(536)
(204)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى ليلة الجمعة 1 ذو الحجة 1445هـ، بعنوان:
مجالي الاستعداد ليوم الجمع الأكبر في حياة المؤمنين ومواسمها
الحمد لله، جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، وفيه يُعرَفُ مَن الواعي العاقل ومن السّفيه، ومن السّاقط الهابط ومن الوجيه؛ وحينئذٍ تضمَحِلُّ جميع الأوهام والخيالات والضّلالات بأصنافها، ويقِفون بين يدي من (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[الأنعام:73] -جلَّ جلاله-
لعظمة ذلك المجمع؛ أمر المُكلّفين بالاستعداد له ما داموا على ظهر هذه الأرض، ويسَّر لهم إذا أقبلوا عليه أسباب الرحمة؛ ليرحمهم في ذاك الجمع، في يوم الجمع الأكبر، يوم يجمع الأولين والآخرين (قُل إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)[الواقعة:49-50].
وتظهر الأحوال (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غافر:16]. تذهب وتضمحِلّ تِلكم المجازات للمُلك الذي اغترّ به أهل السخافات.
وأهل السخافات أمثال النمرود، وأمثال عاد الذين كذبوا بالنبي هود، وأمثال فرعون وقارون وهامان.. هم أهل السفاهات والتفاهات، وخلفاؤهم على الأرض أيضاً هم أهل السفاهات والتفاهات، هؤلاء المغترون بشيء من هذا الأمر الصوري والأمر الحقير المنقضي المُضمحِل الزائل، والمنقطعون عن الخالق، والمنقطعون عن الإله، والمنقطعون عن رُسُله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم.
و: (يوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء:42].
دعانا لأن نستعد لذاك اليوم بــ: الإيمان، واليقين، والتقوى، والعمل بطاعته، وبالاجتماعات في الدنيا في التوجّه إليه؛ لننجو في ذاك اليوم، ولنفوز، ولخير ذلك اليوم الأعظم نحوز، وخيره في: أقوامٍ يُقال لهم: (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:103].
إذا زَفَرَت جهنم واشتدَّ بالناس البأس والهول؛ قال الله عن هؤلاء: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ في مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:101-103].
ولقد كانت دعوات الأنبياء لذاك اليوم، ومنها ما قال الخليل إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:87-89]. اجْعَلْ قُلُوبَنَا سَلِيمة مسلولة السَّخِيمَة.
ومقصود الطاعات والفرائض والسّنن المندوبات: أن يتصفّى قلبك؛ لتلقى الله بقلبٍ سليم، لتلقى الله بقلب نقي، لتلقى الله بقلب مخموم لا غِشَّ فيه ولا غِلّ ولا حسد. وهؤلاء هم المقرّبون عند الله والفائزون يوم لقاه، (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)[الشعراء:87]، (والَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء:82] هكذا يقول الخليل عليه السلام.
وقال الله عن سيِّدِ الأنبياء: (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)[التحريم:8].
اللهم اجعلنا معه، اللهم اجعلنا معه، اللهم اجعلنا معه، وجميع أهل المَحْضَر وجميع مَن يسمع ويُشاهِد ويتَّصِل.. يا الله
(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم:8]، وكلنا نقول ونتوجه إلى العلي الكبير العليم القدير:
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
بقلبك اِدعُه، وبروحك اِدْعُه، وبكُليّتك اِدْعُه وقل:
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
اللهم اجعلنا منهم وفيهم وفيمن أردتهم، وفيمن ذكرتهم في هذه الآيات (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[التحريم:8].
وظيفتهم في الحياة: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[التحريم:9]، وأمثلتهم: (ضرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[التحريم:10].
وهكذا من كان في حِمَى الإسلام وفي دوائر الأخيار الكرام.. ويخون! يخون الأمانة! يوالي أعداء الله! يستخِفّ بأهل الله! يقتحم معاصي الجبار الأعلى -جلَّ جلاله-! فهو لاحق بالمثلين: امرأة نوح وامرأة لوط (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ..)[التحريم:10].
وهذا إنذار لمن يَسْكُن في ديار الأخيار وبجوار الأطهار ثم يخون الأمانة ولا يخشى عالم الجهر والإسرار! ثم يوالي الفجار والكفار! (..فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[التحريم:10]، نعوذ بالله من غضب الله!
وما اختار الله هذين المثلين إلا لأن الحجة أأكد وأكبر على من كان بجوار المطهرين والصالحين ثم يخون الأمانة! ويقتحم ما حرَّم الله عليه! ويوالي أعداء الله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-! (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ…)[التحريم:10].
(...وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ..)[التحريم:10-11]، وهذه كانت في بيت الكافر ولكن قلبها مع الفاطر، مُمتَثِل للأوامر، مُستَغفِر مُنِيب خاشع خاضع مُتَصَاغِر، قال تعالى: (..إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)[التحريم:11]، متصلة بربِّها، مُقبلة على ربها؛ هذا مَثَل المؤمنين (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)[التحريم:11]، وجهاتهم، هِمَمهم، رغباتهم، مقاصدهم، أمنياتهم، طموحاتهم: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)[التحريم:11].
قال وقدَّمت قولها (عِندَكَ) على قولها (بَيْتًا) (ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا) لأنها كانت تعلم أن الجار قبل الدار، وأن المقصود ليس الجنة ولكن رضوان من يُسكِن أحبابه الجنة -جَلَّ جلاله- (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..)[التحريم:11].
ولا يغترّون بزُخرف القول، ولا يغترون ببهرجة المُلك الزائل (..وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) [التحريم:11]، هذا مَثَل المؤمنين.. ما يغترّون بزمجرة الكفر ولا بممالكه ولا بمؤسساته ولا بأنواع الضلال، مهما ظهرت في أيِّ صورة (وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم:11].
والمَثل الثاني: تربية وسط بيوت النبوّة والرسالة بالعناية والرعاية (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ..) [التحريم:12]. وذكر من أعلى صِفات أهل هذا المثَل من أهل الجنة: قوّتهم بالإيمان على شراسة الشهوات، التي من أشرسِها شهوات الفروج، التي بها يُدخِلُ إبليس النار أعداد لا تُحصَى ممن كانوا مسلمين -والعياذ بالله تعالى-!
ولمَّا سُئل صاحب الرسالة عن أكثر ما يُدخِل الناس النار؟ قال: (الأجوفان: الفم والفرج) هذا أكثر ما يُدخِل الناس النار -والعياذ بالله- قيل: ما أكثر ما يُدخِل الناس الجنة؟ قال: (تقوى الله وحُسن الخُلُق).
قال سبحانه وتعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا..) وقام الأمر كلّه على قوة الإيمان والتصديق واليقين (..وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ..)[التحريم:12]، وتشبَّثت بمسلك الإنابة والخشية والإخبات (..وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[التحريم:12].
فهذا مَثل المؤمنين، ضرب الله المثل للمؤمنين بآسيا امرأة فرعون، وبمريم ابنة عمران، وتلك كانت في مجتمع الكفر وهذه في مجتمع الإيمان والنبوة والخير فاضت عليها، حتى تسابقوا مَن يكفُل مريم؟ وأقبل من الأنبياء ومن مع الأنبياء في ذلك الوقت وذلك المكان، يقول -سبحانه وتعالى- (إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران:44]. قال تعالى: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)[آل عمران:37]، وألقَوا أقلامهم في النهر وهو يجري فجَرَت الأقلام مع الماء، إلا قلم زكريا جَرى مُصعِّدًا بعكس اتجاه الماء، فكان هو الذي يتولى (إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)[آل عمران:44]. فكان هو الذي يتولى كفالة مريم، وبنى لها المحراب تعبد الله فيه، ويأتيها بالطعام من وقت إلى وقت، و: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)[آل عمران:44]، المحراب مقفل والمفتاح معي من أين يجيء الأكل إلى هنا؟ (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران:44] -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- ورزقنا كمال الإيمان واليقين.
والكل في ذلك اليوم داخلين دوائر السعادة حيث لا خزي؛ مُنضَمِّينَ بمجموعاتِهم وبتنوّعاتِهم في القُرون والأُمم تحت أنبيائهم، والأنبياء وراء بعضهم البعض، والرأس خير الناس محمد ﷺ "آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة".
وأعَدَّ الله لنا للاستعداد لذاك اليوم: في مجامعنا نذكره، ونذكر أنبياءه ورسله، ونذكر سيدهم محمدا ﷺ؛ ونتهيأ لندخل تحت ذاك اللواء؛ بــ: دخول قلوبنا تحت لواء التبعيّة له في هذه الحياة.. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وجعل لنا صلوات الجماعة؛ عُدَّة ليوم الجَمْع، و: "من حافظ على الصلوات الخمس وأدَّاهُنَّ لمواقيتِهنّ، كُنَّ له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة" خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد في اليوم والليلة، فيَا ويل المُضيّعين للصلاة!
وقال الله عن خَلْف يَخلفُون بعد الأنبياء والمرسلين بعد أن ذكرنا الأنبياء والمرسلين في سورة مريم: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يدخلون النار في الخزي العظيم (..فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)[مريم:59-62]، أيام كنت في الدنيا تسمع لغو كثير، وتسمع كذب كثير، وتسمع تصوير الأشياء على غير ما هي عليه، وتسمع فلسفات ساقطات هابطات..كُلٌّ يتحجج أنا وأنا فيها، لكن هنا: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إلا قِيلا سَلامًا سَلامًا)[الواقعة:25-26]، يقول -سبحانه وتعالى-: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)[مريم:61-63].
فيَا مَن أُكرمتم بالإيمان بالله -جَلَّ جلاله- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا مستقبل أعظم من هذا المستقبل، ولا شأن أمامكم أكبر وأخطر من هذا الشأن (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)[مريم:63]. ألحِقنا بالمتقين يا رب واجعلنا من أهل جناتك.
ويا من لم يؤمن من المكلّفين على ظهر الأرض إنسًا وجِنّا: أحسنوا استعمال العقول، وأنصِفوا من أنفسكم، وعظِّموا شان بارئ السماوات والأرضين، وانظرُوا في ملكوت السماوات والأرض، وانظرُوا في تاريخ الأمم، وتأمّلوا شواهد الصدق في واقعنا، وفي اكتشافاتنا لرسالة خير العُرب والعجم ﷺ، وأنقِذوا أنفسكم من النار، وأنقِذوا أنفسكم من العار، وأنقِذوا أنفسكم من أن يَغُر بعضكم بعضا ويغركم إبليس (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر:5].
أما معشر المؤمنين: فعارٌ عليهم أن ينسوا هذا الأمر المهيل الكبير والشأن الخطير! وأن يُقدِّموا عليه شيء مما يعرِض لهم من متاع الدنيا الزائل، ومن شؤونها المنقضية المنتهية عمَّا قريب!
وما من عايش منهم على ظهر الأرض إلا وهو يَعرِف من الأموات.. مَن كان أكبر منه ومن كان في سنّه ومن كان أصغر منه.. أعداد كبيرة، ويُوقِن أنه وارد هذا المورد، وراجع إلى هذا المرجع، فهل يعقل أو ما يعقل؟ إن كان الأمر كذلك.. فما عُدّتك؟ وما استعدادك؟ وما زادك؟ "إنّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح" قيل: فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد الموت قبل نزوله".
وبعد الصلوات الخمس عَقَد لنا الجُمَع، على أهل كل قرية وكل مدينة يجتمعون في يوم الجمعة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة:9].
اجعلوا لكم في خلال اليوم الليلة وخلال الأسابيع أوقات تتركون فيها أنواع الاشتغالات بهذا المتاع، ولو كانت مُباحات.. ولو كان لكم فيها نيات صالحات؛ ليَخلُص لكم صفاء المواصلة والاتصال (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة:9].
اتركوا البيع؛ فيصير البيع الذي هو حلالا ويصير البيع الذي إذا كان بالنية الصالحة صاحبه يبات مغفورا له؛ مُحرَّما وممنوعا في هذه الساعة، وقد جاء وقت الجمعة (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ..) الظاهر والباطن والمكاسب الحلال والدرجات العوال (..وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة:10]. اسعوا إلى ذكر الله وإذا قُضِيت الصلاة اذكروا الله؛ لأن الذكر رأس مال المؤمن في سِرِّ الصِّلَة بالحيّ القيوم -جلَّ جلاله- وفي سر بقاء الإيمان وحفظه وزيادته وتقويته، وقبول الأعمال الصالحة
"أي المصلين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا، أي المتصدقين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا، أي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا."
وكثير يوفقهم الله لصيام إما العشر كلها، أو أكثرها أو بعضها، أو ثلاث أيام منها، أو يوم منها، وهؤلاء الصائمين أعظمهم أجرًا: أكثرهم لله ذكرًا، من كان ذكره أكثر.. وكثير يوفّق لأضحية يُضحيها من شعائر الله -تبارك وتعالى- في هذه الأيام، ولا في يوم العيد عمل أعظم عند الله من إنهار دم، يُتَقرَّب به إلى الله بذبح شيء من الإبل أو البقر أو الغنم؛ لأجل الإطعام منها للمسلمين؛ تقَرُّباً إلى الرحمن -جلَّ جلاله- وتُحفَظ للإنسان إلى ميزانه يوم القيامة فتوضع في الميزان تُضَاعف سبعين ضعفًا لتكون في كِفّة حسناته، ويُغفَر له في أول قطرة "وإنَّ الدم ليقع عند الله بمنزلة قبل أن يقع على الأرض" يكون له مكان عند الله قبل ما تقطر القطرة من هذا الحيوان إلى الأرض.. لها مكان عند الله.
وهؤلاء المتصدّقين في أيام العشر والمضحّين أيام الأضاحي أعظمهم أجرًا: أكثرهم لله ذكرًا، والعُبَّاد بمختلف عباداتهم في الصلاة أو في الصوم أو في الصدقة أو في القراءة؛ أعظمهم أجرًا: أكثرهم ذكرًا.
فما هذا الذكر؟ الذكر: أن لا يغيب عن قلبك عَظَمته، أن لا يغيب عن قلبك شهود جلاله، أن لا يغيب عن قلبك شهود اِطِّلاعه عليك وإحاطته بك. هذا الذكر، سواءً في قالب تسبيح أو تحميد أو قراءة القرآن أو صلاة على النبي؛ تكون ذاكر للمحيط بك وبكل شيء، للعليم بباطنك وبكل شيء، للقدير عليك وعلى كل شيء، تُطَالِع هذه العظمة بـتسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير.
وكانت تلهج القرن الماضي وما قبله بيوت مكة والمدينة وما حواليها، وبيوت كثيرة في اليمن وفي الشام.. ما يمرّ المار في الأيام العشر: "لا إله إلا الله عدد الليالي والدهور، لا إله إلا الله عدد الأيام والشهور" ؛ شعار الدين، شعار الذكر للرَّبّ، شعار الاتصال، شعار معرفة اغتنام المواسم. وداهمنا من داهمنا! لخبطوا برامجنا وأخذوا بعقول رجالنا ونسائنا، ولا عاد صار لهم حركة وانطلاق وتعظيم الألعاب والسياسات ومظاهر فارغات!
والله يحفظ علينا الذّكر وسرّ الذكر ونور الذكر، ويجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا، اللهم اجعلنا من الذاكرين لك كثيرًا، اجعلنا نذكرك كثيرا ونسبّحك بكرة وأصيلا (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب:35]. اللهم اجعلنا منهم، وألحِقنا بهم وأهالينا وأولادنا كلهم، خذوا نصيبكم من هذه الليالي.
وبعد موسم الجمعة جعل موسم الحج، ومن حضر ناب عن بقية الأمة. وبقية الصادقين من الأمة متصلة قلوبهم بأهل الجمع، مُتصلة قلوبهم بأهل موقف عرفة، متصلة قلوبهم بالطائفين والعاكفين والواقفين والقائمين والرُّكَّع السجود، متصلة قلوبهم بالوافدين إلى رحاب المدينة المنورة والمسجد النبويّ والرّوضة المشرّفة والحجرة المطهرة المُكرَّمة.
قال سيدنا الإمام الحدَّاد يذكر وصوله إلى المدينة:
مع الفجر وافينا المدينة طاب من ** صباحٍ علينا بالسعادة سافرِ
ويقول:
فلما بلغنا طيبةً وربوعها ** شمَمنا شذَى ….
وهذه الزُّكمة التي أصابت أرواح المؤمنين! لا يشمّون شذَى المساجد، ولا يشمّون شذَى القرآن ولا يشمّون شذَى الحرمين، ولا المسجد الأقصى! ما الذي غرُّهم؟ ما الذي ضرُّهم؟ ما هذه الزّكمة التي نزلت بهم؟
فلما بلغنا طيبةً وربوعها ** شمَمنا شذَى يُزرِي بعرف العنابرِ
وقال لمَّا وصل إلى مكة:
وصلنا إلى الحيّ الذي دونه المُنى ** فلله رب الحمد والشكر والثنا
أشار إلى بيت ربنا الذين نصبه أول بيت (مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)[آل عمران:96]. قال -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-
وزُرنا عروس الحيّ وسط خِبائِها ** مسربلةً بالحُسن والنور والسَّنَى
وطُفنا بها مُستأنسين بقُربِها ** وتقبيل خال الخد -الحجر الأسود- يا سعد مَن دَنَا
وشاهدت الأرواح منا شعائرًا معظمة **
هذا الشهود لمن يحج ولمن يَرِد..
أمَّا مع الغفلة يتشوّفون للقصور المبنية دون بيت الله -جَلَّ جلاله-! ويتشوفون لمظاهر الدنيا! ما هم حجاج! ولا عندهم حقيقة الحج!
وشاهدت الأرواح مَنَّا شعائرًا ** مُعَظَّمة قد ضمَّها البيت والفِناء
مقامٌ وحِجْرٌ والشراب وإنه ** لكوثرُ دار الخُلد في عالم الفناء
وكان ما كان.. وهكذا لمَّا بلغ طيبة قال:
** شمَمْنَا شَذَى يُزْرِي بِعَرْفِ الْعَنَابِرِ
وأقبلت الأنوار من كل جانبٍ ** ولاحَ السَّنَا من خير كل المقابر
*******
مع الفجر وافينا المدينة طاب من ** صباح علينا بالسعادة سافرِ
إلى مسجد المختار ثم لروضةٍ ** بها من جنان الخُلد خير المصائر
إلى حجرة الهادي البشير وقبره ** وثَمّ تقرُّ العين من كل زائر
وقفنا وسلمنا على خير مرسلٍ ** وخير نبيٍ ما له من مُناظِرِ
فرَدَّ علينا وهو حيٌّ وحاضر ** فشُرِّف من حيٍّ كريمٍ وحاضرِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
ولولا قلوب صادقة مُخلِصة تَرِد إلى مكة وإلى المدينة، وبعضها في أماكن أخرى ترِد أرواحها، والنائبون بأجسادهم وأرواحهم من أهل الصدق -لولاهم هؤلاء لكان الحال غير الحال-؛ لأن مُقدِّر الأقدار ومُطوِّر الأطوار، لا شرق ولا غرب، اتركوهم يتنافسون الى أن يشبعون على دنياهم، ولا يُقدِّمون ولا يؤخرون، إلا مرسوم من الجليل لا يزيد فيه شيء ولا ينقص، ويُسَلَّط ذا على ذا وذا على ذا ويضرب ذا بذا وذا بذا وينتهي الكل (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)[المنافقون:8].
وهكذا هذه القلوب بها حِفْظ العباد..
ولولاهمُ بين الأنام لَدُكدِكَتْ ** جِبَالٌ وَأَرْضٌ لِارْتِكَابِ الْخَطِيَئةِ
وفي الحديث القُدسي يقول: "إني لأهمُّ بالعذاب على أهل بلدة فإذا نظرتُ إلى عُمَّار بيوتي والمُتحابِّين فيّ والمُستغفِرين بالأسحار صرفتُ عذابي عنهم"، (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الفتح:25]. فأُخِّر عنهم العذاب لوجود الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات -عليهم وعليهن رضوان الله تبارك وتعالى -.
فجعل الله هذا الجمع الكبير عُدَّة لذاك اليوم، وذُخر لذاك اليوم؛ في جَمْعِ الحج، ومَن حج، ومن شارك أهل الحج بــ: نية صادقة صافية خالصة، ووجهة مع الله -سبحانه وتعالى- نقيَّة قوية، وبَذْل لِمَا يستطيع. وقد أشار ﷺ أنه مَن أراد يضحي من أمته يُسنّ له أن لا يمسّ شيء من أظفاره ولا من شعوره، كما حرَّم على المحرمين بالحج والعمرة.. حرام على المحرم بالحج والعمرة أن يقص من أظفاره أو من شعره، ومن أراد أن يُضحّي في أي محل مكروه له أن يمسّ من ظفره أو من شعره ويبقى إلى أن يَنحَر في يوم العيد ثم يحلِق. فكانت سُنَّة من السُّنن يُتشبَّه بها في الحج؛ إشارة إلى الرَّبْط بين هذه القلوب التي تُقَدِّم أضاحيها لله وبين الوافدين إلى حرم الله من المحرمين بالحج. وكان عامَّة مَن يَفِد من مختلف الأماكن يكون إحرامهم متقدّم، إلا أهل التَّمَتُّع فربما حلّوا إلى أن يأتي يوم الثامن وطلعوا بعد ذلك إلى منى؛ بواسع ما جاء من أحكام الحج واجتهادات الأئمة فيه؛ والقصد أنه: جَمْعٌ في الوجهة إلى الله.
رعى الله ربُّ العالمين عشيَّةً ** وقفنا بها دون المشاعر من منى
عَشِيَّةَ وافى الوَفْد من كُلِّ وُجهِةٍ ** وفجٍّ وهم ما بين دَاعٍ وذَاكِرِ
وراجٍ وباكٍ من مخافة ربِّهِ ** بفائضِ دَمْعٍ كالسَّحَابِ المَواطِرِ
وفي الوَفْدِ كم عَبْدٍ مُنيبٍ لرَبِّهِ ** وكم خاشعٍ كم خاضع مُتصَاغِرِ
وذي دعوة مسموعة مستجابة ** من الأولياء أهل الهدى والسرائرِ
وفي عرفاتٍ كل ذنب مُكَفَّرٌ ** ومُغْتَفَرٌ مِنَّا برحمةِ غافرِ
وإذا اتِّصَلْتْ بهذه الموجبات للنجاة يوم القيامة؛ حَلَا لك ساعاتٌ تخلو فيها بالرَّبِّ حاكم يوم القيامة (مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:4] -جَلَّ جلاله- ويطيب لك فيها المناجاة، وتخص نصيبك من الليل.. أوله وسطه آخره لمناجاته وفي التوجه إليه -سبحانه وتعالى- واللحوق بالمُحسنين (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ..) أي: ينامون (..وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)[الذاريات:16-22].
صدق ربنا العلي العظيم، وهيَّأنا وإياكم لذاك اليوم وجعلنا من الناجين فيه والرابحين الفائزين فيه، يوم الجمع الأكبر.
(وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا)[الكهف:47-48]، لجميع المتشككين والملحدين والكافرين.. قالوا لا يوجد موعد ولا توجد قيامة! ما هذا اللي أمامكم؟ وإذا أُرُوا النار: (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[الطور:14-16].
وهذه المجامِع من خير ما يُعَد ليوم الجمع الأكبر، لكل من حضر بقلب، لكل من حضر بإقبال وتوجه.
والحمد لله على إذن الرحمن بإقامتها، وبقائها في الأمة المحمدية؛ ليرحم بها من شاء، ويتكرَّم بها على من يشاء، وينظر فيها إلى من شاء - جلَّ جلاله-
وكم يُقسَّم من شؤون الموسم وما فيه ومن أيام العشر من مثل الساعات هذه والمجامع، تخرج من الرحمن في صحف الملائكة، وكُلٌّ ينال نصيبه بحسب السوابق، وعسى حسن السابقة.
ويا رب: عبادك الفقراء ببابك يا غني، عبادك الضعفاء ببابك يا قوي، عبادك العاجزون ببابك يا قادر، فانظر إلينا نظرة لا تدع فيها مِنّةً من مِننَك على حُجَّاج بيتك وزائري نبيك إلا قسمتَ لنا فيها، ووهبتنا النصيب الوافي منها. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا!
ليالي العشر لا يبقى في بيوتنا قاطع رحم، ولا عاق والدين، ولا مؤذي جيران، ولا مغتاب، ولا سبّاب، ولا حامل شر للمسلمين.
طهِّر ديارنا يا رب، ومن في ديارنا يا رب، واجعلها محط للرحمة في ليالي العشر وأيام العشر، وأعِنَّا على كثرة الذكر، قال نبينا: "ما من أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أَحَبَّ إليهِ العملُ فيهنَّ من أيامِ العَشْرِ فأَكْثِرُوا فيهنَّ من التسبيحِ والتحميدِ والتكبيرِ والتهليل".
أعِنَّا اللهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعله من أبرك المواسم.
ونسألك بذاتك وصفاتك وأسمائك وحبيبك محمد وأنبيائك والمحبوبين عندك أجمع: أن تجعل لهذا الموسم يا أكرم الأكرمين من فضلك الربّاني وجُودك الصمداني فتحًا لأبواب الفرج لأمة الحبيب، ودفعًا للبلايا والآفات وكل تَشْغِيب، يا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، ائذن في موسمنا هذا بلُطف منك خفي، يعمّ رجالنا ونساءنا وصغارنا وكبارنا، وينال النصيب الوافي منه المُهانون والمستضعفون والمؤذَون والمظلمون، من أهل رفح، ومن أهل الضفّة الغربية، ومن أهل غزة، ومن أهل بيت المقدس، ومن أهل السودان، ومن أهل الصومال، ومن أهل ليبيا، ومن أهل الشام ومن أهل اليمن، وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يا رب المشارق والمغارب.
يا رب الأرض والسماء: إليك نتوجّه، وعليك نتوكّل، وفيما عندك نطمع، وعليك نعتمد، وإليك نستند، وإياك نرجو، فجُد يا جواد، وبلّغ المراد، وأسعِدنا أعلى الإسعاد، وأصلِح لنا كل جسم وفؤاد، واحشرنا في زمرة خير العباد، يا كريم يا جواد، أذِقنا لذَّةَ المحبة والوداد، وأدخِلنا في خيار العباد، وارحم الأمة بنبيّها وادفع عنها البلايا والأنكاد، وحوّل الأحوال إلى أحسنها يا قوي يا متين، واكفِ شر الظالمين، واكفِ شر الظالمين، واكفِ شر الظالمين، تُب علينا وعلى الحاضرين والسامعين والمشاهدين والعاملين والمتصلين توبةً نصوحا، توبة نصوحا، توبة نصوحا، زكِّنا بها قلبا وجسما وعقلا وروحا.
بارك لنا في ليالٍ يعدل قيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر، وصيام كل يوم منها بصيام سنة.
يا إلهنا وقد رُوِّينا عن نبيك أنه قال: "من صام يوم الخميس والجمعة والسبت من شهر حرام كتب الله له عبادة سبعمئة عام" فوفّقنا اللهم لأن ننال هذه الخيرات نصيبًا وافرًا وحظًا متكاثرًا.
يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات، أنت العُدَّة والذُّخُر لنا ليوم الدين (يوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين:6]، (وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا)[طه:108]، اجعلنا في ذلك اليوم في زُمرة نبيك المعصوم، ودوائر المُقرَّبين من عبادك من كل مُقدّم وقيدوم، يا حي يا قيوم لا تُخزِي مِنَّا أحدا في ذاك اليوم، لا تُخزِي مِنَّا أحدا في ذاك اليوم، بلِّغنا اللهم المُرافقة لسيد القوم، ومُرَّ بنا معه على الصراط إلى دار الكرامة وأنت راضٍ عنَّا، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب.
يا ربَّ الأرباب، يا كريم يا وهَّاب، يا مُسبِب الأسباب: أظلَّنا في ظلِّ عرشك يوم لا ظلَّ إلا ظلُّك، أظلَّنا تحت لواء الحمد، أورِدنا الحوض المورود مع أوائل أهل الورود، أورِدنا الحوض المورود مع أوائل أهل الورود، أورِدنا حوض نبيك محمد المصطفى المورود مع أوائل أهل الورود، واسقِنا منه شرابًا لا نظمأ بعده أبدا، واجعلنا بمُرافقته الكريمة من أسعد السُّعداء، يا عالم ما خفيَّ وبدا.
يا الله.. يا الله.. يا الله.. برحمتك يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
30 ذو القِعدة 1445