كلمة في الاحتفال السنوي بذكرى الإسراء والمعراج في ساحة جامع تريم 1446هـ
كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في الاحتفال السنوي بذكرى الإسراء والمعراج في ساحة جامع تريم، عصر يوم الإثنين 27 رجب 1446هـ
نص الكلمة مكتوب:
الحمدُ للهِ وارثِ الأرضِ ومن عليها وهو خيرُ الوارثين، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، ربُّ الأولينَ وربُّ الآخرين، وجامعُهم ليومِ الدين، فحاكمٌ بينهم وهو أحكمُ الحاكمين.
ونشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقُرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأمين، ختمَ به النبيين، وجعلَهُ سيدَ المرسلين، وجعلَنا به خيرَ أمةٍ أُخرجت للناسِ في العالمين.
أدِمِ اللهمَّ مِنكَ عنا الصلواتِ والتسليماتِ عددَ ما وسِعَهُ علمُكَ وما أحاطَ به علمُك، عددَ كلِّ ذراتِ الوجودِ على عبدِكَ المختارِ خيرِ موجود، سيدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الركَّعِ السجود، وعلى من تبعَهم بإحسانٍ إلى اليومِ الموعود، وعلى آبائِهِ وإخوانِهِ من الأنبياءِ والمرسلين، ساداتِ أهلِ الوفاءِ بالعهود، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم، وعلى ملائكتِكَ المقربين، وجميعِ عبادِكَ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين، يا كريمُ يا ودود.
أما بعد، فإنَّ نهاياتِ هؤلاءِ الخلائقِ خصوصاً المكلفينَ منهم إلى حُكمِ الإلهِ الذي خلق، والذي وحدَهُ للعبادةِ استحق، والذي اختارَ واصطفى عبدَهُ الأصدق، سيدَنا محمداً نبيَّ الهدى ﷺ.
وإنه الذي يُرفعُ شأنه يومَ تقومُ القيامة، ويعرفُ الكلُّ نصيباً من عظمةِ ما له عندَ اللهِ من الكرامة، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا).
فيا فوزَ من آمنَ به وصدَّقَهُ واتبعَهُ، واقتدى به واهتدى بهديِهِ، وجعلَهُ أسوتَهُ في جميعِ شؤونِهِ وأحوالِهِ الظاهرةِ والباطنة، ويا ويلَ من أعرضَ عن رسولِ اللهِ وتولَّى عن الاهتداءِ بهداه.
أيها المؤمنون، ليعلم من على ظهرِ الأرضِ أنَّ ربَّ السماءِ والأرضِ أرسلَ الرسلَ وختمَهم بسيدِنا محمدٍ ﷺ، وأنزلَ الكتبَ وختمَها بالقرآنِ الكريم، وأنَّ كلَّ عاقلٍ منهم وإن لم يُمكِّنه عقله أو لم يتمكّنْ في عقلِهِ، وما نصيبُهُ من العقل؟ نصيبه من العقل: أن يؤمنَ باللهِ واليومِ الآخر، فإنما أمامَهُ مما يغترُّ به من المحسوساتِ في عالمِ الدنيا يدعوهُ لأن يقيمَ ميزاناً وقانوناً يحفظُ به شأنَ المعاملات، حتى ينالَ نصيباً من الاستقرارِ والأمنِ وطيبِ الحياةِ الدنيا، وأنَّ هذا القانونَ وهذه الأسسَ التي يمكنُ أن تُصلحَ معاش الناس، لا يمكنُ أن يجدَ فيها أصلحَ ولا أرجحَ ولا أرفعَ ولا أقومَ من موازينِ الخالقِ الذي خلق، في المنهاجِ الذي أرسلَ به المرسلين، الذين خُتِموا بمحمدٍ الأمين ﷺ.
فليراجعْ نفسَهُ ليأخذَ في قانونِ الحياةِ ما يحفظُ به أمنَهُ وطمأنينتَهُ وسكينتَهُ على قَدَر في هذه الحياةِ الدنيا، ولن يجدَ ذلك بفكرِ المفكرينَ وتوهُّمِ المتوهمين، ولن يجدَ أمجدَ ولا أجودَ من منهجِ الخالقِ الذي خلق: (ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
فليحذر ما يخالفُ منهجَ خالقِهِ، فإنه سيتبينُ له عن قريبٍ أو عن بعيدٍ أنَّ ذلك كان فيه ضرُّهُ وهلاكُهُ وشرُّهُ وفسادُهُ من حيثُ يعلمُ ومن حيثُ لا يعلم، ولا ينفعُ الندمُ إذا قد فاتت الفرصةُ وتحوّلت إلى غُصَّة.
أما معاشرَ المؤمنين الذين يؤمنون باللهِ واليومِ الآخر، فعجباً لرجلٍ منهم أو امرأةٍ يتخذوا انتساباً ومُوالاةً لفاسقٍ أو لفاجرٍ أو لمجرمٍ أو لشيءٍ من أنظمةِ الأرضِ التي تخالف منهاجَ ربِّ السماواتِ والأرض، الذي حُمِلَ إلينا على يدِ خيرِ أهلِ السماواتِ والأرضِ، الشفيعِ يومَ العرضِ محمدِ بنِ عبدِ الله.
عجباً لأفرادِهم وعجباً لأحزابِهم، وعجباً لقادتِهم وعجباً لشعوبِهم، إن اختاروا ولاءً وانتماءً إلى شيءٍ مما على ظهرِ الأرضِ أو أحدٍ من الخلقِ في مخالفةِ منهاج وسنة ودين ومسلك حبيبِ الرحمن المُنزَل عليه القرآن.
وقد انتشرت هذه الانحطاطاتُ والتأخُّراتُ عند الأمةِ في كثيرٍ منهم، ساقت إليهم وساقتهم إلى الأسواءِ التي ترونها في أحوالِهم أفراداً وجماعات، شعوباً ودولاً، فما سببُ حصولِ السوءِ على أحدٍ منهم إلا مخالفةُ منهجِ اللهِ الذي بعثَ به عبدَهُ المصطفى المنيبَ الأوّاه، محمدَ بنَ عبدِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه.
وإلى متى يتمادون في هذه التبعيةِ التي قامت على ضعفِ تبعيتِهم لخيرِ البرية، فقامت تبعيات من خالفَهُ ومن خرجَ عن مسلكِهِ ومن ناقضَ وعارضَ دينَهُ وما جاءَ به عن علامِ الغيوبِ اللطيفِ الخبير جل جلاله وتعالى في علاه.
وليكن من ذكرى الإسراءِ والمعراجِ لكلِّ مستبصرٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ عودةٌ صادقةٌ إلى تقويةِ الإيمانِ وتقويمِ السلوكِ على منهجِ الرحمنِ؛ في النفسِ، في الأهلِ، في الأولادِ، في البيوتِ، في المجتمعات، ليكونَ ذلك سببَ رضا الرحمنِ وسببَ الإنقاذِ لهذا الإنسانِ مما حلَّ به من أنواعِ الآفاتِ والبَليَّات، وهي سنةُ اللهِ تباركَ وتعالى (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).
كلما اغترَّ أفرادٌ وجماعاتٌ وشعوبٌ ودولٌ بمنهاجٍ يخالفُ منهجَ الله، وبنظامٍ يخرجُ عن مسلكِ شرعِ اللهِ تعالى، وراحوا وراءَه سنواتٍ قليلاتٍ أو كثيرات، جَنَوا من وراءِ ذلك آفاتٍ وعاهات، وأيقنوا ألا طريقَ إلا بالرجوعِ إلى منهجِ الخالقِ الذي خلقَ جلَّ جلالُه.
وكم تتهاوى من أحزابٍ وهيئاتٍ وشعوبٍ ودولٍ مما يسمونَها في مصطلحِهم صغرى أو كبرى، وعلِمنا في عقيدةِ أتباعِ صاحبِ المعراجِ والإسراءِ أنَّ جميعَها صغرى، وأنَّ الدولةَ الكبرى دولةُ الحقِّ التي فيها الأنبياءُ، وجاءَ الختمُ لهم بسيدِهم المصطفى ﷺ.
فالمشيُ على منهاجِهِ هو الدولةُ الكبرى عندَنا وفي عقيدتِنا في الدنيا والبرزخِ ويومَ القيامة، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا).
فلتحيَ فينا حقائقُ الإيمانِ التي توجبُ علينا صدق المتابعةِ لهذا المصطفى، ولتمتلئ صدورُنا بمحبتِهِ وتعظيمِه، ولينتشر ذلك في ناشئتِنا وفي أهل بيوتِنا وفي أصحابِنا، لنسلِّمَ القيادةَ لمن اختارَهُ عالمُ الغيبِ والشهادةِ عبده المصطفى الذي قال عنه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
جعلَ اللهُ لنا عظيمَ الاعتبارِ وأحسنَ الادِّكارِ بما في الإسراءِ والمعراجِ من أنوارٍ وأخبارٍ وآثارٍ وحقائقَ عما يُنال الخلقَ في العاقبةِ والمصيرِ وتلك الدار، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا).
وقد مضى الذين لا يريدون علواً في الأرضِ ولا فساداً على الصدقِ مع اللهِ والوفاءِ بعهدِ الله، وتحمَّلوا ما ينالُهم من مشاقٍّ في سبيلِ رضا الخلاقِ في تبعيةِ حبيبٍ عظيمِ الأخلاق، وأقاموا لذلك مسالكَ ومنازلَ ومجامعَ ومحافلَ في مختلفِ أيامِهم ولياليهم، من مجالسِ الذكرِ ومجالسِ العلمِ ومجالسِ التواصي بالحقِّ والصبرِ، ومجالسِ التشاورِ في تنفيذِ أمرِ اللهِ وتطبيقِ سنةِ سيدِنا رسولِ الله.
ومنها ما هو حاصلٌ في رجبٍ من مثلِ هذا الاحتفالِ بذكرِ الحبيبِ الأطيبِ والتواصي بما جاءَ به عن الرب.
ومن مجالسِ الاستغفارِ والذكرِ للغفارِ، ومن مجالسِ الصلاةِ على النبيِّ المختار، ومن أهازيجَ ومُشلاتٍ يُعبِّرون فيها عن ولائِهم للحقِّ ولرسولِهِ ﷺ.
وما رُتِّبَ في الوادي الميمونِ من زيارةِ النبيِّ هود، ومجالسِ الذكرِ والإيمانِ والتوحيدِ والإحسانِ والسنةِ والاقتداءِ والاهتداءِ والتحابب والتواصي بالحقِّ والصبر.
وما يحصلُ من الاحتفالِ في ليلةِ النصفِ من شعبان، وما يتصلُ بالاستعدادِ لرمضان، وما يُحتفى به بشهرٍ أُنزلَ فيه القرآن.
وثبتوا على ذلك القدمِ قدماً بعد قدمٍ على مرورِ الأزمان، ثبَّتنا اللهُ على ذلك القدم.
ولولا وجودُ أتباعٍ لهم على ظهرِ الأرضِ لنزلَ العذابُ على أهلِ الأرض، (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ)، إلى أن قال ربُّنا في صريحِ الآيات: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
فاللهُ يثبِّتُنا ويباركُ لنا في خاتمةِ رجب، ويجعلُه شاهداً لنا لا شاهداً علينا، ولا يجعلُه آخرَ العهدِ منه، ويباركُ لنا في شعبانَ وإقباله علينا في هذا الأسبوعِ القادم، يجعلُه اللهُ من أبركِ الشهور.
وعرضُ أعمالِنا على اللهِ يكونُ عرضاً جميلاً حسناً طيباً؛ تُعرضُ فيه صالحُ النياتِ وصفاءُ الطوياتِ والإنابةُ والإخباتُ والصدقُ والثبات على منهجِ خاتمِ الرسالات، لأنفسِنا وأهلِينا والبنينَ والبنات.
أعطِنا اللهمَّ ذلك يا مجيبَ الدعوات، وبلِّغنا رمضانَ وأعِنَّا على الصيامِ والقيام، واحفظنا من الآثام، ورضِّنا باليسيرِ من المنام. وردَّ كيدَ المعتدين الظالمين المؤذين الغاصبين اللئام، ولا تبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحدٍ من أهلِ الإسلام.
وحوِّلِ الأحوالَ إلى أحسنِها يا مَلِكُ يا قديرُ يا علَّامُ يا أكرمَ الأكرمين، يا ذا الجلالِ والإكرام، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
أجبْ دعواتِنا وعِنَّا ومُجيباتِنا وخيراتِنا، ووفِّقنا إن شاءَ اللهُ لزيارةِ نبيِّ الله، واجعلنا من جميعِ الوفودِ والزائرين إن شاءَ اللهُ كلُّهم من الحاضرين، مزوَّدين بكلِّ الخيراتِ الحسيةِ والمعنويةِ والظاهراتِ والباطناتِ والخافيات.
06 شَعبان 1446