(228)
(574)
(536)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع تاربة، بوادي حضرموت، 3 رجب الأصب 1443هـ، بعنوان:
مكانة الاستغفار ومعناه واغتنام العمر بالمحاسبة استعداداً للقاء الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. المَلِكِ الغفَّار، الكريمِ العزيزِ السَّتَّار، يولجُ النهارَ في الليل ويولجُ الليلَ في النهار؛ تذكرةً وعبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ﴿جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّمَ عليه تسليماً كثيرا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المختار سيدِنا محمد، وعلى آلهِ وأصحابِه وأهلِ حضرةِ اقترابِه مِن أحبابه، ومَن والاه فيك وتخلَّقَ بأخلاقِه وتأدَّبَ بآدابه، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين وآلِهم وصحبِهم والتابعين، وعلى ملائكتِكَ المقرَّبين، وعلى جميعِ عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها.
وقد استقبلتم شهراً حراما فرداً مِن بين الأشهر الحُرُم؛ شهر رجب الأصب الذي تُصَبُّ فيه رحمة ربِّكم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- ولقد جاء عن عروةَ أنه سألَ ابنَ عمر -رضي الله عنهما-: هل كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ في رجب؟ قال: نعم ويُشَرِّفُه.
"ويُشَرِّفُه": يُعَظِّم الشهرَ ويُميّزه. جاء في رواية علي بن محمد بن الشجاع برجالٍ كلهم ثقات، كلام ابن عمر مقتفي الأثر الشديد الاتباعِ لسنةِ خيرِ البشر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عن تشريف نبيِّنا لهذا الشهر.
ألا وإنَّ مِن خير ما نتعاملُ به مع ربِّ الأشهر كثرةَ الاستغفار فـ (طوبى لمَن وجدَ في صحيفتِه استغفاراً كثيرا)، ولقد قال هادينا وإمامُنا وقُدوتُنا صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفرُ اللهَ وأتوب إليه في اليومِ سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: مَن كان يدخلُ عليه مثلُ هذا الشهر ولا تهتزُّ فيه شعرةٌ للتوجُّهِ إلى اللهِ ومراجعةِ حسابه فيما يقوله وفيما يفعله وفيما يُعامِلُ به عالمَ السِّرِّ والنجوى فقد ضَعُفَ إيمانه، وقد كًدُرَ قلبُه، وقد كَثُفَ حِجابُه!
أيها المؤمن بالله: في كُلِّ سَحَرٍ ينبغي أن يكونَ لكَ استغفار، وقبل كُلِّ غروبِ شمسٍ ينبغي أن يكون لك استغفار.. فأهملتَ ذلك حتى لم تبالِ بمرورِ الليالي والأيام فالأسابيع فالأشهر!
متى تتذكَّر!؟ متى تتبصَّر!؟
أيها المؤمن بالله: أحسِن مراجعةَ الحسابِ قبلَ يوم المآب؛ فإنَّ هناك ميزاناً يُوزَنُ فيه مثاقيل الذَّرِّ (ولا يُظلَمُ أحدا نقيراً ولا قطميراً ولا فتيلًا)
﴿وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾
ولقد جاء عن نبيِّنا أنه إذا هَلَّ هلالُ رجب قال: (اللهم بارِك لنا في رجَب وشعبان وبلّغنا رمضان) "بارك لنا في رجب وشعبان": يكون رجبٌ مباركاً لمَن اغتنمَ لياليَه وأيامَه، لمَن أقبل على ربِّهِ تعالى بالصِّدق، لمن لم يبقَ في بيتِه في شهر رجب قاطعُ رحم، ولا عاقُّ والدين، لمَن لم يبقَ في بيتِه في رجب صورٌ محرَّمةٌ مُزرِيَة تُنظَر في ليلٍ أو نهار! هذا الذي بُبارَك له في شهرِ رجب، هذا شهرُ رجبٍ مباركٌ عليه.
شهرُ رجب مباركٌ لمَن طهَّرَ قلبَه وطهَّرَ بيتَه مِن معصيةِ الإلهِ الجبَّار.. فأينَ البركةُ في رجب لمَن أصرَّ فيه على قطيعةِ رحم؟! أين البركةُ في رجب لمَن لم يبالِ في استعمالِ الأغاني الماجِنَة في مناسبةِ زواجِه وغيرِ مناسبةِ زواجه! مَن لم يبالِ باستعمالِ الآلاتِ المحرَّمة! مَن لم يبالِ بتَكديرِ خاطرِ مسلمٍ وأعظم إذا كان قريباً أو جارا!
أيها المؤمنون بالله: حاسبُوا أنفسَكم قبل أن تُحَاسَبوا ومهِّدوا لها قبل أن تُعَذَّبوا، فإذا أمتعَ اللهُ بأحدِكم وأمَدَّ في عمرِه حتى أدركَ رجب يجبُ أن يكونَ له حالٌ طيبٌ مع هذا الرَّبِّ في مراجعتِه لنفسِه فيما يصدرُ مِن أقوالِه، ونَظرِه، وحركاتِ جوارحِه، وصفاتِ قلبِه التي ينظر إليها ربُّه سبحانه وتعالى.
أيها المؤمنون بالله: يجبُ أن نُكثِرَ الاستغفار، ومعناه طلبُ المغفرة؛ وإنما يطلبُ المغفرةَ مَن أيقنَ بخطرِ الذنبِ وسوءِ عاقبتِه! نعم.. وهل مِن حقيقةِ خطرٍ إلا للذنوب والمعاصي في الدنيا وفي الآخرة؟ حقائقُ الخطرِ والضررِ والشرِّ في الذنوب والمعاصي، في نظراتِ الحرام، في كلمات الحرام، في الفواحش، في المجُون، في استعمالِ المخدِّرات والمسكرات.. الخطر في هذا خطر الدنيا وخطر الآخرة! شر الدنيا وشر الآخرة في معصيةِ الله ومخالفتِه!
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: أمامَكم مِن دولِ الكفر مَن قالوا لكم إنهم الذين تقدَّموا غايةَ التقدُّم في الطِّبِّ مثلا.. وأنهم المحافظون على الصحةِ مِن بدايةِ حملِ الإنسانِ وولادتِه، لم نزلَ على ممرِّ السنين لا نرى الأمراضَ الخطيرةَ تبدأ إلا مِن عندِهم.. ولا تظهرُ في الأرضِ إلا مِن بلدانِهم! لأنهم يعصون الله! لأنهم يخرجون عن أمرِ الله! ولا ينفع مع معصيةِ الله طِبٌّ ولا هندسة، لا ينفع مع معصيةِ الله ناطحاتُ سحاب ولا أسلحةُ دمارٍ شامل! لا ينفعُ مع معصيةِ الله شيءٌ مما على ظهرِ الأرض! شرُّ الدنيا والآخرةِ في معصيةِ الله ومخالفتِه، حقائقُ الضَّررِ والخطرِ مهما كان لها مِن أسبابٍ ماديَّة ظاهرة مكمنُها ومنبعُها معصيةِ الله ومخالفةِ أمرِ الله!
ولقد قال لنا نبيُّنا الصادقُ الناطقُ بالحق: (وما فشَتِ الفاحشةُ في قومٍ إلا فشَت فيهم الأوجاعُ التي لم تكُن في أسلافِهم) ما كان الناسُ يعرفونَها ولا كانت موجودةً بين الناسِ فتأتي الأوجاعُ والأوبئةُ الغريبةُ المتطوِّرة المتلوِّنة المتقلِّبة؛ تُلوَّن وتقلُّب الذنوب التي يُخالفون بها علَّامَ الغيوب -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-!
أيها المؤمنون بالله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: اغنمُوا الأعمار، واصدقُوا مع عالمِ السِّرِّ والإجهار، وتطهَّروا عن الذنوب والأوزار تجدُوا الرحمنَ كريماً غفَّارا ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾
اللهم يا توَّابُ يا رحيمُ ثبِّتنا على الصراطِ المستقيم، واغفر لنا الذنبَ والوِزرَ الوَخيم، واجعلنا يا مولانا مِن الفائزين النَّاجين يومَ الهَول العظيم، الداخلين إلى جناتِ النعيم في زمرةِ عبدِك وحبيبِك الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يا أرحمَ الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ﴿فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تباركَ وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم﴾
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ﴾
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمدُ لله، جعلَ الأيامَ في الحياةِ فرصةً للاستعدادِ للقاه والتزوُّد بتقواه، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعالى في عُلاه، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه وخيرتُه مِن عبادِه ومصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيار، ومَن على منهاجِهم سار في السرِّ والإجهارِ على مدَى الأعصار، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين معادنِ الأنوار، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم، والملائكة المقرَّبين وجميعِ عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين يا كريم يا غفَّار.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله.
اتقِهِ! وقد وفَّقكَ لحضورِ الجمعةِ في الشهرِ الحرام المبارك أن تدخلَ وتخرجَ ولم تتذكَّر ولم تتنوَّر ولم تتطهَّر ولم تُحسِن أن تتفكَّر في انقضاءِ العمر! واطِّلاع عالمِ السِّرِّ والجهر! وفي شأنِ القَبر! وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار؛ هذه حقيقته.. صورته حفرة في الأرض تُحفَرُ للناس يوضعون فيها؛ ولكن حقيقة القبور إما رياض من رياض الجنة وإما حفر من حفر نار جهنم -أجارنا الله منها- وفي البعث والحشر، والوقوف بين يدي الله!
اتَّقِ اللهَ، وأحسِنِ الفكر، واصدق مع الرحمن، وصلِّ صلاةِ الجمعة بقلبٍ حاضر، واستغفِر ربَّك، ولقد أوحى إلى أطهرِ عبادِه وأنقاهم في آخرِ حياتِه بعد فتح مكة: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾
أطهرُ الخلقِ مأمورٌ بالاستغفار فكيف بي وبك يا مؤمن!
لا تُقَصِّر من الاستغفار، وأكثِر منه في الليل والنهار؛ فإنَّ معناه إدراكُ خطرِ الذنب، وأنَّ لك ربَّا وإلهًا يعاقبُ على الذنب ويعفو إذا شاء ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
وإنَّ من أعلى مقاصدِ الجمعةِ أن تتعرَّضَ لغفرانِ ربِّك، فـ: (مَن توضأ يومَ الجمعة أو اغتسلَ ومسَّ ما يجدُ مِن طيبٍ وحضر الجمعةَ ولم يُفَرِّق بين اثنين وأنصتَ إلى الخطبة غفرَ الله ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثةِ أيام).
ألا: إنَّ مِن أعلى مقاصدِ العبادات نيلَ الغفران مِن رَبِّ الأرض والسماوات.
ألا: وإنَّ كثرةَ الاستغفارِ منبئةُ عن حياةِ القلبِ وصدقِ العبدِ وقوَّةِ الإيمان.
ألا: وإنَّه لعظمةِ مكانةِ الاستغفارِ اشتغل حملةُ العرشِ ومَن حولَه بالاستغفارِ للمؤمنين على ظهرِ الأرض ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
أيها المؤمن: استغفر ربَّك وعلِّم معنى الاستغفار أهلكَ وأولادَك، وليكن لهم لَهَجٌ باستغفارِ ربِّهم الغفَّار -جَلَّ جلاله- موقنين أنَّ لهم إلهاً إليهِ المَردُّ والمَرجع ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾.
ألا: تعرَّض لمغفرةِ ربِّك، وتطهَّر في قلبِك وأعمالِك وجوارحِك عن إصرارٍ على معصيةِ جبَّار السماوات والأرض، وتهيَّأ ليومِ العرض!
أيها المؤمن بالله: اتَّقِ اللهَ وانصرف مِن الجمعة بقلبٍ مقبلٍ على الرحمن، مُتَطهِّرٍ عن الأدران، لا ترضَ بعدَها بمجالسِ الغيبةِ في باقي عمرِك، وصاحبِك الذي تعتادُ أن تغتابَ معه أهلَ بلدِك ومَن هم خارج بلدِك، صحِّح وضعَك معه، وابعِد عن هذه العادةِ القبيحةِ قبل أن يصيرَ عدوًّا لك وعدوًّا له، قبل أن تتعرَّضَ لأن يلعنَك وتلعنَه يومَ القيامة وقد كنتم تجلسون كلَّ يوم وتنتهكونَ أعراضَ المسلمين صغارا وكبار وأحياء وأموات! أبعِد مِن هذه العادة، غيِّر هذا المسلَك، صحِّحه، اضبُط لساناً يقول عنه الذي خلقه: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾
أيها المؤمنون بالله: أدركتمُ الشهر بارك اللهُ لنا ولكم فيه وبلَّغنا رمضانَ أجمعين في صلاحٍ لأحوالِنا وأحوالِ أهلِ "لا إله إلا الله"؛ فأقبِلُوا بالصدقِ على الله، وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على نبيِّكم خيرِ الأنام، فذلك مِن خيرِ ما تتحرَّكُ به ألسنتُكم وتنطقُ وتقول؛ فإنَّ مَن صلَّى عليه واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرَ صلوات، وهو القائل: (إنَّ أولى الناس بي يومَ القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة).
اللهم أدِم صلواتِك على المصطفى محمدٍ مَن قلتَ في حقِّه تعظيماً وتكريما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على المختارِ سيدِنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعَةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى النَّاطقِ بالصَّواب، حَليفِ المِحرَاب، المُنيبِ الأوَّاب، نَاشِرِ العَدلِ، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أميرُ المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخي النَّبِيِّ المصطفى وابنِ عَمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمَامِ أهلِ المشارق والمغارب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنة وريحانتَي نبيِّك بنَصِّ السنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وعلى الحمزَةَ والعبَّاس، وسائر أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وعلى سائرِ أصحاب نبيِّك الأكرمين، وعلى آبائه وإخوانِه مِن النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ وانصرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم اجعلنا مِن المستغفرين التوَّابين الذاكرين المنيبين الخاشعين الخاضعين، واجعلنا من المؤمنين ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ الذين يقيمون الصلاةَ ومما رزقتَهم يُنفقون، ألحِقنا بالمؤمنين حقَّاً، وتولَّنا بما تولَّيتَ به مَن وهبتَهم إنابةً وخشيةً وصدقا، اللهم وألحِقنا بأهلِ التُّقى، وتولَّنا بما أنت أهلُه في هذه الدارِ ودارِ البقاء برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم اقبلنا في جمعتِنا ولا تصرِفنا إلا مغفورةً ذنوبُنا، مستورةً عيوبُنا، مكشوفةً كروبُنا، مقضيةً حوائجُنا، كما أنت أهلُه بما أنتَ أهلُه يا غافرَ الذنوب، يا ساترَ العيوب، يا كاشفَ الكروب، يا قاضي الحوائج.
يا حيُّ يا قيُّوم آمِنَّا مما نخاف وادفع عنَّا البلايا والآفات، في الظواهر والخفيَّات، وأدِم يا مولانا في يمنِنا ووادينا أمناً وطمأنينة، واشمل بذلك شامَنا وشرقَنا وغربَنا، والمسلمين أينما كانوا، فرِّج الكروبَ عنهم أجمعين، واجمع شملَهم على ما تُحِب، وهيِّئهم للاستعدادِ للقائك مصدِّقين بأنبائك وما جاء به خاتمُ أنبيائك.
اللهم ارزقنا المتابعةَ له سِرَّاً وجهرا، ورقِّنا بذلك في محبَّتك إلى أعلى الذُّرَى، اللهم تولَّنا بما أنت أهلُه دنيا وأخرى، اللهم اغفر لنا وآبائنا وأمهاتِنا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم وموتاهم إلى يومِ الميقات، برحمتِك يا غافرَ الذنوب والخطيئات ويا مجيبَ الدعوات، يا أكرم الأكرمين.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
نسألكَ لنا وللأمَّةِ مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذَكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهَى عن ثلاث:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
03 رَجب 1443