عجائب نور المكوِّن وانتشاره في الأكوان وتخصيص أهل السعادة بأسناه
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 29 جمادى الأولى 1444هـ بعنوان:
عجائب نور المكوِّن وانتشاره في الأكوان وتخصيص أهل السعادة بأسناه
نص المحاضرة:
الحمدُ لله، الله نورُ السموات والأرض، تكرَّم علينا بخلقٍ وإيجاد، وجعل في ضِمن هذا الخلق والإمجاد، إمدادٌ بنورٍ ما لَه مِن نفاد، يتلالأ ويُضيء على مدى الآباد، فضلاً من الكريم الجواد، ( يهدِي الله لنوره من يشاء ).
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المُجتبَى المُصطفَى المُختارِ نور الأنوار.
هو النورُ المُبينُ به اهتَدَينا ** هو الداعي إلى أقوى سبيلِ
أتانا داعياً بالحق يدعو ** إلى الإسلام بالقول الثقيلِ
فبادرَ بالإجابة كلُّ عبدٍ ** مُطيعٍ للإلهِ وللرسولِ
اجعلنا من المُجيبين المُلبِّين المُستجيبين الصادقين المُخلِصين المُوفين بالعهود يا أكرم الأكرمين.
وأنكرَ كلُّ ذي بغيٍ وكفرٍ ** وأعرَضَ كلُّ ختَّالٍ ضلولِ
ففازَ المُقبِلون بكل خيرٍ ** وعُقبَاهم إلى الظلِّ الضليلِ
وخابَ المُعرِضون وكان عُقبَى ** معاصِيهم إلى الخزي الوبيلِ
فيا ربِّ ثبتنا على الحقِّ والهُدى ** ويا ربِّ اقبِضنا على خيرٍ ملّةِ
وعُمَّ أصولاً والفروعَ برحمةٍ ** وأهلاً وأصحاباً وكلَّ قرابةِ
وسائرَ أهل الدين من كل مُسلمٍ ** أقامَ لك التوحيد من غير ريبةِ
وصلِّ وسلِّم دائماً الدهر سرمداً ** على خيرٍ مبعوثٍ إلى خير أمةِ
لك الحمد يا مَن جعلتنا خيرَ أمة، وأفضتَ علينا النعمة، فأتمَّها يا مُتمِّم النِّعم، يا ذا الجُود والكرم، يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا أكرم يا الله.
قلت لنبيِّنا الذي علَّمنا قراءةَ معاني أسمائك وصفاتك وآياتك وأحكامك: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فيا ما أعظمَك مِن أكرم، أتمِم علينا يا ربنا النِّعَم، واجمَعنا في دار الكرامة مع خواصِّ المُقرَّبين عندك من أهل المراتب العالية والشِّيَم.. يا الله.
ولم يزل هذا النور يُبدي لكم عجائب في القلوب تُشرِق على القوالِب، ذلكم جُودُ الذي خلقَ المشارِقَ والمغارِب، وأرسلَ إلينا خاتمَ النبيِّين أطيبَ الأطايب، وإنه خلقَ الخلق في ظُلمةٍ فبثَّ عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور آمن به واتصل، وإلى حقائق السعادة وصل، اجعل لنا نوراً واجعلنا نوراً، اجعل من بين أيدينا نوراً ومن خلفنا نوراً وعن أيماننا نوراً وعن شمائلنا نوراً، ومن فوقنا نوراً ومن تحتنا نوراً، وزِدنا نوراً يا رب العالمين.
وبإشراقِ هذا النور كوَّنَ الله سبحانه وتعالى هذه العوالم، عرشاً وكُرسيّاً ولوحاً وقلماً وسماواتٍ وأرضين وما بينهما جل جلاله، (خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
الله الذي جمعكم في خِضَمِّ سواطع شوارق هذه الأنوار، في هذه الربوع والديار، وجمع معكم قلوباً في مُختلف الأقطار، هم في تلقّي فائضات جود الغفار والرابطة بالنبي المختار، عطايا من عطايا الملك الواحد الوهَّاب الكريم العزيز الغفار، لا إله إلا هو ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾ والكلمات العُلا.
ثُمّ جعل سبحانه وتعالى من بين الكائنات من مَيَّزهم مِن هذا النور بالعقل، الإنس والجن والملائكة، وجعل الملائكة معصومين، جعل لهم أجسام من نورٍ خالص، (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فَهُم نِعمَ العِباد المُكرمون، (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) لا إله إلا هو.
وأعطى نصيباً للجنِّ مِن هذا النّور فعقلوا ما عقلوا، وسكنوا الأرض قبلَنا معاشِر الإنسِ، ومضى الذين اتَّصلوا بالنورِ مِنهُم فبقي الفُسّاق، وفسدوا في الأرض وسفكوا دِماءَ بعضهم البعض فأبادهم الله وأهلكهم إلا إبليس، كان لا يظهر عليه شيء مِن زيغِهم وضلالهم وكان في ظاهر العبادة فَرُفِعَ إلى السماء.
ومرّتِ السنوات وخلق الله تعالى الصِّنف الثالث من الكائنات التي مُيِّزَت من هذا النّور بِأوسَعِ حظٍّ وأجزلِ نصيب، وأظهر الإنسان وخلق الإنسان علمه البيان، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) فكان لهذا الإنسان عقلٌ يستطيع أن يعرِفَ به بعد المعرفة العامة أن له ولِجميع الكائنات إله، وهذا ما يعرفه حتى الحيوانات والجمادات، بل هي مُسَبِّحة ومُقَدِّسة لِرَبِّكم.
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ) أي جسده، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ) ثم سوّاه: (ثم) للذِّكر وليست للترتيب، ثم سوّاه: في جسد آدم عليه السلام، (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)، اللهم أعِنّا على ذِكرك وشُكرك وحُسنِ عِبادتك يا الله.
وأسجد اللهُُ الملأ الأعلى الملائكة لآدم، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وظهرت الظُّلمة التي كانت مخفيَّةً في باطنهِ، وهي ظُلمة الكِبرِ وبها لُعِنَ إلى يوم الدين، (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) ، (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ونزل آدمُ بِنورٍ مِن نورِ الله، وأتمَّ عليه النِّعمة (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) ؛ والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ثُمّ توالى فضلُ الله على العالم وعلى هذا النوع، على النوع الإنساني بإرسالِ الكتب وإرسالِ الرُّسُل، وفيهم في كل زمان من يتكبّر ومن يكفُر ومن يغترّ، ومن يفسُق ومن يُفسِد، ومن يستجيب ومن يُلبّي، بِسوابقِ قِسمة ربانيّة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وقد قبض نسمَهم جلَّ جلاله، وقال هؤلاء إلى الجنة فلا أبالي، وهؤلاء إلى النار فلا أبالي، اللهم اجعلنا مِن أهل جنّتِك، جميع مَن في مَجمعنا وجميع من يسمعنا، ومن في ديارِنا وقراباتنا وأهلينا، اجعلنا من أهلِ جنَّتك يا الله.
ثم ليس لهم على ظهرِ هذه الحياةِ إلا سعيٌ إمّا في الًنور أو في الظُّلمة، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ)، عند انقضاء مُدّة الحياة ومُهلتها لا تظُننَّ أن شيئا ينفعُ قط، لا مال ولا حضارة ولا جند ولا جاه ولا مُلك ولا سُلطة ولا أي شيء، (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ).
وفي الفضلِ الرباني قال: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ) أي نُبيِّن لهم الطريق ونُوَضِّح لهم المسلك، حتى جاء خاتم النبيين بالنورِ الأصفى صلى الله عليه وسلم، وقالوا له:
وأنت لمّا وُلِدتَ أشرقت ** الأرضُ وضاءت بِنورك الأفُقُ
فنحنُ في ذلك الضِّياء وذلك** النّور وسُبلَ الرَّشاد نخترقُ
فالحمد لله الذي أنعمَ علينا بهذا النَّبيِّ الأمين، لك الحمد يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وجميع مَن وصل في قلوبهم هذا النّور أتباعاً لِبَدرِ البدور، وراجعون إلى زُمرته في القيامة ويوم النّشور، على قدرِ ما كان لهم من صِلاتٍ وأدبٍ وارتباطاتٍ قلبيّةٍ وروحيّةٍ وسريَّةٍ، تُقرأُ في الأقوالِ والأفعالِ والمعاملاتِ والنظراتِ إلى الحياة وما يصدر منهم من الأخلاق.
وهكذا وتأتي النِّهايات بعد ذلك، (يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍۢ لَّهُ بَابٌۢ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَٰهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ) والعياذ بالله.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ) يعني معنا في الزمان، معنا في المكان، معنا أيام كُنّا في الدنيا، (وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْأَمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ) هذه مسالِك المُغترِّين والمُتشبِّثين بالمظاهِر والظَّواهِر والمادِّيات، الذين حُجِبوا عن إدراكِ عَظَمة إلههم وعن صِدق النّبيِّين والمُرسلين صلوات الله وسلامه عليهم والتّصديق بهم ومُتابعتهم.. يعيشون هذه العيشة.
(فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْأَمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * فَٱلْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ هِىَ مَوْلَىٰكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ)
والذين أصابهم النور آمنوا وصدَّقوا، ولا يزال هذا النّور ينتشر ويَقوى، سمَّاهُ الله نوراً، قال تعالى:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، بعد أن قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى:
(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
ثُمَّ يأتي معاني هذه النُّصْرة مِن الحقِّ لِرسوله في كُلِّ مَن يَمتد إلى قلبهِ النّور ويهتدي، ويتمسَّك بحبلٍ من حبال الوصول إلى الله مِن أنواع الطاعات والعبادات، والصِّفات المحمودات، والتي مِنها ومِن أجلِّها مقامات اليقين، مِن توبة ومِن وَرَع ومِن زُهد، وَمِن خوف وَمِن رجاء، وَمِن صبر وَمِن شُكر، وَمِن رضا ومن محبّة.
مراتب لليقين مُوزَّعةٌ للسالكين والسائرين إلى الله، وأئمة أهل هذا السير إلى الله من أئمَّة الطُّرق عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وحقيقة طريقتهم واحدة والإمام فيها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسعى وسلم.
فهم كذا الرسل بنو علاتِ
طريقهم واحدة في الذاتِ
تعددت في الرسم والهيئاتِ
في كل تفصيلٍ بلا انفصالِ
ولم يزالوا في كل بُقعة ومكان، ومِنهم بُقعتكم المباركة، من ورد إليهم لا سُوء له في النية والقصد ربح.. كائناً من كان، وأعجب من ذلك أن بعض مَن لا نية له أو كان له بعض سوء ينقلب فيتحوَّل إلى حُسن ويهتدي، ومن سبقت عليه سوابق الشقاء فالأمر للعلي الأعلى، (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وكلُّ من ورد بهذا من أي طريقةٍ كان ومن أي مذهبٍ كان وبأي معنى كان، ظافرٌ بأنواع الامتنان مهما اتّصل بِزَينٍ من الزِّيان في أي مكان، والأماكن المخصوصة عطاياها كبيرة وَمِنح الله فيها ثمينة ووفيرة (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ).
وسمعتم في قصة المَيّت من بني إسرائيل الذي جعل الله الحكم فيه، أرسل مَلَكاً إليهم أن قيسوا ما بين الأرضَين إن وجدتموه أقرب إلى أرضِ الأخيار فلتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان أقرب إلى أرض الأشرار فلتأخذهُ ملائكة العذاب، فهل يأتي غافل أو مُبتدع جاهل أو مُتجاهل بِفلسفته ويقول إيش ينفع القرب من أرض الأخيار، ما ينفع الإنسان إلا عمله! وتقول للنبي إيش؟ تقول للملائكة إيش؟ وتقول للرب الذي حكم بهذا الحكم إيش؟ القرب من أرض الأخيار ذخيرةٌ عند من اصطفاهُم وهو الإله الغفّار، بل خِيرة الأخيار موسى بن عمران يحضره الموت فيقول: يا رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، إن كان ما ينفع روحوا علِّموا موسى!
هذا كليم الله.. قل يا موسى وما الفائدة تقرب من الأرض في أي محل.. قال (يا رب أدنِني) وأدناهُ الله وقرَّبه إلى الأرض المقدسة، قال سبحانه وتعالى: (إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ) وأدناه الله من الأرض المقدسة، وهذا نبي كليم الله تمنى القرب من الأرض التي قُدِّست قبله بأنوار مَن قبله من الأنبياء والمرسلين، وهو من أفضلهم ومن أعظمهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
وهكذا إلى أن ينتهي رأس الحُكمِ وفصلُهُ بين جميع من يعيشون على ظهر الأرض أو عاشوا أو يعيشون بعدنا إلى وقت النفخ في الصور، ثم جمعُهُم لأجلِ الحُكم الفصل، والحكم في ذاك اليوم صادر: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) نَوِّرنا يا رب، زِدنا نوراً يا رب.
(نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ونحن يا ربنا نقول بقولهم فاجعلنا منهم، ونادوا ربكم وادعوه، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفِر لنا إنك على كل شيء قدير، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفِر لنا إنك على كل شيء قدير، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفِر لنا إنك على كل شيء قدير.
فنسألك أن لا يبيتَ أحدٌ من الحاضرين والسامعين الليلة إلا مملوء الفؤاد بنور اليقين التام والمعرفة الخاصة والمحبة الخالصة، يا معطي العطايا، يا رب البرايا، يا وهاب لا يبالي، يا مولى الموالي.
وفي قلوب أهلينا كلهم، وفي قلوب أولادنا كلهم، وفي قلوب طلابنا كلهم، وفي قلوب أصحابنا كلهم، وفي قلوب أقاربنا كلهم، وفي قلوب جيراننا كلهم.. يا الله.
يا نور السماوات والأرض، اجعلنا من الظافرين بأسنى هذا النور في يوم العرض، يا الله يا الله يا الله، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
29 جمادى الأول 1444