(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الجمعة 3 رجب الأصب 1443هـ بعنوان:
نعمة تسلسل مفاهيم الكتاب والسنة من حضرة النبوة إلى أكابر الصحابة وأهل البيت إلى خيار خاصَّةِ كلِّ قرن وزمان
الحمد لله ربِّنا الذي منه مبتدأنا ووجودُنا وإنشاؤنا وخلقُنا وكُلُّ نعمةٍ بنا، وإليه مرجعُنا ومآلُنا ومصيرُنا وغايتُنا ونهاياتُنا {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ * هَٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}
{النُّذُرِ الْأُولَىٰ} أساسُها واحد يُذَكِّرُ بعظمةِ الإلهِ الحقِّ الخالق، وأنه رَبُّ جميعِ الخلائق، وأنَّ المرجعَ إليه، وأنه أحَقُّ ما يُخَاف وأحَقُّ ما يُرجى، وأنَّ توجُّه قلوبِ عبادِه بالرجاءِ إلى سواه والخوف ممَّن سواه غفلةٌ منهم! بل عَيبٌ! بل عارٌ، بل ذنبٌ بل حِجَابٌ، بل قطيعة، بل سَفَه؛ يوقعهم في مهاوي انقطاع ويُعَرِّضُهم للانحرافِ في الحياةِ والعذابِ بعد المُلاقاةِ والوفاة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
فكُلُّ مَن أدرك أنه عبدُه وأنَّ مَن في السماوات والأرض كلَّهم عبيدُه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}
مَن أيقنَ بذلك استَحيا أن يرجوَ غيرَه، وخَجِلَ أن يخاف مِن غيره -جَلَّ جلاله- {ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ولا يخرج ولا يُستَثنَى عن هذه القبضة وعن هذا المرجع في عبوديَّةٍ لله تعالى مُلحِدون ولا مجرمون ولا فاسقون ولا متقدِّمون ولا مُتَحَضِّرون ولا دول ولا رؤساء ولا شعوب ولا وزارات ولا هيئات ولا جماعات ولا مؤسسات {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا}
ولكن مَن وصلَه النذيرُ وجاءه البشير فأعرضَ واستكبر ونَصَب له مِن دون الله تعالى آلهةَ عقولِ الضلال ونَصَب لهم آلهة أفكار الضُّلَّال شرار الخلق على ظهرِ الأرض وآثرَ الشهواتِ وآثرَ الحياةَ القصيرة؛ فهو الجدير أن يندمَ ندامةً ما فوقَها ندامة، وهو الجدير بأن يُذَلُّ ويُخزَى يومَ القيامة، بل مظاهرُ الخزي والهُون تنالُهم وهم في هذا العيش وهم في هذه الدنيا الحقيرةِ القصيرة قبل أن يرجِعوا إلى مَن يعلَم ما يُسِرُّون وما يُعلِنون ومَن يقول للشيء كن فيكون..
لا إله إلا هو اختصَّنا بالأمين المأمون؛ فبذلك كُنَّا خيرَ أمة. فلك الحمدُ يا ربَّ الرحمة، لك الحمدُ يا وليَّ النِّعمة، لك الحمدُ يا مُتفَضِّلاً بهذه المِنَن ويا مُعطِيَاً هذه المواهب في السِّرِّ والعلَن.
كُلُّ مَن أُنعِم عليه بنعمةِ شهادةِ أن "لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله" لم يكن منه سَبْقُ بذلِ ثمنٍ لأن يكون مِن خيرِ الأمم ولا سببيَّة لأن يُجعَل في خيرِ الأمم؛ ولكن {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} -جَلَّ جلاله تعالى في علاه-
وأنتم في نعمةِ هذا التَّذاكر للنُّذُرِ الأولى كما قال في البيان الذي بيَّنه في سورة الأعلى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَٰذَاٰ لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}
فالإنذار واحدٌ، أُنذِرَ به آدم وأنذَر أولاده، وحملَه مِن بعده شيثُ ابنُ آدم وأولادُه، وحملَه مِن بعدِهم إدريسُ وأولادُه، وقرونٌ فيهم أنبياء حملوا هذا الإنذارَ وحملوا هذا التبشير وحملوا إيضاحَ هذه الحقيقة، وحمله نوحٌ عليه السلام.. حملها النبيُّ نوحٌ على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة السلام، وأنذر قومَه ولبث فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عاما. وقال في أدائه الأمانةَ على ظهرِ الأرض الكبيرةِ الخطيرةِ التي ثوابُها عظيم، وشأنُها فخيم، وأجرُها جزيل، وثمرتُها في الرضوان الرَّبَّاني والخلود في الجِنَان في مجاورةِ الرحمن والنبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين -اللهم ارزقنا مرافقتَهم وارزقنا مجاورتَهم برحمتك يا أرحم الراحمين- إنذار قال عنه: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} يدعوهم للنجاة والفلاح والفوز وإدراك الحقيقة؛ هداية للرب وسببيَّة النعيم الدائم .. فما الداعي إلى هذا الاستكبار؟ تَغشِيَةٌ بالثياب وجَعلُ الأصابع في الأذان؟!
الداعي هو الداعي الذي يدعو الناسَ إلى الإلحادِ اليوم، هو الذي يدعو إلى تعظيمِ مَن خالفَ أمرَ الله.. هو نفس الدواعي هذه التي عملت فيهم هي هذه الدواعي التي دعت مَن سمَّى نفسَه "مثقف" في زماننا إلى استنقاصِ بعضِ أحكام الشريعة! وإنه يريد لو تتغيَّر وتتبدَّل مِن شأن خاطره وخاطر حُثالةٍ من شِرار الخلقِ على ظهر الأرض! هذه هي الدواعي؛ دواعي الهوى، دواعي الشهوة، دواعي إيثار الفاني، دواعي اِتِّبَاع النفس الأمَّارة؛ دعتهم لأن يعملوا هذا أمامَ النبي نوح!
وهي التي تدعو هؤلاءِ الأشرار على ظهرِ الأرض لفعلِ الشر، لفعل الضُّر، لمناقضةِ دعوةِ الذي خلقَهم، لمضادَّة دعوةِ الرحمن ربِّ العرش التي تمَّ كمالُها واستجلاؤها وبروزها على يدِ ولسانِ وذاتِ وحقيقةِ "محمد" صلى الله عليه وسلم المُرسَل رحمةً للعالمين ختماً للنبيين، دعوة الله؛ فهو داعي الله الأكبر، الداعي على الحقيقة..
كلُّ داعٍ سواه ممَّن سبق في البروز الدنياوي قبله ومَن أتى بعده فنوّابٌ عنه مُنضَمُّون تحت رايتِه ويُحشَرون تحت لواء الحمدِ الذي يحمله هو، ورؤوس النبيين ساداتُ الدعاة تحت هذا اللواء (آدمُ فمن دونَه تحت لوائي، ولواء الحمدِ بيدي يومَ القيامة) عليك صلى الله..
استمع نَفَرٌ مِن الجنّ على لسان نبيِّنا آياتٍ من القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}
وهكذا مَن أنصت مؤمناً موقنا مُنتَبِهَاً متذكِّراً متأمِّلاً متدبِّراً مُعَظِّمَاً؛ يرتفع مباشرةً إلى درجةِ أن يَحمِل الأمانةَ وهمَّ الدعوة إلى الله {وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا} صاروا يُبَيِّنُون الحقائقَ ويحملون الإنذارَ والتبشير {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ..} لذا رجَّح جماعة من أهل التفسير أنهم كانوا من اليهود لهذا قالوا لقومهم: {كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مُصَدِّق للكتب كلها؛ لأن دعوة الحق واحدة مِن أيام آدم إلى آخر مؤمن يبقى على ظهر الأرض، الدعوة واحدة؛ شهادةُ أن لا إله إلا الله والإيمان بمحمد رسول الله والأنبياء والرسل والملائكة والكتب المُنزَلة من السماء والقدر خيره وشرِّه واليوم الآخر؛ دعوة واحدة عليها يقوم الثواب والدرجة ونيل المنزلة والرِّفعة عند الله تبارك وتعالى.
فهنيئا لمن يحملها ويقوم بحقِّها في نفسِه، وأهلِه وأولادِه، وجلسائه، وأهل بلادِه، ويَملِكُ نيَّةً وعزيمةً وإرادةً لنشرها في جميع المُرسَل إليهم محمد؛ وهم جميع المُكَلَّفين من الإنس والجنِّ أجمعين {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} صلى الله عليه وسلم. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}
هذه الدعوةُ الكريمةُ المصونة التي سمعتم الآثارَ عنها والمخلصون فيها مِن شرقِ الأرض وغربِها.. كم وقعت لهم عجائب! وكم وقعت لهم نُصرَات وتأييدات! وكم وقَعَت لهم مرائي صالحات مُبَارَكات!
وهكذا تستمر عنايات الحق لدعوة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في مَن ينتخبُهم ويختارهم، وينشر أعلامَهم، ويهديهم، ويهدي بهم، ويهدي على أيديهم، ويهدي بآثارهم مَن شاء جَلَّ جلاله وتعالى في علاه {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}
وقالوا في أمم قبلنا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}
أفيكون حظُّ الصابرِ الموقن مِنَّا أقلَّ مِن حظِّ الصابر الموقنِ مِن الأمم السابقة؟ لا والله، مثلهم وأكثر، مثلهم وأعظم، مثلهم وأجل، مثلهم وأجزل. مَن صبرَ وأيقنَ انتخبه لأن يكون من الهُدَاةِ إلى الله بأمرِ الله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}
فبالصبر واليقين ، وهما مِن أقل ما يؤتَى الناس؛ ومن أوتيَ حظَّه منهما فلا يبالي ما فاته من ظواهر العبادات وهو الصبور المُوقِن؛ لا يَعتَرِيه الشك، ولا الضلالُ ولا الخيال، ولا يَفتَح مجالاً لأقوالِ الأفَّاكِّين والضُّلَّال في مشارقِ الأرض ومغاربِها، بأي طريقة يريدون المقال وينشرون الأفكار ويُصَوِّرون ما يَطرَحُون مُزَوَّقَاً مُزخرَفَاً مُبَهْرَجَاً؛ كله في دائرة: {وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ وَعِدْهُمْ} أعطهم المواعيد والوعود {وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا}
ولكن قال له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} سأنتخبُ في كُلِّ زمانٍ مِن أمةِ حبيبي محمدٍ في آخر الزمان/ ومَن أختارُه مِن أممِ الأنبياء في الأزمنةِ الماضية مَن لا تقدرُ عليه أنت ولا جندُك ولا صوتُك ولا خيلُك ولا رجلُك ولا تستفزُّهم ولا يُصَدِّقون فكرَك ولا غرورَك ولا مواعيدَك الكاذبة {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا} وحسبنا الله ونعم الوكيل..
وشاءت أقدارُه أن تجمعَنا وإياكم في خير الأمم، وفي مواطن دعوة وهداية خاتم النبيين؛ وصلت إليها وهو في الحياة الدنيا على ظهر هذه الأرض، وورد إليها مِن أصحابه، ووَرَد منها إلى بلادِه عدد، واستمر المدد، وجاءوا قرنا بعد قرنا، وجيلا بعد جيل، حتى كَمُلَت الزينة بعد مجيء الصحابة بمجيء الآل بخروج (أحمد بن عيسى المهاجر إلى الله)
واشتهر طيلة عشرة قرون إلى القرن الحادي عشر يدخل إلى القرن الثاني عشر الآن.. اشتهر فيها كلها باسم (المهاجر إلى الله) لا المهاجر إلى حضرموت ولا المهاجر إلى اليمن ولا المهاجر إلى قبيلة (المهاجر إلى الله) لأنه خرج مِن أرضٍ ملكُه فيها كثير، وعيشُه فيها رغيد، وإمكانياتُه فيها وافرة؛ خافَ على الدين وحملَ الأمانةَ بيقين، وفارق تلك المواطنَ وفَرَّ إلى الله تبارك وتعالى، واختار الله له البُقعَة..
وما سمعتم مِن نشرِ الإسلام في الشرق والغرب ابحثوا في واقع التاريخ من صلبه خرجت الدعوة هذه وعامَّة من يدعو إلى الله سواء في أفريقيا أو شرق آسيا أو في جنوب الهند من ذرية هذا الإمام، من نسل هذا الإمام، معهم مَن معهم من الصالحين مِن بقية القبائل؛ لكن كان السَّبقُ والصدارة لهؤلاء وعلى أيديهم هدى الله مَن هدى، وذلك جزاء كُلُّ مَن بذل لله، وضحَّى من أجل الله، وصدق مع الله سبحانه وتعالى..
واختار اللهُ من ذريَّته مئاتٍ وألوفاً نشرهم في الشرق والغرب سُرُجَاً يهدون بأمر الله إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدلُّونا على المنهاج والطريقة، بصدقٍ، بإخلاصٍ، بأدبٍ، بخضوعٍ، بخشوع, أعرَضوا عن السلطات وعن الوجاهات الدنيوية، وصدقوا مع الرحمن وأرادوا وجهَه -جَلَّ جلاله-، وعُرِضَت ما عُرِضَت من السلطات على الكثير منهم، ربما وصلوا إلى حد إرغامِ إدخال بعضهم في شيء من تلك السُّلطات في تلك البلاد فكانوا أزهدَ الناس فيها ولو أُرغِمُوا عليها..
وكان المنهج الذي مضوا عليه.. المنهج الذي يُترجمه (الحسين ابن الشيخ أبو بكر بن سالم) حين يقول له بعض السلاطين: تركت السلطنة وما فيها وأنا تبت إلى الله، وأريد باقي عمري أستعد للقاء الله وأتدارك ما صدر مني من تقصير في حَقِّ الرَّعيَّة أيام كنت مُكَلَّفاً ومسؤولاً عليهم، والآن تركت كلَّ ذلك وجئتك تائبا إلى الله، وخذ السلطنة في الوادي لأحد من آل كثير من سيؤون أو أعطها مَن شئت، واسأل ربك أن يغفر لي ويوفقني للتوبة ثم لا يُميتني إلا عندكم أو في المدينة المنوَّرة، فقال له مَن يغفر الذنوب إلا الله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وبكى السلطان. قال وإذ ظهرت عليك علامات الصدق فهذا سؤالنا إلى الله أن يغفر لك ويُثَبِّت قدمك، وألا يُميتك إلا في بلدِنا وفي المدينة المنورة، أمَّا ما ذكرتَ من السلطنة والإمارة فإنها لو كانت تصلح للدوابّ ما ارتضيتها لدابَّتي هذه.. الدابَّة حقي هذا الحمار ما ارتضيها له، ولكن انظر من قرابتك وبني عمومتك مَن ترى فيه خوفا مِن الله فولِّه من بعدك واستوصِه والمسؤولية عليه بعد ذلك وأنت استوصِ بها خيرا.. كان هذا المنهاج الذي مضوا عليه..
وقبل وفاة السلطان بأيام ذهب إلى عينات وتوفي هناك، وقبره الآن موجود في السور قبلي في شرق قبة الشيخ أبي بكر بن سالم -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-
فهُمُ القوم الذين هُدُوا ** وبِفَضلِ الله قد سَعِدُوا
ولغير الله ما قصدوا ** ومع القرآن في قرَنِ
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى..
طريقة رشدٍ قد تلقَّى الذي لها ** من السِّرِّ أمجاد خلائف أمجادِ
فهمُهم في الكتاب والسنة موروثٌ عمَّن أُنزِل عليه القرآن وعمَّن جاء بالسنة، وعن باب مدينة العلم، وعن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، وعن زين العابدين، وعن محمد الباقر، وعن جعفر الصادق..
فإن كان في شرق الأرض ومغاربها أسانيدُ أوسعَ أو أرفعَ أو أقوى من هذه فليأتوا بها! والله لو علمنا لَسِرنَا إليها ولو حَبْوَاً!
ما أعظمَ من هذه المسانيد في فهم الوحي والكتاب والسنة؛ مسلسلة من حضرة النبوة وحضرة الرسالة إلى خاصَّة مَن كان حولَه مِن السابقين الأولين المهاجرين والأنصار إلى باب مدينةِ العلم، إلى مدينة العلم سيدنا رسول الله، وعنه تلقَّى الحسن والحسين بعد أن تربوا أول تربيتهم وأُسِّس أول أساسهم على يد وعين وقلب محمد بن عبدالله)
ثم صرَّح ويقول: (اللهم إني أحبهم فأحبهم وأحب من يحبهم وابغض مَن يبغضهم، ووالِ مَن والاهم وعادِ مَن عاداهم)، ويُصَرِّح: (حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ اللهُ مَن أحبَّ حسينا)
ونشأ الحسن والحسين، وتوفي سيد الكونين، تبعته بعد الستة أشهر سيدة نساء أهل الجنة (فاطمة الزهراء) وتمَّت تربيتُهم وتعليمهم على يدِ باب مدينة العلم، وكان يُجلُّهم أبوبكر ويجلُّهم عمر ويجلُّهم عثمان..
فيَا أتباعَ أبي بكر وعمر وعثمان: أَجِلّوا الحسنَين، عظِّموا الحسنَين، اعرفوا قدرَهم.
ولقد خرج يوما من المسجد سيدُنا الصديقُ في أيام خلافته ورأى سيدنا الحسنَ في الشارع فهبَّ نحوه وحمله ورفعه فوق أكتافه، وأخذ يرفعه إلى فوق ويردُّه إلى كتفه ويقول: "بأبي بأبي شَبِيهٌ بالنبي لا شبيه بعلي" قال هذا ولد علي لكن شبهه بالنبي.. فيه نور النبي..
هو الذي روى البخاري عنه -عن سيدنا أبي بكر- يقول: (ارقبوا محمداً في آل بيتي).
سيدنا علي معه كان يمشي كان يبتسم وهذا يِرَفِّع الحسن رجوله على صدره وعلى كتفه يرفعه ويضعه ويقول: "بأبي بأبي شبيهٌ بالنبي لا شبيهٌ بعلي" عليهم رضوان الله تبارك وتعالى..
ومضوا على ذلك، وجاءنا الفهمُ من الريحانتين؛ معاني "لا إله إلا الله"، معاني الآيات، معاني الأحاديث، وحملها علي بن الحسين زين العابدين عليه الرضوان، وقام بِحَقِّ نشرها وأدائها، ولا يوم فكَّر يِصَلِّح مظاهرة للي قتل أباه، الأسرة كلهم قتلوهم ذاك اليوم صغار وكبار ما بقي من أولاد الحسين من صلبه إلا هذا وحده.. والآخرين كلهم قتلوهم، وقتلوا مَن معه، وأبى الله إلا أن يُتِمّ نوره، ونشأ علي بن الحسين..
وأصبحَ يُشَارُ إليه ويُقَال:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ ** وَالحِلُّ يَعرِفُهُ وَالبَيتُ وَالحَرَمُ
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ * هَذا التَّقِيُّ النَقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
إِذا رَأَتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها * إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ * بِجَدِّهِ أَنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا
يُنمى إلى ذُرْوَةِ العِزِّ التي قَصُرَتْ * عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلاَمِ وَالعَجَمُ
يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ * رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَاءَ يَستَلِمُ
يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى مِن مَهابَتِه * فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ * كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَلجَأ وَمُعتَصَمُ
يُنفِق على مائة أهل بيت نفقة كاملة من فقراء المدينة ما كانوا يعرفون مَن يُنفِق عليهم! لا ينتهي طعامُهم إلا وقد وجدوا آخرَ الليل عند بابِهم الآخر! فيتغذّون به فلا ينتهي إلا وقد وصل الآخر! على ظهرِ علي بن الحسين.. يحمل الطعام ويضعُه على أبوابِهم.. مائة بيت أو مائتين!
انقطع بموته.. ولمَّا لم يصلهم شيء.. فعرفوا أنه هو هذاك الذي كان يحمل الطعام لهم!
ظهر سؤَّال كثير مِن أهل المدينة! يقول لهم أهل المدينة: مِن أين جئتم؟ ما نعهد سائلين!؟ قالوا كُنَّا نجد الطعام على أبوابِ بيوتِنا وما عاد وجدنا شيء، وقالوا: فقدنا صدقةَ السر مُذْ مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه! وهذا شُغلُه وحده؟ وعاد له ألف ركعة كذلك، وعاد له حلقات علم!
وتلقَّى عنه ابنه محمدُ الباقر، وتلقَّى عنه ابنه جعفرُ الصادق، وجاء أبو حنيفة وجالسَ الصادق سنتين، وجاء مالك وأخذ عن الإمام الصادق واكتحلَ بكُحلِهِ ونَهَل مِن علمِه، وكان يقول: "كنتُ في خدمة مولاي جعفر الصادق بن محمد الباقر فكان يبتسم في وجوهِنا فإذا ذُكِر رسولُ الله امتلأ وكاد أن يغيبَ عنَّا، واحمرَّ وجهُه من شوقِه وتعظيمِه ومحبتِه"! قالوا ما الذي يعتريك عند قراءة الحديث؟ قال: "لو أدركتم مَن أدركنا ما رأيتم هذا شيئاً"!
وهكذا كان يَذكُر بعضَ شيوخه قال نقرأ عليه فإذا ذكر رسولَ الله بكى وانتحبَ حتى يُبكينا مِن بكائه ونرثي له من شدَّة ما يُنازله إذا ذُكِر رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وعلى هذا الحال كانَ أخذُ العلمِ وأخذُ الدينِ والقيامِ بالدعوة إلى الله تعالى.
جاء إلى جعفرِ الصادق عامَّةُ الأئمة في زمانه؛ ومنه تفرَّعت هذه العلوم وهذه المعارف، وعلوم الإمام مالك -كان له أخذ مباشرة عن جعفر الصادق-، وعلوم الشافعي له أخذ مباشرة عن مالك، وعلوم أحمد بن حنبل له أخذ مباشرة عن الشافعي عن مالك عن جعفر الصادق..
تسلسل العلمُ مِن وسط البيت وبابِ مدينة العلم وعمَّ مَن عمَّ من الأخيار والأبرار.
ولا تجد أحداً بعد ذلك أحد من هؤلاء الأئمة الأربعة ولا مَن أشهرهم الله في نفع العباد -كالإمام البخاري عليه رضوان الله- إلا ممتلئًا بمحبةِ الله ورسوله وآلِ بيته والصحابة والصُّلحاء على الخصوص والمؤمنين على وجه العموم.
ونُسَخُ البخاري عندنا المخطوطة قديما والمطبوعة حديثا يذكرُ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عامةَ الصحابة فيقول "رضي الله عنهم" "رضي الله عنهم" "رضي الله عنه" فإذا ذكر فاطمة بنت محمد قال: "عليها السلام" كلما ذكرها قال "عليها السلام"
لماذا "عليها السلام "؟ لأنَّ قلبَه يفيض بمودَّة وولاء ومحبة، يعرف أنها بضعة مَن، ويعلم أنَّ ما يسرُّها يسرُّ أباها وما يسوؤها يسوء أباها.
على هذا الحال عاش البخاري.. والإمام مسلم، وأبو داؤود والترمذي والنسائي، وما مِن شهير في الأمة نفع اللهُ به إلا والمحبةُ مغروسةٌ في قلبِه لهذا البيت الطاهر وللصحابة الأكابر، وممتلئ بولائهم وتعظيمِهم ومحبتِهم. وغيرهم ذهبوا وذهبت علومهم إلا ما ضَرُّوا وإلا ما غيَّروا واضمحلّوا؛ لأنَّ للبيت ربًّا يحميه، وللمدينة باباً يُولَج منه إليها، ولأن الله إنما يقبل الصادقين ويقبل المخلصين
ولقد جمعكم -ونسأله أن ينفعنا وأن يرفعَنا وأن يُثَبِّتنا وأن يأخذَ بأيدينا- ورجب استقبلكم وفيه العَجَب، يا رب افتح فيه أبوابَ الفرج للمسلمين، والغياث للمؤمنين، وادفع البلاءَ عن أهل "لا إله إلا الله" أجمعين.
وبارِك في الوافدين وفي المسافرين، وفي أيامنا وليالينا، واجعل لنا فيها ارتقاءً في المعرفة بك، وارتقاءً في المحبة منك والمحبة لك، وارتقاءً في الرضا منك والرضا عنك يا كريم، وقرِّبنا إليك زلفى، وثبِّتنا على الحق فيما نقول، ثبِّتنا على الحق فيما نفعل، ثبِّتنا على الحق فيما نعتقد، ورُدَّ عنَّا كيدَ إبليس وجندِه من الإنس والجن، وعن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فقد احتنكَ الكثير منهم ولقد لبَّس على الكثير منهم! فيَا محوِّل الأحوال حوِّل حالَنا والمسلمين إلى أحسنِ حال.
وبارِك في جمعِنا، واجعل مِن ثمارهِ جمعاً تحتَ لواءِ الحمد، وجمعاً على الحوضِ المورود، يا رب وجميع مَن حضر ومَن يسمعنا اجمَعنا في تلك المجامع، واربطنا بأولئك الأقوام، وارزقنا صِرفَ المحبة لك ولرسولك حتى تكون ورسولُك أحبَّ إلينا مما سِواكما، وبِسِرِّ هذه المحبة نحبُّ آلَ بيتِه ونحبُّ صحابتَه ونحب أمتَه عامَّة وخاصَّتَهم خاصة.
احفظ علينا سرَّ المحبة، وألحِقنا بالأحبة، وفرِّج الكروب وادفعِ الخطوب وأصلحِ القوالبَ والقلوب، وتُب علينا لنتوب، يا بَرُّ يا رحمن يا رحيم يا حي يا قيوم يا الله..
أنتم السُّعَداء بالوِجهةِ إليه فنادوه ليُنَوِّرَ قلوبَنا ويُطَهِّرَها، ويُصلِحَ بيوتَنا ومَن فيها، ويرزقَنا الاقتداءَ بنبيِّنا محمد، ويدفع عنَّا كيدَ الشيطان وحزبَه وجندَه، ويتدارك الأمة ويدفعَ البلاء عنهم؛
فقولوا لكل ذلك: "يا الله" سائلين..
قولوا: "يا الله" .. طالبين
قولوا: "يا الله" خاضعين
قولوا: "يا الله" متذللين
قولوا: يا الله ؛ صادقين
قولوا: يا الله ؛ واثقين
قولوا: يا الله ؛ مسترحمين
قولوا: يا الله ؛ فهو يسمعُكم، وهو ينظرُكم، وهو يستجيبُ لكم، وهو يقبلُكم، وهو ينفعُكم، وهو يرفعكُم، وهو إذا شاء غداً يجمعُكم.. قولوا: يا الله..
نِعمَ الإله إلهُنا وإلهُ كلِّ شيء..
توجَّهوا بالصِّدقِ إليه لكم وللأمة في شؤون الدنيا والآخرة، وقولوا بالقلوب وبالأسرار وبالأرواح والعقول وبالألسن وبالكُلِّيَّة: يا الله .. يا الله .. يا الله
صحَّ عن نبيِّك محمد أنه قال: (ما اجتمعَ قومٌ فدعا بعضُهم وأمَّن الآخرون إلا استجابَ الله لهم) اجتمعنا على بابك، لُذنَا بأعتابك، سألناك، أمَّلناك، رجوناكَ، دعوناك، التجأنا إليك، تذَلَّلنا بين يديك، مفتقرين، مُنكَسِرين، مضطرِّين، يا راحمَ المساكين، يا أوَّل الأولين، يا آخرَ الآخرين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين.. يا الله
يا الله .. يا الله
مِن على ظهر الأرض قلوب وِجهتُها إليك تقول: يا الله ، فارحمِ الأمَّة يا رب، فارحمِ الأمة يا رب.
وإنَّ قلوباً كثيرة خذلتَها فقالت يا مؤسسات، يا هيئات، يا دول، يا أمم، يا دول صغرى ، يا دول كبرى، يا تكنولوجيا، يا أسلحة دمار يا أسلحة حرب.. وأكرمتنا نقول "يا الله.. يا الله"؛ فمَكِّن سؤال "يا الله" من قلوبنا، وابعَثه في قلوبِ كثيرٍ مِن أمة محمد يُلِحُّون عليك فتستجيب، وأنت القائل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وقلت: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}
صدقتَ أنت نعم المجيبُ يا ربَّنا يا قريب
ندعوك، نسألك، نرجوك.. يا الله
بالصدق قل: يا الله .. يا الله .. يا الله..
ارحم بها أحياءَ وأمواتا، وانشر الخيرَ في جميع الجهات، وعفواً ومغفرةً وجوداً وكرمًا، وإحساناً وصفحا، وسَتراً وتوفيقا، وانتزاعاً للظلمات مِن قلوبِنا وصدورنا وملأً لها بالإيمان واليقين والإخلاص والصدق يا ربَّ الخلق يا حي يا قيوم.. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
03 رَجب 1443