(536)
(228)
(574)
(311)
محاضرة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ بعنوان: استقبال عشر ذي الحجة، في مسجد هزاع بن سلطان في النادي السياحي في مدينة أبوظبي دولة الامارات العربية المتحدة، عام 1429هـ
الحمد لله الذي أقسم في كتابه العظيم بالليالي العشر، التي هي في أقوال أكثرين من الصحابة والتابعين الليالي المُقبلة علينا قريبًا في خلال هذا الموسم العظيم من مواسم الحج الكريم المبارك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، دعانا إلى العبادة فكان الإمام فيها بكل معنى، وأرشدنا إلى الطاعة وكان المُقدّم فيها بالمقام الأسنى، كان يذكر الله على كل أحيانه، ويحسن التوجه إلى الله وتوجيه العباد إليه في كل شأنه.
اللهم صل وسلم وبارك وكرم على عبدك الصفي المصطفى الذي جعلتنا به خير أمة، وعلى آله الكرام المُطهّرين وأصحابه الهداة الأمة، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يديك يا ولي الرحمة.
أما بعد:
أيها الإخوة الأكارم، قد جعل الله تبارك وتعالى لما شرع على لسان نبيه آثارًا وعواقب ونتائج لكل ما شرع، تتعلق بحياة هذا المسلم في العمر القصير، وفي لحظة الخروج الحرجة من العمر القصير إلى عمر البرزخ الذي يمتد إلى ساعة النفخ في الصور، فيخرج من النفخة الثانية إلى عمر القيامة الذي يمكث الخلائق فيه في يوم تعرجُ الملائكة والروح في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم الانتقال إلى عمر مؤبد وبقاء مُخلد في النار إلى الأبد أو في الجنة إلى الأبد، جعلنا الله وإياكم من أهل جنته وأتحفنا بكرامته.
هذه العبادات المشروعة لها آثار على هذه الحياة، والنزاع قائم اليوم من دواعي كثيرة ومن مُدّعين كثيرين على ظهر الأرض يرون أن المرجعية لهم في التأثير على الحياة، وأن بيدهم ومن طريقة تفكيرهم ومن نتائج عقولهم ومساعيهم وكسبهم فقط، يمكن أن تتحسن الحياة أو تصلح، ولم يخلقوا الحياة ولكن خالق الحياة هو الذي له الحق في التصرُّف في الحياة، فمنهجه والعمل به يؤثّر تأثير الإسعاد والإصلاح فيها، ومخالفة أمره والغفلة عنه ومجانبة منهجه هو المؤثّر في الحياة شقاءً وسوءً وكرباً وبلاءً، وهذه حقائق يجب أن تُلامس القلوب والعقول من المؤمنين ويقيم على ميزانها تعاملهم مع المستجدات والحادثات والمتطورات على ظهر هذه الأرض؛ ليكسبوا حقيقة السعادة في الحياة، سواء في هذا العمر الذي نحن فيه وهو عمر ثانٍ، إنما قلنا عمر ثانٍ لأنه كان لنا عمر قبل بروزنا في هذه الحياة ونحن في عالم الأرواح، امتد من حين أن كوَّن الله أرواحنا وكوَّننا في عالم الذرِّ إلى حين اللحظة التي أُخرِجت الروح لتنفخ في وسط بطن أم كل واحد منا بعد تكوين الهيكل الجسدي لها، ثم خروجه للولادة، فقبل الولادة قد مر بذاك العمر الطويل من بداية خلق الروح إلى بداية الخروج من بطن الأم، فدخولنا إلى هذه الدنيا يبتدئ من خروجنا من بطون أمهاتنا ويمتد معنا إلى لحظة خروجنا من الدنيا إلى عالم البرزخ.
حياة هذا العمر والعمر البرزخي وعمر القيامة الذي ليس بالهيِّن، إنه مهما طال العمر سواء لنا معشر الأمة المحمدية قِصار الأعمار كثيري الأجور من الكريم الغفار على الأعمال القليلة، أو من الأمم التي قبلنا التي يطول عمر أحدهم إلى ألف سنة وإلى ألف ومائتين وإلى ألف وثلاثمائة وزيادة وأقل من ذلك.
يوم القيامة سمعنا الآية تقول، يقول الله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. فانسبها إلى عمرك الدنيوي، كم تُعمَّر في هذه الدنيا؟ يا أيها المنشغلون بعمر الخمسين السنة والسبعين السنة، ما معنى نسيان عمر الخمسين ألف سنة وهو واحد من الأعمار المستقبلية؟ فالذي له نظر بعيد طويل عميق إلى المستقبل هو الذي استغرق كل جهده في عمارة السنوات القصيرة المحدودة أو الذي امتد نظره إلى عِمارة عمر السنوات بعيدة الأمد الطويلة المؤدية إلى حياة الأبد، لا والله إن أعقل الناس هم المؤمنون بالله المستعدون للقاء الله جل جلاله وتعالى في علاه.
ولما سئل الإمام الشافعي: إذا مات رجل وقد أوصى بمال لأعقل الناس فلمن نصرفه؟ فلمن نصرفه؟ أعقل الناس من هم؟ أهل الابتكارات، أهل الاختراعات، أهل القصور؟ قال: يُصرَف للزهاد في الدنيا، أي الذين يعمرون الدنيا حقيقة العمارة بأخذها على وجهها وصرفها في وجهها، ويؤثرون الله الباقي فيزهدون فيما لا يزيدهم قربًا من هذا الإله، هؤلاء الزهاد أعقل الناس، وأشارت الآيات القرآنية إلى ذلك كمثل قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍۢ فَمَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، فالعاقل من أعدّ عُدته للعمر الطويل وللعمر الأبدي.
أيها العباد، صلاح الحياة في العمر هذا الأول الذي هو العمر الثاني، عمرنا في الدنيا، ثم في عمر البرزخ، ثم في عمر القيامة، ثم في عمر الخلود في الجنة أو في النار، صلاح الحياة فيه قوي العلاقة بمنهج المُحيي المميت خالق الموت والحياة وهو الله تبارك وتعالى.
وفيما نحن بصدده مُقبلة علينا أيام العشر، ينتهي بنا شهر ذي القعدة فيدخل علينا شهر ذي الحجة، مالَ جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلى أنّ القسم في قول الله: {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} أن المراد بالليال العشر هي العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة الحرام، وهي أيضًا الأيام المعلومات، مذكورات في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيمَةِ الأنْعامِ}. تأتي بعدها الأيام المعدودات وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة أيام التشريق أيام منى، {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.
(وَالْفَجْرِ)، تعلق أيضًا بهذا الموسم وبهذه الأيام في قول ابن عباس وجماعة من المفسرين قالوا: الفجر فجر يوم النحر، أو الفجر فجر يوم عرفة، والفجر إلى جانب الأقوال الأُخَر في معنى الفجر والمراد به {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}. أيضًا تعلّق بالموسم في أقوال كثير من المفسرين أن المراد بالشفع يوم النحر، وبالوتر يوم عرفة، يوم التاسع يوم الوتر، واليوم العاشر يوم الشفع، (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ).
هذا القسم من الله بهذه الليالي يُحرِّك في الضمائر والمشاعر أنّ لها مكانة عند خالقنا، فيجب أن تكون لها مكانة عندنا نحن الذين آمنا بهذا الخالق، فليس من الإيمان في شيء أن تُقبل مثل هذه الليالي ثم تخرج والحالة في البيت نفس الحالة، والشعور مفقود في الأسرة، وفي مكان العمل، وحتى في بعض المساجد، ويدخل ويخرج ولا يدري أنها ليالي مقسم بها في الكتاب، ما يستشعر، ما يتفكر، ما يعمل بمقابلها عملاً اتباعًا لتعظيم الله ولإرشاد نبي الله محمد ﷺ.
وفي هذا جاءنا في صحيح البخاري عن نبينا ﷺ قوله: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من أيام العشر" يعني عشر ذي الحجة. قال: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
وجاءت عدة روايات في السنن: "ما من أيام العبادة فيها أحب إلى الله، ما من أيام العمل أعظم أجرًا عند الله من أيام العشر". قال: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجل عفّر وجهه في التراب"، يعني قُتل في سبيل الله، فانتهى ماله ونفسه من أجل الله مخلصًا لوجه الله تبارك وتعالى.
فالعبادة في هذه الأيام من أفضل العبادات تكون، فيجب أن تتميّز أيام العشر وليالي العشر في حياة المسلم، يجب أن تتميز في حياة المسلم، امتلأت اليوم الدنيا بأنواع من المناسبات تأخذ مشاعر الناس، فلا ينبغي لأهل الإيمان أن يغفلوا عن ليالٍ وأيام كان إقامة تخصيصها وتمييزها من الحق ومن رسوله ﷺ، فذلك مظهر لرابطتهم بالله وبرسوله وبهذا الدين وبهذا الإيمان، كمثل هذه الأيام العشر.
لذلك يقول الإمام البخاري عليه رحمة الله: وكان ابن عمر وأبو هريرة يأتيان السوق أيام العشر، فيكبران في السوق ثم يرجعان، ليذكرا أهل السوق بالتكبير في محل الغفلة، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ).
وجاءنا في الأحاديث عنه ﷺ أنه قال: "فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير"، وفي الرواية الأخرى: "فأكثروا فيهن من ذكر الله عز وجل". وجاء في رواية عند البيهقي بإسناد لا بأس به: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التكبير والتحميد والتهليل وذكر الله، يعدل صيام يوم منها بصيام ألف يوم"، يعدل صيام يوم منها بصيام ألف يوم، وجاء في رواية ما يقول سيدنا أنس بن مالك: "كنا نعدّ صيام العشر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ كل يوم بألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم"، ولذلك لما دخل مسروق على سيدتنا عائشة قال: اسقوني، قالت: أوَ ما أنت بصائم؟ وكان يوم عرفة، قال: لا، أنا خشيت أن يكون اليوم يوم النحر، قالت: ليس ذاك، يوم عرفة يوم يعرّف الإمام، يوم النحر يوم ينحر الإمام، أي بحسب ثبوت الشهر عند الحاكم أو مشاهدتك له في حق نفسك إن لم تبلغ شهادته. قالت: أوَ ما تعلم يا مسروق أنّا كنا نعده بألف يوم أو بعشرة آلاف يوم؟ صوم يوم عرفة وهو مسنون لغير الحاج، فالحاج مشغول بأعمال النسُك وكثرة الدعاء في يوم عرفة.
إذن تبيّن مسألة العمل الصالح والزيادة منها في أيام هذه العشر، فكل مؤمن ينبغي أن يزيد شيئًا من العمل الصالح يُميِّز به ليالي العشر، وفي ذلك تعلُّقات القلوب بالأعمال الصالحة، إصلاح للحياة، إصلاح للعوائق، استنزال للرحمة، استدفاع للبلاء، تهيؤ للوعد الكريم بالبشائر المنثورة في القرآن للذين آمنوا وعملوا الصالحات، اللهم اجعلنا منهم.
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، وفيه الحفاظ على ميزان الرغبات وتقويم الإرادات في باطن المسلمين، التي يعمل الإيمان فيها عمله، فإن انبعاث الرغبات والإرادات عناوين عما يستقر في هذا القلب ويكمن فيه. فما يحل في القلب من معرفة الله يُنتج رغبات تزداد وتقوى في القلب، وإراداتٌ تتمكّن فيه، وطمع لائق بمعاني هذا الإيمان، وهنا يأتي دور الأمنيات والهوايات والتعلقات القلبية، وذلك أنها نتيجة حتمية لما يحل في القلب والعقل، وهي تبع لحسب فراغ هذا القلب من حقائق إدراك سر الوجود، وعظمة المعبود والاستعداد لليوم الموعود، أو غياب ذلك عن الذهن ممن ليس له من العلم إلا شؤون ظاهرة من الحياة الدنيا، (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) -كما قال الله تبارك وتعالى- يُقرأ هذا في التعلقات القلبية، في الإرادات، في الأطماع، في الرغبات، في الهوايات.
ولذلك نجد أنّ مجتمع النبي محمد ﷺ من أول الأمر لما أشرق نور الإيمان في الصدور، أشرقت أنوار النبوة في الأتباع، تأثرت أماني الناشئة من الأطفال، وإذا بالأماني والهوايات من الأطفال: لقاء رسول الله، الحشر مع رسول الله، الدخول إلى جنة الله، نيل الفردوس الأعلى.. ابتثّت هذه الأماني وترسخت ولامست شغاف القلوب، حتى وهم في سن السابعة، وهم في سن الثامنة، وهم في سن العاشرة من العمر، في سن اللعب وسن الطفولة، لكن الأماني تفتحت أزهارها على طلب المقاصد العُلى مما يكون لأعقل عاقل على ظهر الأرض نهاية المقصود، كان عند أبناء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم وأرضاهم.
فانظر الآثار والنتائج اليوم وما نحمله، قال الله تعالى عن من عرفوا فأثرت المعرفة فيهم فأقامت لهم طمعًا مخصوصًا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} انظر الطمع كيف تحوّل!
فأي مسلم يُجاوز ولده العشر، والاثني عشر والخمسة عشر والثمانية عشر ما طرق قلبه طمع صادق أن يدخل مع القوم الصالحين! ما طرأ على باله! ما هاجسه هذا الخاطر، ملهوف وراء أطماع يمكن أن يشابه فيها أي أحد على ظهر الأرض من يهودي أو نصراني أو غيره! أن يتألق في سماء كذا مما يسميه سماء وهو انحطاط مثلا، أو أن يحصل من متاع الدنيا على كذا وكذا، فأين ذهبت الأطماع وأين ذابت؟ وأين أثر الإيمان في إقامة هذا الطمع وتوجيه هذا الأمر؟
لذلك إذا تعلقنا بمسائل مثل العشر والعمل الصالح فيها أثّر ذلك في حياتنا تقويم الأطماع لدينا، ولفت الأنظار إلى ما يجب أن يُحرص عليه وأن يُفكّر فيه وأن تبذل الطاقة فيه، فيأتي بعد ذلك دور للصيام المندوب بعد أن خرجنا قبل شهرين من الصيام المفروض وهو صيام رمضان، فجاءت حِكَم الصوم وما سمعتم وتسمعون من العلماء عن آثاره في حياة الناس وإقامته لشؤون مما تصلح به الحياة في الدنيا، والحالة عند الموت، وفي البرزخ وفي القيامة، وما ينتج ذلك أيضًا من ثمارٍ في دار الكرامة، دار الجنة التي يُوفّى فيها الصابرون أجرهم بغير حساب، اللهم اجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
فإذا بصوم اليوم من أيام العشر يعدل صيام سنة في رواية، يعدل صيام ألف يوم، في هذه الرواية التي سمعتها بسند عند البيهقي لا بأس به، صيام ألف يوم يكسبه من يوم يصومه من أيام العشر، العشر الأول من ذي الحجة والمراد بها إلى التاسع، لأن العاشر حرام نصومه باتفاق، لكن بقينا في الأول والثاني والثالث إلى أن يأتي يوم التاسع، ويتميز يوم التاسع لغير الحاج أنّ صيامه يتضاعف ثوابه وأجره إلى عشرة آلاف يوم، ويُكفّر ذنوب سنتين، السنة التي قبلها والسنة التي بعدها، يكفر ذنوب عامين صيام يوم عرفة، إني لأحتسب على الله، يقول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح: "أن يكفّر ذنوب السنة التي قبلها والسنة التي بعدها" ذنوب سنتين.
فإذا بالحكمة في إصلاح الحياة من مسائل الصوم جاءت هنا، جاءت مسائل الذكر على العموم والتكبير على الخصوص، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيمَةِ الأنْعامِ)، ولذا استحب جماعة من الفقهاء أنه كلما رؤيت النعم أي: إبل أو بقر أو غنم في عشر ذي الحجة، أن يُكبر الرائي لها والناظر: الله أكبر، كلما وقع نظرك على إبل أو غنم أو بقر، قلت: الله أكبر، في خلال هذه الأيام على وجه الخصوص إلى أن يأتي أيام التضحية، وشأن التكبير الذي هو شعارنا أيضًا في العيد له عظيم التأثير في إخراج مادة الرياء، مادة الخوف من غير الله، مادة الطمع في غير الله والرجاء في غيره من داخل القلب.
إذا تمكّن معنى التكبير من قلبك، استحييت من الإله تعالى أن تخشى غيره دونه، أو ترجو غيره سواه جل جلاله، أو أن تقصد غيره بعمل صالح، فالله أكبر، الله أكبر! لكن ذوق الله أكبر هذا متى تذوقه؟ أنت تشتغل بها في الصلوات وتسمعها في الأذانات، فمتى يقول قلبك الله أكبر؟ ويقترن بها ذوق حلاوة من تكبير هذا الكبير، يصير بها قدره كبيرًا عند الكبير، عندما تذوق لذّة التكبير لله العلي الكبير جل جلاله وتعالى في علاه.
وكم لذلك من تأثيرٍ على مسار حياتك كلها أيها المؤمن، ولو أدركت معناها نحن إلى الوقت الأخير أيام كان يقاتل بعض الأفغان أهل الإلحاد من الشيوعيين من الروس، يأسرون الأسرى فيسألونهم عن بعض أحوالهم، يقولون: كلمة كنتم تنطقون بها إذا نطقتم بها نمتلئ خوف.. ما هي؟ ينطقون ما كانوا يعرفون يقولون: بر، بر، عند قولهم: الله أكبر.
وهذه الآثار قد تبرز أحيانًا إلى عالم الحِس للتنبيه، وإلا فقد كان لزَجل الصحابة بها جلجلة في القلوب لا يثبت معها عرش ظالم ولا شرير، إذا قالوا: الله أكبر جل جلاله وتعالى في علاه، لكنها إذا خرجت من ذاك القلب الذي هو مُكبِّر لله، فيستحي أن يقصد غيره أو أن يعظم غيره عليه وعلى أمره، أو أن يصرف رجاءه وخوفه إلى غيره.
كان سيدنا سالم بن عبد الله بن عمر في الحج في الكعبة، دخل الأمير وهو وسط الكعبة، قال: يا سالم، ألك حاجة نقضيها؟ التفت إليه: أستحي أن أسأل غيره وأنا في بيته، قال أنا في بيته وأسأل واحد ثاني! كيف ما يكون هذا الكلام! أستحي قال من الله أنا وسط داره وأقول لواحد هكذا، ما هذا الكلام؟! أنا في بيت رب العالمين مالك الملك، استحي الأمير على نفسه لما خرج وتعرض له خارج المسجد: الآن قد صرت خارج المسجد يا سالم ألك حاجة فنقضيها؟ قال: تعني من حاجات الدنيا أم من حاجات الآخرة؟ قال: ليس لي سبيل إلى حاجات الآخرة لكن من حاجات الدنيا، قال: أما حاجات الدنيا فأنا لم أسألها ممن يملكها فكيف أسألها من غير مالكها؟ قال الذي يملكها ما التفت نظري إليها ولا سألتها منه وما لي تعلق بها، فكيف يجيء واحد ما يملكها وأسأله منها؟ شأن معنى من معاني التكبير الذي حل في ذاك القلب، صار على مثل هذا الوجه يضع الأمور في مواضعها في شيء من المواقف، لو بدا له باديا من إنقاذ مسلم في طلب مال له أو في أخذه لفعل ذلك، لكن القاعدة راسخة ولكل موقف حقه ومستحقه، والقلب لا يتزعزع عن هذا الحضور مع الله تبارك وتعالى وجل في علاه.
ولذا جاء بعض العارفين فرش له سجادة في الحرم يصلي مستقبل الكعبة في حال صفاء مع الله، فدخل بعض الأخيار من أهل مكة معه دراهم يريد يتفرس فيها وجوه أحد من الأخيار يعطيها، رأى هذا على سجادته فقال هذا الوجه المنير لعل له حاجة ويرضانا الله بإعطائه ويقبلها عنده، فصبّ الدنانير والدراهم على السجادة، وهذا أكمل صلاة ورفع رأسه ووجد هذا، التفت قال: يا هذا، أنا اشتريت هذه الساعة بإنفاق كذا كذا من مالي لأجل الله حتى أصل هذا المكان وأجد هذا الحال مع ربي، تريد تُكدِّر علي صفائي بدراهمك هذه؟ قال فنفض السجادة خارج الدراهم ومشى، قال فما رأيت أعز منه حين ولّى ولا أذل مني حين بقيت ألتقط الدراهم، جلست أجمع دراهمي وأنظر واحد تاني الذي أعطيه هذه الدراهم، كان الرجل في ساعة قمة التكبير، في ساعة قمةٍ لتكبير العلي الكبير جل جلاله وتعالى، فما التفت إلى شيء من هذه المعاني، ذاك ما يُحدِثه فينا معنى التكبير.
يقول الإمام البخاري في صحيحه أن عمر كان يكبّر في المسجد، يعني أيام منى، فيكبِّر بتكبيره أهل المسجد، فيسمعهم من في السوق فيكبّرون بتكبيرهم حتى ترتجّ منى تكبيرا، بل جاء في كتب السنن أن لجيج التكبير يُسمع من أطراف مكة، حتى كانوا يقول القائل منهم عند خروج عمر -أيام خلافته لما حج- لأجل الرمي، يخرج يكبّر، يكبرون بتكبيره أهل منى، ترتج منى تكبيرًا، فيقول من بأطراف مكة حينما يسمعون الضجيج ولجيج التكبير: الآن خرج الخليفة يرمي، الآن خرج عمر بن الخطاب، من ضجيج تلك الجبال بتكبير الصحابة والتابعين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، شعار من شعارات الدين.
تكاد حتى في أعياد المسلمين تسمع التكبير قليل، في ديارهم قليل، في أسواقهم أقل، وبعضه في المساجد بقلب حاضر وبقلب غير حاضر، وفي أوقات قليلة، فالله يعيد إلى المسلمين نور التكبير في قلوبهم حتى تنطق به ألسنتهم ويظهر في شعاراتهم عاليا بإذنه تبارك وتعالى.
هذه جوانب مما يؤثر على حياة المسلم فيما يتعلق بمهمات العشر، أيام الإنفاق وأيام الموسم الكريم الذي يشترك في بركاته من حضر وجاء إلى تلك الرحاب الطاهرة، ومن غاب عنه من أهل القلوب المنيرة من المتوجهين إلى الله المغتنمين لأيام هذه الحياة.
نسأل الله أن تقبل علينا هذه الأيام ونحن على حُسن استعداد لتلقي واسع الإمداد من مولانا الكريم الجواد، يا ربِّ نوِّر قلوبنا هذه واملأها بأنوار الإيمان واليقين، واجعلنا من المُتهيئين المتأهلين لتلقي فضلك العظيم، ولا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، اجعل الحياة في بيوتنا قائمة على العمل بمنهجك وعلى إحياء سنة نبيك، واجعله مقتدانا فيما نقول وفيما نفعل، سلِّم قلوب أهالينا وأبنائنا أن تستبدل بمحمد قدوة غيره.
اللهم ثبتنا على اتباعه وأشرق في قلوبنا أنوار شعاعه، واجعلنا من رفقائه في القيامة، أصلح لنا به الحياة، وأصلح شؤوننا عند الوفاة، وأصلحنا يوم الموافاة، وبارك لنا فيما أعطيتنا، وفرِّج كروب المسلمين، واجعل هذا البلد وبلاد المؤمنين آمنة مُطمئنة رخية، وادفع عنا وعنهم الشرور والأسواء والآفات، واملأنا بالإيمان واليقين والتقوى والإخلاص، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين، أنجز لنا رحمة تسعدنا بها في الدنيا والآخرة، وتجعلنا بها من أهل الوجوه الناظرة التي هي إليك ناظرة، برحمتك يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين.
02 ذو الحِجّة 1433