مقتضى صحيح الإيمان ومجالي ومسارات الاستضاءة بنور الرحمن

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد حسن في حارة خليف السحيل، تريم، ليلة الخميس 3 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان: 

مقتضى صحيح الإيمان ومجالي ومسارات الاستضاءة بنور الرحمن 

نص المحاضرة:

الحمد لله الذي أكرمنا بإشراق نور السراج المبين، المنير الهادي إلى منهج رب العالمين، مَن جعله الله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وجعلنا به خير أمة أُخرجت للناس بين العالمين. فصلِّ يا ربنا على عبدك وحبيبك الأمين سيدنا محمد، هادينا إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأهل بيته المطهرين، وأصحابه الصادقين الغُرّ الميامين من الأنصار والمهاجرين، وعلى من والاهم وأحبّهم واتّبعهم فيك إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

علامات دخول النور في القلب

واجعل لقلوبنا استنارة بهذا النور، واشرح لنا بذلك الصدور، وأنت القائل فيما أنزلتَ على عبدك وحبيبك بدر البدور: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِن رَّبِّهِ). وقُلتَ لنا في أتمّ التبيين والتعيين: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

فاجعلنا ممن تهديهم به سُبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا إلى صراطك المستقيم. لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.

وقال نبيك: "إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح". قيل: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".

وهكذا عَمِل النور في قلوب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار عليهم رضوان الله، الذين أمرنا الله باتباعهم في كتابه. أضاء وأشرق هذا النور، فلما أشرق أثمر الثمرات من ولاء الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله، حتى لم يبق في قلوبهم شيء أحبّ إليهم من الله ورسوله، ولم تبق محبة مُقدّمة على محبة الله ورسوله، َلا أنفسهم ولا أولادهم ولا أموالهم ولا أهلهم، ولا مراكزهم ولا دنياهم ولا آخرتهم.

ثمرات المحبة الصادقة

والحق جل جلاله يُبيِّن أن هذه النتيجة حتمية وضرورية لكل من صدق في الإيمان، وإلا فهو من أهل الفسق، وهو المُهدَّد بأن يتربص بما يأتي به الله من أمر لا يَقدر عليه. اسمع، اسمع قول ربك في أمره لنبيه أن يبلّغنا هذه الحقيقة، يقول: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

فتأمّل هذا المقال مِن ذي الجلال جلّ جلاله، يُخبِّرنا أن من بقي في قلبه شيء أحبّ من الله ورسوله من آباء أو أبناء أو عشيرة أو أموال أو تجارات أو مساكن وغيرها، فهو مُهدَّد: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، وهو مُعرَّض للفسق: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

فلا بد أن يصل الإيمان منّا إلى هذه الحقائق، فيكون الله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما. وهكذا بخالص الإيمان وصحيح الإيمان يتنوّر هذا القلب للمؤمن بأنوار المحبة لله ولرسوله. 

ومن يُحبّ الله جلّ جلاله يُعظّم أمر الله، ويقدّم أمره على هواه وعلى شهوته وعلى مرادات نفسه وعلى كل شيء في هذا الوجود، ويُقدّم أمر رسول الله ﷺ.

قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا).

وقال جلّ جلاله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

دعوة للتحقق بحقائق الإيمان

وكل من فهم الشهادتين فهماً صحيحاً، وفهم الدين فهماً صحيحاً، تسلّلَ إلى باطن قلبه وسُويداء قلبه نور المحبة، نور المحبة لله ونور المحبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

فتجد القلب مطمئناً بذكر الله، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). طمأنينة مقرونة بهَيبة، ووَجَل: وهو خوف الانقطاع أو البُعد أو الطرد أو العذاب.

قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، وحقّقنا بهذه الصفات وهذه الحقائق يا بارئ الأرض والسماوات.

فيا أيها المؤمن، لا يمرّ عليك عمرك يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وأنت ما تحقّقت بحقائق الذوق في هذا الإيمان، وحقائق المحبة في داخل قلبك للرحمن ولسيد الأكوان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فما نراك يوْجَل قلبك إذا ذُكر الله، وما نراك يطمئن قلبك بذكر الله، وما نراك إذا تُليت عليك الآيات يزداد إيمانك؛ فهل ترضى أن تكون على هذه الحالة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر؟

شهر ربيع الأول وإشراق نور القلب

إذا مرّ بنا شهر ربيع الأول، شهر ذكرى ميلاد مَن هدانا إلى الله، مَن دلّنا على الله، من دعانا إلى الله، مَن عرّفنا بالله، من ائتمن الله هدايتنا على يده ﷺ، وائتمنهُ على بلاغنا، محمد بن عبد الله، النور المشرق المبين.

قال له عمه سيدنا العباس عليه الرضوان:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفقُ

ونحن في ذلك الضياء وذلك النور وسبل الرشاد نخترقُ

في ذلك الضياء وذلك النور؛ شهر ذكرى ميلاده يمر، ما يشرق النور في قلبك؟ ما يشعشع الإيمان ونوره في فؤادك؟ فكيف حقيقة إيمانك؟ كيف حقيقة إسلامك؟ كيف حقيقة صدقك مع إلهك الذي خلقك؟

أم حسبت أن الدين صورة أعمال؟ أم حسبت أن الدين كسب أموال؟ أم حسبت أن الدين بسط سلطة في الأرض؟ أم تصورت عن الدين أي تصور؟

ما الدين إلا ولاء ومحبة، ما الدين إلا عبودية للرحمن، ما الدين إلا تبعية لسيد الأكوان، ما الدين إلا مشاعر وأذواق تملأ قلبك وباطنك وصدرك، تعرف بها هذا الإيمان.

قصة إسلام ثمامة بن أُثال

في اليوم الذي آمن وأسلم فيه سيدنا ثمامة بن أُثال، خاطب النبي بهذا الخطاب قال: يا رسول الله، والله ما كان مِن وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد صار الآن وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ، ولا وجه أبي ولا وجه أمي ولا وجه ولدي، وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان كلها إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح والله الآن بلدك أحبّ البلاد كلها إليّ، قال البقعة التي أنت فيها، التي تسكن فيها، التي تمشي فيها، أحبّ إليّ من داري وبلادي وقريتي وأهلي وأيّ محلّ في الأرض.

 بهذا اللسان، لسان الإيمان والمحبة! عبّر بعض صُلحاء الوادي الميمون واديكم وقال:

حبّ طيبة ومَن هم وسط طيبة يحلّون ** واعشق القاع لي سادتي فيها يسيرون

هذا الذي قاله ثمامة للنبي ﷺ: "ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد كلها إليّ" عليه رضوان الله تعالى. وثبت على الإسلام، وكان في النُصرة إلى أن جاءت بعد وفاة رسول الله، وأكثر من حواليه من أهل نجد حصل عندهم الردّة، وقام مع الصحابة يقاتل أهل الردّة ويدعوهم إلى الرجوع إلى الإسلام، ثمامة بن أُثال الذي في يوم إيمانه غمرت المحبة قلبه. 

آثار محبة الله ورسوله

وأنت وُلدت مسلماً وتربّيت في بلاد المسلمين، ولكن الظاهر ما عرفت من الإسلام حقيقته، ما عرفت من الدين جوهره ونوره وسرّه، ما الدين إلا قلب يمتلئ بحبّ الربّ، ولأجله يُحبّ الأطهر الأطيب، ولا يُقدّم على محبة حبيب الله محمد لا أبٌ ولا أمٌّ ولا قريب ولا نفس ولا مال ولا دنيا ولا آخرة.

وهو القائل في حديثه الصحيح ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين". لا إيمان ولا حقيقة إيمان حتى يكون هو أحبّ إليك من والدك وولدك والناس أجمعين ﷺ، يا ربّ ارزقنا حقيقة محبتك ومحبته.

ومَن أحبّ الله تبارك وتعالى سلَّم لمقادير الله وأقضِيته، ومن أحبّ الله جلّ جلاله وتعالى في علاه عشق أن يجتهد في عبادته، وفيما أنزل الله في الكتب السابقة: "كذب من يدّعي محبتي فإذا جنّ الليل نام عنّي، أليس كل مُحِبّ يحبّ أن يخلو بحبيبه؟"

صحة الإيمان وارتباط السابقين

وكان من آثار صِحّة الدين والإيمان في مثل بلدتكم هذه، نشاهد العوام ما يفوتهم القيام آخر الليل، عوام مُنوّرين، عوام في قلوبهم يقين، فيهم ممن عرفناه في بلدكم من أيام صغره إلى وقت وفاته ما فاته قيام الليل ليلة واحدة، وفي آخر الليل المساجد معمورة بهم، يقومون من أجل الله جلّ جلاله.

والذين ما يعرفون يقرؤون ويكتبون، يقربون من أهل الحزب يستمعونهم، يسمعون كلام الله تبارك وتعالى، حتى عرفنا فيهم من حفظ القرآن وهو لا يعرف يقرأ ولا يكتب، لأن وضع البلد كان على أساس صحيح من الدين والإيمان واليقين، الذي ما فيه شائبة.

لا شائبة سياسة ولا شائبة سُلطة ولا شائبة دولارات ولا شائبة ظُلمة في القلوب، لا شائبة بغضاء ولا شائبة حسد ولا شائبة حقد ولا شائبة كبر! كان الوضع في البلد قائماً على الترابط في الله والتحابب في الله جلّ جلاله.

التحولات السياسية لنشر الفتن

إلى أن جاءنا الكفّار من آل بريطانيا وينشرون الفتن، واستخلفوا مَن يأتي ببعث الأحقاد والأحساد والبغضاء بين الناس، وأخذوا أموال المساجد وأموال الناس، وبطشوا وسجنوا وقتلوا وسحلوا، وعملوا ما عملوا في البلاد ووادي حضرموت، وبعثوا بعث البغضاء وبعث الشحناء، لا من وحي الله ولا من كلام رسول الله ولا من هدي الصالحين.

خطط سياسات شرقية جاءت بهم من هناك، من تحت أقدام قوم يقولون: لا إله والحياة مادّة، والعياذ بالله تبارك وتعالى. وكان ما كان واستخلف أولئك، وقد أبعد الله سبحانه وتعالى أفكارهم.،كان عندهم فكر أنهم سيُقَوِّمون في العالم جنّة، بماذا؟ بالنظام الاشتراكي في مضادة النظام الرأسمالي، وأن نظامهم يحوّل الناس إلى نعيم وإلى جنان، وكلما أقاموا النظام في بلد خسر اقتصادها وخسرت تجارتها وزاد الفقر فيها وتعب الناس وعملوا ما عملوا.

والرأسماليون كذلك يدّعون هذه الدعاوي، وما أحد منهم عنده نور من نور الله، فلا هؤلاء ينجحون ولا هؤلاء ينجحون، لا والله! لا هؤلاء ولا هؤلاء، ولا ينجح في صلاح البلاد والعباد إلا من اتّصل بنور الوحي من المَلِك الجواد، وبنى فكره وحركته في الحياة ونظامه على منهج الرحمن وما أنزل في القرآن وما بلّغ سيد الأكوان محمد ﷺ.

نعمة الإخوة في الله

الذي جاءنا وكُنّا معاشر العرب متحاربين متقاتلين متباغضين، يأكل القوي منّا الضعيف، فردَّنا إخواناً متحابّين في الله. رؤوسنا وأوائلنا: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وذَكّرنا الله هذه النعمة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا).

ولا زالت دعوة النبي عند جميع خلفائه في جميع الأقطار والأزمان والقرون، تدعو إلى الأُلفة، تدعو إلى الأُخوَّة، تدعو إلى المحبة، تدعو إلى المسامحة، تدعو إلى أن تتحوّل العداوة إلى أُخوّة في الله جلّ جلاله.

التحريش أكبر مشروع لإبليس

ولا زالت دعوة أعداء رسول الله، ورأسهم إبليس ومَن تبعه، تدعو إلى الفُرقة، تدعو إلى المُسابّة، تدعو إلى المقاطعة، تدعو إلى البغضاء، تدعو إلى الشحناء. فإن أكبر مشروع لإبليس يلعب به على المسلمين، وقد أيِس أن يعبُدوا غير الله، ما أخبر به الصادق المصدوق: "التحريش بين المسلمين"، يُحارش بين قلوبهم، يضرب بعضهم ببعض، هذا الذي عنده! 

ما يقدر يردّ مُصلّياً عابداً لبقرة ولا عابد صنم ولا عابد قبر ولا عابد شمس ولا عابد سماء.. ما يعبدون إلا الله، "إن الشيطان قد أيِس أن يُعبد المُصلّون في جزيرة العرب"، مُصلّي ما يعبد غير الله، فبماذا يعصي الله؟! ما قدر يردّهم إلى الشرك؟ قال معي التحريش، ينشر المباغضة والمشاحنة بين الناس والمعاداة، والعياذ بالله.

هذه بضاعة إبليس وبضاعة أتباع إبليس، أجارنا الله، وحفظ بلداننا وحفظ أوطاننا، ولا يزال يُقسّمهم، تارة باسم أحزاب، تارة باسم مذاهب، تارة باسم مناطق، وتارة باسم قبلية، وتارة بأيّ عصبية، القصد يُفرّق بين المسلمين، يضرب المسلمين بعضهم ببعض.

ورسولهم قد حذّرهم: "ألا فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم". حرام عليك تستحِلّ من مال مسلم أدنى شيء! "من استحلّ مال أخيه المسلم بغير حقّ أدخله الله النار"، قال يا رسول الله: "ولو شيئاً يسيراً؟"، قال: "ولو قضيب أراك"، عود من أراك لمسلم أخذه بغير حقّ واستحلّه، نار يحصلها قدّامه.

"ومن ظلم قيد شبر من أرض"، مقدار شبر فقط من أرض الثاني أخذها، "طُوّقه يوم القيامة"، هذا الشبر إلى سبع أرض فوق رأسه، فوق رقبته، طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين.

أو تحسب أنه ما أحد حاكم فوق الأرض والسماء؟ أو تحسب أنه لا مرجع إليه وسيُعطي كل واحد حقّه؟ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)، يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه، وهو القائل: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

فلا تُغالط نفسك ولا تُعرّض نفسك للهلاك الأكبر والندامة يوم القيامة، ما تنفع أصحابها! بئست الندامة ندامة يوم القيامة. 

 نور وكتاب مبين

طهِّر قلبك لله، استنر بنور محمد بن عبد الله، (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)، النور: محمد، والكتاب المبين: القرآن. (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ). 

هو النور المبين به اهتدينا ** هو الداعي إلى أقوم سبيلِ

من كان يُحبّ رسول الله يفرح بذكره، يُكثر الصلاة عليه، إذا سمع أوصافه انشرح صدره، مخلوق يحبّ مخلوق لأدنى غرض تافه يقول: "وإني لتعروني لذكراك هزّة"، هزّة تعروني إذا ذكرتك، فكيف بالمحبة إذا كانت من أجل الله لسيدنا رسول الله ﷺ؟

قصة سيدنا ثوبان

يقول أصحابه، يقول أحدهم: "إني لأذكرك وأنا بين أهلي وولدي، فلا يقرّ لي قرار حتى أخرج وآتي وأنظر إلى وجهك"، يقول ما يلذّ لي أجلس بين أولادي وأهلي ولا آكل الطعام بينهم، الذي في قلبي عند ذكرك من الشوق يُخرجني من البيت، "فلا أصبر حتى آتي وأنظر إلى وجهك".

"ويا رسول الله، ذكرت الآخرة وأنها حياة الأبد، وقلتُ إن أنا لم أدخل الجنة لم أرك، وإن أنا دخلتها كنتُ في منزلة دون منزلتك فلا أراك، فلما فكّرت في هذا ما قدرت آكل ولا أشرب ولا أنام".

وثلاثة أيام سيدنا ثوبان، ثلاثة أيام لا نوم ولا أكل ولا شرب، مُصفرّ لونه، قال له النبي: "ما لي أراك مُصفرّ اللون نحيل الجسم؟" قال: "محبتك يا رسول الله، محبتك يا رسول الله". هل عملت بك المحبة أثر؟ أو عادك تستثقل حتى" يا رب صل على محمد" مُستثقلها؟!  أيّ محبة عندك؟

قال محبتك، ما بال المحبة؟ " قال: "إني لأذكرك وأنا بين أهلي وولدي فلا أصبر ولا يقرّ لي قرار حتى آتي وأنظر إلى وجهك، ثم إني ذكرتُ الآخرة وقلت: كيف أعيش فيها ولا أراك؟"

سكت ﷺ، ونزل سيدنا جبريل بالآية الكريمة: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا).

وبُشِّر ثوبان: سترى نبينا، وستجلس مع نبينا، وستأكل مع نبينا، وتشرب مع نبينا، وتُشاهد نبينا، وتُصافح نبينا في الجنة، فاطمأنّ، صار قدر يأكل، قدر يشرب، بعد ثلاثة أيام لا أكل ولا شرب، همٌّ وحزن أن لا يرى وجه حبيب الله في القيامة.

علامة الحشر في زمرته ﷺ

ونبينا يقول: "الويل لمن لا يراني يوم القيامة". قالت سيدتنا عائشة: "من لا يراك يوم القيامة؟" قال: "من ذُكِرت عنده فلم يُصلّ عليّ". يعني الذي ما يبالي بذكري ولا يهتزّ قلبه بالصلاة عليّ إذا ذُكِرت، هذا مقطوع عنّي، ما يراني يوم القيامة.

يا ربّ صلِّ عليه واملأنا إيماناً ومحبة، واحشرنا في زُمرته. 

"فالمرء يُحشر في حديث المصطفى مع من أحبّ" 

يا ربّ اجعلنا في زُمرته يوم القيامة، وعلامته في هذه الدنيا: تهواه وتهوى مسلكه.

أصل المولد النبوي ومكانة الولادة العظمى

كان الشيخ النبهاني من كبار علماء لبنان في بيروت يقول: 

واعلم بأن من أحبّ أحمدا ** لا بد أن يهوى اسمه مُرددا

لذاك أهل العلم سنّوا المولد ** من بعده فكان أمراً رشداً

أرضى الورى إلا عديم الرُّشدِ

من عدم رشده! وإلا الناس كلهم فرحوا بالصلاة على محمد، لأنه ما شيء في المولد حادث لم يكن في عهد النبي! ذكر الله في عهد النبي، قراءة القرآن في عهد النبي، ذكر النبي في عهد النبي، الصلاة على النبي في عهد النبي، الاجتماع على الذكر في عهد النبي، السلام على النبي في عهد النبي، الدعاء في عهد النبي، ماذا بقي؟ كل الأعمال موجودة من عهد النبي ﷺ.

مجيء المسجد ليس في عهد النبي؟ أحد يخطر على باله هذا؟ قراءة سيرته ممنوعة وما هي في عهده؟ القرآن سيرة للنبي محمد، والصحابة كلهم نشروا لنا سيرته، ونحن من أين عرفنا قصة المولد؟ من لسانه ومن لسان الصحابة، من لسانه! نحن عرفنا قصة مولده من لسانه هو.

سُئل عن يوم الإثنين قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ولنعم الصوم فيه"، ما معناه؟معناه لا تذكرون مولدي؟ معناه لا تحتفلون بمولدي؟ أهذا معناه؟ هذا معنى معاكس.

يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين، وإن أمي رأت حين وضعتني - حين ولدتني- نوراً أضاءت له قصور الشام"، معناه مولده كيف؟ ليس معظّم أو ليس مكرم وما يُذكر؟ 

"وإن أمي رأت حين ولدتني، حين وضعتني، نوراً أضاءت له قصور الشام"، وهي وسط مكة ورأت قصور الشام، حتى رأت أعناق الإبل ببُصرى، وهي وسط بيتها في مكة المكرمة.

أيّ نور هذا؟ لو جئت بالنور حقّهم هذا سيُغمش عينك ولا سترى شيئاً، لكن هذا نور يكشف المسافة البعيدة، من مسيرة شهر رأت أعناق الإبل، نور رباني بمناسبة ولادة محمد، يا ربّ صلِّ على محمد.

والله ما مثل محمد في خلق الله، ولا مثل محمد في من برأ الله وصنع من الكائنات كلها، محمد أحبّ محبوب، محمد أقرب قريب، محمد أول شافع، محمد أول مُشفَّع، محمد حبيب الرحمن.

محمد يقول: إذا اشتدّ الكرب بالناس وتأخّر الأنبياء وقالوا: نفسي نفسي، يقول: أنا لها! ما مثل محمد ولا أعظم من محمد.

هل نزل منزلة لائقة به في قلبك؟ أو لازال قلبك متلفت إلى الغير؟ املأ قلبك بمحبة الله ومحبة رسوله. 

الأخوة الإيمانية وعداوة الشيطان

وإذا صدقت في ذلك بصحّة الإيمان فلا بد أن تحبّ آل بيته، ولا بد أن تحبّ صحابته، ولا بد أن تحبّ المسلمين عامة وخاصّتهم خاصة.

تعرف معنى قول الله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، ومعنى قول الله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

إن أردت تعادي أحداً فإبليس أمامك، ومن يعادي ربك ويعادي دينك، هم هؤلاء أعداؤك. قال نبينا في الدعاء: "نحبّ بحبّك الناس، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك".

الدعاء للمسلمين 

فالحمد لله الذي أشرق لنا هذا النور، وأبقى لنا هذه الخيور، الله يحقّقنا بحقائق الإسلام والإيمان، ويُرقّينا مراقي الإحسان، ولا يجعل في قلوبنا محبة شيء قبله وقبل رسوله قطّ قط في جميع الشئون، نُمسي ونبيت ونُصبح، ونحيا ونموت، والله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما، اللهم آمين.

وأعلِ درجات المُتقدّمين في هذه المساجد وفي هذه الديار، واجمعنا بهم في دار الكرامة، واغفر لصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا، وأعلِ درجات المؤسّس للمسجد، واجمعنا بهم في الدرجات العُلا.

اللهم وأصلح البلاد والعباد، وادفع الضُرّ والبلاء والفساد والأنكاد، واجعلنا متجالسين فيك، متحابّين فيك، متآخين فيك، متعاونين على ما يُرضيك، مُقبلين عليك، مقبولين لديك يا ربّ العالمين، ويا أكرم الأكرمين.

وأصلح شؤون الأمة، عَجّل بالفرج لأهل غزّة ولأهل الضفّة وأكناف بيت المقدس. في كل يوم يقتلون فيهم، في كل يوم يهدّمون منازلهم، في كل يوم يقصدون أطفالهم، في كل يوم يقصدون نساءهم، في كل يوم يقصدون مستشفياتهم.

يا ربّ عجّل بالفرج، يا ربّ ارفع الضيق والحرج، يا ربّ رُدَّ كيد أعدائك أعداء الدين من هؤلاء المجرمين، وكل من والاهم ومن ناصرهم. خالِف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم، واهزمهم وزلزلهم، واجعل الدائرة عليهم.

وتدارك المسلمين، وأغث المسلمين، واجمع شمل المسلمين، وألّف ذات بين المسلمين، يا أكرم الأكرمين.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

 

تاريخ النشر الهجري

04 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

25 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية