الصراط المستقيم وأهله وحقيقة الانتهاج فيه
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 1 شعبان 1446هـ، بعنوان:
الصراط المستقيم وأهله وحقيقة الانتهاج فيه
لمشاهدة المجلس كاملاً:
https://www.youtube.com/live/oMpjUDY4Yp8
0:00 محاضرة ضمن سلسلة #إرشادات_السلوك
0:51 طريق الفوز والصراط المستقيم
2:31 مظاهر سعادة الأبد للمؤمنين
6:01 صفات الصادقين مع الله
8:25 أهمية معرفة قدر السابقين
10:26 منهج كف اللسان والمسامحة
12:31 أهل طهارة وصفاء القلب
13:28 مقاصد قيام زيارة شعب النبي هود عليه السلام
14:17 اهتمام النبي بزيارة القبور والآثار
18:36 تصفية البواطن ونتيجته
19:09 الدعاء في وداع رجب واستقبال شعبان
20:26 اتصال السلف بالقرآن وذكر الله
21:41 دعاء لأمة النبي محمد ﷺ
22:36 فوز المتصلين بالله ورسوله ﷺ
24:33 تعلق القلوب بالسند إلى النبي وأماكن الخير
نص المحاضرة مكتوب:
الحمد لله خاتم النبوة بعبده المصطفى المختار، ومُشرِق ضيائه والأنوار في جميع الأقطار، والقائل عنه فيما أنزَل عليه: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[المائدة:15-16]، اهدنا الصراط المستقيم، يا علي يا عظيم، يا منان يا كريم، يا رحمن يا رحيم.
طريق الفوز والصراط المستقيم
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة:6-7]، آمين.
تخليص النفوس والأرواح والعقول من تبعية المغضوب عليهم والضالين، والزَّجِّ بها في اِتِّباع النبيين والصديقين ومحبة الشهداء والصالحين؛ فلاحٌ وفَوْزٌ وهي حقيقة الهداية؛ لأن الصراط المستقيم صراطهم؛ منسوب إليهم بنسبة ربنا -وهو في الأصل صراطه ﷻ- قال عنهم مُخاطِبًا خاتم النبيين: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ..) هو صراطه (..صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)[الشورى:52-53]. ونهاية كل شيء إليه، وعُقبَ كل شيء إليه، ومرجع كل شيء إليه، ولا فوز إلا بالفوز بين يديه.
مظاهر سعادة الأبد للمؤمنين
ومن وقف بين يديه ففاز؛ فقد سعد سعادة الأبد، ومن وقف بين يديه موقف الذل والخزي؛ فقد شقي شقاوة الأبد! (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ..) يقول الله لهؤلاء الغافلين عن ذاك اليوم: (..فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ..)
-
فالعبادة والذكر مظهر المؤمنين،
-
وعلامتهم: (..سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ..)،
-
والخلعة والميزة التي بها نالوا حقائق الفوز: (..وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)[السجدة:12-15]، لا يستكبرون! (..وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
فما أقرّوا أنفسهم على إثبات شيء لأنفسهم مع الحق ﷻ، وعلموا ما أوحى إلى حبيبه: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17]. وعلِموا أنهم إن جاهدوا فبتوفيقه وفضله والمَنُّ له، وإن أخلصوا فبمنّته وإحسانه والفضل له، وإن كابدوا فالتوفيق منه بفضله والمنُّ له، وإن اجتهدوا وإن عمِلوا وإن بذلوا للأموال والأنفس والأرواح فمنه التوفيق والفضل والمَنُّ له ﷻ؛ فلم يستكبروا وخافوا أن لا يَقْبَل منهم، وصار شأنهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون:60].
(إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:57-61].
عليهم رضوان ربنا، وألحقنا الله بهم، وحلَّانا بصفاتهم، وسَارَ بنا في دربهم..
صفات الصادقين مع الله
أولئك هم الصادقون الذين أمرنا أن نكون معهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
وليس في الصادقين مَن يؤثر مالًا، وليس في الصادقين مَن يؤثر جاهًا، وليس في الصادقين مَن يؤثر سلطة، وليس في الصادقين مَن يبيع نفسه لجاه أو لسلطة، وفي مقابلة إهمال لحَقِّ فرد واحد من المسلمين -فضلًا عن الإضرار بالعديد من المسلمين-!
كيف يكون من الصادقين مَن يُستأجَرُ لأذى المسلمين؟ مَن يستأجر ويرضى لنفسه أن يُؤجَّر للإضرار بالمؤمنين؟!
الصادقون مضوا على ذاك الحال، أوائلهم سادتنا المهاجرون والأنصار، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:8-9]، هؤلاء أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم وهؤلاء بذلوا ديارهم وأموالهم.. فالكل بذل، ولم يكن في الركب الأول بالسابقين من دخل الدين ليأخذ، ولا ليستجدي، ولا ليستكثر؛ دخلوا ليعطوا وليبذلوا، وعليهم أُسِّسَ الإسلام، وقامت قائمة الشريعة والدين والهدي النبوي؛ فهم الّلبنة الأولى في هذه الأمة -عليهم رضوان ربي جل جلاله وتعالى في علاه-.
أهمية معرفة قدر السابقين
ثم لا يتصل بهم إلا مَن كان مِن بعدهم على ما وصف الرَّبُّ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10]، معرفةً لقَدْرِ السابقين. ومن لم يعرف قدرهم فليس ممن يُثنَى عليه، وليس ممن اتبعهم، ثم يَتَنَزَّه عن حَمْلِ الغِلِّ لأحد من أهل زمانه أو من قبله.
(وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا) فمن جاء بهذه المَثَابة؛ يُمكِن أن يَرثهم ويمكن أن يَخلُفهم ويمكن أن ينوب عنهم. ومن جاء يسبّهم أو يستهزأ بهم أو يقول أو يُكَفِّر أو يُناقضهم أو يحمل الغِلّ على المؤمنين.. فين هذا؟!
هذا الذي قاله سيدنا جعفر الصادق -عليه رضوان الله- جاء قوم يسبون الصحابة والأوائل من المهاجرين والأنصار، وجاءوا إلى عنده ويدّعون محبته، قال لهم: ممن أنتم؟
-
أأنتم من الفقراء المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؟ أشهد بالله لستم منهم! ولا واحد منكم من هؤلاء!
-
هل أنتم من الذين تبوؤوا (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)؟ أشهد بالله لستم منهم،
-
فهل أنتم من (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)؟
قال فلستم منهم! فين أحطَكم؟ لا من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا من هؤلاء! فأين أنتم؟!
منهج كف اللسان والمسامحة
يعني نسبتكم في الدين تحتاج تصحيح! نسبتكم للإسلام تحتاج تقويم! حتى تكونوا ممن جاء بعدهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)[الحشر:10]. في دينٍ يقول فيه صاحب الرسالة: "سِبَابُ المسلم فسوق وقتاله كفر".
وهل يتفق الفسوق مع الإمامة؟ هل يتفق الفسوق مع الخلافة؟ يكون خليفة للنبي فاسق..يتأتى هذا؟!
"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"!
ولذا وجدنا هذا المَسْلك القويم والمنهج والصراط المستقيم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان؛ تنزَّهوا حتى لم يسبّوا مَن سبّهم، ولم يذموا مَن ذمّهم!
وسمعوا رسالة نبيهم يقول: "أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمْ؟" ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ يروي أبو داود في سُننه: يقول الرجل ما عنده مال، يُصبح كل يوم ما شيء عنده مال، يقول: أنا يا رب ما عندي شيء أتصدق به لكن هذا عرضي مباح لعبادك، مَن تكلم عليّ مسامح، مَن قصَّر في حقي مسامح.. يسامح بعرضه، والنبي يقول: "ما يعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟"!
عجبه حاله في سلامة قلبه، لأنه يعرف أنه بهذا الحال سيصل، وأنه بعد هذا الحال سيُرضي الرّب من فوق -جل جلاله وتعالى في علاه-
والآخر يقول لسيدنا بن عمر، قال له: أنا ما بيني وبين والدي شيء ولكن جلست عندك لأنظر عملك لأني سمعت النبي يُبشِّر أنك من أهل الجنة، وما عندك غير هذا؟ قال: ما عندي إلا هذا إلا خصيلة؟ ايش هي؟ قال: أبيت وليس في قلبي غلّ على أحد من المسلمين!
قال آه! ما هي خصيلة ذي! هذا الشيء الكبير الذي رفعك، هذا الشيء الذي أوصلك إلى ما بشَّر ﷺ!
أهل طهارة وصفاء القلب
وفي المجامع المباركة: فَكَمْ قَدْ صَفَى قَلْبٌ هُنَاكَ لِمُذْنِبٍ
وقال عن هذا الوصف أنهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10].
قالوا عن هالجموع:
ما بها قط من وَاشٍ ولا من حسود
بل أُخَيوان صِدْقٍ طُهِّروا عن جُحُود
قَدْ صُفُوا وَاصْطفُوا لمَّا وَفَوا بِالْعُهُودِ
كَمْ رَقَوْا مِنْ مَرَاقِ عَالِيَاتِ السُّعُودِ
تَحْتَ سَتْرِ اللَّيَالي وَالْوَرَى فِي رُقودِ
كَمْ سُقُوا مِنْ رَحِيقٍ فِي كُؤُوسِ الشُّهُودِ
فِي مَثَاني قِيَامٍ أَوْ مُثَنَّى سُجُودِ
فأنعِم بالقوّم من الرُّكَّعِ السُّجود! عليهم رضوان الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه..
مقاصد قيام زيارة شعب النبي هود عليه السلام
والاتصال بهذه الأسرار أقام سيدنا الفقيه المُقدَّم الزيارة على هذا المنوال وهذا المسار؛ لا اختلاط ولا اختباط، بل:
-
ورع واحتياط، وثبات على سواء الصراط،
-
تزاور في الله وتحابب في الله، واجتماع على ذكر الله، وتذكير بالله والدار الآخرة،
-
وولاء للحقِّ سبحانه وإيمان به وبملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر خيره وشره،
-
واستعداد للقاء الله -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-،
-
وتعاون على البر والتقوى، وتواصي بالحق والصبر،
وكلها في اتباعه -عليه الصلاة والسلام-، وكلها في الاهتداء بهديه -عليه الصلاة والسلام-
اهتمام النبي ﷺ بزيارة القبور والآثار
والزيارة في حد ذاتها لقبر كل مسلم على ظهر الأرض؛ هديٌ من هدي نبينا وسُنَّة مِن سُنَنه! نهى عنها أولًا ثم أمر بها وفعلها -عليه الصلاة والسلام-، وأخبرنا أنَّ من اهتمامه بها ومكانتها لدى الله؛ أنه اعتنى بالمرور على قبور أنبياء قبله في ليلة الإسراء والمعراج!
وتعلمون ليلة الإسراء أُسرِيَ به إلى بيت المقدس ثم عُرِج به إلى السماوات العُلا، فما معنى أن يقول لنا كما روى الإمام مسلم في صحيحه: "مررتُ على موسى ليلة أُسري بي وهو قائم يصلي في قبره".
وما الحاجة لأن يمرّ ببراقه وجبريل إلى القبر عند موسى؟
لو لم يكن المرور إلى عند القبر والمجيء إليه بمنزلة ومكانة عند ربِّه ما كان ليفعل!
لو لم يكن سبب من أسباب رضوان الرَّبِّ والقرب إليه ما كان يفعل!
وما أسري به ليلعب ولا ليَعبث! أُسرِي به يتقرَّب، أُسرِي به يزهو ويعلو ويعظَم، أُسرِي به يزداد شرفا إلى شرفه، ومجدا إلى مجده، وكرامة إلى كرامته ﷺ!
ومَرَّ على قبر موسى، وتعددت الروايات بعد ذلك أنه يصف قبره وبُقعته وأنه قريب من الأرض المقدسة وعند الكثيب الأحمر "وَلَوْ كُنْتُ هُنَاكَ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرًه".
فبمن يقتدي صلحاء الأمة وأخيارها إلا بمحمد ﷺ!
وهل يُقبَل رأي يناقض الهدي الكريم ليُقال ويقال؟
ماذا يُقال وهذا منهج وهدي خاتم الأنبياء والإرسال -صلوات ربي وسلامه عليه-! الذي تركنا على تلك المحجة البيضاء ليلها كنهارها!
ومع ذلك.. وليس القبر وحده؛ بل وبُقْعَة وُلِد فيها عيسى بن مريم ويوقِّف جبريل البراق: "يا محمد صلِّ هاهنا"، إيش هذا؟ إيش هذا التصرف من جبريل؟ يعني جبريل مُتَبرِّك؟ وجبريل مُتَوسِّل؟ جبريل صوفي؟ جبريل إيش هو هذا؟ قف يا براق وصلِّ هاهنا! فسِّروا كلام جبريل وفعل النبي الجليل؟ هو بغى بيت المقدس.. قال هنا خلِّ بيت المقدس بعدين تعال أول هنا صَلِّ! "أتدري أين صليت؟ ببيت لحم حيث ولد عيسى"، مكان تشرَّف بولادة عيسى فاحفظ شرفه، جبريل حفظ شرفه ووقّف البراق وحبيب الخلاق يصلي في ذا المكان،
فما معنى: لا تُشَدّ الرحال إلا لثلاث مساجد والبراق شدّوه إلى: صلِّ حيث ولد عيسى!
مشكلة من المشاكل عند من يتجرأ على كلام الله وكلام رسوله بلا سند! بلا صحة! بلا تقوى! بلا معرفة! بلا مرجعية! بلا تُقى! يتجرأ على كلام الله وكلام رسوله ويُفسِّره، والحق يُحَذِّر: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)[النحل:116].
الحق لله ما هو لكم أنتم! الحق لله! يُحَرِّم ما يشاء ويحل ما يشاء -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-! ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ﷺ!
تصفية البواطن ونتيجته
ولم يزل أتباع هؤلاء الأنبياء من الصديقين والشهداء والصالحين على قدَم هذا التنقِّي وهذا التصَفِّي للبواطن (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ..) قال الحق: (..فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة:16-17].
الدعاء في وداع رجب واستقبال شعبان
وقد انقضى بكم شهر رجب.. يا رب اجعله شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا، وحُجَّةً لنا لا حجة علينا، ولا على أحد ممن في ديارنا، ولا على أحد من أقاربنا ولا أهلينا ولا طلابنا..
يا الله.. يا الله.. يا الله
ولا تجعله آخر العهد منه، وأعدنا إلى أمثاله في صلاح أحوال المسلمين، شامنا ويمننا وشرقنا وغربنا.. يا الله، واقبل ما كان مِنَّا فيه من توبة واستغفار وعمل صالح وتجنُّب للذنوب والمعاصي.
اللهم وشعبان بارك لنا فيه واجعلنا من خواصِّ أهليه، وهو شهر قال نبينا: "تُعرض عليه الأعمال فيه" فنسألك عرضًا جميلا، عرضًا حسنًا مباركًا حميدًا، ترضى به عنَّا يا كريم يا رحمن يا رحيم.
قال: "يغفل عنه الناس"، فتنبَّه المتنبهون من ورثته وخلفائه وما عرفوا الغفلة، وأقاموا في شعبان أمثال هذه الزيارات والمجالس والتذكيرات، وليلة النصف من شعبان، والاستعداد لرمضان، وصاموا ما صاموا، وقاموا ما قاموا..
اتصال السلف بالقرآن وذكر الله
وهذا كلام الحبيب علوي قال: كان رجالنا لمَّا يذهبون إلى الشِّعْب أيام الزيارة، أحد له أربعين ختمة، وأحد ثلاثين، قال وأحدهم عشر ختمات يقرؤونها. وكانوا بمثل هذه الأيام قد يمشون في الطريق، -بعضهم يعرفونهم الكبار هنا فيكم- يمشون في الطريق متوجهين إلى الشِّعْب، وقبل ما يصلون الشِّعْب يختمون الختمتين والثلاث وهم في الطريق.. يمشي مُقْرَأ مُقْرَأ لأنهم حُفَّاظ، وعلى رجولهم يمشون، في خلال يومين ثلاث ختمات أربع ختمات يُختِّمونها قبل ما يَصلِون إلى شعب النبي هود! هذا اللي في الطريق، وبعدين في الشِّعْب ختمات كثيرة؛ لاتصالهم بالقرآن، وبمُنزِل القرآن، وبمن أُنزِل عليه القرآن -عليهم رضوان الله تعالى-
ولهذا قال الحبيب علوي: "زيِّنوا خُدوركم بالقرآن وبالرَّاتِب وبالذكر". لأنه هذه مقاصد الزيارة، وهذه مهامها التي تربط بالحق، وتربط بالاستعداد للقاء الحق، وتربط برسول الحق ﷺ، والتهيؤ لمرافقته..
وجعلنا الله من رفقائه، وسقانا من حوضه ومائه، وأدخلنا تحت ظلِّ لوائه.. اللهم آمين.
دعاء لأمة النبي محمد ﷺ
بارك لنا في شعبان ولياليه وأيامه يا حي يا قيوم، وبلِّغنا رمضان بحال تقرّ به عين نبيك محمد، أرنا في الأمة ما تقرّ به عين نبيك محمد، في فلسطين يا رب، وفي لبنان وسوريا والأردن وجميع الشام، وجميع اليمن، أرنا فيه في هذه الأيام وهذه الأشهر ما تقرّ به عين نبيك محمد، وفي السودان، وفي الصومال، وفي ليبيا، وفي مشارق الأرض ومغاربها، أرنا في الأمة ما تقرّ به عين نبي الأمة يا حي يا قيوم، يا رحمن يا رحيم.. يا الله
يا الله.. يا الله.. يا الله
فوز المتصلين بالله ورسوله ﷺ
وهكذا.. يفوز الذين لبّوا نداء الله واستجابوا له من كل البِقَاع والأماكن، والعجَب في هذه الأرض يقول من البقعة الواحدة يخرج كذا كذا سعيد وكذا كذا شقي! من محل واحد يخرجون في القيامة
رُبَّ قبرٍ قد صار قبرا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضدادِ !
والذين يعيشون في الشرق أو في الغرب في بلد الإسلام وبلد الكفر فيهم كذلك؛ مَن اتصلت قلوبهم بالله وبرسوله ينالون السعادة يخرجون، وإن هلكت البلد أو هلك أهلها يخرجون بالخير، هؤلاء الأصناف من الناس، ومن ضلَّ وانحرف -والعياذ بالله تعالى- وعظَّم ما لم يُعَظِّم الله -جل جلاله وتعالى في علاه- خَسِر وخاب حيثما كان!
ولمَّا ضرب الله المثل للمؤمنين؛ ضرب لنا مثل امرأتين.. واحدة في قصر فرعون وواحدة في بيت المقدس، الأولى هنا والثانية هناك.. اللي لها قلب متصل بفوق هي فوق!
هذه تربَّت في وسط بيت المقدس، وهذه تربَّت في قصر فرعون وعاشت في قصر فرعون، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ..) أول مثل.. إيش السبب؟ السبب لها قلب متعلق، قالت، (..إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..) حتى قالوا ما قالت بيتا عندك ولكن عندك أول بعدين بيت؛ لأن الجار قبل الدار (..عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ..) ما ضرَّها فرعون ولا عمله؛ لأنها لا التفتت إليه ولا اغترّت به ولا عظّمته ولا ارتضته (..وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[التحريم:11-12].
تعلق القلوب بالسند إلى النبي وأماكن الخير
ولأجل طلب هذه المنازل العُلا؛ تتعلَّقُ القلوب بالسَّندِ إلى محمد ﷺ، وبالأماكن التي يجدون فيها هذه التربية وأسرارها، ومنها موطنكم هذا، ولا يزال يُقصَد من أجل الوصول إلى الله، ومن أجل التَّحَقُّق بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان، وبارك الله في القاصدين، وأعاننا على القيام بالواجب في الصدق معه -سبحانه وتعالى-، والتذلُّل لله والإخلاص لوجهه؛ في أداء حقِّ هؤلاء! أخذ الله بأيديهم وأيدينا إليه أخذ أهل الفضل والكرم عليه.
ويا رب تدارك الأمة، ويا رب اكشف الغمة، ويا رب اجلِ الظلمة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وعجِّل بالفرج، وارفع الضيق والحرج، ودبِّر لنا بأحسن تدبير، واجعلنا أنصارًا لك ولرسولك على الحقيقة، على ما هو أحبّ لك وأرضى لك ولرسولك المصطفى، ظاهرًا وباطنًا، وحوِّل الأحوال إلى أحسنها، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنَّا، برحمتك يا أرحم الراحمين..
يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، أجِب ما دعونا وزدنا من فضلك ما أنت أهله، والحمد لله رب العالمين.
01 شَعبان 1446