(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد العلامة الحبيب عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه بمناسبة افتتاح إعادة عمارته، ليلة الأحد 8 جمادى الآخرة 1444هـ في حارة دمون بمدينة تريم، بعنوان:
مهمة المرسلين في تخليص البشر من شر الأهواء والشهوات والغضب ومعالم هدايتهم وما جاء به خاتمهم ومدرسة حضرموت
الحمد لله، الملك الحقِّ المُبين المعبود لا معبود لنا سِواه، ونشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، إلهاً واحداً وربَّاً شاهداً ونحن له مسلمون، ونشهدُ أنّ سيِّدنا ونبيّنا وقُرَّةَ أعيُننا ونور قلوبنا مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ وحبيبهُ الأمين المأمون، ختمَ الله بهِ الأنبياء والمرسلين وجعله عندهُ أكرمَ الأوَّلين والآخرين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على الرَّحمةِ المُهداةِ والنِّعمة المُسداةِ سيِّدنا محمد، أرسلْتَ قبله الأنبياء بالهدى لإخراج الناسِ من شرِّ أهوائهم وأنفسهم الأمَّارة وغلَبت الشهوة عليهم واستيلاء الغضب في غير موضعهِ، وهي آلات عدوِّهم إبليس التي يقودهم بها إلى مخالفة أمر الله، وإلى الخروجِ عمَّا أحبَّ الله في قولٍ أو فعلٍ أو نيةٍ أو حركةٍ أو سكونٍ أو معاملةٍ من نظرٍ وسمعٍ ونُطق، فإنما يُغوي عدوّ الله من استجابَ له بواسطة وسائل الشَّهوات والغضب، ووسائِل النفس الأمَّارة بالسوء والأهواء التي يَضِلُّ بها من يَضِلّ عن سبيل الله.
فبعثَ الله الأنبياء بِهذهِ المُداواة للنفوس البشرية الإنسانية لتؤمن بالله على التَّقديس والتَّنزيه والتَّوحيد والتفريد والتمجيد، وتفعل بِمُقتضى هذا الإيمان محبَّةً له وهَيبةً له وخشيةً مِنهُ ورجاءً لما عِنده وخوفاً منه جلَّ جلاله وتعالى في علاه، ولِتُؤمنَ بِملائكتهِ وكُتبهِ ورُسلهِ واليوم الآخِر والقَدَر خيرهِ وشرِّهِ مِنَ الله، وأُخِذَ عليهم العهود والمواثيق أن إذ بُعِث محمداً أن يؤمنوا به ويتَّبعوه.. الرُّسُل والأمُم، وأخَذَت الرُّسُل على أُمَمِهِم هذا العهد.
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وقد أتانا خاتِمُ الرِّسالة ** بِكُلِّ ما جاؤوا به من حالة ** فَعَمَّ كلَّ الخلقِ بالدَّلالة ** وأشرقت مناهِج الكمالِ
فكلُّهُ فضلاً أتى ورحمة ** وكلُّه حكمُ هُدىً وحِكمة ** وهو إمام كُلِّ ذي مُهِمّة ** وقُدوَةً في سائر الخِصالِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم
وهو بِحَقِّ الشُّكرِ ما أولاهُ ** إذ قام حتى ورِمتْ رِجلاهُ ** وواصلَ الصَّومَ وقد أولاهُ ** مولاهُ أولى الفضل والإفضالِ
وأسوةٌ لِمُعسرٍ مِسكينِ ** إذ صحَّ لم يشبع ولا يومينِ ** وقد أبى جِبالها من عينِ: أي من ذهب، وقد أبى جِبالَها: رفض أن تكون الجبال وبطحاء مكة ذهباً تمشي معه.
وقد أبى جِبالها مِن عينِ ** زُهداً ومنٍ جوع طَوَى ليالي
وأُسوَة المكروب في اصطبارِ ** في كُلِّ ما لاقى من الكُفارِ ** حتى رُمِي بالفرثِ والأحجارِ ** وما دعا إلا على رجالِ
ولم يزل للحقِّ في اجتهادِ ** وبعد فرضِ الغَزوِ والجِهادِ ** ما قرَّ في ظلٍّ ولا بلادِ ** إلا على الكُفار في قتالِ
وما مضى حتى أقامَ الدَّينَ ** وصار سهلاً واضحاً مُبيناً ** فلم تخف أُمَّتهُ فتوناً ** بل عُصِموا في الجمعِ عن ضلالِ
والخلفاءُ بعده والعِترة ** بهم مع القرآن مُستمِرّة ** مِلَّتهُ محفوظةٌ من فترة ** على الهدى دأباً بلا انفصالِ
وصحْبهُ فيهم لهم نجومُ ** منهم عليهم فاضتِ العلومُ ** كُلٌّ له مُقدَّرٌ مقسومُ ** من ظاهر أو باطن أو عالِ
اللهم صلِّ وسلِّم على النور المبين، خاتمِ النبيِّين وسيِّد المُرسلين الهادي إلى الصِّراط المُستقيم، عبدك المُجتبى محمدٍ ذي الخُلُقِ العظيم، وآلهِ وصحبهِ ومن سارَ على درْبِهِ وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرَّبين وجميع عبادك الصالحين.
وهذهِ الأبيات التي فيها مُلخَّص شؤون الرِّسالة النَّبوِيَّة المُحمدية، وما سمِعتم من قصائد في رشفة من هذه الرَّشَفات وفي الوَصِيَّة التَّائِيّة التي سمعتم المُعَلّم سعد با غريب يُنشِد بها للإمام عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وكان قد أرسل الرشفات في شبابه إلى علماء مكة المكرمة وذلك أنّهُم طلبوا منه الاتِّصال بِسَندهِ والإجازة منه فيما وصل إليه من أسانيد العلوم عام حجِّهِ، ذلك في أيام كان في شيء وثلاثين من عُمره - عليه الرحمة - وأدباً وخضوعاً وما تفيض به القلوب من التواضُعِ لله والإخلاص له والهَيبة، قال: أهل مكة أنا أجيزهم؟!
ومِن عَجَبٍ إهداءُ تَمرٍ لِخَيبرٍ ** وتعليم زيدٍ بعض علم الفرائضِ
فعاودوهُ بالطَّلب والسُّؤال إلى حضرموت - بعد رجوعهِ - بالرِّسائل، فأنشأ لهم هذه الرَّشفات وأجازهم وأرسل لهم الإجازة، واطَّلعَ على الرشفات شيخهُ الإمام الحدّاد وقرّض عليها، وتوفي الإمام الحداد وهو في الأربعين من عمره ولكن هذا مِن قبْل الأربعين كانت حَجَّته ولقاءه بِعُلماء الحرمين وطلبهم الإجازة منه بعد رجوعهِ وإرساله لهم، كلُّه وهو في أيام الثلاثينات من عُمُره عليه رحمة الله ورضوانه.
يقول في مطلعها:
إخواننا بالمسجدِ الحرامِ ** مِنَّا إليكم أكمل السلامِ ** وحمدِ ربٍّ عَمَّ بالإنعامِ ** ومَنَّ بالتفضيلِ والإفضالِ
وحقُّ وُدٍّ ثابتٍ قديمِ ** بِوِفقِ عهدٍ بالصَّفا قَوِيمِ ** قد تَمَّ بين الرُّكنِ والحَطيم ** على الصَّفا في الحالِ والمآلِ
فلم نزل عنكُم به نُسائِل ** نشر الصَّبا ونسمةَ الشَّمائِل وما أتتنا منكمُ الرَّسائِل ** إلا وأحيَتْ سِرَّ بالٍ بالي
ثم يقول:
فليستمعْ من كان ذا أشواقِ ** إلى صِفاتِ القَومِ والأخلاقِ ** وليتَّبِعْ فالحقُّ ساقٍ باقي ** قد عَمَّ كُلَّ الخَلقِ بالنَّوالِ
في هذا بيانُ شأنِ المدرسة، مدرسة حضرموت وصِلَتَها بِالحَرَمَين وعُلماء العالَم على مدى القرون الماضية، وما كان منهم على قدم الصِّدق والإخلاصِ والتَّواضع والإنابة بالشواهِد، شواهِد أحوالهم وشواهد أقوالهم وشواهد مُؤلَّفاتهم وشواهد مَوروثاتهم وشواهد تَرِكاتهِم، وشواهد من اتَّصلَ بهم من عُلماء الشرق والغرب عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وعْيِهِم لِوَحيِ الله وإدراكهم لِمَعانيه ولِبَلاغ الرَّسول المُصطفى صلى الله عليه وسلم، لم تمتزِج بِنَفس ولا هَوَى ولا إرادة سُلطة ولا محبَّة جاه ولا كسْب مال، ولا أيِّ غَرَض من الأغراض التي تُصيبُ نفوس النّاس، تُصيبُ نفوس الناس فتهدِم الأساس وتُحضِر البأس وتسلِّط الوسواس الخنَّاس، وتتحوَّل عِباداتُهم وطاعاتُهم إلى رياءٍ أو عُجُبٍ أو غرورٍ أو كِبرٍ أو يُثمِرُ حسداً أو تقاطُعاً أو تنازعاً وما إلى ذلك.
وما كان شأن الإيمان والعبادة إلا أن تُصفِّي القلوب وتُنقِّيها وتزيدها تواضعاً وإنابة ومحبَّةً لله ومحبَّةً لِرَسولهِ، محبّةً لآلِ بيتهِ، محبّةً لِصحابتهِ، محبّةً لِأمَّتهِ عامة وخاصتهم خاصّة، ولكن كُلّما ضاق علم الإنسان ضاق خُلُقُه وضاق فكره، ومن وَعَى أسرار الخِطاب الإلهي اتَّسعَ خُلُقه واتَّسعَ فِكره وَوَسِعَ النّاس.
والحمد لله على بروزِ هذه المدرسة بِخيراتها، والتي رُبَّما يعرِف مِن قَدْرِ سِرِّ الإرثِ النَّبَوي الذي فيها والعُمق في فهمِ معاني الوحي والتنزيل أناسٌ في الشّام أو في مصر أو في المغرب أو في أفريقيا أو في الهند أو في شرق آسيا أو من الذين بحثوا وأسلموا جُدَداً في أوروبا أو أمريكا أو غيرها من الدول، ويجهَلُ هذه المدرسة ومعانيها وعُمقَها وقَدرها مَنْ نَشَأ وسط البلد وبيْنَ أربابِ إرثِها وبين أَئِمّتها ورِجالها وبين مآثرهم، ورُبَّما عَمِلت التّأثيرات مِن قِبَلِ النَّفس أو مِن قِبَل تَسلُّط الهَوَى أو من قِبلِ ما يُسْتَورد لنا من الشرق أو الغرب على إبعادِ نُورانِيَّة الصَّفاء والنَّقاء، وإقامة عبادَةِ الله على الأدبِ مع الله والخضوعِ لِجلالِ الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، وتنْقِيَةِ القلبِ الذي هو محل نَظَر المعبود سبحانه وتعالى مِن كُلِّ ما لا يرضاه، ولا يرضى من واحد من عباده المؤمنين أن يرى نفسهُ أعظم وأفضل من أحدٍ مِن خلقِ الله لأنهُ غيَّبَ الخواتيمَ وغيَّبَ العواقِب عنهم، وطلب مِن كُلِّ واحدٍ منهم أن يخافهُ.. ما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو نادى مُنادٍ في القيامة كل الناس يدخل الجنة إلا واحد لَخَشيت أن أكونَ أنا ذلك الواحد، يقول سيدنا عمر الذي يفْرُق الشيطان من ظِلِّه، ثاني الخُلفاء الراشدين، لخشيتُ أن أكونَ أنا ذلك الواحد.
هذا أثرُ تَربِيَة رسول الله في أصحابه وهذا الذي قرأناهُ في سِيَرِ رِجالِ مدرسة حضرموت، ومِن أبرزهِم وأعظمهِم مُؤَسِّس هذا المسجد الذي سُمِّي بالقُبَّة أولاً وجاءت فيهِ هذهِ العِمارات كما سمِعتم في كلام الأحباب، والأصلُ هو الأصلُ في التَّأسيس، ولقد ذكرَ الحقُّ هذه الحقيقة في كتابهِ مبيَّنة، يقول لنبيه: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) أُُسِّسَ على التقوى: تقوى الرحمن التي مِن شأنها أن يَمتلِئَ القلب بالخشية والخوف والخشوع والخضوع، إذا تجدوهم ملأوا قُبَبهم ومساجدهم بل ودِيارَهُم بل وشِعابَهُم وَوِديانَهُم بِبُكاءِ القلوب والدُّموعِ الجارية من العيون، خوفاً منه ومعرفة به ومحبَّةً وشَوقاً إليه جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وكُلُّ عينٍ باكية يوم القيامة إلا عين بكتْ مِن خَشيةِ الله، وعين سهرتْ في سبيل الله، وعين غَضَّتْ عن محارم الله، جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وقامت بهم البيوت التي أَذِنَ الله بِرَفْعها وأن يُذكَر فيها اسمه (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
وَرَوينا في صحيح الإمام البخاري أنَّ سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه كان صغير السن قد يكون خارج المسجد في صِباه، يقولُ "إنَّ رفْعَ الناسِ أصواتَهُم بِالذِّكرِ عَقِبَ الصّلاة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنتُ أعلم أنَّهُم انصرفوا - يعني سلَّموا من الصلاة خرجوا - بذلك إذا سمعته"، لما أسمع أصواتهم بالذِّكر في المسجد عَلِمت أنّهم سلَّموا خلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، خرجوا من الصَّلاة خلفَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم للذي علَّمهُ حُرْمةَ المساجد، قام يبول في ناحية من نواحي المسجد وأراد الصحابة أن يَنهوه قال اتركوه، حتى قضى بَولَه قال هاتوا ذَنوباً مِن ماء - دَلو من ماء - رُشُّوه، صُبُّوه على البول وادعوه إلي، جاء.. قال: "يا هذا إن هذه المساجد لا تصلُح لشيءٍ من هذه القاذورات، إنما هي لِلذِّكرِ والصّلاةِ والقرآن والدُّعاء"، فذكرَ وظائف المسجد مِن أعْظمِها الذِّكر (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ يسبح له فيها بالغدو والأصال * رجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ).
وروى الطبراني بِسَندٍ حسن عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ سيعلم الجمع اليوم مَن أهل الكرم، قالوا مَن أهل الكَرَم يا رسول الله؟ قال: أهل حِلَق الذِّكْر في المساجد"، ويروي لنا الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما من أهل السُنَّن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سيَّاحين طوَّافين في الأرض يلتمسون حِلَق الذِّكر، فإذا وجدوا قَوماً يذكرونَ الله تنادَوا هَلُمُّوا إلى طَلِبَتكُم، هَلُمُّوا إلى حاجتكم، فَيَحفُّونهُم بِأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فإذا انفضَّ المجلس قال الله من أين جئتم؟ قالوا من عندِ عِبادٍ لك يُسبِّحونك ويحمدونك ويُهلِّلونك ويُكَبِّرونك" - سمعتمونا في المجلس نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر - "يقول الله: هل رأوني؟ يقولون: سبحانك يا ربّنا ما رأوك، يقول: كيف لو رأوني؟ يقولون يا ربنا لو رأوكَ لكانوا أشدَّ لك ذكراً وأكثر تسبيحاً وتهليلاً، يقول فماذا يسألونني؟ يقولون يسألونك الجنة، يقول فهل رأوا جنتي؟ يقولون يا ربنا ما رأوها، يقول كيف لو رأوها؟ يقولون ياربنا لو رأوها لكانوا أشدَّ لها طلباً وأعظمَ فيها رغبة، يقول وممَّ يستعيذون بي؟ يقولون مِن نارِك يا رب، - نسألك رِضاكَ والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار - يقول هل رأوا ناري؟ يقولون سبحانك يا ربنا ما رأوها، يقول كيف لو رأوها؟ يقولون لو رأوها لكانوا أشدَّ مِنها فراراً وأشدَّ لها مخافة، يقول فَأُشهِدكُم يا ملائكتي أنِّي قد غفرتُ لهم، قال فيقول مَلَكٌ من الملائكة يا رب إلا فلان بن فلان عَبدٌ خطَّاء ما جاء للذِّكر وإنّما جاءت به حاجة فجلس معهم، قال فيقول الله: وله قد غفرت هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهُم"، وهذا مِمَّا أثْبَت لنا رسول الله في بركةِ ونفعِ العبادة الخالصة المقبولة عند الله للجليس للغير، من عند العاملين إلى من حواليهم: "هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم"، يقول سبحانه وتعالى "هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم".
ونزلت الآية الكريمة: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) هم هؤلاء ولا تتشوَّف سِواهم، (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، فخرج صلى الله عليه وسلم فوجدَ في المسجد مِن فُقراء الصحابة قوم يدْعونَ الله ويذكرونه فجلس معهُم، وقال: "الحمد لله الذي أراني في أمَّتي مَن أمرني أن أصبِرَ نفسي معهم".
وكان مِمّا عُمِرَ به مسجد رسول الله في حياته وبعد وفاته وانتقالهِ للرفيقِ الأعلى إلقاء الشِّعر الطَّيِّب في مدحِهِ وفي الذَّبِّ عنه وعن الإسلام وفي هِجاء المشركين وكان حسَّان بن ثابت، وَرَوى لنا الإمام البُخاري في صحيحه عليه رضوان الله أنَّ عُمَر بن الخطاب مَرَّ على حسَّان في مسجِد رسول الله وهو يُنشِد الشِّعر، يقول الشِّعر في مسجد صاحب الرسالة زَين الوجود في أيام خِلافة سيدنا عمر، وسيِّدنا عُمر الفقيه الواسع العارف كثيراً ما يُثَبِّت في المواقف أحكام المسألة بِطريقة السُّؤال والاستفزاز، يقول: "يا حسَّان أشِعرٌ في مسجد رسول الله!" شِعر وسط المسجد حق النبي تقوله؟! فالتفت سيِّدنا حسّان وإذا به أمير المؤمنين، قال: "لقد كنْتُ أقوله في المسجد وفي المسجد من هو خيرٌ منك"، قال أنا أقول الشِّعر و في المسجد من هو فوقك وأعظم منك وأشرف منك.. يقصد رسول الله، سيدنا عمر يعرف ذلك يبغى الناس يسمعون، والتفت يقول لهم: ما سمعتم النبي يقول عني يدعو: اللهم أيِّدهُ بِرُوحِ القُدُس، قال له الصحابة نعم سمعناه.. أنت تقول الشِّعر وهو يدعو لك: اللهم أيِّدهُ بِرُوح القُدُس، تبسَّم سيدنا عمر، قال فانصبوا لِحسّان كُرسي يجلس عليه.. اقعد فوق الكرسي هات شِعرك في مدح رسول الله صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلّم.
سُننٌ عُمِرَت بها مساجد الأخيار في شرق الأرض وغربها ومضت، ما عرف الناسُ في عصرِنا شؤونَ الهجمات والانتقادات إلا بعد أن دخل فينا من عناصر المُفَرِّقين والباعثين لِحالِقَةِ الدِّين، وما حالِقَةِ الدين؟ البغضاء، وهي الأمر الذي لا يجد الشَّيطان سبيلاً إلى المسلمين المؤمنين المُوَحِّدين يُضِلّهُم به ويُوقِعهُم في شَرِّهِ مِثل هذا التَّحريش، فقد روى الإمام مُسلِم في صحيحهِ عن سَيِّدنا المُصطفى: "إنَّ الشَّيطان قد أَيِسَ أن يعبدَهُ المُصَلُّونَ في جزيرة العرب"، أي ما عاد صار يطمع واحد مُصَلِّي يعتقد أن مع الله إله آخر لا مَلَك ولا ولي ولا نبي ولا سارية ولا قبر ولا صنم ولا شمس ولا جِنِّي ولا إنسي، مُصَلِّي يشهد أن لا إلهَ إلا الله مُحمّد رسول الله ما يُمكِن أن يعبُد غير الله تبارك وتعالى.
"أَيِسَ أن يعبدهُ المُصَلُّون في جزيرة العرب، فإن يطمع في شيءٍ فَفِي التّحريش بينهم" هذا غاية ما يطمع فيه عدُوِّي وعدوُّك وعدو أبيك آدم وعدو البشرية، بِنَصِّ القرآن: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) طمعُهُ أن يُحَرِّشَ بيننا، فهل ترضى تكون عنصر معه؟ جُندي له في هذا! هذا طَمَعه.. أن يُحَرِّش بين المؤمنين، وصلتْ أيادي التحريش دخلوا في الدُّنيا ودخلوا في الدين وأرادوا أن يُفَرِّقوا بين المؤمنين، وَأوصَلونا إلى أحزاب وفئات تتقاتل وشعوب وحكومات تتقاتل وألعاب لَعِبوا بها في العالم الإسلامي، واليوم يُرينا الله أثر من آثار نِقمَتهِ وحِكمَتهِ، الحروب تُهدِّدهُم كما لَعِبوا على المسلمين في أوطانهم صارت أوطانهم مُهدَّدة، وكما لعبوا على المسلمين حتى أوصلوهُم إلى الأزمات وهَدْمِ البُنْيَةِ التَّحتِية وانقِطاع الكهرباء وقِلَّة بعض الحاجات المَعِيشية، صار الآن في بُلدانهم مُدَّعِية التَّقدُّم والتَّطوُّر، يظهر شبح ذلك وجاء الطوابير وانطفأت الكهرباء في مدن كثيرة وكبيرة في بلدان التقدم والتطور، وقلَّ الماء في كثير من أماكنهِم وباشَرهُم الثَّلج في هذا العام بما لم يعهدوا، وكان ما كان لِيَعلم من يعيش على ظهر الأرض أن للأرض مَلِكاً وإلهاً، ليست لعبة لِمَن أراد يُصَلِّح له حزب وسياسة وأمن قومي ومجلس أمن يعْبَث كما يشاء، فوق المُلكِ مَلِك، فوق السَّماء والأرض إله، وتأتي النَّتائج حتى تكاد الدنيا أن تكون دار جزاء، ما هي إلا دار عمل عاد الجزاء مُقبِل، ستنكشف السِّتارة سَيُعيد الله كلاً مِنهمُ وسيجزي فاعلاً ما قد فعل.
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)
أيّها الأحباب: أنتم في بُقعة مُباركة وذُكِرَ عنها كثيرٌ من الخير، وكانت تذكر لي الوالدة عليها رحمة الله وقد عاشت سنوات في دَمُّون: "شاهدتُ بينهم صغار وكبار، رجال ونساء بمُختلف شرائحهم مَوَدَّة ومَحبَّة وتعاوُن قَلَّ ما شاهدتُهُ في الأماكن الأخرى"، آثار من آثار التربية وآثار إرث، إرث التَّربية النّبوِيّة على مدى القرون حَلَّت، فكانت تتعجَّب أيّام الشِّيُوعِيّة عندنا: "كيف يظهر هذا الشَّطَط مِن مثل هذه البلدة من مثل هذا المكان! كنت أعرفهم وأعرِف حالهم ما هم حق نزاعات ولا حق أذى لبعضهم البعض" سبحان الله! جاءت عوامِل أفقدتنا هوِيَّتنا، أفقدتنا تراثنا، أفقدتنا سندنا إلى مُحمّدنا صلى الله عليه وسلم، وتدخَّلَتْ بِمُسَمِّيات مُختلفة والمقصود زعزعة أُسُس الأدب مع الله ومع رسولهِ ومع الخلق بينهم البين من أجلِ الله، جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وكنتُ في صِغَري أتردَّد مع الوالد إلى مسجد مشهور يعقد فيه بعض المُذاكرات والتَّعليمات عليه رحمة الله، في المرحلة التي مرَّتْ تعرفون ما حصل علينا فيها وما نازَلَ بلدنا وأهل بلدنا، أوذي وتُعِرّض له في بعض المرات وهو يتكلم وقيل تنهق مثل الحمار أو شيء من هذا الكلام، ظهرت آيات بعد ذلك في المُتَكلِّم، رَحِمَ الله الجميع ذهبوا إلى ربِّهم ومَرَّت الأيام والسَّنوات، وتزعزعت الشيوعية لا في عدن ولا في البلدان التي امتدَّتْ يدها إليها بل في قلبِها ومِن منبعها ووسط موسكو وتدهورت، وراحت تلك الأفكار التي بِوَاسِطتها سُحِل كثير واختُطِف كثير وسُجِن كثير وأوذي كثير مِن عباد الله في بُلدانهم نفسها.
لمّا دخلنا الشيشان جاءوا بِنا إلى جامعة أقاموها فِقهِيَّة على مذهب الإمام الشافعي لأن المنطقة الفِقه فيها شافعي، يُدَرِّسون المِنهاج للإمام النَّوَوي وكُتب الفِقه الشافعي وغيرها، وقالوا هذه البُقعة كانت محلِّ المَطحنة.. ايش المطحنة؟! مطحنة العلماء، ايش مطحنة العلماء؟ قال أقاموا مطاحن ويجيبون العلماء ويُدخِلونهُم بِوسط المطحنة يطحنون، وأرونا وراءها نهر يُخرجون جُثثهم إليه وإلى البحر، المحل الذي كانوا يطحنون فيه أهلِ العلم صار جامعة ويُدرَّس فيها القرآن والحديث والسُنّة وفِقه الإمام الشافعي والآداب والأخلاق.. الله الله الله الله!
ونرى بِحَمدِ الله في مسجد مشهور وفي بَقِيَّة مساجد دمّون المجالس والمُذاكرات والحلقات، الله يُنَوِّرها ويجعلها على هُدى واستقامة وينفع بها الصغير والكبير والذَّكَر والأنثى، وراحت تِلكَ المرحلة وهذا واحد شفناه وشفنا أشياء كثير وتقلُّبات، فالمغرور من يغترَّ بِمرحلة أو بِزَمن أو بِوضع أو بِحكومة أو بِحِزب أو بِفِكر أو بِقبيلة أو غير ذلك.
أيُّها المؤمن: الكلُّ ذليل وربُّك جليل، أيُّها المؤمن الكلُّ عَبد وربّك معبود، أيها المؤمن الكل فاني وربك باقي، أيها المؤمن: إن أردْتَ اعتماداً على شيء فَعَلى التقوى والأدب مع الله فقط، ما سِوى ذلك لن يدوم لك ولن يبقى لك، لِذا قال سبحانه: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والعوام عندنا كانوا في حضرموت يُكرِّرون قَولة بينهم البَين مِن جملة أمثِلتهم: "التُّقى فيه البقاء" ، بغيت شيء يبقى ويدوم لك خلك على تقوى مع الله! أما شيء تخون الأمانة مع ربك فيه بإيذاء ذا أو ضُر ذا أو كِبر على ذا أو خيانة لذا أو غش لذا! أنت وإياه مرة بتسقطون.. بيروح عليك، التُّقى فيه البقاء، التُّقى فيه البقاء لأن المُتَّقِي يبني على أساس ما ينهدم، يرعاه الرَّب سبحانه وتعالى.
وهكذا ورأينا صاحِب الرِّسالة الأصل لنا ولِكُلِّ خير في العالم وفي الوجود صلى الله عليه وسلم حتّى رُمي بالفرْثِ والأحجارِ، ووضعوا الفرْثَ فوق جسدهُ الشَّريف في ظهره ورقبته، ابن مسعود ينظُر يتألّم ما قدر يقرُب مِن النبي يُنَظِّفه خشية من عُتُوِّ هؤلاء، راح إلى عند ابنة النبي فاطمة وهي طفلة صغيرة يقول إلحقي أباكِ وضعوا الأوساخ.. جابوها السَّلا حق الجزور والوسخ وحطوه فوقه والفرث، فجاءت وأخذت تحمِل الأوساخ مِن ظهرِ أبيها ورسول الله ساجد عند الكعبة حتى نظَّفتهُ وأقبلت عليهم تقول لهم تفعلونَ هذا بِأبي وهو يدعوكم إلى الله عرفتم خُلُقَه! فأقبلت تؤنِّبهم على ما يفعلون فرفعَ رأسه من السجود وكانوا يضحكون عليه يتمايلون من الضحك، فلمّا رفعَ رأسهُ من السُّجود رفع يديه يدعو انتهى ضحكهم وصاروا خاشيين، يعلمون أنّه صادق وأنه رسول وأن دعاءه مستجاب وهم إن كانوا مشركين.. أن دعاءه مستجاب عند الرب! فسمّى رجالاً كلهم قُتِلوا في يوم بدر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ومضتِ الأيام جاء يوم إلى الكعبة المُشرَّفة يُريد يُدخل، فيها بعض زُعماء قريش خرجوا فدافعه الذي يمسك مِفتاح الكعبة وردَّهُ وقفلوا الباب، قال يا عُثمان بن طلحة لعلَّكَ ترى هذا المِفتاح يوماً بِيَدي أضعهُ حيث شِئت قال أنت؟ إذنْ ذلَّت قريش وخَرِبت، قال: "بل عزَّتْ وعمرتْ". أنا ما أجي بالانتقام ولا بالبغضاء.. إذا جئت فالعِزُّ معي والعَمار معي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومرَّت السَّنوات وجاء عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، وجاءوا بالمِفتاح ومسكه حبيبِ الفتّاح ودخل الكعبة وأمسك بِعُضادَتي الباب، وكُفار قريش مُجتمعون بين يديه الذين آذَوه وشَجُّوا جبينه وجرحوا وَجنتيهِ ووضعوا السَّلا فوق ظهرهِ وأخرجوه من بلدهِ، يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعزَّ جُندَه وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش ما تظنّون أنّي فاعِلٌ بكم؟" ايش بعمل فيكم؟ نَكّسُوا رؤوسهم، "يا معشر قريش ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟" قالوا خيراً أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم، همُ الذين كانوا أول أمس يقولون كذّاب ساحر مجنون! قالوا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء"، فكأنما نُشِروا مِن قبور وأخذوا يُديرون الحديث بينهم: والله ما طابت بهذا إلاَّ نفس نبي، وأقبل مَن أقبل على دين الله (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ).
ومن أيّامه إلى اليوم كم حاولوا قتله وكم حاولوا النَّيل منه، وكم حاولوا إطفاء النور الذي جاء به ونراهُ يتجدَّد في شرقِ الأرض وغربها، وما مِن الدُّوَل اليوم في الشرق والغرب إلا وفيها ذِكر مُحمد بن عبد الله، وسيصل دينهُ إلى كُل بيت من بيوت الأرض كما أخبر وهو الصّادِق المَصدوق صلوات ربي وسلامه عليه.
فلنعلَم واجِبَنا أمام هذهِ الرِّسالة، ورسالة المساجد بيننا: رسالة خشوع، رسالة خضوع، رسالة تواضُع، رسالة تذلُّل لِلمَلِك القدُّوس، رسالة صفاء، رسالة نقاء، رسالة تربِيَة، رسالة تنقِيَة، رسالة إخلاص لِوَجهِ الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فقد فرَّقَ الله بين المُصلِّين والمُصلِّين وبين الصّائمين والصّائمين وبين الذاكرين والذاكرين على حسب إخلاصهم وصِدقِهم مع الله: "أكثر شُهداء أمتي أصحاب الفُرُش ورُبَّ قتيل بين الصَّفَّينِ الله أعلم بِنِيَّتِه"، قتيل بين الصَّفَّين ما هو في قتال المسلمين بعضهم البعض.. قِتال كُفّار يُعادون الله ورسولُهُ ولكن الله أعلم بِنِيَّتِه، "من غزى وهو ينوي عِقالاً فلهُ ما نوى" قالوا يا رسول الله الرجل يُقاتل شجاعة، الرجل يُقاتل حَمِيَّة، الرجل يُقاتل لِيَرى مكانة، الرجل يقاتل للذِّكر، الرجل يُقاتل للمَغنَم أيُّهم في سبيل الله؟ نفاهُم كلهم.. أثبت واحد قال: "من قاتلَ لِتَكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله".
هذا القِتال في سبيل الله مِن عجائبهِ أنهُ أحياناً القاتِل والمقتول يدخُلان الجنة معاً في الآخرة.. كيف؟ يكون كافر قتل مسلم نال المسلم الشهادة، يُسلم ذاك الكافر يرجع يُجاهِد في سبيل الله ويدخلون معه الجنة، هذا جِهاد في سبيل الله صحيح، لكن انظر قِتال المسلمين بعضهم البعض القاتِل والمقتول في النار، "إذا التقى المُسلِمان بِسَيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فتوى من؟ ما هي حق مذهب هذه ولا هي اجتهاد شيخ من الشيوخ! هذه فتوى صاحب الرسالة "إذا التقى المسلمان بِسَيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار، قال يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه"، مات وهو حريص بيقتل صاحبه فهو وإياه في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فغير الجهاد في سبيل الله وغير قتال البُغاء المُستبان بِمنهَجِ الله وما جاء عن الأكابر من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، غير ذلك لا يجوز ولا يصِح ولا يدعو إليه إلا إبليس وجُنده، وذكر الفتن وتلاحم الناس وكونهم هكذا، قال: فما تأمرني يا رسول الله قال: "فاعتزل الفِرَق كُلها" حد أنصح منه؟ حد أعلم منه بِما يُرضي الرَّب؟ حد أحرص منه على نُصرة الدين؟ "فاعتزِل تلك الفِرَق كُلها ولو أن تعضَّ بِأصل شجرة حتى يُدرِكك الموت" - في الرواية الأخرى - ما تأمرني يا رسول الله؟ كلها بِأسانيد صحيحة، قال: إلزَم بيتَك فعليكَ بِخاصَّة نفسك، سأله بعض الصحابة: أرأيت إن دُخِل عليَّ بيتي - جاؤوا إلى وسط الدار حقي - قال: "كُن كَخيرِ ابنَي آدم"، ابني آدم قصَّ علينا نبأهُم في القُرآن: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) يقول الله تبارك وتعالى، قال الخيِّرُ منهم أن تكون مثله، قال لأخيه: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ضعف ولا جبان؟ لا لا لا! (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
الحمدُ لله على تجديد هذا المسجد واجتماعنا وهذا الافتتاح الطيِّب بِذِكرِ الله، وحَلَقة مِن حلقات الذِّكر وحَلَقة من حلقات العلم، وصلاة على النَّبي محمد التي لم يأتِ في فضلِ شيء من العِبادات كما أتى في فضلِها، بالصَّلاة الواحدة يُصَلِّي علينا رب العرش عشر صلوات، ومع ذلك "إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهُم عليَّ صلاة"، ومع ذلك لمّا أراد الله أن يأمرنا بها ابتدأَ بِنَفسه دون بَقِيَّة الأوامر، ماشي أمر من الأوامر ابتدأ بنفسه إلا في الصَّلاة على النبي، قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ)، إبتدأ بنفسه وثنّى بِالملائكة ووجَّهَ الأمر إلينا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
فالحمدُ لله على ما جمعنا وإيّاكم، إن شاء الله عِمارة خير وإلى خير فيما يجلب حقائق الخير للجميع، بالصِّدق والإخلاص والقَدَم القَويم والصِّراط المستقيم والمنهج الموروث عن زين الوجود صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
شرح الله الصُّدور، نوَّرَ الله القلوب، دفع الله الآفات، جزى الله السيد إبراهيم بلفقيه خير الجزاء، وتقبَّلَ الله من الباذلين والعامرين والقائمين ورزقنا وإيّاهم الصِّدقَ معه والإخلاصَ لِوَجههِ، وأثابنا وإيّاهم من عنده بالمثوبة الحسنى وأدخلنا دوائر القبول، فإنَّ الخليل إبراهيم بنى الكعبة وقال: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اللهم اقبلنا وأقبل بِوَجهِك الكريم علينا.
زِدنا في بُلداننا وأوطاننا إخلاصاً وصِدقاً وأدباً ومحبّةً وتعاوناً على البرِّ والتقوى، وأعِذنا من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، لا تُسلِّط علينا هَوَى ولا تُسلِّط علينا نفساً أمَّارة، ولا تُسلِّط علينا شيطان إنسٍ ولا جِن، واجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصَّبر، في دائرة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه).
ارحمنا بِرَحمتِكَ الواسعة وارحم المُؤسِّس ومن جاء بعده وأصولهم وفروعهم بالرَّحمةِ العظيمة، واجمعنا بهم في دار الكرامة في جنَّتِك من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فِتنة ولا حساب يا مُجيب الدَّعَوات، والحمد لله رب العالمين.
08 جمادى الآخر 1444