله وكلام رسوله ﷺ وكلام الصالحين، عندها تتضح لك، وتتضح لك أيضًا كيف تردّ أو كيف تُجيب، فتحتاج المسألة منك إلى استيعاب وصبر وحكمة وحسن بيان بما تستطيع، وثباتك أنت على ما أيقنتَ أنه الحق هو زينة من الزِّيَن الباطنية يغلب زخرف القول هذا الذي يُروِّجه ذا وذاك قريبًا أو بعيدًا.
اللهم اقْبَلْنَا في مجمعنا، واقبلنا فيما وفقتنا له، واقبلنا فيما أسمعتنا، واقبلنا فيما أنطَقْتَنا، قبولًا حسنًا نحصُلُ به وبواسطته على نتائج طيبة مباركة للإدارة والمعلمين والمعلمات، وتصل إلى الدارسين والدارسات، ويصل ثوابها إلى المتقدمين من أهل الإدارة والمعلمين والمدرسين والمدرسات السابقين، ومؤسسي هذه المدرسة، ارحمهم واغفر لهم واجمعنا بهم في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا، وكل ما نووه من الصالحات ثَبِّته في المدرسة وفي أجيال المدرسة جيلًا بعد جيل، وهيِّئْهم للقيام بالأمر على ما هو أحب.
وانظر إلى المسلمين في سنغافورة وبقية شرق آسيا وآسيا كلها والمشرق والغرب من المؤمنين والمؤمنات، أصلح شؤونهم واجمع شملهم وارزقهم أداء الواجب والأمانة في حسن التعليم والتفهيم والتبيين ونفع العباد.
اللهم اجمعنا على ما تحب واجعلنا فيمن تحب، ولاحظنا في حركاتنا وسكناتنا بعين عنايتك، فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، يا حي يا قيوم.
اللهم يا عالمًا بكل شيء، ويا قادرًا على كلِّ شيء، نسألك بعلمك بكل شيء وقدرتك على كل شيء أن تغفر لنا كل شيء، وأن تصلح لنا كل شيء، وأن لا تسألنا عن شيء، وأن لا تعذبنا على شيء، وأن تسلك بنا مسالك الصالحين من عبادك بمحبتك وودادك. (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ).
24 ربيع الثاني 1447