قراءة قصة الإسراء والمعراج، من كتاب بهجة المحافل، فجر الأثنين 27 رجب 1446
قراءة قصة الإسراء والمعراج، من كتاب بهجة المحافل، فجر الأثنين 27 رجب 1446
"ولتسعة أشهر من الثانية عشرة -قبل الهجرة بسنة- أسري به ﷺ من المسجد الحرام من بين زمزم والمقام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، ثم إلى السماوات العلا، ثم إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وفارقه جبريل، وانقطعت عنه الأصوات، وسمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ، ثم سمع كلام المولى، فأوحى إليه ما أوحى، وأتحفه بأنواع التُّحَف والزُّلْفى، ورأى من آيات ربه الكبرى على ما نطق به الكتاب العزيز في قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ) [النجم:1].
وأثبت رؤيتَه لربه ليلتئذ جماهيرُ الصحابة والعلماء من غير إدراك ولا إحاطة ولا تكييف بحد ولا انتهاء، صلى الله عليه وسلم أفضل ما صلى على أحد من عباده الذين اصطفى.
وقيل: كان الإسراء سنة ست أو خمس من المبعث، وقيل: لسنة وثلاثة أشهر منه، والصواب ما قدمناه أولًا.
وجزم النووي في "شرح صحيح مسلم"، أنه كان ليلة الإثنين، ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول، وكذلك في " فتاويه" وفي "سير الروضة" له: أنه كان في رجب، وقال غيره: في رمضان.
واختلف: هل كان بروحه وجسده يقظة، أو بروحه فقط منامًا؟ مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء وحي، واختلافهم بحسب اختلاف الروايات في ذلك، والصحيح: الأول؛ أنه بالروح والجسد، وطريقة الجمع بينهما أن يقال: كان ذلك مرتين أولاهما منامًا قبل الوحي كما في حديث شَرِيك، ثم أسري به يقظة بعد الوحي، تحقيقًا لرؤياه كما رأى النبي ﷺ فتح مكة قبل عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقه سنة ثمان، ونزل في ذلك قوله تعالى: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ) [الفتح:27] الآية.
وتوسط آخرون فقالوا: كان الإسراء بجسده إلى بيت المقدس، ومن هناك إلى السماوات بروحه.
قال النووي -رحمه الله تعالى- في "فتاويه": ثبت أنه ﷺ صلى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ليلة الإسراء ببيت المقدس، ثم يحتمل أنها قبل صعوده إلى السماء، ويحتمل أنها بعده، واختلف العلماء فيها، فقيل: هي الصلاة اللغوية، وهي الدعاء والذكر، وقيل: الصلاة المعروفة، ورجح الثاني، وكانت الصلاة واجبةً قبل ليلة الإسراء، وكان الواجب منها قيام بعض الليل كما في "سورة المزمل"، ثم نسخ ذلك ليلة الإسراء بافتراض الخمس، وقد سبق ذلك".
الحمد لله، يبين لنا -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بعض أخبار إسراء نبينا ومعراجه، وهي من أعظم الحوادث التي حدثت في حياة نبينا المصطفى مُحمَّد ﷺ وسيرته الغرَّاء. وسمَّى الله باسم الحادثة سورةً في القرآن سورة الإسراء، يُقال لها سورة الإسراء، ويُقال لها سورة بني إسرائيل؛ هذه السورة افتتحها الحق بتسبيحه وتقديسه لمكانة الحادثة التي حدثت أنها تتعلق بقدرته المُطلقة -سبحانه وتعالى- وبإرادته الغالبة، خارجة عن طور المعتاد المألوف فيما جعله الله -تعالى- في عالم الحِسِ للناس على ظهر الأرض.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء:1].
-
فيرجع الضمير إلى الحق: هو السميع البصير؛ بذلك السّمع المُطلق القديم والبصر المطلق القديم.
-
أو (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) رسوله ﷺ، السميع: بما خلق الله له من سمع وآتاه ومكَّنه فيه من سمع، فسمع به ما لم يَسْمعُه سمع لملك ولا إنسي ولا جني ولا أحدٍ من الكائنات والمخلوقات.
كذلك أيدَّ بصره؛ فرأى ما لم يره بصرٌ قبله ولا بعده لملك ولا إنسي ولا جن فنِعم السميع البصير، خصصت بها الحضرة الواسعة هذه العين الناظرة والأُذن السامعة.
فَسَمِعْتَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ سَمَاعُهُ *** وَعَقَلْتَ مَا عَنْهُ الْوَرَى قَدْ نَامُوا
مِنْ حَضْرَةٍ عُلْوِيَّةٍ قُدْسِيَّةٍ *** قَدْ وَاجَهَتْكَ تَحِيَّةٌ وَسَلَامُ
وَدَنَوْتَ مِنْهُ دُنُو حَقٌّ أَمْرُهِ *** فِيْنَا عَلَى أَفْكَارِنَا الْإِبْهَامُ
اللهُ أَكْبَرُ مَا بَلَغْتَ لِرُتْبَةٍ *** إِلَّا وَنَادَتْكَ الْمَرَامُ أَمَامُ
صلى الله عليه وسلم وعلى آله.
يقول: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وأُخذ ﷺ "من بين زمزم والمقام" فكان هناك تلك الليلة، وقيل: أنه كان في بيت أم هانئ، وجيء به إلى ما بين زمزم والمقام، وكان شقُّ الصدر، ثم كان الإسراء.
وقد تكرر شقُّ صدره الشريف ﷺ:
-
أولها ما كان أيام رضاعه وأيام كان يرعى الغنم في بني سعد.
-
ثم ما كان من شقِّ الصدر قبل نزول الوحي عليه.
-
ثم ما كان من شقِّ الصدر ليلة الإسراء والمعراج.
-
قيل: ورابعٌ وهو ابن عشر سنين؛ شُقَّ صدره الشريف -عليه الصلاة والسلام- لحكمٍ يعلمها الله جلَّ جلاله.
قال: "بعد المسجد الأقصى إلى السموات العلا" -إلى البيت المعمور، إلى سدرة المنتهى، وبعد سدرة المنتهى- "ثم إلى ما لا يعلمه إلا الله -تعالى-، وفارقه جبريل -عليه السلام-" حتى لا يعلم سيدنا جبريل المواطن التي وطئها ﷺ وعرج إليها "وفارقه جبريل -عليه السلام-، وانقطعت عنه الأصوات، وسمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ" يخط ما أملته إرادة الله تعالى وقضاؤه وقدره وإرادته.
"ثم سمع كلام المولى، فأوحى إليه ما أوحى" ثم "رأى" فقال تعالى ﴿مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ﴾ [النجم 11].
"وأتحفه بأنواع التُّحَف والزُّلْفى، ورأى من آيات ربه الكبرى"، قال ابن عباس: من جملة الآيات رأى النبي الكبرى، يعني أكبر الآيات، (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ [النجم 18] أكبر آية رآها صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وعليه جماهيرُ الصحابة والعلماء؛ أن الرؤية أيضًا ثبتت على مذهب أهل السنة والجماعة من غير إدراك ولا إحاطة ولا تكييف بحد ولا انتهاء"، كما تكون في الجنة للمؤمنين؛ هذه الرؤية ليست كالرؤية التي نعهدها في الدنيا، ورؤية البصر الذي حدّ الله وقصر رؤيته على الأجرام والأشكال والألوان، فهذا البصر لا يمكن أن تُرى به المعاني، ولكن جعل الله للناس في الدنيا بصائر؛ بصائر قد يشاهدون بها المعاني، إذا انجلت بصائرهم يشاهدون أمور بها ليست صور وليست أجسام، أمور معنوية يشاهدونها ببصائرهم، كذلك ما يحصل لهذا البصر إذا مُكِّن وتجلى الحق تبارك وتعالى عليه، فمكن هذا البصر من أن يرى المعنويات المطلقة التي ليس لها جهة وليس لها صورة وليس لها جرم، فيشاهدوا هذه المعنويات وضمن هذه المشاهدة بما هو أعلى، يأتي ما يسمى من تجلي الرحمن على عباده بالرؤية؛ لأنها غاية من الغايات التي ينالها المؤمن في تجلي الحق عليه، وأما الإحاطة فممتنعة، وكذلك إدراك حقيقة الذات الإلهية ممتنعة على كل عقل، فهي أكبر من عقل حملة العرش ومن دونهم من ملائكة السماوات والأرض، ومن دونهم من الإنس والجن، أكبر من ذلك وأجل الله أكبر الله أكبر
-
فلا يحيط به محيط وهو المحيط بكل شيء -جل جلاله وتعالى في علاه-.
-
وكل ما خطر ببالك فمحوٌ هالك والله بخلاف ذلك.
-
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11].
وهو أجل وأعلى وأعظم وأكبر وأعظم من كل ما يتصور ببال ويتخيل بخيال؛ أنَّا لِلْبال والخيال أن يحيط بالصفة والاسم فضلًا عن الذات والمسمى -جلّ جلاله وتعالى علاه-.
فتكون معنى الرؤية مع أنهم يترقونج فيها حتى في الجنة، كلما أكرم مؤمن برؤية ربه في المرة الثانية يكون أرقى مقامه في الرؤية، ولكن كل ذلك إلى ما لا نهاية، لا إحاطة ولا كيف ولا انحصار ولا جهة ولا شيء من هذه الأشياء.
قال: وكانت من المعلوم أن هذا الإسراء جاء بعد معاناة عاناها نبينا ﷺ وبعد أن اشتد الأذى عليه بمكة، بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة بنت خويلد وما كان بينهما إلا ثلاثة أيام، واشتد الأذى عليه من قريش، وخرج إلى الطائف عسى أن يلاقي نصيرًا ومن يقوم معه ﷺ ليبلغ رسالة الله، فوجد الجفاء والرد القبيح، ثم الرمي بالحجارة حتى أدموا رجليه الشريفتين، وتخضبت نعلاه بالدماء قدميه بل من عقبه وهو قليل لحم العقب، من كثرة الحجارة والتلطيخ، خرج الدم من عقبه الشريف. وكان في مساره ذلك من شدة ما وقع على الجسد من الألم من الحجارة، جلس على الأرض فيأتوا ويأخذونه ويرفعون يقولون قم ويستمرون في ضربه ورمي الحجارة عليه، مع اجتهاد سيدنا زيد أن يتلقى الحجارة ما استطاع، فمنها ما يتلقاها ومنها ما يخلص إلى أقدام سيدنا رسول الله ﷺ، حتى خرج من حدود ديارهم إلى قرن الثعالب، وجلس عند حائط هناك يدعو دعاءه المعروف: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا رب العالمين أنت رب المستضعفين، إلى من تكلني؟" وقال في دعاءه: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي". فنزل ملك الجبال وقال: تريد أن أهلك هؤلاء المشركين الذين كذبوك من أهل مكة وأطبق عليهم الأخشبين؟ قال: "لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يتولى هذا الأمر" فقال له: صدق الذي سماك الرؤوف الرحيم.
فجاءت بعد هذا رحلة الإسراء والمعراج، واحتُفِيَ به في السماوات كلها، وأعظمهم الملأ الأعلى ﷺ وبارك عليه وعلى آله. فبينما يجفوه المشركون في الأرض ﷺ وكان يصبر ويتحمل، آية من آيات الله في واجب المكلف على ظهر الأرض كيف يفعل؛ وقال له ربه (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا﴾ [النساء 84].
(وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء 113].
جاء وذكر أن الأقوال في ليلة الإسراء والمعراج والمشهور المعروف أنه كان في رجب، وليلة السابع والعشرين من رجب، فقيل في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر؛ وقيل في رمضان، وقيل غير ذلك. وهذه الرواية المشهورة وعليها احتفال الأمة على مدى القرون الماضية في ليلة السابع والعشرين من رجب.
وكان الإسراء بجسده وروحه، ولو كان بمجرد الروح ما أنكر المشركون، وقالوا: كيف ذهبت ورجعت؟ وهم يعرفون أنهم يرون في النوم يذهبون إلى أبعد من بيت المقدس، لكن ما هو محل إنكار، وما أنكروا إلا لكونه كان بجسده الكريم ﷺ فأُسري به، وكذلك عرج بروحه وجسده، ولا داعي إلى شيء من البحث في ذلك إذا عرفت قدرة الله -جل جلاله-.
وقال: "صلى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ليلة الإسراء ببيت المقدس"، وكذلك تشير بعض الروايات إلى أنه أيضًا جمعوا في السماء فصلى بهم في السماء ﷺ، صلى بهم في الأرض وصلى بهم في السماء، والصلاة ركعتين كما جاء في بعض الروايات: "صليت بهم ركعتين" فهي الصلاة المعهودة المعروفة والتي تعبد الله بها ملائكته والأنبياء من قبل صلوات الله وسلامه عليهم.
وقيل أنه كان يجيب ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، ويجب أيضًا قيام الليل، ولكن رفع عنا قيام الليل؟ إنما وجب على المؤمنين سنة، ثم نسخ بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ ) [المزمل: 20]
يقول: وذلك كان افتراض الصلوات خمسين صلاة، وخففت إلى خمس.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
"ورأى رسول الله ﷺ ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه، هذا هو الصحيح، وعليه أكثر الصحابة والعلماء، وليس للمانع دليل ظاهر، وإنما احتجت عائشة -رضي الله عنها- بقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ)، وأجاب الجمهور عنه: بأن الإدراك هو الإحاطة، والله -سبحانه وتعالى- لا يحاط به، ويراه المؤمنون في الآخرة بغير إحاطة، وكذلك رآه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء. انتهى ما ذكره مختصرًا.
قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: ومن خصائصه ﷺ: قصة الإسراء، وما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبه عليه الكتاب العزيز، وشرحته صحاح الأخبار، قال الله سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) [الإسراء:1] الآية، وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ) [النجم:1] الآيات، فلا خلاف بين المسلمين في صحة الإسراء به ﷺ؛ إذ هو نص القرآن، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه وخواص نبينا محمد ﷺ فيه أحاديث كثيرة منتشرة، رأينا أن نقدم أكملها، ونشير إلى زيادة من غيره يجب ذكرها، ثم ذكر حديث ثابت عن أنس من طريق مسلم.
قلت: وقد اخترت ما اختاره القاضي؛ لدرايته وتقدمه في هذا الشأن، مع أني قد امتحنت الأحاديث غيره فوجدته من أعدلها متنًا وأصحها سندًا، وهنأنا أذكره مقتصرًا عليه، وأحذف الزيادات من غيره اختصارًا، وهو ما رويناه بسندنا السابق إلى مسلم رحمه الله تعالى قال: حدثنا شيبان بن فَرُّوخ، ثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت البُنَاني عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: فَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ ﷺ، فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِابْنَي الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَرَحْبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ …" فذكر مثل الأول" فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ ﷺ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَكَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ …" وذكر مثل " وَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:57].
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ …" فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، فَرَكَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ …" فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى ﷺ فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.." فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ ﷺ مُسْئِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى؛ فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ.. تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةٌ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ وَخَبَرْتُهُمْ.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ؛ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي -تَعَالَى- وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا.. كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا. كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا.. لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا.. كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَتَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ ﷺ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، أهـ الحديث.
ولما أصبح ﷺ وأخبر خبر ليلته وما جرى له فيها.. كذَّبه كفار قريش ومَقَتُوه، واستبعد ذلك كثير من الناس، حتى ارتد من ضَعُف إيمانه ورقَّ دينه، ثم استوصفوه بيت المقدس ولم يكن أثبت صفاته، فكُرِب رسول الله ﷺ كربًا عظيمًا، فرفعه الله له، فجعل يخبرهم عنه وهو يبصره.
وفي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق: أنه ﷺ لما أخبر قومه بالرُّفقة والعِلامة في غيرهم.. قالوا : متى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم وأشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء.. فدعا رسول الله ﷺ فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمسﷺ."
وقال: ورؤيته كما شرحنا وعليه أكثر الصحابة والعلماء، وليس للمانع دليل ظاهر، وإنما احتجت عائشة -رضي الله عنها- بقوله سبحانه وتعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ) [الأنعام :103]، وأجاب الجمهور عنه: بأن الإدراك هو الإحاطة، والله -سبحانه وتعالى- لا يحاط به، ويراه المؤمنون في الآخرة بغير إحاطة، وكذلك رآه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء.
والأحاديث صحت في الصحيحين والعلماء "أنكم سترون ربكم".
"قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: ومن خصائصه ﷺ: قصة الإسراء، وما انطوت عليه من درجات الرفعة مما نبه عليه الكتاب العزيز، وشرحته صحاح الأخبار، قال الله سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ) [الإسراء:1] الآية، وقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ) [النجم:1] إلى أن قال (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَى* فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ )[ 8-10].
قال: "إذ هو نص القرآن، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه وخواص نبينا محمد ﷺ فيه أحاديث كثيرة منتشرة".
ويقول المؤلف: أنه وجد من أعدل الأحاديث متنًا وأصحها سندًا ما ذكره القاضي عياض واقتصر على روايته، سنده إلى سيدنا ثابت البناني إلى سيدنا أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول ﷺ قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ -أي: طرفه- قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، -دوابهم أيام كانوا في الحياة يأتون- ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ -وقد جاء في الروايات أنه قال: "لو أنك شربت من الخمر -وذاك الخمر حلال ولايسكر ولكن اسمه خمر- فقال: "لو أنك شربت الخمر لغوت أمتك من بعدك"، فالأمة في ثباتها في بركة هذا النبي ﷺ.
قال: "ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، -السماء الدنيا الأولى- فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: فَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟" - ما معنى قد بُعِثَ إليه؟ يعني: جاء الليلة التي وُعدنا أن يأتينا فيها ويزورنا فيها، فإن الله وعد أهل السماء أن يأتي بعبده وحبيبه محمد ﷺ إليهم فيرونه ويشاهدونه ويزورهم في السماوات كما شرف به أهل الأرض، وأنه يرسل إليه ويبعث في ليلة، فبقوا ينتظرون هذه الليلة، أما إرساله بالنبوة فما يخفى على أهل السماء ولا على أهل الأرض من قبل سنين يدرون أن الله أرسل عبده محمد ﷺ بواسطة جبريل، ولكن أرسل إليه وبعث إليه يعني: للمجيء إلينا؟ هذه ليلة لقائنا به؟ قال: نعم، قال: فتح لنا، وكلما فتح قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء- "قال قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ ﷺ -يعني في السماء الدنيا- فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ"، وجاء أيضًا في الروايات أنه رأى عن يمينه أسودًا وعن يساره أسودًا وأنه جعل كلما ينظر إلى يمينه يتبسم، وكلما ينظر إلى يساره يبكي، فسأل جبريل قال له: الأسود الذي على يمينه نسم بنيه من أهل الجنة، والذي على يساره نسم بنيه من أهل النار، فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك، وإذا نظر إلى من يدخل النار من ذريته بكى عليهم، يكونون كثير -والعياذ بالله- فيتعرضون للعذاب الشديد بكفرهم وبمعاصيهم وفسقهم على ظهر هذه الأرض.
قال: "ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ" - فيه ترتيب الإذن، ولا دخول إلا بإذن، حتى في السماوات الدخول بإذن وهناك خُزّان للسماوات، فكلمه خازن السماء الثانية "فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟" والدليل أما أن السماوات شفافة يرى ما وراءها، أوأن أبصار الملائكة تخرق الحجب الكثيفة فترى فيقول: من معك؟ قال: أحد معه موجود، أنت وحدك كيف افتح لك وحدك؟ من معك؟ "قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِابْنَي الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَرَحْبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ" فيه التزاور والحرص على ذلك، حتى في ليلة الإسراء والمعراج؛ المرور على الأنبياء واحد بعد الثاني في كل سماء، يزور من فيها من الأنبياء، فإذا جاء لإنسان بلد وجاء للمكان ينبغي أن يقصد صلحائها ويقصد أخيارها ويذهب إليهم ويزورهم ويسلم عليهم، هذا زين الوجود ﷺ يدخل في السماوات ومن في هذه السماء من الأنبياء يروح إلى عندهم ويسلم عليهم ﷺ وهو أعظم درجة منهم، ولكن مع ذلك ما أحب الله من هذا التزاور وجعله حتى في السماوات، ويجعل آثاره بعد ذلك حتى في الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر-47] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ) [الطور 25-26].
فيكون التزاور أيضًا في الجنة نتيجة لما كان من التزاور في الدنيا من أجل الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
قال: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ …" فذكر مثل الأول" فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ ﷺ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحب بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ -وأعطي سيدنا يوسف نصف الحسن وأُعطي نبينا محمد الحسن كله ﷺ؛ إلا أنه يغلب عليه الهيبة والجلال ﷺ فتغلب هيبته وجلاله جماله، وجمال يوسف غلب هيبته وجلاله-.
قال: "ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ …" وذكر مثله " - من قال: جبريل، من معك؟ قال:محمد قال أو قد أرُسل إليه؟ مرحبًا به فنعم المجيء جاء، يعني ياحيا بهذه الساعة اللتي وعدنا فيها رب العرش أن نلتقي بأحب خلقه وأكرمهم عليه وأعظمهم منزلة عنده، مرحبًا نعم المجيء جاء ففرح الملائكة بساعة لقائهم بسيدنا رسول الله ﷺ جمعنا الله به في الدنيا والبرزخ والآخرة. قال:
"وَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، -في السماء الرابعة- فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:57]" وذلك أن العروج حصل لسيدنا إدريس بجسده وروحه إلى السماء الرابعة، ولما كان في السماء الرابعة جاء وقت قبض الروح، انتهت أنفاسه التي كتبه الله له في الدنيا، فجاء له عزرائيل محله في السماء الرابعة، وصرعه محله ورجعت الروح إليه، فهو جالس في السماء، قبره في الأرض وجسده في السماء وروحه في السماء: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم 56-57]
"ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ …" فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ-ابن عمران أخو سيدنا موسى- فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ …" فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى -الكليم - ﷺ فَرَحْبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.." فذكر مثله " فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ ﷺ مُسْئِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ -البيت المعمور وهذا بيت بناه الله في السماء السابعة له صلة بالبيت الذي أمر ببناءه في الأرض (إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عموان96] وهو الكعبة المشرفة حتى أثبت ﷺ في قوة الصلة بين الكعبة والبيت المعمور فيقول: " لو أن شيئًا من البيت المعمور سقط لم يقع إلا على الكعبة" لقوة الصلة فيما بينهم؛ فهذا بيت يحجه الملائكة في السماء؛ وهذا بيت يحجه بنو آدم في الأرض، كما تشاركنا فيه الملائكة إذًا في الأرض يحجون مع الإنس، ولكن فالبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يصلون فيه ثم يخرجون فلايعودون الى يوم القيامة؛ وفي كل يوم سبعون ألف آخرون وهكذا.
ودخل معه ﷺ البيت المعمور بعض الأرواح رآها كما جاء في الروايات، ورأى أقوام مهيأون للدخول وأقوام لم يؤذن وأقوام أُمروا بالغسل في النهر فأزال مابهم من أثر وأُذن لهم بالدخول معه ﷺ فصلى أيضًا في البيت المعمور وصلى خلفه الملائكة.
يقول: "وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ".
"ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى؛ فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ" الزِّير المتخذ من الطين الذي يوضع فيه الماء، قال: قَالَ: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ.. تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا" (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ) وهذا تجلي من الله على السدرة عند وصول حبيبه إليها (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ )[النجم:13-16]، ما تغشاها في ذاك الوقت من التجلي الإلهي، ما زادها جمالًا ونورًا بوصول حبيبه إليها، تجلَّى الله عليها (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ) وبهر السدرة أنوار محمدٍ ﷺ، وتجلى الله عليها فازدادت حسنًا.
قال: "فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةٌ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ وَخَبَرْتُهُمْ.
-ما قاموا بأقل من هذا، ارجع إلى ربك- قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ؛ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، -خمسة وأربعين صلاة في اليوم والليلة، لا- فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي -تَعَالَى- وَبَيْنَ مُوسَى"
ولماذا موسى وحده من باقي الأنبياء في السماوات؟ لأن موسى سأل من الحق الرؤية في الدنيا فمنعه في الدنيا وقال إلا في الآخرة، فقال سبحانه وتعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)[الأعراف:143]، ثم أَذِن لحبيبه محمد أن يراه تلك الليلة. ثم أنه سيدنا موسى قرأ كثيرًا من فضائل أمة النبي محمد، وكان يحب هذه الأمة محبة شديدة، وكان أيضا قال: اجعلني من أمة محمد، فكان بعدما مكَّنه من الرؤية رتَّب له أن يمرّ على موسى؛ ليَرى مَن رآه، إذا هو ما رأى فيرى مَن رأى، فجاء إليه أول مرة واستجلى فيه جمال رؤيته للرحمن، فأعجب سيدنا موسى ذلك، وقال: ارجع إلى ربك إلى التخفيف، فقده من أجل الشفقة على أُمَّتِهِ ومن أجل يستجلي هو الحُسن والتجلي. فرجع، ولهذا قال ﷺ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي -تَعَالَى- وَبَيْنَ مُوسَى.."
وإنما السِّرُّ في موسى يُردِّده ** ليجتلي حسن ليلى حين يشهدُ
قال: "إنَّ أمتك لا يُطيقون، .. حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةٌ"، وذلك أنه قال له ارجع بعد الخمس، قال: استحييت من ربي يا موسى؛ تسع مرات وأنا أرجع للرب.. خلاص باقي خمس، قال: فنادى الحقّ أمضيتُ فريضتي وخففتُ عن عبادي هُنَّ خمسٌ ولهنّ أجر الخمسين.
قال: "وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا.. كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا. كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ)[البقرة:261]، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا.. لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا.. كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَتَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ ﷺ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ".
قال: "ولما أصبح ﷺ وأخبر خبر ليلته وما جرى له فيها.. كذَّبه كفار قريش ومَقَتُوه، واستبعد ذلك كثير من الناس، حتى ارتد من ضَعُف إيمانه ورقَّ دينه"،ولكن قال سيدنا أبو بكر: "إن كان قال فقد صدق" ﷺ. "ثم استوصفوه بيت المقدس ولم يكن أثبت صفاته، فكُرِب رسول الله ﷺ كربًا عظيمًا، فرفعه الله له، -فرفع الله له بيت المقدس يُشاهده، فقال لا يسألونه عن ناحية منه إلا التفت إلى الناحية.. يرى ويخبرهم ويرى ويخبرهم ﷺ- فجعل يخبرهم عنه وهو يبصره".
ما شاء الله.. أعظم من النت والزُّوم والتلفزيون حقهم، يشاهده مشاهدة حتى يراه دون دار عقيل أو دار عُقَال قُدَّامه، كلما سألوه عن ناحية تبيَّنت له أمامه، إن سألوه عن الأبواب برزت له، وإن سألوه عن النوافذ برزت له، وإن سألوه عن الأعمدة برزت له، فكان يخبرهم وهو يشاهد ﷺ. وكان سيدنا أبو بكر عندهم وقد ذهب إلى بيت المقدس، فكلما أجاب يقول: صدقت يا رسول الله، ويسألونه فيجيب، ويقول: صدقت يا رسول الله. وقالوا له: أمَّا الوصف صدَقت، جيت على الوصف، لكن خلّنا من وصف بيت المقدس، عندنا عير في الطريق..هل رأيته؟ قال: نعم، مررتهم في مكان كذا وحصل لهم كذا، وكانوا انكسرت رجل واحد من جمالهم، وكان عندهم ماء مطروح في إناء وشربته. قالوا: سنسألهم، متى سيجيئون؟ قال: سيأتون يوم الأربعاء عند غروب الشمس. فخرجوا في اليوم الذي حدده ﷺ، وهذا ما له دخل في الرؤيا أنه رأى، لكنهم هكذا؛ فخرجوا فكادت الشمس تغرب، فقال القائل: هذه الشمس قد غربت، قال الآخر: وهذه العير قد أقبلت. كما أخبر ﷺ عند غروب الشمس، وقال: يتقدّمهم جمل أَوْرَق، ولمَّا جاءوا قالوا: في الليلة الفلانية كنتم في مكان كذا وضل عليكم جمل وكنتم تبحثون عنه؟ قالوا: نعم! من أخبركم بهذا؟ كان كذا وكذا .. قالوا: وكان عندنا ماء وسمعنا مثل صوت محمد! قالوا: سحر مستمر! ما هم راضين يصدقون! (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)[القمر:2]، صلى الله على الصادق أصدق الخلائق ﷺ.
وقال: "أنه ﷺ لما أخبر قومه بالرُّفقة والعِلامة في غيرهم.. قالوا: متى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم وأشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء.. فدعا رسول الله ﷺ فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمسﷺ."
وقال: لمَّا أخبر قومه بالرفقة والعلامة في عيرهم، قالوا: متى تجيء؟ قال: يوم الأربعاء، فلما كان اليوم وأشرفت قريش ينظرون وقد ولَّى النهار ولم تجيء، فدعا ﷺ فزِيد له في النهار ساعة وحُبِسَت عليه الشمس ﷺ"، فوصلت العير، قال قائلهم: هذه الشمس قد غربت، قال الثاني: وهذه العير قد أقبلت، وحقَّق الله ما قاله نبيه ﷺ.
رزقنا كمال محبته، ووفَّر حظَّنا من إسرائه ومعراجه، ووفَّر حظَّنا من أسرار بعثته ونبوته، ووفَّر حظَّنا من حركاته ﷺ وسكناته، ووفَّر حظَّنا من جميع حوادث حياته، ووفَّر حظَّنا مما كان ويكون له، وجعلنا فيه منطوين، وبه مقتدين، وبمرآته للحقِّ -سبحانه وتعالى- في شهود، ورَقَّانا أعلى مراتب الوفاء بالعهود، ورزقنا التأدُّب بآدابه والتخلُّق بأخلاقه مع الملك المعبود، في الغيب والشهود، وأثبتنا في خواصِّ الركع والسجود.
وبارك لنا ولكم في رجب وخاتمته، وفي شعبان وأيامه ولياليه وجوده فيه على أهله، وفي رمضان.. بلَّغنا إياه، وجعلنا من خواص مَن يصومه إيمانا واحتسابا، ويقومه إيمانا واحتسابا، ويقبله الرَّب -جلَّ جلاله-، ويوفَّر حظّه من الرحمة والمغفرة والعتق من النار، والعتق من الذنب والمعصية، والعتق من الالتفات إلى ما سوى الله.
وأعلى الله درجات المنتقلين إلى رحمة الله حسين بن عبد الرحمن بن حسن بن شهاب الدين، والمنتقل إلى رحمة الله باغزال، وجميع ذوي الحقوق علينا خاصة وذوي الحقوق العامة، ويرفعهم في الدرجات العلى، وألحقهم بخيار الملأ، وجمعنا وإياهم بزين الوجود في المراتب العلا، وفي الفردوس الأعلى، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب..
29 رَجب 1446